حوار الثقافات : الفرص والفشل
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
حوار الثقافات : الفرص والفشل
لقد جرت عادة المتقدمين أن يُقدم بين يدي كل فن يتعرض له الباحث بعشرة مطالب ومنها على الخصوص – أعفيكم من البقية- تعريف العنوان لما في ذلك من تسهيل إدراك مدخلات ومخرجات البحث وتصورات وتوجهات الباحث لهذا فسنتعرف على الحوار والثقافة ولم أقل أعرف بالجنس والفصل والخاصة كما يقول المناطقة. ولكن التعرف سيكون من خلال المعنى اللغوي والمعاناة العملية؛ لأن هذه المصطلحات من باب الكلي المشكك عند المناطقة أو من باب ألفاظ التذكير عند الغربيين(evocation) كالخير والشر والعدل والجور في مقابل المصطلح المحدد كالبيع والزواج
إن الحوار هو مصدر من حاوره حوارًا ومحاورة إذا راجعه الحديث، وهو أمر لا يكون إلاّ من اثنين فأكثر، والحوار كلام يدور بين اثنين، ويرادفه الحجاج والجدال، إلا أن الجدال قد يكون أحد الطرفين فيه ساكت وقد جاء في القرآن الكريم إطلاق اللفظين على معنين متقاربين: قد سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ[[المجادلة: 1].
ولكن التحاور كان أشارة إلى مراجعة النبي r لها كما جاء في قوله تعالى } قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ{ واستعملت العرب الحوار في كل خطاب حتى ولو كان مع رسوم الديار البلاقع، حيث يقول الشاعر حسان:
هَل رَسمُ دارِسَةِ المَقامِ يَبابِ مُتَكَلِّمٌ لِمُحاوِرٍ بِجَوابِ
وللحوار مرتبة شريفة ومكانة منيفة في الإسلام فهو كما يقول العلواني: مفهوم بناه القرآن المجيد أولا في حضارتنا وغرسه في تصورنا وفي رؤيتنا الكلية وجعله جزءا من بنائنا العقلي والنفسي، بحيث لم يعد ممكناً تصور الاستغناء عنه في أي جانب من جوانب الفكر والتصور والسلوك”.
والحوار حديث بين طرفين للعثور على أرضية مشتركة يتوصل من خلالها إلى أهداف محددة قد تكون هذه الأرضية قيما مشتركة كإقامة العدل ونبذ الحروب وحقن الدماء كما كانت مفاوضات الحديبية وقد تكون تحقيق مصالح للطرفين من تبادل المنافع وقد تكون من أجل إقناع أحد الطرفين بوجهة النظر الأخرى عن طريق وسائل الإقناع للتماهي معه.
والحوار قيمة إنسانية إذ “أن قيمة البشر كما يقول أفلاطون تكمن في قابليتهم للإقناع وذلك بإظهارهم على مختلف الوسائل البديلة للعنف”.
“والحضارة هي المحافظة على النظام الاجتماعي بواسطة الإقناع”(وايتهد)
ويرادف الحوار في اللغات الغربية( Dialogue) وتعني بالخصوص تواصلا ومناقشة بين طرفين للبحث عن اتفاق(Accord) أو عن توفيق (Compromis).
أهدافه وغاياته:
فما هي الأهداف المتوخاة من الحوار؟ إنها: أولاً: هدف دفاعي في معركة العولمة على امتداد الساحة الدولية، حيث تمثل الأدوات الفكرية والبرهانية والاقناعية أهم وسائلها لفرض أنموذج من الأفكار والسلوك والقيم التي تعتبر حاضنة القوانين والنظم والحياة.
فالحوار نمط من أنماط المقاومة على صعيد أرضك أو كما يقولون في ملعبك قيم تهاجم وقيم تقاوم الشيطنة والاستفزاز، إن اليمين المتطرف يريد من المسلمين أن يلعبوا دور الشيطان ويفرح عندما تصدر منهم أفعال خارجة عن سياق المصالح والدين إلى حد أنه يتهم من لا يقول ذلك أو يفعله بالنفاق.
الهدف الثاني: تقديم قاعدة مفادها أن الاختلاف سنة كونية للتعامل والتفاعل والتكامل للتضامن والتعاون مع أولى بقية في الغرب يؤمنون بالتعددية الثقافية والتنوع الحضاري من أمثال شيخ فلاسفة الألمان يورغن هابرماس- الذي يرى- : أن حقوق الإنسان والحقوق المدنية ليست حكرا على الغرب. ويقول: إن كافة الثقافات تتقاسم الآن قيما أخلاقية معينة. وتجلى هذا في رد الفعل الموحد حول العالم إزاء الانتهاكات الضخمة لحقوق الإنسان والحقوق المدنية سواء أكانت في رواندا أو الشيشان أو في بغداد.
بيد أنه استطرد قائلاً: إن التسامح وفصل الدولة عن السلطة الدينية تتطلب نوعا من التكيف من جانب الطوائف الدينية الكبرى.
ويقول هابرماس: إن الإسلام يتمتع بالقدر الكافي من الحيوية اللازمة لمواجهة هذا التحدي لكنه أضاف : إن أي حوار فكري لن يؤتى ثماره إلا إذا واكبته رغبة واضحة في إدخال العدالة السياسية على اقتصاد العولمة.
وذلك لإيجاد بيئات تؤمن بتعدد القيم وتنافسها لجعل العالم فضاء تنوع إيجابي بناء وليس فضاء تطرف وإقصاء.
الهدف الثالث: الحوار دعوة للسلام بين الأديان وبين الثقافات وكما يقول كبير علماء اللاهوت في سويسرا هانس كييغ: إنه لا سلام في العالم دون سلام بين الأديان”.
وأنا -بكل تواضع- أقول: إنه لا سلام بين الأديان دون سلام بين الإسلام والمسيحية ووسيلة هذا السلام هي الحوار.
ولا جرم أن أهداف الحوار وغاياته لا تنئ كثيراً عن مفهوم الحوار الذي أشار إليه “روبير” وهو البحث عن اتفاق أو توفيق.
ولكن ما هو مفهوم الاتفاق؟
إنه الوصول إلى حل نهائي قد يسلم أحد الأطراف فيه بصدق مطالب الآخر، وهو في الحوار ما يدعى بالمصالحة التاريخية.
