بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
السيدات والسادة
ليس يخفى على أولي الألباب الذين خبروا فلسفة التربية أن المشكلات التي تكتنف البشر، إنما تتأتى بشكل أو بآخر، من نوعية ما يتلقونه من أفكار، وما يتشبعون به من قيم؛ ذلك أن ما تتلقاه الأجيال لا يخلو من قيم مطوية في ثنايا المكتسبات العلمية، أو مبثوثة في أوصال الخبرات العلمية؛ لذلك وجب أن نفرق بين مفهوم التعليم ومفهوم التربية، فالتعليم قد يكتفي بنقل المعلومات والإمداد بالقدرات والمهارات، بينما تهتم التربية بتهذيب السلوكيات وتقويم التصرفات وتحسين الأخلاقيات.
إن التربية هي جوهر التعليم، وكلما حصل فك الارتباط بينهما، آل الأمر إلى نوع من التخريق لا التخليق؛ فالإنسان كائن أخلاقي، وكل تعليم يستبعد التربية ولا يعتني بالمواصفات التي سيكون عليها سمت وأخلاق المتعلمين إنما يخل بالشرط الجوهري الذي يكمن في الدور القيمي الأخلاقي للتربية.
لقد صدق سقراط حين قال: إن الفضيلة لا تتعلم؛ لأنه كان يعي أن التعليم تلقينات بينما الفضيلة تربية تتهذب بها النفس لتتقبل القيم الأخلاقية. وهذا يلتقي بما ذهب إليه أوغسطين حين اعتبر أن التعليم يساعد على جذب انتباه الطالب إلى الحقيقة الباطنة، تلك الحقيقة الثاوية خلف الحصيلة المعرفية، أي القيم المطوية في تلافيف المعارف، وقد كان لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي الإسهام الأوفى والنصيب الأوفر في مجال التربية وميدان التزكية بخاصة في كتابه إحياء علوم الدين، وفي رسالة: أيها الولد التي أكد فيها على ضرورة ربط العلم بالعمل وبالتالي بالأخلاق، قال في هذه الرسالة “العلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لا يكون”.
وإذا فإن قضية التربية قضية مفصلية في إشكالية علاقة المنظومة التربوية بالانحرافات أو الاستقامة (حيث قد تكون سببا لاستقامة الفرد أو المجموعة أو سببا لانحرافها). ولا غرو أنه من الطبيعي أن نسأل أو نتساءل أو نُسائل البرامج التعليمية والتربوية عن الانحرافات التي نشهدها اليوم ونرى مظاهرها في كل تطرف جامح يصل إلى حد الهستيريا والجنون، ليخرب المجتمعات البشرية، ويعتدي على المقدسات الدينية، ويدمر الحياة الإنسانية؛ ولهذا فإن السؤال والتساؤل عن العلاقة تساؤل مشروع، يبقى بعد ذلك أن نحدد الجوانب والزوايا التي قد تكون مسؤولة أو مساهمة باعتبار أن عملية التطرف عملية معقدة مركبة قد لا يكون من الإنصاف أن نحملها أن نحمل بها سببا واحدا أو عاملا (faceur) واحدا بل إنما ترجع إلى عدة عوامل.
وبما أن السؤال هنا في هذه الندوة يتعلق بالعامل التربوي الذي يرتبط بالبرامج والمناهج كما يتصل بالمبلِّغين أو الموصلِّين لهذه البرامج، أي أولئك الذين يربون الناشئة؛ فإن الإجابة ينبغي أن تكون عبارة عن مقاربة نصدر فيها عن جملة من المسلمات نذكرها تباعا، ثم نبسط الكلام في الأخلال وما ينبغي القيام به لتجاوزها:
المسلمة الأولى: مفادها أن التطرف يرجع إلى عوامل عديدة، وأنه ظاهرة معقدة.
المسلمة الثانية: ومفادها أن عامل التعليم وبرامج التكوين، بصفة عامة، من أهم وأبرز العوامل وهو يتحمل القسط الأكبر من المسؤولية.
المسلمة الثالثة: ومفادها أن التعليم الديني ـ كما في المحاور المعروضة ـ قد يتحمل فسطا من المسئولية سواء ً تعلق الأمر بالبرامج أو بالكتب أو بالمربي نفسِه.
عند النظر لأعمدة التعليم الثلاث: البرامج والمناهج (الكتب) والأستاذ ـ يجب أن نطرح ـ السؤال التالي:
أين تقع الأخلال بالضبط؟
بما أن الإشكالية، كما أشرنا في غاية التعقيد، فهناك اخلال عديدة أحصينا منها ما يلي:
خلل الانفصام بين حقائق الزمن المعاصر وبين فروع التلقين الديني:
دعونا نحدد خللا أوليا، هذا الخلل يرجع إلى العلاقة بين الواقع الزمني والإنساني وبين برامج التعليم الديني. هناك خلل أساسي لأن البرامج والمناهج بينهما فلنبسط القول فيه.
من المفترض أن يلتقي البرنامج التعليمي الديني بالواقع الإنساني في جملة من المحددات. فينبغي أن نحلل هذا الالتقاء:
- هناك في المادة التربوية أو التعليمية الدينية ما هو أبدى أو يمكن أن نقول بأنه لا يثير أية حساسية بالنسبة للعلاقة مع المجتمع كالعبادات مثلا.