ومفهوم التوفيق هو: الوصول إلى حل بين حلين وهو توافق يتنازل فيه كل طرف عن بعض ما يعتبره حقاً من حقوقه؛ لبناء صورة أكثر إشراقاً وعلاقة أكثر عدلاً.
والحوار بين المفهومين هو ما أسميه الحوار بين الكلي والجزئي أو الجملي والتفصيلي، وتندرج تحت الحوار أنواع هي: حوار التعايش Coexistence ومنه مبدأ التعايش السلمي الذي كان قائماً بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، وأصل معناها “الوجود المتزامن” أي أن وجودك لا يلغي وجودي.
وأخص منه التساكن Cohabitation
وهناك حوار التعارف connaissance والاعتراف Reconnaissance
ويفهم من الآية الكريمة اعتباره مقصداً من مقاصد الشرع والخلق (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا )
حوار التضامن والتعاون Solidarité ،Coopération
(وتعاونوا عل البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
وهذا أعلى غايات الحوار ويمثله في التاريخ الإسلامي حلف الفضول، ووثيقة المدينة وأحسب أن الوثائق الدولية وما سبقها من حوارات كانت تستهدف هذه الغايات.
وفي الحالة الراهنة للعلاقات بين العالم الإسلامي والغرب فالحوار سواء كان سياسياً بخلفية ثقافية أو ثقافياً بخلفية سياسية يشير إلى موقفين:
موقف يدعو إلى حوار جملي يقدم مجمل التظلمات التاريخية والراهنة لتكون موضوع الحوار وفي حالة إعراض الطرف المقابل عن الاستجابة يعتبر مصرا على موقفه.
وهذا الموقف يدعو إلى الحوار حول “المصالحة التاريخية” التي إذا قايسناها بالموقف من اليهود يكون أول بنودها تصفية الأرث التاريخي بالاعتذار عن سلبياته بأن يعتذر الطرف الغربي عن الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والفترة الاستعمارية ويكف عن توجيه جيوشه إلى المنطقة الإسلامية ويوجد حلا ولو نصف عادل للقضية الفلسطينية. مع إقامة شراكة منصفة لا استغلال فيها ولا ظلم، وتُلغي من الذاكرة الجمعية الصورة المسيئة لكل طرف. ويقوم الطرف الإسلامي بالشيء نفسه إذا ما ثبتت وقائع تاريخية شنيعة.
وهذا الموقف يبدأ بالسقف الذي من شأنه أن يُظل مسيرة الحوار وربما يحميها من الانتكاسات الخطيرة.
أما موقف الحوار التوفيقي فيدعو إلى الحوار المتدرج الذي يبدأ بلبنات الأساس يبني شيئا فشيئاً أسس التفاهم ويمد الجسور على مكث، وأحياناً على استحياء.
تحل قضايا جزئية من شأنها أن تتعامل مع التوافقات؛ ولكن هذا الحوار قد يتعرض للنكسات في أي وقت؛ لأن المصالحة التاريخية تظل بعيدة المنال.
قبل أن نتحدث عن فرص حوار الثقافات ومجالاته فلنتعرف على الثقافة.
إن الثقافة بالمعني الحديث الذي يترجم كلمة culture مصطلح قد عرف كما يقول كوبر وكلايكون بمائة وخمسين تعريفًا لعل أبرزها:
تعريف لاروس الفرنسي حيث يقول: إن الثقافة هي مجموع النظم الاجتماعية والمظاهر الفنية والدينية والفكرية التي تتميز بها وتحدد بها مجموعة أو مجتمع بالنسبة للآخر”.
تعريف موسوعة دار الشروق حيث جاء فيه: إن مفهوم الثقافة يشير إلى كل ما يصدر عن الإنسان من إبداع أو إنجاز فكري أو أدبي أو فني أو علمي”.
ويعرفها تايلر بأنها ذلك المعقد الذي يضم المعرفة والمعتقدات والفنون والآداب والقوانين والعبادات وجميع القدرات والتقاليد الأخرى التي يكسبها الإنسان بصفته عضوا في المجتمع.
ولعلي أتوقف مع موللر في كتابه “تعايش الثقافات”عندما يقول: ماذا نقصد فعلا بكلمة ثقافة المثقلة بالمعنى؟ يلفت النظر أولاً أن كلمة “ثقافة” في الاستعمال اللغوي الألماني تسود حيث تستخدم “حضارة” في الخطاب الإنجليزي أو الفرنسي. وهذا الفرق ليس صدفة، بل يعكس أساساً مفهومات متباينة تضرب بجذورها في التواريخ العقلية المختلفة. إن جيراننا الأوروبيين والأمريكيين كذلك يفهمون تحت كلمة حضارة العدة الكاملة لمجتمع من المجتمعات للتغلب على مشكلات الوجود في حقبة تاريخية، وذلك يشمل: الاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية المميزة، وآداب اللياقة السياسة، وبنية الاستيطان، والتربية، وأخيراً أيضا الدين ونظم القيم وعلم الجمال. إن الحضارة إذن مفهوم شامل للممارسة الاجتماعية، وحيثما حملت ممارسة المجتمعات سمات جوهرية مشتركة، فذلك يعني أنها تنتمي للحضارة نفسها”.
بعد كل هذه التعريفات تبقى الثقافة مفهوماً مراوغاً إلا أن آثارها جلية فهي المقولب للأحكام العائدة إلى الذات والمتوجهة إلى الغير لأنها تمعير الجمال والخير والحق والعدل وأضدادها.
ولهذا فإن المخيال والوجدان الجمعي إنما ينطلق في تصوراته من الخلفية الثقافية فلا يمكن أن تحيدها عماجريات العلاقة مع الآخر.
فالحوار مع الثقافات إنما هو في حقيقته تعامل مع كم غير يسير من تراكمات تُتئق النفس وتترعها بركام من التصورات والعواطف والأحكام التي تشكل صورة الغير في المخيال الجمعي وترسم تفاصيلها السلبية لتسقطها على نوع العلاقات والتصرفات إزاءه لتكون خصومة ولتكون حرباً شعواء؛ لأنه لا يصلح معه إلا الحرب؛ ولأنه لا يحسن التفاوض؛ لأنه من الأشرار، -الوصف الذي أصر بوش عليه حتى آخر أيامه- “والصدام معه حتمي” هنتغتون
في مقابل صورة الأنا المشرقة، لأنه يمثل الحضارة المثلى والقيم العليا كما يقول برلسكوني.
ولأن ما وصل إليه هو نهاية التطور الإنساني، -نهاية التاريخ فوكوياما- فليس في الإمكان أبدع مما كان –أبوحامد الغزالي-
إن التشبع النفسي وتضخم الأنا هو أهم ميزة طاردة في الثقافة المتباهية فعند ما تحاورها أو تجاورها ثقافة أخرى يكون الامتعاض والازدراء ثم الاحتراب.
ولإسقاط حوار الثقافات على موضوع محدد فليكن على الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية.
وأود أن أنبه على صعوبة التعميم فيما يتعلق بالثقافتين، فالغرب –غروب- فقد تختلف الشيات الثقافية بين بلد وآخر، وبيئة وأخرى، ومن الصعب إطلاق حكم قيمي على السلوكيات والخلفيات بشكل محدد وصارم؛ ولكن لتجاوز الإشكال سنُطلق الغرب على ذلك التيار المسيطر على المنتج الثقافي، ووسائط الإعلام، والمؤثر تأثيرا فاعلاً على العلاقات مع العالم على مختلف الصعد.
وبخاصة تلك النخب التي تحمل رؤية عن الإسلام مع الاعتراف صعوبة التصنيف.
كما أن العالم الإسلامي عوالم لكل منه موروث وخصوصيات؛ ولكن القواسم المشتركة بينه والخلفيات المتداخلة تجعلنا نضرب صفحاً عن هذا الإشكال أيضا لتسهيل الحكم ولو مجازا وتجاوزا على الثقافة الإسلامية بأنها ذلك القدر المشترك بين مكونات الأمة الإسلامية الذي تتعرف به إزاء غيرها.
إذا كان الحوار يقتضى إشكالا ؛ فما هو أصل المشكلة بين الثقافتين ؟
إن الثقافات لا تتصارع ولا تتخاصم؛ ولكن البشر هم الذين يختصمون اعتماداً أو استنجاداً بالثقافة التي قد لا يكون لها دخل في الخصومة، وفي موضوع الثقافتين فإذا استحضرنا التاريخي فيمكن أن نخرج بالتالي فلنقل أولا : بأن الاحتكاك طبيعي بين الجيران وهذا الاحتكاك قد يتحول إلى معارك حول “البحيرة” البحر الأبيض فكان كل من الجيران يجتاز البحر هذا الحاجز المائي أو الواصل المائي إلى الضفة الأخرى فكان ما قدره بعضهم 3000معركة كبرى مثلا، وهناك الحقبة الاستعمارية التي بدأت منذ عام 1798م وهو الذي شهد حملة نابليون على مصر وعجز المماليك ومن ورائهم الخلافة العثمانية عن دحر المحتلين وما أرهقت به مصر من الديون من طرف الانجليز، وهكذا كان القرن التاسع عشر قرن الاحتلال للعالم الإسلامي، حيث تحركت بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا واحتل شمال إفريقيا أبشع احتلال، واستمرت الغزوات في القرن العشرين في الهلال الخصيب الذي كان خاضعاً للخلافة العثمانية وقد تلقى العرب عهود المملكة المتحدة بالاستقلال جزاء خلع ومحاربة العثمانيين إلا أن بريطانيا في معاهدة فرساي 1919م نبذت تلك العهود لتقتسم تلك الكعكة مع فرنسا عندما قررا فرض الانتداب على فلسطين ولبنان وسوريا والعراق والأردن.
وهكذا تفككت وحدة العرب وقد بارك الرئيس الأمريكي ويلسون ذلك، وإذا كانت قد سمح بالاستقلال لمصر ولبنان والعراق بين الحربين فقد بقيت فلسطين تحت الانتداب
فما كادت الحرب العالمية الثانية تنجلي حتى أنشئت دولة إسرائيل مع موكب المآسي المستمرة.
أما شمال إفريقيا فقد دفع ضريبة الاستقلال ولا يزال الإرث الاستعماري يوجد مشكلة هناك أيضا في اتفاقية بين فرنسا وإسبانيا سنة 1900م في منطقة الصحراء الغربية.
ولا يزال السجل مفتوحاً في المنطقة مع تدخل الولايات المتحدة بقواتها العسكرية في المنطقة وحروبها السيئة السمعة واعتداءاتها في القرن الحادي والعشرون
وهناك سبب آخر انتبه له بعض الكتاب الغربيين – مارسل بوزار- وسماه بعقدة الأقارب باعتبار أن الأقارب هم أقل الناس تفاهما فالمسيحي يجد في الإسلام أشياء كثيرة تذكر بدينه وأفكارا قريبة جدا من أفكاره .
فإذا كان المسيحيون أظهروا تسامحا إزاء الأديان السابقة أنبياء اليهود فقد قابلوا الإسلام الذي ظهر لاحقا بالرفض المطلق فقد اعتبروه انحرافا للنصرانية وقد كانوا يظنون أن بإمكانهم تشويه الإسلام و انشأوا لذلك الاستشراق الذي كان يحاول أن يعرف الإسلام معرفة جيدة ليحاربه محاربة جيدة كما يقول بوزار. وإذا كنا في شك من النوايا المبيتة ضد الإسلام في الدراسات الاستشراقية فما علينا إلا أن نراجع خطاب أرنست رينان الذي ألقاه في كوليج دي فرانس في 23فبراير1862حيث يقول: في هذا الوقت المناسب إن الشرط الأساسي لتمكين الحضارة الأوربية من الإنشاء هو تدمير كل ماله علاقة بالسامية الحقة تدمير سلطة الإسلام التيوقراطية؛ لأن الإسلام لا يستطيع أن يعتبر إلا كدين رسمي وعندما يختزل إلى وضع دين فردي فإنه سينقرض هذه الحرب الدائمة الحرب التي لن تتوقف إلا عند ما يموت آخر أولاد إسماعيل بؤسا أو يرغمه الإرهاب علي أن ينتبذ في الصحراء مكانا قصيا .