- وهناك القضايا الحساسة التي تتعلق بالعلاقات المجتمعية وهي قضايا كثيرة، في هذه القضايا بالذات يوجد انفصام بين حقائق الزمن المعاصر وبين الفروع “التلقينية” التي تلقن للناس؛ وهي تتجسد في عدم المواءمة والملاءمة بين ما يقدم وما يجب أو ينبغي بناءً على الظروف الجديدة التي قد لا تكون مشابهة أو ملائمة للظروف أو الأزمنة القديمة، وهو إشكال أزعم أنه يحكم أو أنه يمثل العقدة المستحكمة في قضية التعليم الديني.
خلل العلاقة بين النصوص والمقاصد
وهنا تكمن العقدة الثانية في العلاقة بين مضمون المادة وبين الأوضاع أو الشروط الزمنية. ينتج عن هذا قضايا علمية ربما تحتاج إلى بحث طويل لأنها قد تبدو تفصيلية أحيانا وفد نحصرها، إذا تكلمنا باللغة الدينية أو اللغة الفقهية، في العلاقة بين النصوص والمقاصد.
وانطلاقا من هذه الفجوة الحاصلة بين ما يدرس وبين الزمان، هناك أساس آخر وهو مسألة النصوص الشرعية أو النصوص الحاكمة أو حتى النصوص الاستنباطية وبين مقاصد الشريعة أي الغايات التي تراعي المصالح جلبا والمفاسد درءاً.
فهذه المقاصد التي يمكن أن تتعامل مع مختلف الظروف ومختلف الأوضاع والأحوال تمثل صمام أمان (soupape de securite) دائم لتجنب الوقوع في العنف أو الفساد أو الفتنة، فهنا أيضا هذه ربما هي النقطة الثانية أو العقبة الثانية أو الفجوة أو الخلل الثاني في توصيف علاقة التعليم الديني بالعنف أو بمشكلة التطرف التي تعيشها الأمة والإنسانية في الوقت الحاضر.
خلل القصور في فهم النصوص
إذا أردنا أن ننزل إلى درجة أخرى يمكن أن نفول إن الدرجة الثانية تتعلق أيضا بفهم النصوص وبمنهج التعامل معها في العلاقة بين الجزئيات والكليات، وهذا أيضا مجال نلاحظ قصورا في المناهج التعليمية ومن ناحية تقديم المادة العلمية بخاصة لمعلمي التعليم لأن المعلم إذا كان لديه قصور في هذه المادة في فهم النصوص، فقد ينعكس ذلك على الطلاب وبالتالي تكون الثقافة مأزومة بناءً على أن الأسس أو الأرضية ليست صحيحة وليست قويةً وليست ثابتة على أسس صحيحة.
بصفة عامة، أعتقد أن القضية بالإمكان أن تقترح فيها جملة من التوجيهات، ولكن بعد دراسة تفصيلية؛ وتقدم فيها أيضا بعض الجزئيات كنماذج لما ذكرته من الانفصام بين الواقع وبين المادة الدينية التي تدرس، وانفصال بين المقاصد والنصوص، وبين فهم المنهجية والفهم الذي لا يلائم الكلي والجزئي، هذه المحطات الثلاث أو الدرجات الثلاث لها أهمية كبرى في توصيف الأزمة التي كما قلنا ـ أزمة عقلية أو أزمة فكرية ـ لا يمكن أن نبرأ منها المنهج التعليمي أو التربوي الذي لا بد أن يكون له قسط من المسئولية حتى ولو لم يتحمل كل المسئولية بناء على أمور خارجية.
وبالمجمل فهذا الموضوع يحتاج إلى إعادة نظر وإلى بحث عميق لا يلغي البرامج بصفة تلقائية ولا يتهمها جملة وتفصيلا ليتخذ المنحى الآخر منحى التطرف الآخر؛ بل ليتعامل معها بصفة انتقائية وبصفة فيها الكثير من الفهم والحكمة والعمق الذي بإمكانه أن يسدِّد وأن يصلح ما أساءته وأفسدته يد التطرف ويد الجهل الذي هو أساس المشكلة مضافا إلى عوامل أخرى.
وفي الختام هناك ملاحظة أخيرة لعلها تفتح باب النقاش في وقت لاحق، وهي أننا إذا تحدثنا عما يدرّس فينبغي أن نتحدث أيضا عما لم يدرّس، فيكون من المناسب أن تسد هذه الثغرة التي تتعلق بالعلوم الإنسانية وبالمنطق والفلسفة التي قد تبدّت ضرورتها لإيجاد البعد العقلاني التنويري في الدراسات الدينية في الوقت الحاضر حتى لا يكون التعليم مجرد تلقين جامد لا يقوم على أساس التعقل بل يعتمد تدجين العقل وتعطيل الفكر.
توصيات:
ـ جعل التنوير شرطا للتربية الدينية.
ـ نقل القيم الإيجابية التي تقوم على بناء القناعات على أساس التعقل لا التلقين والتدجين الذي لا يعتمد على المنطق والتفكير السليم.
ـ تقرير وثيقة صلح الحديبية واستجلاء أبعادها السلمية والمدنية والإنسانية.
ـ التربية على قيم الوسطية والخيرية.
ـ استخراج القيم المتعلقة بالجوانب العملية وتلافي انحرافاتها في التأثير والنقل.
ـ اقتراحات عملية:
ـ إنشاء مختبرات وفريق دراسي لوضع جملة من المقترحات والبدائل.
ـ وضع مادة للسلم في المقررات الدراسية.
ـ وضع مادة عن الواقع الزمني وتغيير السياقات.
وأخيرا فإن منتدى تعزيز السلم مستعد لتقديم الدعم الفكري والعملي لهذه المبادرة.
..
نص الكلمة بصيغة بي دي اف
كلمة العلامة عبدالله بن بيه في اجتماع الإيسيسكو بعنوان : دور التربية الدينية في تعزيز السلم