إن الإسلام هو التعصب إن الإسلام هو احتقار العلم ،هو القضاء على المجتمع المدني,انه سذاجة الفكر السامي المرعبة, إنه يضيق الفكر الإنساني, يغلقه دون كل فكرة دقيقة, دون كل عاطفة لطيفة, ودون كل بحث عقلاني .. إلى آخر كلامه الذي هو ملحمة هجائية بث فيها كوامن التصور الغربي للإسلام.
إنه تصريح لا يحتاج إلى تفسير وإن كل تعقيب من شأنه إضعاف النص كما يقول المستشرق الفرنسي المنصف فنسان مونتاي (يراجع كتاب الإسلام اليوم-منشورات اليونسكو)
وإن كتابات كثيرة على هذه الشاكلة تملأ رفوف المكتبات حتى يومنا هذا. وكان المؤرخ الفرنسي فيرناند بروديل في أوائل القرن الماضي قد قال في كتابه “المتوسط والعالم المتوسطي” الذي تحدث فيه عن الحضارة الغربية اللاتينية الرومانية والحضارة العربية الإسلامية : إن الغرب والإسلام يجمعهما تعارض عميق يقوم على التنافس والعداء والاقتباس في آن واحد إنهما عدوان متكاملان”.
فالإسلام قلما يقدم كإحدى ديانات التوحيد الكبرى.ولكن الأمل ظهر مع قرارات الفاتيكان في ستينات القرن العشرين.
ففي 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 1964 نُشرت وثيقة المجمع الأولى حول الإسلام بعنوان نور الأمم Lumen Gentium حيث يرد في الفقرة 16 ما يأتي:
أخيراً إنَّ أولئك الذين لما يقبلوا الإنجيل مرتبطون بطرق مختلفة بشعب الله ففي المقام الأول يجب علينا أن نتذكر الشعب الذي أعطى له العهد والوعود والذين ولد منهم المسيح حسب الجسد. فهذا الشعب يبقى عزيزا على الله من أجل آبائهم، لأن عطايا الله ودعواته هي بلا ندامة: ولكن خطة الخلاص تشمل أيضا أولئك الذين يعترفون بالخالق. ففي الدرجة الأولى بين هؤلاء يأتي المسلمون، الذين يعترفون بأنهم على إيمان إبراهيم، وأنهم يعبدون معنا الإله الواحد والرحيم، الذي سيقاضي البشرية في اليوم الأخير.
وإذا كانت وثيقة “نور الأمم” التي هي دستور عقدي للكنيسة –ولذلك هي معصومة- تعترف بأن الإسلام دين مؤمن بالإله نفسه الذي يؤمن به أتباع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ويدعو لعبادته. دون أن تذكر الرسول عليه الصلاة والسلام فإنها تعترف ضمنياً به إذ كيف يعرفون الإله الحق إلا من خلال الوحي الذي نزل على النبي. فإذا ما شاء الإنسان أن يعبد الله فعليه أن يعرفه، ومعرفته تأتي في المقام الأولى بواسطة الوحي. ويبقى هذا الموضوع مفتوحاً أمام البحث، وقد أخذت الكنيسة لاحقاً حذرها في عدم المضي إلى أبعد من ذلك.
وفي “الإعلان المجمعي” الثاني الذي تناول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحية المعنون “في عصرنا” Nostra Aetate والذي أعلنه البابا بولس السادس في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1965م يبين الإعلان في المقطع 3 ما يأتي:
إنّ الكنيسة تنظر إلى المسلمين أيضا بعين التقدير. فهم يعبدون الله الواحد، الحي القيوم، الرحيم القدير، خالق السماء والأرض، والذي تكلم إلى الناس؛ وهم يجتهدون في خضوعهم لأوامر الله من صميم قلوبهم دون تردد، تماماً كما كان يخضع لله إبراهيم الذي يحرص دين الإسلام على الارتباط به. ومع أنهم لا يقرّون بيسوع كإله، لكنهم يوقرونه باعتباره نبياً. كما أنهم يكرمون أمه مريم العذراء؛ وأحياناً يستغيثون بها في تضرعهم. بالإضافة إلى ذلك، فهم ينتظرون يوم الحساب والثواب من الله بعد بعث الأموات. وأخيرا إنهم يقدّرون الحياة الأخلاقية ويعبدون الله خاصة عن طريق الصلاة والزكاة والصوم.
وبما أنه حصلت على مر القرون حالات ليست بالقليلة من النزاع والقتال بين المسيحيين والمسلمين، فإن هذا السينودس المقدّس يحث الجميع على نسيان الماضي والعمل بإخلاص من أجل التفاهم المتبادل وحفظ وتعزيز مصلحة العدالة الاجتماعية والخير الأخلاقي، والسلام والحرية، من أجل جميع البشر.
يعالج الجزء الأكبر من الإعلان المجمعي في الظاهر علاقة الكنيسة باليهود في فترة ما بعد الحرب. وكان إدخال الفقرة المتعلقة بالإسلام فقط بسبب الجهود التاريخية للفريق الذي تشكل من قبل وتحلق حول المستشرق والكاهن لوي ماسينيون –توفي 1964- الذي عمل خلال سنواته الأخيرة على التقريب بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة.
وفي الرسالة التعميميّة الأولى للبابا بولس السادس التي صدرت في 6 آب/ أغسطس 1964م بعنوان Ecclesiam Suam عرض البابا على الكنيسة رغبته في الانخراط في حوار مع العالم غير المسيحي. وقد وُصف أطراف هذا الحوار على أساس دوائر عدة متحدة المركز، وقد عُبِّر عن واحدة منها بأولئك الذين يعبدون الإله الواحد الأعلى الذي نعبده نحن أيضا. ويشير إلى المسلمين بالطريقة الآتية:
بعدها نلاحظ من حولنا دائرة أخرى وهذه بدورها واسعة المدى، ومع ذلك فهي أيضا غير بعيدة عنّا. وتضم الدائرة أولاً وقبل كل شيء أولئك الذين يعبدون الإله الواحد الأعلى، الذي نعبده نحن أيضا، ويمكننا أن نذكر أولا الشعب اليهودي، الذي ما زال يعتنق ديانة العهد القديم وهو حقاً أهل لاحترامنا ومحبتنا.
بعد ذلك لدينا أولئك العابدون الذين يعتنقون أنظمة دينية توحيدية أخرى، ديانة الإسلام بشكل خاص. ويحسن بنا الإعجاب بهؤلاء الناس من أجل كل ما هو خير وحق في عبادتهم لله.
إلا أن الكنيسة على الرغم من تكريس المجمع البابوي للحوار مع الأديان ظلت في تردد بل في تراجع كما برهنت عليه كثير من المواقف مع خلفاء بولس السادس وبخاصة مع بداية البابا بنديكت السادس عشر وتصريحاته الشهيرة إلا أنَّ الفرصة سنحت للكنيسة الكاثوليكية لتصحح خطأها.
إن جذور الصورة التاريخية لا زالت ماثلة في كتابات رجال اللاهوت كما في كتابات العلمانيين والمثقفين وقد استعملت في الحروب التي تشن في هذا القرن مختلف الأوصاف وشتى النعوت للحط من هذه الثقافة من دوائر غربية وصهيونية عرفت بعدائها وعدوانيتها، وصفها موللر في كتابه بقوله: ولكن من الواضح أن حركة المسيحية الأصولية في الولايات المتحدة الأمريكية تزاول الصنعة نفسها: نبذ الآخر والنفور منه، ومن هذه الناحية تتطابق هذه الحركة مع ما سبق قوله حول الأصوليات الأخرى: إنها مطلقة الأخلاقية. وهي تحارب دولة الرعاية الاجتماعية ولكنها في الوقت نفسه تريد رقابة الدولة الأخلاقية ومعاقبتها للسلوك المنحرف. إنها تميز ضد الذين لا يريدون اعتناق تصورها الخاص عن العالم وتطعنهم في شرفهم. في أثناء خوض بات بوكنان وبات روبرتسون للمعركة الانتخابية في 1992- 1996م وكان هذا الخليط من التطرف الثقافي الديني، ومعاداة الأغراب، ومعاداة دولة الرعاية الاجتماعية، والاستبدادية، مع استعداد دفين للعنف، واضحاً بجلاء”.
ومع ذلك تبقى مشتركات المبادئ ومتداخلات المصالح والعولمة الجامحة ووضوح سوء عواقب الحروب والنزاع ووجود مجموعات من العقلاء.
إن قدر منطقتنا التي تقع في وسط العالم بموقعها الاستراتيجي وبحارها وأنهارها ومقدساتها وثرواتها جعلتها معرضة للصدمات التاريخية الكبرى من الشرق ومن الغرب، ولكن ذلك ايضا أهلها بل وألزمها أن تكون محاورة ومفاوضة على الدوام ووسيطاً بين الثقافات ومرآة للسلام.
وهكذا فإن مفهوم الحوار يتقدم ليواجه مفهوم الصدام.
لهذا سأتحدث عن مجالات الحوار، وفرصه، ومعوقاته، ومقترحاته، وخاتمة.
مجالات الحوار:
إن الحوار هو الوسيلة المتحضرة لحل مشكلات البشرية الناشئة عن الأنانية التي يمكن أن ترادف شح النفس ( ومن يوق شح نفسه فأولئك هو المفلحون)
والأنانية أو شح النفس هو أهم معوق من معوقات الحوار والتواصل بين الأربعة التي جاءت في الحديث الشريف “إذا رأيت شحاً مطاعاً ….”.
وكل موضوع يهم أكثر من شخص يصلح لأن يكون موضوع حوار:
– حوار حول الحرب والسلم.
– حوار حول أسلحة الدمار الشامل.
– حوار حول البيئة.
– حوار حول حقوق الإنسان.
– حوار ديني أو ما يسمى باللاهوت.
حوارات فرعية حول الأدب: الشعر – الرواية – المسرح.
وتحت كل مجال من هذه المجالات مجالات فرعية:
– مجال “الحرب والسلم”: قضايا الإرهاب والجهاد والحروب الصليبية. وقد ذكرنا في كتابنا “الإرهاب التشخيص والحلول” مجالات للحوار في عشر قضايا.
– مجال “حقوق الإنسان”: اختلاف مفهوم الحقوق بين النظرية الجمعية والفردية – تأثير مفهوم النظام العام – مسألة تشريع العقوبات بين التشديد والتخفيف. –حرية الكلمة مقابل المقدس. – مفهوم الحرية – مكانة المرأة. وقد شرحنا في كتابنا “حوار عن بعد في حقوق الإنسان” هذه المقارنة بين الحضارتين بإسهاب.
مجال اللاهوت: الألوهية ، التوحيد – النبوة – حب الله.
مجال البيئة: المحافظة على الأرض – قضايا تلوث البحار والأنهار – مملكة الحيوان –مملكة النبات.
من البدهي إن الثقافات لا تتصارع ولكن البشر هم الذين يتصارعون فهل المشكلة بين الثقافات وبين الثقافة الإسلامية والغربية بالذات هي مشكلة جغرافية باعتبار الحيز الجغرافي مولداً للصراع بحكم الجيرة والاحتكاك الطبيعي بين الجيران والمصالح، أم هو بين طبيعة الثقافتين بيض في الشمال مسيحيون وبين ملونين في الجنوب مسلمين.
إن فرص الحوار قائمة بالتأكيد وتتمثل هذه الفرص في ثلاث زمر:
أول هذه الزمر من حيث التقنيات والوسائل المادية والفنية للتواصل والاتصال، فإن تطور التكنولوجيا ووسائط الاتصال من هاتف وشبكة عنكبوتية وإذاعات مسموعة ومرئية ومقروءة وتواصل مادي يتمثل في تنقلات الأشخاص من خلال النقل البري والبحري والجوي ثم إن تشابك المصالح على أساس عولمة اقتصادية وتجارية ومالية لا سابق لها؛ كل هذا يمثل بيئة ملائمة للحوار.
الزمرة الثانية: وهذه تتمثل في لفيف من المبادرات رسمية وشعبية، دولية ومحلية تدعو إلى الحوار وتمارسه في هذا القرن وفي هذه السنوات العجاف التي كان صدام الحضارات لا يروج له نظرياً فحسب وإنما يمارس على الأرض تدميرا وقتلا وتدنيساً للمقدسات وجهراً بالسوء والإساءة إلى الدين في أماكن شتى من العالم.
مبادرة خادم الحرمين: إن زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله في نوفمبر للفاتيكان ودعا فيها إلى فتح باب الحوار على مقدار كبير من الرمزية لمكانة الداعي وظروف الدعوة وقد تطورت إلى مؤتمر مكة المكرمة لعلماء المسلمين لتأصيل الحوار شرعاً وطبعاً، حيث انتقلت المبادرة إلى مدريد للقاء بين القادة الدينيين في كل الملل والنحل وأصدرت وثيقة ستكون مرشدة لحوارات المستقبل وانتقلت إلى الأمم المتحدة.
هذه المبادرة التي هي على درجة رفيعة من الرمزية لقيت استقبالا وقبولا حسناً في الأوساط العالمية الأكاديمية والدينية والحكومية وأتصور أنه من خلال المحاضن والهياكل التي تحركت المبادرة من خلالها أو إنشائها فإن عملا عظيما يمكن أن يتم، ولا شك أنها أبرزت أن الصراع ليس دائماً لغة الحضارات ولعلها أقنعت بعض المترددين من الجانب الإسلامي في الانخراط في الحوار.
ومبادرة تحالف الحضارات 2005م والتي تتزعمها جمهورية تركيا والمملكة الإسبانية، وقد انضم إليها عدد كبير من الدول، وقد حددت هذه المبادرة قطاعات ليكون العمل في إطارها وهي:
قطاع الشباب- قطع التنمية – قطاع الميديا “وسائط الاتصال” قطاع التعليم.
وقد كان الرئيس الإيراني الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي من رواد هذه المبادرة.
مبادرات شعبية لعلماء ومثقفين ومنها مبادرة “كلمة سواء” التي انطلقت في المملكة الأردنية بمشاركة عدد كبير من العلماء، وقد لقيت استقبالاً في الأوساط الأكاديمية والدينية وصدى جيداً، وتكللت بلقاءات في الفاتيكان وفي كمبردج مع الكنيسة الانجليكانية.
ومبادرات محلية من أهمها مبادرة قيادات في الولايات المتحدة اشتركت فيها بعض المراكز ودور الفكر مثل “منظمة البحث عن أرضية مشتركة” و”مؤسسة بناء الإجماع”.
من هذه القيادات بعض وزراء الخارجية السابقين مادلين أولبرايت ومساعد وزير الخارجية الأميركية آرميتاج وبعض الجنرالات المتقاعدين وكبار الشخصيات وضمت 34 ومن الشخصيات عدد من كبار المثقفين المسلمين الأمريكان.
ووصلت إلى الخلاصة التالية” تعتقد المجموعة القيادية أن الوقت قد حان لحوار وطني حول العلاقات مع الجالية الإسلامية العالمية، وللعمل لتطبيق إستراتيجية جديدة للمشاركة والعمل بين الولايات المتحدة والمسلمين.
قد تكون الهوة التي تلقى تغطية إعلامية واسعة، بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي على اتساعة عميقة، ولكنها ليست عميقة بحيث لا يمكن جسرها. هناك تلاق في القيم والمصالح بين الغالبية العظمى من الأمريكيين والمسلمين، يوفر نقطة بداية لعلاقات تعتمد على الثقة والاحترام المتبادلين.
وبعد حوار دام سنتين أصدرت وثيقة في غاية الأهمية بعنوان “تغيير المسار” وقد أثرت حسب معلوماتي في سياسات الرئيس أوباما وهذه المبادرة موجهة إلى طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي مقترحة عددا غير قليل من إجراءات الثقة ومد الجسور.
وإن كنت لا أتفق مع بعض الآراء الواردة في التقرير.
وهناك حوارات سابقة أقدم من هذا القرن يقوم بها مؤتمر العالم الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي أحياناً والمجلس البابوي للحوار وغيرها وحوارات موسمية شبه فردية وإحدى وظائف المركز العالمي للتجديد والترشيد أن يقوم بها مع الجهات المهتمة وقد قمنا بها.
الزمرة الثالثة: هي بروز كثير من الشخصيات والكتاب في الغرب الذين يناقضون ويناهضون صراع الحضارات ويعد من هؤلاء العالم الألماني الذي حاور هانتغتون وألف كتاب بعنوان “تعايش الثقافات” وكذلك العالم الكبير ورجل اللاهوت السويسري هانس كيونج الذي ألف العديد من الكتب دعا فيها إلى الحوار وبخاصة مع الإسلام الذي رأي فيه أنه يمثل الأمل.
والكثير ممن ناهضوا السلوك العدواني الأمريكي.
وأخيراً : فإن أهم فرصة هي منعطف الانتخابات الرئاسية الذي رفع براك حسين أوباما إلى كرسي الرئاسة وبدون توقف عند سياسات أوباما ومدى نيته أو إمكاناته في التغيير.
إلا أن أوباما نفسه كان حصيلة حوار، فلولا الحوار الجاد والتضحيات التراكمية والتفاهم العميق بين شرائح المجتمع الأمريكي ما كان لأوباما أن يتبوأ سدة الرئاسة. – دون التقليل من دور الأزمة المالية-
إنها فرصة عظيمة إذا أحسن الأطراف اهتبالها، وقدم رؤى على مستوى التحدي، إنها فعلا تحد لتقديم رؤية حضارية معقولة ومقبولة للآخرين الذين قدموا عملا حضارياً أثخن نظرية “نهاية تاريخ” وأن التاريخ لا ينتهي إلا بالنهاية الكبرى.
أرجو أن لا يفهم من هذا الترحيب -الحار والتصفيق الحاد لديمقراطية تحاول إصلاح ذاتها- التقليل أو الاستخفاف بمعوقات الحوار ومنغصات التفاهم بل ناثرات الأشواك وزارعات الألغام على طريق التفاهم فما هي المعوقات.
معوقات الحوار ونذر الفشل تراها بارزة لا تخطئها عين الأعمى ولا تتمارى في دويها أذن الأصم، فكأنها شعر المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
وهي باختصار كالتالي:
أولا: حروب تشنها أمم وافدة من وراء البحار بطائراتها ودباباتها وبكل ما وصل إليه علمها من مبتكرات الدمار على شعوب فقيرة بحاجة إلى رغيف عيش ودفاتر مدرسية، تختلف معها ثقافة وديناً.
تقدم أمريكا بذاتها وبقواتها المسلحة وليس بواسطة الوكلاء إلى ساحة منطقة الشرق الأوسط لتشن حروبهاً في مطلع القرن الواحد والعشرين، تشن حربين متزامنتين هما من أسوإ الحروب وأبعدها عن القيم، والأمل قائم في مراجعة العقلاء في تلك البلاد لحساباتهم وتلك هي الفرصة الأولى للحوار. فالحروب أيضا قد تصبح فرصة للحوار إذا انتهزت من طرف العقلاء.
وقد خلفت وما تزال الآلاف من الضحايا باسم الحروب الصليبية أو الحرب على الإرهاب –المصطلح الذي اعتبرته بريطانيا أخيرا غير دقيق- ولا عبرة بالألفاظ والمباني بل العبرة بالمقاصد والمعاني كما تقول القاعدة الفقهية، والعبرة هنا بالأفعال لا بالأقوال.
إنهم يلاحقون الأشباح ولكنهم يزهقون الأرواح، إنها حرب تفتقر إلى المبادئ والقيم والقانون هذا أول نذير من نذر فشل الحوار أو هو عقبة كأداء أمام الحوار.
أما النذير الثاني فهو: وجود تيار في الغرب يؤمن بأن مهمة أمريكا هي محاربة المسلمين وقد سمعنا ذلك من قيادات في حملة مايكن أنهم رجال دين وقادة من المحافظين يبنون سمعتهم على حرب الآخر، إنهم لا يزالون هناك إنهم يتربصون. وهم يعدون كرسياً جامعياً لهانتغتون الذي توفي منذ شهرين صاحب النظرية التي يقول عنها موللر: ولكن هنتنغتون عندما يعرض للحرب، فإن الحقيقة التاريخية تظل منحاة جانباً بسبب الفهم المسبق للـ”إسلام الدموي” إذن: حذار من “النظرية الكبرى” فمن يضع نظارات زرقاء لا يمكنه إلا أن يرى العالم أزرق، وسوف يعتبره بعد مدة أزرق فعلاً. وهذا لن يقود إلى تشويه للحقيقة إذا كان المرء ينظر إلى السماء في يوم صاف، ولكن إذا خفض عينيه نحو الأرض فإنه سوف يندفع بناء على حواس في تقولات مغلوطة حول لون الأشياء. وهذا ما حدث مع هنتغتون في “صراع الثقافات” فالنظارات “النظرية” شوهت رؤية واقع شديد العناد.
ثالثا: وهي الداهية وهذا هو الأهم: العقدة الصهيونية أو الأخطبوط الصهيوني فهو يمثل معوقاً يستعصى على تصور الحلول.
فقد جمع كل المعوقات ووضع أنواع الحواجز المادية والنفسية في سبيل الحوار مع الغرب، إن إسرائيل تشن الحروب بسهولة عجيبة كما تشرب الماء –وما حرب غزة ببعيدة-.
وهي تؤثر في الإعلام والثقافة الغربيين تأثيرا بالغاً الخطورة بالإضافة إلى التأثير السياسي اللامحدود.
فالغرب يفقد البوصلة مباشرة عندما تظهر كلمة إسرائيل وتلتبس عليه السبل والمنطق الديكارتي يصير سفسطة، وحقوق الإنسان ليس لها مكان.
المعوق الرابع هو: الإعلام ، من المفارقات أن الإعلام أو الميديا الذي يفترض فيه أن يكون أداة الحوار هو ألد أعداء الحوار أن الكثير من كبريات الصحف ومحطات التلفزة المعتبرة ذات بعد أحدي ونظرة واحدة لا تروج إلا للكراهية والبغضاء فهم كما قال الشاعر:
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحاً مني وما سمعوا من صالح دفنوا
وكقول الأعشى: وتدفن منه الصالحات وإن يسئ يكن ما أساء النار في رأس كبكبا
مهما يكن من المعوقات التي تشير إلى أن الحوار مريض فإن الدواء هو الحوار وسيكون رأي أبي نواس هنا معتمداً: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي الداء
وعلى الرغم من عبء الماضي وثقل الحاضر وظلمة المستقبل- إن التفاهم ممكن على مستوى المبادئ وفى الميدان العملي والواقعي للمصالح المتبادلة إذا توفرت الإرادة والنوايا الحسنة.
ويرى بعضهم أن المفارقات تضاعف إمكانات التواصل وتضاؤل حظوظ التفاهم، وانفتاح الفضاءات يقابلها انبعاث الخصوصيات والهويات، فكلتاهما لها آلياتها التي تعمل بشكل متواز مع آليات الأخرى.
– المقترحات
إن التجاذب بين كفتي الفرص والفشل والخوف والأمل من طبيعة الحياة وشيمة الأيام وهو محط اختبار للعقلاء في هذه الدنيا؛ لكن المطلوب هو العمل الجاد الذكي الذي يحول الفشل إلى نجاح والكزازة إلى سماحة.- ولا بد دون الشهد من إبر النحل-
إن كمال الرؤية، وسلامة المنهج، ووضوح الغاية؛ هي التي تحكم مسار كل عمل يرجى له أن يصل إلى نتائج، وإن كان العمل على المادة البشرية هو أصعب الأعمال لأن الخطط التي نضعها للتعامل معها تقابلها خطط أخرى تعمل في الاتجاه المقابل وتسعى إلى أهداف عكسية يقوم عليها ،،،
ولهذا فإن نقاط القوة والضعف في الخطط والخطط المضادة هي التي تشكل كفتي الميزان وزاويتي المعادلة
إن أهم توصية هي المتابعة المستمرة والدقيقة من جهات وأطراف مصممة على السير بعملية الحوار إلى الأمام وتنميتها واستكشاف آفاق جديدة واستقطاب العناصر الكفوة والمستعدة لتقديم الرؤى والمشاريع الحوارية.
-والحرص على الحفاظ على المنجز الحواري وتقويم النتائج.
– برمجة العملية الحوارية التي تخرج الحوار عن الموسمية والعفوية والعشوائية والعملية الدعائية والعلاقات العامة فاقدة العمق وعديمة الجدوى.
– إنشاء معاهد لتدريس أسس الحوار ووسائله وتخريج نخبة من الحواريين باعتبار الحوار فناً له أسسه ووسائله لكنه مفتوح على إمكانات التطوير والاختراع.
– تنمية روح التعددية التي يمكن أن يكون شعارها قول الشافعي: ألا يصلح أن نختلف ونظل إخواناً”.
– إن الأقليات يمكن أن تكون جسر تواصل في غاية الأهمية بل إنها الجسر الأمثل في عملية الحوار.
– إن صناعة الأفلام هي أهم صناعة في عملية الحوار وقد نضرب المثل بفيلم “الهوس” الذي وزع منه ثلاثون مليون قبل الانتخابات الامريكية وكله كان تجريحاً للإسلام والمسلمين بشتى الصور والعبارات، بينما فيلم “الخائن” يقدم صورة أكثر صدقاً في خدمة الحوار بينما نجد فيلم “انقشاع الضباب” يقدم صورة أفضل من بين مئات الأفلام التي عرضت سنة 2008م في أمريكا.
– تحديد الغاية الكبرى.
السلام وشعاره: ما جئنا محاربين وإنما جئنا لزيارة هذا البيت”.
تقديم البدائل المقنعة وشعاره قول أفلاطون ” إن الحوار يظهر الناس على البدائل المختلفة عن العنف”.
إنها شعارات بسيطة ولكنها معبرة.
– درس بعض التجارب الحوارية في العصر الحديث: أسباب النجاح والفشل ، الموضوعية ، تحديد المصالح المتوخاة.
وسائل
مؤتمرات , لقاءات مع رجال الدين في الجامعات ، تجنيد وسائل الإعلام ، الأفلام والدراما وهذه من أهم الوسائل ، الرحلات المشتركة
ونختم بنظرة متفائلة وتحذير: إن وسائل الاتصال والتواصل أتاحت إمكاناً غير مسبوق للحوار، وإن الإنسان في كل الثقافاتمفطور على نزعة إلى الخير وداعية إلى الحق، في كل ثقافة من أسميهم أولى بقية (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ) فسرت بأولي عقل ،،،،،،،
وبالإضافة إلى القيم الإنسانية المشتركة؛ التي تزكيها العقول وتركن إليها النفوس بالقبول، فالمشتركات الإنسانية يمكن أن تفوق المختلفات؛ إذا صلح القصد، ولا أجد حرجاً من الاستشهاد بالرئيس الأمريكي الأسبق أيزنهاور: إذا أريد أن يكون لنا شركاء في السلام يتوجب أولاً أن نشارك في أن نعترف وندرك بتعاطف أن جميع بني البشر يتشاركون بتطلعات وجوع مشتركة، ومثل ومشهيات مشتركة، وأهداف ومجالات ضعف مشتركة ورغبة مشتركة بالتقدم الاقتصادي. الفروقات بيننا مصطنعة وعابرة. إنسانيتنا المشتركة صنعها الله تعالى وهي باقية”.
ونعرف أن للتاريخ دورات فكما تدول الأيام على الدول والحضارات وتدور الدورات الاقتصادية فإن الثقافات لها دورات تتصالح تارة وتتناطح وتلك سنة كونية (ولن تجد لسنة الله تبديلا)
وأن الصورة النمطية تتغير تلقائياً إذا تغيرت الظروف ولعلنا إذا تذكرنا الصورة النمطية لليهود وتاجر البندقية في مسرحيات شكسبير كيف تغيرت إلى صورة وردية بل صورة مقدسة جعلت البابا متحيرا بعد منح الغفران الكنسي للقسيس وليامسون –وصك غفرانه معصوم- ولكن هذا القسيس لا يؤمن بأفران الغاز المشهورة، إن ذلك هو ذنبه الذي جعل الكنيسة الكاثوليكية كلها مدعوة للاعتذار والتراجع.
كل ذلك يدعو إلى التفاؤل ولكنه يدعو إلى العمل عن طريق الحجة والبرهان والحوار الصبور.
لهذا أولا : فإن أساليب الحوار وسبل التواصل يجب أن ترتب بأفضل الطرق والمناهج التي توصلت إليها البشرية إنه علوم وفنون كانت تعرف في التاريخ الإسلامي بالجدل والمناظرة.
وبهذا الصدد فإن الحكمة المشهورة “خاطبوا الناس بما يفهمون” وهي مقولة أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- يجب أن نستنبط منها أن علينا أن نطلع على أدوات الإقناع والإفهام وعلى المنطق المفهوم المفهوم وبخاصة فإن المنطق والفلسفة بعد أن كانا علوماً إسلامية أصبحا اليوم شبه غائبين في الكثير من الجامعات الإسلامية بينما يعتبران في الغرب من أهم أوعية الخطاب.
ثانيا: على المثقفين والمفكرين والذين يؤمنون بهم السفينة الكونية أن يتعاونوا ويتشاوروا في عملية الحوار وهم كثر من مختلف الثقافات والمشارب؛ إلا أن عملية التنسيق والاستكشاف غائبة في كثير من الأحوال.
وختاما:
فإن أهم أعداء الحوار هي: الجهل المتبادل بين الثقافات فكما يقول مراد عليّ: إن الإسلام بالنسبة للغرب مصدر قلق بالنسبة للبعض أو لغز بالنسبة للآخر.
ثانيا: الخوف، أن يسود عامل الخوف العلاقة بين الثقافات والحضارات وكما يقول المثل الغربي “إن الخوف مستشار سيء”. ونحن نعرف أن نظرية هانتغتون روجت لتخويف شديد بين الحضارات والثقافات إذ أوهمت بأنه نتيجة لحتمية الصدام لا بد من إخضاع الحضارة الأخرى من أجل السلام.
وفي السنوات الأخيرة كانت كان الخوف من أفضل أوراق الدعاية في خطب مرشحي الرئاسة.
العدو الثالث: اليأس المتبادل، إن اليأس عدو التسامح وسبب انتحار الحضارات وطريق مسدود أمام التفاهم والحوار ولهذا فسنختم بوصية يعقوب عليه السلام لأبنائه ﴿يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾ سورة يوسف )
عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيـّه