الكلمة التأطيرية للملتقى الثالث لمنتدى تعزيز السلم
“الدولة الوطنية في المجتمعات المسلمة”
أبوظبي 18-19 ديسمبر 2016
معالي العلامة عبد الله بن بيه
رئيس منتدى تعزيز السلم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمدا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه
والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد:
فيشاء الله عز وجل أن يجمعنا في هذا الملتقى الثالث، على أرض زايد رحمه الله، أرض الإمارات العربية المتحدة، أرض الخير والنماء، فنسأل الله أن يبارك في الأرض وأهلها، وأن يوفقهم إلى الخير، ويهيء لهم من أسبابه. وأن يعم الأمن والأمان، والسلم والسلام على بلاد الإسلام، وعلى الإنسان في كل مكان.
أيها السادة العلماء، أيها السادة المفكرون:
لماذا نجتمع؟، ولماذا موضوعنا الدائم هو السلم؟.
نجتمع لنؤكد أهمية السلم في هذه الحقبة، التي تتميز بوضع عالمي غير مسبوق يشهده العالم عموما، والعالم الإسلامي خصوصا، والعربي بشكل أخص. فالوضع الذي كان قائما في الملتقى الأول والثاني، لا ينفك يتفاقم، بل اشتد أوار النزاعات، واستفحلت الخصومات، وصار القتل والقتال عملة وسلعة رائجة، فلا تسمع إلا مذبحة هنا، ومجزرة هناك، وانفجارا في الشرق وآخر في الغرب، تذهب ضحيته الأرواح البريئة التي لم تجن جناية، ولم ترتكب جرما، وتحقق معنى النبوءة: “لا يدري القاتل فيم قَتلَ، ولا المقتول فيم قُتل”.
فلا تزال الساحة تمور بالفتن، ولا تكاد تمر فترة دون أن نسمع بتصريحات تؤجج نيران العنصرية الدينية، فحتى الحملات الانتخابية وجدت في العنصر المسلم مادة انتخابية تستميل بالتحريض ضده أصوات الناخبين .
لقد قرر منتداكم هذا أن يكون منبرا رفيعا ومنصة سامقة لتقديم بيان يعيد مفاهيم الشرع إلى نصابها، ويسمح لهذه المنطقة المنكوبة أن تظفر من السلام والعافية بنصيبها.
أيها السادة:
لقد نوهنا في كلمتنا التأطيرية لملتقانا الثاني في 2015 ب”أن القضايا التي شغلتنا ما زالت غير مُستوعَبةٍ، والقيم التي دافعنا عنها غير مُتَمَثَّلةٍ، والنصوص الشرعية التي سردناها غير ممتثلة. إن الهم هو أن تنبت شجرة السلم، والتي تحتاج وقتا لتقوم على سوقها وليس المهم من يستثمر أو من يستظل، ولكن المهم هو إنجاز المهمة التاريخية”، وهي المهمة التي نحن بصدد إنجازها، وإن شاء الله سائرون إليها، لأن غايتنا أن ننشر السلام وثقافته، والغاية تبرر الوسيلة في هذا المقام.
ولتوضيح الصورة، وليكون ذلك في متناول الجميع، استكتب المنتدى مجموعة من الباحثين الأذكياء، وأعد أضابير صغيرة أفرد لكل موضوع منها كتابا وهي الآن في طور التحكيم والأهم من ذلك أنه ومنذ انعقاد المؤتمر الأول لتعزيز السلم انتشرت مصطلحات ثقافة السلم ومفرداتها، وتأثث فضاء الفكر بمفاهيمه، ونحن نعلن أننا لا ندعي ملكية فكرة أو طرح، فكل ما نفكر فيه ونطرحه ملك للجميع.
لقد عقدنا مؤتمرا لبعض المفردات الغائمة في الأذهان كمفهوم المواطنة بالنسبة للطوائف المختلفة دينا في البلاد ذات الأغلبية المسلمة، وشاركنا في عدد كبير من المحافل العربية والدولية، وارتقينا المنابر الأممية حاملين للناس دعوة سلام نرجو أن تهوي لها أفئدة من أولي بقية تؤمن بأولوية السلم، وأن تعيها أذن واعية.
ما هو موضوع الملتقى؟
إننا نجتمع لاستئناف ما بدأناه في ملتقياتنا السابقة من تشخيص وتأصيل لعدد من المفاهيم نرى أن ما وقع فيها من خلل مدخل من مداخل الأزمة التي نعيشها اليوم؛ وفي الوقت نفسه فإن تصحيحها من أهم المخارج التي ننفذ من خلالها إلى فضاء السلم الرحيب.
هذه المفاهيم يمكن القول إنها وجدت ونبتت ونمت خارج الضبط العلمي فمنها ما هو قديم بالجنس جديد بالنوع ينطبق في وقت ووضع تاريخي معين؛ لكنه مع غياب شروطه الزمانية والإنسانية أصبح من المتعين ضبطه من جديد كمفهوم الجهاد ومفهوم الدار.
لقد رأى مجلس الأمناء بسبب الأوضاع التي شهدتها المنطقة أن يكون مؤتمر المنتدى الثالث في مواجهة مفهوم لا يقل خطورة عن سابقيه من المفاهيم التي تعاملنا معها في ملتقياتنا السابقة والتي احتجنا في ما سبق إلى مراجعتها وضبطها على ضوء المتغيرات الواقعة في الزمان والمكان والإنسان، هذا المفهوم هو مفهوم الدولة والدولة الوطنية الذي نعتبره من المفاهيم المفجرة التي يجب تفكيكها وإعادة تركيبها، لأن البعض يتذرع به لتحقيق غايات يضفي عليها الشرعية من خلال نصوص مجتزأة من سياقاتها، ومن خلال إهمال فج لأدنى قواعد منهج تنزيل الأحكام والمفاهيم التي أصل لها علماء المسلمين عبر الأزمنة المتوالية.
وسيكون مدخلنا إلى موضوع هذه الكلمة التأطيرية من خلال توطئة نتحدث فيها عن صناعة المفاهيم وأهميتها، لندخل في صلب الموضوع بالحديث عن مسألة الدولة وعلاقة الدولة بالدين، مع التطرق إلى الرؤية الغربية لهذه العلاقة، ثم لنناقش قضية إسلامية الدولة، وقضية الخلافة والدولة الوطنية التي سنتناولها من خلال ثلاثة قضايا:
– الأولى: تتعلق بالإحالةالمتبادلة بين ما هو ديني وما هو دنيوي.
– الثانية: تتعلق بسؤال: هل الخلافة تعبدية أـم مصلحية؟
– الثالثة: هي إطار شرعي للقضيتين الأوليين، ولزاوية النظر إلى قضية الدولة الوطنية، وهو ما يتعلق بمركزية المصلحة في تدبير الشأن العام.
ما هي منهجيتنا؟
في محاولة دائبة لتصحيح ما لحق بالمفاهيم من الخلل والتحريف الناشئ عن سوء فهم للأصول الأولى أو جهل بالشروط الزمانية والمكانية التي تعيد صياغة المفهوم؛ لأنها تمثل عنصرا ضروريا لتركيب المفهوم بناء على أن المفهوم دائما هو شيء مركب وليس بسيطا؛ وإننا في ذلك نعتمد على أساسيين هما: الشريعة نصوصا ومقاصد، والواقع الإنساني مصالح ومفاسد في مزاوجة بين العقل والنقل بأدوات أصولية صحيحة الانتماء للمنظومة التراثية، ووسائل معاصرة يقتضيها الواقع.
وبالنسبة للأدوات الأصولية فإنها تعتمد النص الواضح، والتأويل الشارح، والتعليل السالم من القوادح، مستلهمة من المقاصد القائمة على كلية كبرى مسلمة، وعلى أخرى مستقرأة وعلى أقيسة جزئية فيها الحمل على النظير واعتبار الغائب بالشاهد العتيد.
لقد تحدثنا عن هذه المنهجية في كل ملتقايتنا، لكننا جمعناها في نظام واحد في كلمتنا التأصيلية لمؤتمر مراكش للأقليات الدينية الذي عقده المنتدى بشراكة مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية في يناير 2016، وحددناها في إحدى عشرة نقطة :
1- الانطلاق من مسلمة أن نصوص الشريعة بمنزلة النص الواحد، وأن كل المفاهيم الشرعية مرتبطة بمكونات هذا النص، وذلك في مواجهة منهج وثقافة الاجتزاء.
2- البحث في الاحتمالات والحمولات اللغوية التي تهيئ النص والمفهوم للتأويل والحمل.
3- الجمع بين النصوص وسياقات المفاهيم.
4- البحث في التجاذب بين الكلي والجزئي من النصوص والمفاهيم والموازنة بينها لتفادي الاجتزاء.
5- تبييء الخطاب التكليفي المؤسس للمفاهيم ضمن بيئة خطاب الوضع، باعتبار خطاب الوضع ناظما للعلاقة بين خطاب التكليف بأصنافه وبين الواقع بسلاسته وإكراهاته.
6- مراجعة سياقات المفاهيم بتحيين عديد منها على مر التاريخ لتلائم الزمان ضمن عملية تحقيق المناط.
7- رعي العلاقة بين الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد بالنظر إلى المعاني والمصالح ومراتبها.
8- مراعاة كلي الزمان والعصر باعتبار أن الواقع شريك في بناء الأحكام وتقرير المفاهيم وصور تنزيلها.
9- النظر في المئالات والعواقب
10- ملاحظة موارد الخطاب طبقا للوظائف النبوية
11-استحضار البعد الإنساني والإنتماء إلى الكون.
وهي نفسها المنهجية التي نلتزم بها في معالجة مفهوم الدولة .
لكن قبل ذلك اسمحوا لي أن أوطئ للموضوع بتوطئة حول صناعة المفاهيم وأهميتها والحاجة الحاقة إليها، ونحن ندرك أنه بدون تحرير المفاهيم وضبطها لا يمكن إيجاد بيئة ملائمة لثقافة السلم، وهذا ما يعني أن التعامل معها أمر ملح وأولوية كبيرة، وقد قاربنا في ملتقياتنا السابقة عددا من المفاهيم رأينا أنَّه في تصحيحها وإعادة تشكيلها وترميمها، وإعادة تموقعها يكمن حل جانب كبير من الأزمة، و تصحيحٌ لكثير من الأخلال التي وقعت، وأن التطبيع بين المفاهيم الشرعية والمفاهيم المستجدة قد يهيئ السبيل للسلم الاجتماعي ، فنحن نرى أنه بدل الإشاحة عنها ينبغي التعامل معها من خلال عملية مراجعة وإعادة صياغة انطلاقا من الأصول الشرعية ومقاصد الشريعة وإن شئت قلت مقتضى النظر الشرعي كما يقول ابن خلدون، ومقتضى العصر.
توطئة حول صناعة المفاهيم
منذ القرن السابع الهجري بدأ العقل المسلم يدخل في أزمة فقهية وفكرية، نتيجة الجمود على المنقولات، وأخذت هذه الأزمة منحى تصاعديا بشكل تدريجي صاحبته أحداث جسام لعل أهها سقوط الأندلس في القرن التاسع، ولم تعد النظرة التجديدية لقضايا الزمان حاضرة في العقلية الفقهية والفكرية، واتسم الوضع بنوع من القصور في القدرة على إنتاج مفاهيم جديدة تحيي في الأمة ما اندرس منها وعفا رسمه.، واستمر مؤشر الأزمة في تصاعد تزامنت شدته مع الحركة الاستعمارية وسقوط الدولة العثمانية في بدايات القرن العشرين.
وفي هذه الفترة نشأت مفاهيم ملتبسة قامت بناء على خلفيات علمية لم تحترم الأصول الصحيحة للتراث، ولم تستوعب التغير الذي اعترى الزمان والواقع، فوقعت في إشكال التقابل بين ثنائيات في منهجية سطحية ، كإسلامية الدولة مقابل العلمانية،والخلافة أو الإمامة في مقابل الدولة الوطنية، فهذه مفاهيم ألقيت في الساحة الفكرية، وأصبحت تلقائية ومتغلبة وكأنها حقائق علمية أو مفاهيم صحيحة دون تمحيص وتدقيق.
ولذلك أثار المنتدى العديد من المفاهيم وأشار إلى المضامين الصائبة في بياناته طبقا للمعايير التي اعتمدها في التعامل كمفهوم الجهاد، ومفهوم المواطنة، ومفهوم التكفير، ومفهوم الطاعة، ومفهوم الولاء والبراء، وكالعلاقة بين خطاب الوضع وخطاب التكليف الذي يمثل صياغة مطورة للشروط الزمانية والمكانية والإنسانية لتطبيق الأحكام.
نحتاج اليوم إلى نظر كلي يلاحظ الواقع المستجد لتركيب الدليل مع تفاصيله وترتيب الأحكام على مقتضياتها. إنَّ صُنْع الأداة التي هي هنا القاعدة أو المفهوم أو الكلي، هو أهم وسيلة لإنتاج فكر أو إصدار حكم في قضايا الواقع وفروع الشرع والقانون وتفاريع الحياة وشعابها. ولهذا فإن بُؤرة التجديد ومَنْبِتَ أَرُومَتِه إنما تكون في صُنْع هذه المفاهيم صياغةً مستقلةً مبتكرةً،أو مراجعة المفاهيم المعتمدة في المجالات المستهدفة وما يتولد عنه من الأحكام لتهذيبها وتشذيبها وعرضها من جديد على أصولها من جهة وعلى النتائج من جهة أخرى، مما قد يؤدي إلى تحويرها أو تغييرها أو تطويرها أو تعديلها وتبديلها، ذلك أن جل القضايا التي يتعامل معها الفقيه هي من نوع المجملات.
حيث إن الأجناس العامة، والأنواع والأوصاف المعنوية عند ما تكون محققةً للمناط يدقُّ فهمها، ويصعب نظمها، ويصبح غالب الظنِّ أغلب مناطها، ويعسر على المستنبط الاستقاء من نباطها، وذلك كالمصلحة، والحاجة، والمشقة، والغرر، والجهالة، والذريعة، والمئال، فيكون الأمر فيها بين حدِّ أعلى معتبرٍ، وحدِّ أسفل عديم الأثر، ووسطٍ محلَّ تجاذبٍ، والآراء فيه موضع تضاربٍ؛ فيختلف الفقهاء، ويفتقر إلى الخبراء، سواء تعلق الأمر بمدلول لفظٍ أو عموم معنى أو تحديد دلالةٍ لا حدَّ لها من الشرع.
ولصياغة هذه المفاهيم لتنزيل الأحكام عليها في العصر الحاضر نحن بحاجة إلى دمْج الواقع؛ كصنيع الفلاسفة في مدلول المفهوم الجديد، وأستشهد بأحدهم، وهو الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز إذ يقول: إن الفلسفة إذا لم تُبْنَ على إشكالات الواقع تكون مجردةً، مما يفقد المفهوم الفلسفي أهميته([1]).
ولهذا فهو يرى أن على الفيلسوف أن يبدع المفهوم Concept فيما سماه “بخلق المفهوم” ولكن بناء على مشكلة من الواقع، فعليه أن يبحث عن المشكلة ليبني عليها المفهوم انطلاقاً من الوجود القبليِّ للفكرة، كما هي عند أفلاطون.
فكيف نصوغ هذه المفاهيم؟ ذلك هو التحدي الذي تقتضي الإجابة عليه مراجعة المدلول اللغوي والشرعي، وكذلك المقاصد والعلل المولدة للأحكام، والواقع والبيئة التي هي مجال التنزيل.
إنَّ المفهوم معرِّفٌ، والمبدأ معلِّلٌ، فالأول حَدٌّ، والثاني مقصد. قد يعتمد الأول على الثاني، وذلك يفسر التداخل والالتباس. والمبدأ قد يحتاج إلى تعريف، ومعرِّفه هو المفهوم والحد.
إن الواقع الذي نتعامل معه اليوم في العالم الإسلامي واقع مضطرب ومتجاذب بين ماض فيه المجد والضد، وحاضرٍ فيه الطموح والقلق، ومستقبلٍ يلُفه الغموض والتوجس، ولا يلوح في أفقه رجاء ولا أمل، إلا أنه” لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون “.
وبهذا الصدد كانت قضايا وتصرفات الخلفاء الراشدين في الحدود الشرعية، وجباية أموال الغنائم وغيرها من القضايا معللةً، وكان تأثير الواقع فيها محسوساً، وأثر رعاية المصالح ملموساً مما يبرهن على أنَّ الواقع شريك في استنباط الحكم، فرأينا كيف تصرف الصِّدِّيق في شأن مانعي الزكاة، والفاروق في أراضي الخراج، وفي مسألة الجزية لتكون زكاة. وذي النورين في إتمام الرباعية في الحج، وفي زكاة الأموال الباطنة. وأبو الحسن في التعامل مع الخوارج والتحكيم، رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم وعنا معهم بفضله ورحمته الواسعة.
كل ذلك يُمهِّد لبناء كليٍّ أعلى يتعامل مع مختلف الدلائل، ومع تفاصيل المسائل؛ لأن شراكة الواقع لا تعني الإفلات من قيود الدليل والاسترسال مع واقع وبيلٍ.
إن الواقع متغير، والواقع المتغير باحث بإلحاح عن أجوبة عملية في قضايا متنوعة تمس حياة الأمة في شتى المجالات والميادين في وقت واحد وفي كل مكان. والذي يهمنا هو التأصيل للقضايا الفقهية -التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية والقانونية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة،- والتي يجب أنْ تواكب مسيرة الحياة التي تشهد تغيرات هائلة وتطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة، في شتى المجالات ومختلف المظاهر والتجليات، من أخمص قدم الأمة إلى مَفرِق رأسها في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمالية، والكشوف العلمية، والعلاقات الدولية والتمازج بين الأمم، والتزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات، والتطاول إلى فضاء المعتقدات. وقد أصبحت الأنظمة الدولية والمواثيق العالمية ونظم المبادلات والمعاملات جزءًا من النظم المحلية، وتسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق عليه اسم العولمة والعالمية، كل ذلك يدعو إلى التجديد في الأصول لتصحيح الفروع حتى تكون سليمة لأنها مبنية على أصول صحيحة، “فلا مطمع في الإحاطة بالفرع وتقريره والاطلاع على حقيقته إلا بعد تمهيد الأصل وإتقانه؛ إذ مثار التخبط في الفروع ينتج عن التخبط في الأصول”. كما يقول أبو حامد الغزالي([2]).
مسألة الدولة:
إن الدولة تعتبر تلبية لتطور وتعامل الإنسان مع ذاته، وحاجته إلى العائلة، و إلى المجتمع فالمِلكية لمسخرات الكون التي كانت مشاعة عندما تتعلق بالصيد وقطف التمار بحيث تصبح ملكية خاصة …وحاجته للتعاون، ولفض النزاع عند التخاصم ولجهة تحمي الضعيف وتدرأ الحروب والخصومات إذا لم توجد يكون الوضع كما قال الشاعر:
فَتَسَاقَوْا كَأْسَاً أُمِرَّتْ عَلَيْهِمْ
|
*** |
بَيْنَهُمْ يَقْتُلُ العَزِيزُ الذَّلِيلا
|
و الحاجة إلى قضاء، وإلى نظام تشريع يرجع إلى العادة، أو إلى حكمة الحكماء، أو وحي الأنبياء، ولعل لوحة المشرعين العظام العشرة التي كانت معلقة على المحكمة العليا الأمريكية، ومن بينهم أنبياء كموسى عليه السلام، ونبينا محمد الخاتم صلى الله عليه وسلم تدل على أهمية التشريع في حياة البشرية.
والدولة في الأصل اللغوي تحيل على معنى النوبة ومعنى التداول الذي يشير إلى النصر أو الهزيمة. ولهذا فأكثر ما تذكر مضافة إلى معنى غيرها، كدولة بني العباس، وفي معنى التداول قوله تعالى:)وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس( )كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُم( قال الشاعر فروة بن مسيك المرادي:
كَذَاكَ الدَّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ
|
*** |
تَكُرُّ صُرُوفُهُ حِينًا فَحِينًا
|
وفي المفهوم الغربي هي مأخوذة من State، بدون أن نتوقف ميكيافيلي الذي كان من أوائل من أصل ونظر للدولة، واستعمل مرادف هذه الكلمة بالإيطالية حين كان ينظر للأمير الإيطالي لورنزو العظيم بن دبياروديميسيس في القرن الخامس عشر.
والدولة في التصور الغربي تشير إلى مفهومين:
– مفهوم سياسي قانوني: وأصلها أنها تعني حالة معينة، واستقر المفهوم على أنها “مجموعة بشرية تقيم على أرض محددة تخضع لسلطة واحدة، يمكن أن تعتبر شخصية معنوية، قد تكون إمبراطورية، أمة، بلداً، قوة، جمهورية، مملكة”. ويمكن أن تعرف بأنها: السلطة السيادية السياسية التي تتمتع بالشخصية القانونية وتخضع لها مجموعة بشرية. وهذا المعنى الثابت في قاموس الأكاديمية الفرنسية(1694م). وهكذا تدعى الدولة بصفتها حكومة شعب يعيش تحت سلطة أمير أو جمهورية كما تستعمل لنفس البلد الذي يعيش تحت نفس السلطة.
– مفهوم قانوني دولي انطلاقا من معاهدة مونتفيديو بأروغواي في أمريكا اللاتينية سنة 1933 حددت أربع خصائص يجب توفرها :
1- وجود أرض محدودة ومعينة.
2 – وجود شعب يقيم على هذه الارض بشكل دائم.
3- وجود شكل من الحكم في حده الأدنى.
4- القدرة على إقامة علاقات مع الدول الأخرى.
مسألة علاقة الدين بالدولة:
علاقة الدين بالدولة في الغرب، أو علاقة الديني بالدنيوي مرت بأطوار عديدة واتخذت مسارات متعددة، ترجع إلى خصومة وحروب مردها إلى شيئين: أولهما: الحرب في داخل المذهب الواحد، التي يكون الهدف منها إزالة أو تقليص سلطة الكنيسة لتتخلى عن السلطة الدنيوية، أو تتخلى عن بعض الإدارات والتصرفات الدينية، وغالبا ما تكون بين الملوك والكنيسة.
والثاني، بين مذهبين من الدين المسيحي كما وقع بين البروتستانت والكاثوليك خلال قرون طويلة وهذه الحروب أدت في النهاية إلى نوع من المصالحة إذا صح التعبير لتنازل الكنيسة عن السيادة التي كانت لها في الشأن الدنيوي، ولتعلن بعض الدول عدم ارتباطها رسميا بالدين.
إلا أن الكثير من الدول ظلت مرتبطة بالدين بشكل أو بآخر، ومنها دول تنص في دساتيرها على كنيستها الرسمية كالدانمارك وإيسلندا والنرويج، وكانت السويد أيضا حتى عام 2000 تمتلك كنيسة رسمية هي كنيسة السويد اللوثرية الإنجليكانية. وهناك بريطانيا التي فيها الملكة هي حامية الإيمان والعقيدة، وفي مجلس البرلمان واللوردات البريطاني هناك أكثر من عشرين مقعدا يجلس فيه أساقفة منهم أسقف كانتربري. وكذلك في أمريكا اللاتينية كثير من الدول تعلن أن دينها الرسمي هو المسيحية، وأكبر الكانتونات السويسرية لها كنسية رسمية تنفق عليها الدولة من أموال دافعي الضرائب. كما توجد أيضا دول بوذية نصت قوانينها على أن دينها الرسمي هو البوذية، ولا توجد إلا دولة واحدة في العالم المسيحي ثيوقراطية هي دولة الفاتيكان، لأن البابا فيها يعتبر خليفة لبطرس ونائبا عن المسيح وهو معصوم.
إذن، المسار المسيحي يختلف عن المسار الإسلامي، فالخصومة فيه كانت بين رجال الدين وبين الحكام أو الشعوب، أو بين المذاهب الكنسية. ولا يزال للدين والأخلاق في القوانين العلمانية حضور قوي فنحن نعرف أن قضية الإجهاض، وقضية المثليين في أمريكا مثلا الخلاف فيها خلاف يرجع إلى الدين وإلى الفلسفة وإلى الأخلاق بين الجمهوريين والديمقراطيين.
يقول القانوني الفرنسي جاك برادلي في كتابه: القانون الجنائي: مدخل عام وهو يعترف فيه بصعوبة تعريف الجريمة تعريفًا اجتماعيًّا وخلقيًّا: “فتجريم الفعل ينتج عن قناعة المشرع بأن الفعل لا يغتفر لدى الرأي العام، فيجب أن تناط به عقوبة أقوى”. ثم يقول: “إن حق المجتمع أن يعاقب من يعكر صفوه، ولم ينكر هذا إلا قلة من المؤلفين، وإن غالبية الفلاسفة يعترف بحق المجتمع في إيقاع العقوبة”. ثم يقول وهو يتحدث عن الأخلاق:” إن العلاقة حميمة بين القاعدة الخلقية والقاعدة القانونية وتاريخ القانون الجنائي يبرز غالبًا أن السلوك الذي يصدم الأخلاق الفاضلة للفرد أو الجماعة، هو الذي يعاقب كالاعتداء على الدين أو الحياة أو التملك “.
ويقول رجل القانون الفرنسي تون كاريسون: “إن القانون والأخلاق يمكن أن يقارنا بدائرتين تتقاطعان، لهما في الوقت نفسه فضاء مشترك ومساحات خاصة بكل منهما”.
ويقول ديكوك في كتابه: القانون الجنائي: “وفيما يخص النيل المباشر من النظام الاجتماعي كما هو معروف عندنا: كالاعتداء على الدين والشأن العام، فإن رد الفعل مرتبط بكل مجتمع بشري قبلي أو دولة”. ( ص 26 – 27 ). ويقول: “إن القانون الجنائي هو التعبير عن استنكار المجتمع للعمل الذي قام أو يقوم به، والذي يبرز في إنزال العقوبة”.
فلا يزال للدين حضور نفسي أيضا، وشعور عميق لدى كثير من الفئات والطوائف في الغرب، أما في الشرق فإننا نعرف أن الديانات الشرقية كالبوذية والهندوسية لا تزال مؤثرة تأثيرا شديدا.
مسألة إسلامية الدولة:
هذا مفهوم من المفهومات التي نشأت ونبتت في القرن العشرين، ولكنها غامضة وملتبسة، فمفهوم إسلامية الدولة مفهوم واسع ومشكك، على اعتبار المعنى الذي تكون به الدولة إسلامية؟. علما أن الإسلام أو الإيمان هو صفة للأفراد والأشخاص المكلفين لأنه العقيدة والعمل. فما معنى أن يوصف به الشخص الاعتباري؟ هل يكفي لتكون إسلامية أن تكون غالبية السكان من المسلمين؟ وهل يستبطن هذا المفهوم مسألة الدار المعروفة المتعلقة بدار الكفر ودار الإسلام؟، وهل يتعلق الأمر بالنظم والقوانين؟، لعل ذلك هو المفهوم السائد.
لا يمكن أن نعتبر إسلامية الدولة تعني عدم وجود المخالفة، لأن الإسلام بالنسبة للفرد يتحقق بالشهادة كما يقول القاضي عياض وغيره، فلا يسقط إلا بمتحقق، وهذا الذي تدل عليه الأحاديث، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم ، الذي له ذمة الله وذمة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته)([3]).
الإشكال الآن في مفهوم الإسلامية واللاإسلامية، والذي أصبح مرتبطا في أذهان الكثيرين بأنه تابع للقانون، أو لبعض القوانين، وليس تابعا للسكان ولا الحكام، هذا المفهوم يحتاج إلى إعادة صياغة على ضوء حقيقة ما هو الإسلام؟. وما معنى أن توصف به دولة أو دار أو منطقة، فالدار اختلف فيها العلماء بين من أحال إلى أحكام الكفر والإسلام، ومن أحال إلى الأمن والخوف كالحنفية ومنهم الكاساني. وعند الشافعية كالماوردي والنووي وجود بيت يمارس شعائره في بلد يصيرها دار إسلام، كما يجيز الماوردي أن يكون في الحكومة وزير غير مسلم وهو ما يعرف بوزير التنفيذ، فهو من الرعايا غير المسلمين الذين يسمون أهل الذمة الذين حققنا مفهوم مواطنتهم في مؤتمر إعلان مراكش للأقليات الدينية في العالم الإسلامي([4])، بناء على صحيفة المدينة المنورة التي كانت تمنح حق المواطنة للمسلم وغير المسلم بناء على عقد اجتماعي فيه الحقوق والواجبات متبادلة، وقد أبرزنا في هذا المؤتمر أن الإسلام يحتوي على أكثر من نظام، وأن نظام المواطنة المتساوية هو أحد هذه الأنظمة. -دون أن يكون ذلك معارضا لنظام الجزية ونظام الموادعة في سياقه الزماني والمكاني. وسنخصص لإعلان مراكش جلسة خاصة ضمن جلسات هذا الملتقى
وإذا فرضنا أن الدساتير والقوانين تثبت صفة الدول، فما هو المقدار الذي يجب أنْ تشتمل عليه الوثيقة لتكون الدولة إسلامية؟.
في عهد النبي عليه السلام كان هناك اندماجٌ كاملٌ بين الدين والدولة، بمعنى أنَّ نظامَ الدولة يَعتمِدُ على النصوص الدينية، وتمارسه سلطةٌ وحي معصومةٌ ممثلة في النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن بعد العصر النبوي، انتقلت السلطة إلى الخلفاء الراشدين الذين كانوا من العلماء فمارسوا السلطة بدون أن يدعى لهم العصمة ، ولم يحكموا باسم الإله ولا نيابة عنه،ولكنهم سعوا ليكونوا أقرب ما يمكن لروح التعليمات الإلهية، لتنفصل بعد ذلك العلاقة بين الأمير والفقيه، لكن هذا الأخير لم يغب عن الدولة وأجهزتها لما باشر القضاء والفتوى. وفي العصر الحديث بقي التشريعُ في العديد من البلاد الإسلامية مستمداً من روح الشريعة ونصوصها، مع اختلاف مرجعيات ومشارب من يمارسون السلطةَ.
ونحن هنا نرى أن كل الدول المسلمة والتي أغلب سكانها مسلمون، هي دول مسلمة أو إسلامية، ولسنا في مقام تبرير مخالفة القوانين للشرع، ولسنا في وارد الحكم عليها، لأن الأمر يتعلق بشروط تنزيل النصوص والأسباب والموانع، وتلك أمور تخرج عن نطاق البحث لأنها تتعلق بقضية الإمكان والمكان والإنسان. وسواء في ذلك إن كانت نصت على ذلك في دساتيرها أم لم تنص، لكن لم تنص على العكس، وإذا كان الحكم ممكنا على قانون ما بالمواءمة أو المخالفة للشرع، فإن حكم المتعاطي مع هذا القانون يفتقر إلى منظومة أخرى تنتظم توفُّر الشروط وانتفاء الموانع وقيام الأسباب والعلاقة بين الرخص والعزائم التي تندرج تحت خطاب الوضع.
والأصل أن الشهادة كافية لتحقق الإسلام بالنسبة للمكلف، ويبقى بعد ذلك ما يتعلق بدائرة العمل لخصوصيتها عن دائرة الاعتقاد، وقد روى الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ جَابِرًا سَأَلَهُ رَجُلٌ: ” هَلْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مُشْرِكًا؟ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ!، فَفَزِعَ لِذَلِكَ. قَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَحَدًا مِنْكُمْ كَافِرًا؟ قَالَ: لَا “([5]).
إن الخروج من الإسلام يتعلق بكل فرد، وليس حكما ينسحب على الناس دون تحققه في الأفراد، وتحققه في الأفراد مرتبط بالقاعدة المعروفة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة. يقول الحافظ أبو عمر ابن عبد البر: ” أجمع العلماء على أن الجور في الحكم من الكبائر لمن تعمد ذلك عالما به، رويت في ذلك آثار شديدة عن السلف، وقال الله عز وجل: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون(، نزلت في أهل الكتاب قال حذيفة وابن عباس: وهي عامة فينا. قالوا: ليس بكفر ينقل عن الملة إذا فعل ذلك رجل من أهل هذه الأمة حتى يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، روي هذا المعنى عن جماعة من العلماء بتأويل القرآن منهم ابن عباس وطاوس وعطاء. وقال الله عز وجل: )وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا( والقاسط الظالم الجائر”([6]).
مسألة الخلافة والدولة الوطنية
كلمتنا هنا لا تناقش الألفاظ والألقاب من خليفة أو إمام أو ولي أمر أو أمير، باعتبار هذه الألفاظ وإن كانت وردت في السنة فإنها وردت في سياق مدلولاتها اللغوية لا التعبدية. لكن الذي يهمنا هو مغزى ذلك كله، وما يدور حوله، والمقصود الأعلى منه أي: انتظام شأن الناس والمحافظة على مصالحهم. وإن ذلك لا يمكن ولا ينبغي أن يختلف فيه، وإنما يكون بسلطة حاكمة تتصرف في شؤون الناس بالأمر والنهي، وهذه ضرورة طبيعية لكل مجتمع من قرية صغيرة إلى مجتمع كبير. وكل ما يتعلق بشكل تلك السلطة وصلاحياتها، مم تتركب، وهل تورث أم تنتخب، يمكن أن نؤكد أنه لا يوجد إلزام لا يتزحزح بشكل معين إلا بقدر ما يحقق من المصلحة أو ما يدرأ من المفسدة، ويتلاءم مع أعراف وأحوال الناس، ويوفر السلام ويحفظ النظام، ويكون أقرب إلى روح الشرع في الأحكام.
إن الشريعة اهتمت بنصب الحكام، وهو أمر لا مرية فيه ، ولكنها أحالت أهل العقول إلى النظر إلى المصالح، لأن المصالح بالتأكيد مدركة بالعقل البشري، وما الكليات الخمس ( الدين – النفس – العقل – العرض) التي تجب المحافظة عليها، والمقاصد الثلاثة ( الضروريات- الحاجيات – التحسينيات) الناظمة لشؤون الحياة والعلاقة في المجتمع إلا تأكيد على هذه النظرة الكلية.
في عشرينيات القرن الماضي سقطت الخلافة العثمانية، وقبل هذا الزمن كان الغرب يسير جيوشه لاستعمار كثير من البلاد الإسلامية التي أصبح همها الهام وشغلها الشاغل الخروج من دائرة الاستعمار لتكوين دول وطنية، وهو ما تم بوسائل مختلفة وفي ظروف متباينة، وفي أشكال حكم متنوعة بين ما هو ملكي وبين ما هو أميري وجمهوري ، وذلك بناء على إرث تاريخي وتفاعلات مجتمعية ثقافية سياسية وجغرافية، مما أوجد تفاوتا في الشكل الثقافي والتشريعي طبقا للشروط الزمانية والمكانية ذات العلاقة لكل جزء، مع وجود جوامع ومشتركات كالمشترك الديني واللغوي بالنسبة للمنطقة العربية.
إلا أن التفاوت المجتمعي والجغرافي والسياسي جعل كل جزء يطور نفسه على طريقته وطبقا لحكمته وموروثه وموقعه وعلاقته بالمحيط القريب والبعيد، مع وجود عقبات من النوع المعتاد في التنمية والتعامل مع إكراهات العلاقات للجار القريب والجار الجنب.
بيد أن الذاكرة المحبطة بسبب ظروف كثيرة من الاستعمار والتخلف الاقتصادي، وانتشار الفقر، وضعف المناهج التعليمية ، أنشأت ناشئة وأنبتت نابتة ساور بعضَها الشك في مشروعية الدولة الوطنية المسلمة، وجاهر البعض الآخر بلا شرعيتها، مع ما يستتبع ذلك من تجريح يصل إلى إهدار حرمة الأوطان، وعصمة نفس الإنسان، وهدم البنيان وشغل الأمة عن كل أمر ذي شان.
ونادت هذه الفئة باستعادة الخلافة كصورة وحيدة لنظام الحكم في الإسلام باعتبار أن النصوص نصت على مسماها. واستنجدت بالتاريخ مستدعية نماذج تاريخية مجيدة لتعطيها تفسيرا مجانبا للصواب، ولتنزلها في بيئة بعيدة كل البعد عن بيئة النماذج التاريخية نفسها وتذرعت بمفاهيم كدولة الخلافة، ودولة الإسلام والجهاد، مع ما يستتبع ذلك من عنف تطور إلى حرب مفتوحة ضد الجميع وعلى حساب الجميع.
إن فكرة الخلافة التي تتمسك بها هذه الفئة، والدولة الإمبراطورية التي تسعى إلى استرجاعها، والتي تتذرع بها لتبرير أفعالها الشنيعة تستبطن مضمونين أو معنيين:
– الأول: أنها تحتكر الشرعية، بمعنى أن كل الأمة عليها أن تنضوي تحت لوائها.
– الثاني: وجوب وحدة الإمام وقتال من لم يخضع لسلطانه.
وهو ما يعني تشريع استحلال الإنسان والأوطان استنادا على الدين، وبناء على أن الديني حاكم على الدنيوي جملة وتفصيلا خاصة في ما يتعلق بنظام الحكم وصورته، وهذا ما يحيل على سؤالين في غاية الأهمية:
– هل هناك قطيعة بين الديني والدنيوي في اختيار نظام تدبير الشأن العام؟.
– هل الخلافة أمر تعبدي أم مصلحي؟.
جوابا على السؤال الأول نقول: إن كثيرا من الباحثين تربكهم العلاقة بين الديني وبين الدنيوي في الدين الإسلامي، وذلك نتيجة طبيعية لضعف تخصص الباحث في أصول الفقه ومرامي الدلالات، ومقاصد الشريعة وأدوات التنزيل في السياقات الزمانية والإنسانية، فيقتصرون على ظواهر من النصوص دون مقاصد، وعلى فروع بدون قواعد، فيدخلون في خصومة مع كل واقع يتجدد فيكون حالهم كالتي يشير إليها القرافي في الفروق: في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها: “وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”([7]).
إن هذه الإحالة المتبادلة بين الديني والدنيوي تورث إخالة عند غير البصير أنه ديني بحت أو دنيوي، هي التي توقع في كثير من سوء الفهم للنصوص، وفي التعسف على الواقع، وتفويت مصالح الخلق.
ولقد أدرك الرعيل الأول أن لا تعارض بين الديني والدنيوي، وبين العقل والنقل، وبين المصالح الإنسانية والقيم الدينية، فانطلقوا يعمرون الدنيا ويقدمون للآخرة، وهذا نجده واضحا بينا في كثير من المواقف، فإنهم كانوا إذا عرضت لهم نازلة وجاءهم من النبي صلى الله عليه وسلم فيها أمر سألوه: أهو الوحي أم الرأي، فإنهم كانوا وقافين عند الوحي لا يتعدونه، فإن كان الجواب منه عليه السلام أنه من باب الرأي مضوا إلى ما رأوه مصلحة، ولم يعدوه من حكم الله، وكان من وصية النبي عليه السلام لقادته : ( وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا)([8]).
ويكتب كاتب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا ما رأى الله ورأى عمر. فقال: بئس ما قلت. قل: هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر ([9]).
ولما حكمت الحرورية قال علي رضي الله عنه : ما يقولون؟ قيل: يقولون: لا حكم إلا لله. قال: الحكم لله، وفي الأرض حكام. ولكنهم يقولون: لا إمارة، ولا بد للناس من إمارة يعمل فيها المؤمن، ويستمتع فيها الفاجر والكافر، ويبلغ الله فيها الأجل ([10]).
وروي عن علي رضي الله عنه قوله: وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال ([11]).
وفوق ما نقل عن السلف، ينطق القرآن بما يلزم من إجراءات تتبع في حال الخصام والمخالفة، فيقول سبحانه في المحرم المتعدي على الصيد: ) يحكم به ذوا عدل منكم(، وفي خصومة الزوجين: ) فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها(.
فكل هذه النصوص التي سقناها -وأمثالها كثير- تؤكد حضور هذا الوعي بأن الدين ترك مساحة واسعة للعقل فيما يتعلق بتدبير شؤون الناس ومصالحهم. وبناء عليه يتفرع فرع آخر يرتبط بوحدة النظام السياسي للأمة ومجالدة الناس عليه، وإرغامهم على الدخول تحت كيان واحد اسمه دولة الخلافة، فهل وحدة الإمام متعينة؟، وهل وحدة دولة الإسلام واجبة؟ وهل قتال الناس على ذلك تعبدي؟ وهذا هو السؤال الثاني الذي أشرنا إليه آنفا.
إن التساؤل حول الخلافة ووجوب وحدة الدولة ووحدة الإمام، يقود إلى استحضار البعد العقدي عند هذه الفئة المستمسكة بهذا المفهوم، واعتمادها على مبررات عقدية لا تستقيم في ميزان النقد، وميزان المصالح والمفاسد، ويمكن أن نستدل على ذلك بمجموعة من الأدلة منها:
أ- زكى النبي عليه السلام النجاشي ملك الحبشة بتزكية العدل، وقد دخل النجاشي الإسلام ورعيته كانوا نصارى ، ولما مات صلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الغائب كما جاء في الحديث، ولم يأمره بأن يهاجر ويدخل تحت حكم النبي عليه السلام سياسيا، فأبقاه على ما تحت يده وقبل إسلامه وأثنى عليه.
ب- نصوص الفقهاء شاهدة على أن قضية الخلافة لا ترتبط بقطعيات الدين، ولا ترقى إلى مستوى مسالك اليقين، وهنا نسوق نصين لإمام الحرمين الجويني، يقول في أولهما: “وليست الإمامة من قواعد العقائد، بل هي ولاية تامة عامة، ومعظم القول في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة في التأخي والتحري”([12])([13]). ويقول في النص الثاني:” ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع، خلية عن مدارك اليقين”([14]).
هذان النصان يؤصلان لفتح باب الاجتهاد في هذا الموضوع والتعامل معه طبقا للمصالح فقضية الحكم معللة بمصالح العباد وليست تعبدية، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز حمل السلاح على الناس لجبرهم على أن يكونوا دولة واحدة.
وقد ناقش الفقهاء قضية الإمامة ونصب الإمام، ونقل كثير منهم الإجماع على ذلك، ومنهم إمام الحرمين الجويني، لكن الإجماع الذي ذكره إمام الحرمين في مسألة الإمامة إنما يعتمد على الوقوع وعلى أقوال العلماء بعد الصدر الأول، وهذا الإجماع بحسب رأينا إنما يصدق على الإجماع على لازم الإمامة وهو وجود حكم ينتظم الجماعة وليس بالضرورة على اللوازم الأخرى ككون الإمام واحدا، بمعنى أن تكون الدولة موحدة، أو كون الإمام قرشيا، وهو ما يفيده قول إمام الحرمين نفسه: “ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربط الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك. فإن عسر، ولم يتيسر، تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار”([15]).
ومما يدل على وجاهة هذا الفهم أن إمام الحرمين قابل القول بالإمامة المستند إلى الإجماع بقول ابن كيسان الأصم الذي يرى أن يترك الناس أخيافا متفرقين لا ينتظمهم نظام، وقول الأصم لا يوجب وجود حكم من أي نوع، وما يقابله هو إيجاب وجود حكم ينتظم الناس، وهو النقيض المساوي والذي قد يكون واحدا أو متعددا، وقد يكون قرشيا وغير قرشي.
وكذلك النجدات من الخوارج لا يرون وجوب نصب حاكم إذا تسالم الناس، وهم في هذا كالمذاهب الفوضوية وكالماركسية في مبدإ أمرها.
ج– الممارسة التاريخية تثبت تعدد دول الإسلام، وتعدد أئمتها، ولم يثبت أن أحدا سعى إلى توحيد الأقطار تحت راية واحدة بدافع عقدي، قد يكون حدث ذلك لدوافع سياسية أو عسكرية أو مذهبية، لكنه لم يحدث بسبب الواجب العقدي المستبطن لمبدأ وجوب الخلافة ووحدة الإمام.
وقد قامت دول في المغرب الأقصى زمن العباسيين وقام فيها أئمة، كما قامت دول في الأندلس، ولم ينكر العلماء ذلك إلا لما تعلق بتعدد الإمام في القطر الواحد، بل إن علماء المغرب العربي كالمازري وابن عرفة قالوا إن تعدد الأقطار يجيز تعدد الدول، يقول المازري رحمه الله: “العَقْدُ لإمامين في عصر واحد لا يجوز. وقد أشار بعض المتأخرين من أهل الأصول إلى أنَّ ديار المسلمين إذا اتّسعت وتباعدت وكان بعض الأطراف لا يصل إليه خبر الإِمام ولا تدبيره حتى يضطرّوا إلى إقامة إمام يدبّرهم فإن ذلك يسوغ لهم”([16]).
وقال ابن الأزرق الغرناطي المالكي: إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذر الإمكان. قال بن عرفة – فيما حكاه الأبي عنه -: فلو بعد موضع الإمام حتى لا ينفذ حكمه في بعض الأقطار البعيدة، جاز نصب غيره في ذلك القطر”([17]).
وقال القرطبي: ” إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان جاز ذلك”([18])
وقال ابن كثير: “وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار، واتسعت الأقاليم بينهما، وتردد إمام الحرمين في ذلك. قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب…”([19]).
ويقول القنوجي: ” فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، وتجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه, وكذلك صاحب القطر الآخر“([20]).
ويقول الشوكاني: “وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه، فمعلوم أنه قد صار في كل قطر – أو أقطار – الولاية إلي إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر كذلك، ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته. فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر”([21]).
فهذه النصوص كلها تثبت أن مسألة وحدة الدولة ووحدة الإمام لا يمكن أن تتحقق بحد السيف، بل إنها وإن كانت مثالا يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية لا قسرية، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح في الشريعة، وفي ظل تغير الأوضاع والزمان والمكان والأحوال، فإن شرعية الدول الوطنية أمر لا شك فيه، والطاعة المفترضة للحاكم أو القانون أو النظام مطلوبة هنا كما هي مطلوبة هناك..
مركزية المصلحة في تدبير الشأن العام:
الدولة من حيث الأصل هي ناشئة عن ضرورة عقلية وممارسة شرعية، وهي من نوع المصالح التي يوجبها الشرع لإدارة شؤون الخلق والقيام بالخلافة في الأرض([22]). وبما أنها كذلك فهي ترتبط بما سبق عند الحديث عن الإحالة بين الديني والدنيوي، فيجب أن نبين مركزية المصلحة في المساحة الواسعة التي تركها الدين للعقل في تدبير أمور الدنيا، باعتبار أن المصالح مدركة بالعقل.
وفقهاء الأحكام السلطانية كانوا على وعي بهذه القضية حين كانوا ينظرون إلى الدولة وخططها من زاوية النظر المصلحي، باعتبارها قضية اجتهادية تختلف فيها المناطات، فإن وقع الاختلاف بينهم فإنما هو اختلاف أحوال لا اختلاف أقوال في حقيقته، مقارنة بسيطة بين ما قرره الماوردي، وما قرره الجويني يثبت ذلك إذا ما علمنا أن الأول كان قاضيا في أيام دولة البويهيين، وكان صديقا لجلال الدين البويهي ووسيطا بينه وبين الخليفة العباسي، فكان ينظر لهذا الواقع الذي يعيش فيه. وأما الجويني فكان ينظر للوزير الأكبر للدولة السلجوقية السنية نظام الملك.، والفرق بين الواقعين يعرفه من اطلع على كتب التاريخ، وهذا ما يعني أن مسألة الحكم لا تجد موقعها في التعبديات، بل هي من صميم المصلحة التي رعاها الشرع وأوكل إلى العلماء النظر فيها والحكم بمقتضاها وفق المنهج المنضبط الذي يسمح بالوصول إلى صياغة مفهوم وصورة للدولة لا ينافيان مقتضيات الشرع ويتفقان مع معطيات العصر.
إن مركزية مراعاة المصالح وارتباطها بالدين والعقل في مقاربة موضوع الدولة الوطنية تحمل على التوقف قليلا عند بعض النصوص الدالة على اعتبارها، وذلك من شأنه أن يلغي الاختلاف حول نتائج إشكالية العلاقة مع الدين والتراث.
يقول الشاطبي: ” والقاعدة المستمرة في أمثال هذا التفرقة بين العبادات والمعاملات، فما كان من العبادات لا يكتفى فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني؛ والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن، إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات، فكذلك ما يتعلق بها من الشروط. وما كان من العاديات يكتفى فيه بعدم المنافاة لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه، والله أعلم”([23]).
إلا أن العلاقة بين العقل والمصلحة كانت تمثل حجر الزاوية في بعض آراء العز بن عبد السلام والطوفي. وفي هذا تندرج مقولة العز: “معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وذلك في معظم الشرائع”([24]).
ويقول أيضا: “ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهما فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك إلا ما تعبد الله به عباده ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته”([25]).
ولكنه في موضع آخر يربط العقل بالشرع حيث يقول: ” ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك. ومثل ذلك أن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة. ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة، ولعلمنا أن الله أمر بكل خير دقه وجله، وزجر عن كل شر دقه وجله، فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح ([26]).
ويتجه حينئذ ما ذكره الطوفي في شرحه لمختصر الروضة، ونصه: ” اعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْمَصْلَحَةَ إِلَى مُعْتَبَرَةٍ، وَمُلْغَاةٍ وَمُرْسَلَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَغَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ تَعَسَّفُوا وَتَكَلَّفُوا، وَالطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْمَصَالِحِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَأَقْرَبُ، وَذَلِكَ بِأَنْ نَقُولَ: قَدْ ثَبَتَ مُرَاعَاةُ الشَّرْعِ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ بِالْجُمْلَةِ إِجْمَاعًا، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: الْفِعْلُ إِنْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً مُجَرَّدَةً، حَصَّلْنَاهَا، وَإِنْ تَضَمَّنَ مَفْسَدَةً مُجَرَّدَةً، نَفَيْنَاهَا، وَإِنْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَفْسَدَةً مِنْ وَجْهٍ، فَإِنِ اسْتَوَى فِي نَظَرِنَا تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ، وَدَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، تَوَقَّفْنَا عَلَى الْمُرَجِّحِ، أَوْ خَيَّرْنَا بَيْنَهُمَا كَمَا قِيلَ فِي مَنْ لَمْ يَجِدْ مِنَ السُّتْرَةِ إِلَّا مَا يَكْفِي أَحَدَ فَرْجَيْهِ فَقَطْ. هَلْ يَسْتُرُ الدُّبُرَ؛ لِأَنَّهُ مَكْشُوفًا أَفْحَشُ، أَوِ الْقُبُلَ؛ لِاسْتِقْبَالِهِ بِهِ الْقِبْلَةَ؟ أَوْ يَتَخَيَّرُ لِتَعَارُضِ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَالْمَفْسَدَتَيْنِ؟، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوِ ذَلِكَ، بَلْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، فَعَلْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ شَرْعًا، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَخَرَّجُ كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْصِيلِهِمُ الْمَصْلَحَةَ.
أمَّا الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا كَالْقِيَاسِ، فَمَصْلَحَتُهُ ظَاهِرَةٌ مُجَرَّدَةٌ، أَوْ رَاجِحَةٌ، وَأَمَّا الْمُلْغَاةُ كَمَنْعِ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ، وَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدُّورِ، فَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ وَالْمَفْسَدَةَ تَعَارَضَتَا فِيهِمَا، لَكِنَّ مَصْلَحَتَهُمَا ضَعِيفَةٌ وَمَفْسَدَتَهُمَا عَظِيمَةٌ، فَكَانَ نَفْيُهَا أَرْجَحَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ النَّفْعِ الْمُتَحَقِّقِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ، وَالِارْتِفَاقِ الْمُتَحَقِّقِ بِالشَّرِكَةِ فِي السُّكْنَى لِأَجْلِ مَفْسَدَةٍ مَوْهُومَةٍ، وَهِيَ اعْتِصَارُ الْخَمْرِ، وَحُصُولُ الزِّنَى، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ مَظْنُونَةٌ، لَكِنَّهَا غَيْرُ قَاطِعَةٍ. وَالْمَصْلَحَةُ الَّتِي تُقَابِلُهَا قَاطِعَةٌ، فَكَانَ تَحْصِيلُهَا بِالْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الْمَظْنُونَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وأَيْضًا فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمَذْكُورَةَ خَاصَّةٌ، وَالْمَصْلَحَةَ الَّتِي تُقَابِلُهَا عَامَّةٌ، وَالْتِزَامُ مَفْسَدَةٍ خَاصَّةٍ، أَيْ: قَلِيلَةٍ؛ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ كَثِيرَةٍ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّ مَنَافِعَ الْعِنَبِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ حُصْرُمًا عَلَى حَالِهِ، وَطَبِيخًا، وَعِنَبًا، وَعَصِيرًا، وَزَبِيبًا، فَهَذِهِ خَمْسُ مَنَافِعَ، وَلَعَلَّ فِيهِ غَيْرَهَا، وَالْمَمْنُوعُ مِنْ مَنَافِعِهِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْخَمْرُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي عَلَى لِسَانِ الشَّرْعِ: ابْنُ آدَمَ، لَكَ ثَمَرَةُ الْكَرْمِ حُصْرُمًا، وَعِنَبًا، وَعَصِيرًا، وَزَبِيبًا، فَهُنَّ أَرْبَعٌ لَكَ، فَاتْرُكْ لِيَ الْخَامِسَةَ: النَّصِيرُ )وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَــــــــهُ ( [الْأَنْفَالِ: 41]. فَتَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ بِزِرَاعَةِ الْعِنَبِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا لِمَفْسَدَةِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مُحَرَّمَةٍ…إلى أن قال: “وَعَلَى هَذَا تَتَخَرَّجُ الْأَحْكَامُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِيهَا، أَوْ عِنْدَ تَجَرُّدِهَا، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا بِتَقْسِيمٍ وَتَنْوِيعٍ لَا يَتَحَقَّقُ، وَيُوجِبُ الْخِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ، فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِذَا تَحَقَّقَهَا الْعَاقِلُ، لَمْ يَسْتَطِعْ إِنْكَارَهَا لِاضْطِرَارِ عَقْلِهِ لَهُ إِلَى قَبُولِهَا، وَيَصِيرُ الْخِلَافُ وِفَاقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى”([27]).
وقد كان الطوفي أكثر صراحة في شرحه الأربعين النووية حيث يقول: “أما المعاملات ونحوها: فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر، فالمصلحة وباقي أدلة الشرع: إما أن يتفقا، أو يختلفا. فإن اتفقا فبها ونعمت، وإن اختلف، فإن أمكن الجمع فجمع بينهما، وإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها، لقوله عليه السلام :”لا ضرر ولا ضرار”…وهو خاص في نفي الضرر المستلزم رعاية المصالح، فيجب تقديمه، ولأن المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل، والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل”..
أيها السادة:
نحن لا نتنكر لتاريخنا، وبالتالي فإن الخلافة والإمامة أدت وظيفتها في التاريخ الإسلامي وأسدت إلى الأمة الكثير من المزايا، لكن السياق الزمني اختلف وتغير تغيرا جذريا مما يجعل ما كان مصلحة بالأمس مفسدة اليوم، أي أن توحيد الناس بالقوة فيه مخالفة للمقاصد وجلب للمفاسد، ما يجعله لا يوازن مصلحة الدولة الواحدة. لقد جرب ذلك في ألمانيا البيسماركية، وتوصل الناس إلى أن الوحدة الاختيارية العاقلة هي التي يمكن أن تصمد الآن، ونحن هنا في دولة الإمارات العربية المتحدة التي توحدت طوعا واختيارا بحكمة وعقل المؤسسين لهذ الاتحاد، وكذلك تجربة مجلس التعاون الخليجي التي نرجو لها الاستمرار هي من التجارب التي يمكن أن تصب في تحقيق مقصد الإسلام في الترغيب في الوحدة والحث عليها.
بعد هذا السبح الطويل في قضية الخلافة ووحدة الدولة، ووحدة الإمام، والإحالة بين الديني والدنيوي، وعلاقة المصلحة بالعقل ضمن الدائرة التي وضعها له الشرع، نقول:
– إن صورة الدولة لا ترتبط بشكل نمطي ثابت لا يتغير، بل لكونها مرتبطة بالواقع فهي تخضع لعوامل تغير الواقع الزمانية والمكانية والإنسانية، ومن ثم فما عرفه التاريخ الإسلامي من صورة راشدة للحكم ممثلة في الخلافة الراشدة إنما هي صورة اقتضتها طبيعة ومكونات وإكراهات الواقع الذي نشأت فيه الخلافة الراشدة، والدليل أن الخلافة الراشدة نفسها تعددت صور وصول الخليفة فيها إلى الحكم بين الإيماء، والنص والشورى.
– إن الشرع الإسلامي وإن كانت فيه دائرة الوحي والنصوص هي الحاكمة على الواقع الإنساني، فإن هذا الشرع لم يحجر على العقل، بل أعطاه مساحة واسعة يدرك فيها العقل مصالح العباد كما نص على ذلك الشاطبي وغيره، ومسألة الدولة وصورتها ونظامها هو من هذا القبيل.
– إن الكثير من الخطاب المتعلق بالأمراء والولاية كقوله عليه السلام: ” من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني” لايعني بالضرورة الخلافة بل يعني في حده الأدنى السلطة.
– هناك فرق بين حث الشريعة على وجود سلطة وهو أمر لامرية فيه قولا وفعلا وتقريرا، وبين النصوص المتعلقة بشكل السلطة.
– هناك فرق بين شكل السلطة وبين مضمون مسؤولياتها وصلاحياتها من حيث المحافظة على الدين والدنيا، ومن حيث تداخل الحقوق العامة والمركبة.
– إن الدولة الوطنية في عالمنا الإسلامي مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع، فلا يجب ألا تراق الدماء لتوحيد الدولة، ويجب أن يسود السلام.
خاتمة
فإننا ندعو الجميع إلى بذل جهد مضاعف فكريا وماديا، وتجاوز بعض القناعات التي لا تخدم السلام، ونذكر الذين حملوا السلاح على أمتهم بالحديث الصحيح ” من حمل علينا السلاح فليس منا”.
وإن الحل لن يكون بالتأكيد بالحلول الحادة، الرامية إلى القطيعة مع التراث والتاريخ، أو التقوقع في زنزانات الماضي دون اقتحام عصر التحديث والإبداع.
إن التعامل مع منظومة الأدوات الاستنباطية بأيد عليمة وأذهان مفتوحة ودين متين لا وسوسة فيه ولا تردد يستهدف صالح الإنسان؛ وذلك باستهداف المقاصد الأولى لفهم النص والمقاصد الثانية المتمثلة في منظومة التعليل المبنية على تحقق المصالح والابتعاد عن المفاسد، وعلى رأسها استعادة السلم الأهلي وإيقاف نزيف الحروب المجنونة لتصل إلى منظومة التنزيل، أي البيئة الزمانية والمكانية التي تمثل مقر الأحكام ومستودعها. وعليها يقع الانسجام بين الأوامر والنواهي وأحوال الإنسان في إكراهاتها ورحابتها، وفي قترها وسعتها، وفي كل تقلباتها وغلباتها ومآلاتها وهو ما يمثل المقدمة الثانية لتنزيل الأحكام، وهي مقدمة الواقع الزماني والمكاني والإنساني للموازنة بين المثال والإمكان، وباختصار لإيجاد انسجام في ضمير المسلم بين كلي الإيمان وكلي الزمان.
لا توجد صيغ جاهزة، ولا وصفات ناجزة لحل الأزمة العقلية والفقهية والفكرية، فلا بد من تركيب الدواء لمعالجة الداء، فأنتم الأساة والأطباء، ولم يجانب نيتشه الصواب حين قال: الحضارات تمرض وأطباؤها الفلاسفة، ونحن نقول: أطباؤها العلماء والمفكرون أهل الفكر الثاقب والرأي الصائب.
أيها السادة:
لا بد من المعاناة، ولا بد من إعمال العقل المعطل للنزول بالنصوص والمقاصد والفروع والقواعد من سماء التصور إلى أرض التطبيق، ولا بد من التعرف على الواقع والتوقع لحل مشكلة الأجهال الثلاثة: الجهل بتأويل النصوص، والجهل بالمقاصد، والجهل بالواقع والمئالات ( التوقع).
لعل بعض أهل الاختصاص يرى أحيانا نشوزا عن المنهجية، وندورا عن “الكارتيزية” فعذري أني أعالج وضعا لا موضوعا-حالة الكثير من الباحثين في الأحكام السلطانية كالماوردي والجويني- ،ولعل انتقاد ابن خلدون للطرطوشي يصدق علي حين قال: إن كتابه كالمواعظ.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1]– نومئ هنا إلى”المفهوم الأساس” أو “المفهوم الماهية”، أي ما يأتي جواباً على سؤال “ما هو؟”، الذي هو عند دولوز تجريد عقلي يحاول أنْ يحدد جملة الصفات والنعوت الثابتة التي نحملها على مجموعة من الموجودات بغرض إدراكها وتوحيدها في هوية. وخاصية هذا المفهوم المدرسي هو أنه صوري وكلي وآلي يطرح نفسه بشكل جاهز قبلي.
ونضرب صفحاً عن دلالة أخرى للمفهوم عنده وهي التى تأتي جواباً عن سؤال “الكيف” و”الحيث”، لأن المفهوم تجاور بين مكونات، وليس توحيداً أو تجميعاً لمكونات. وخاصية هذا المفهوم الثاني هي كونه حديثاً وجزئياً وظرفياً، لأنه يتعلق بأشياء وكيفيات مخصوصة.{ عادل حدجامي: فلسفة جيل دولوز ص147 بتصرف يسير}.
[2] – المنخول ص3 تحقيق د. محمد هيتو دار الفكر
[3] – رواه البخاري
[4] – نظمه منتدى تعزيز السلم بشراكة مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية في 25-27 يناير 2016 بمدينة مراكش.
[5] – رواه أبو يعلى في مسنده عن جابر بن عبد الله بإسناد رجاله رجال الصحيح.، والطبري.
[6] – التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، 5/74-75.
[7] – القرافي ، الفروق، 1/176- 177
[8] – رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء ووصيته إياهم بآداب لغزو، الحديث رقم: 1731.
[9] – رواه البيهقي في “السنن الكبير” 10/ 116
[10] – رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ج 10/ ص 149 حديث رقم: 18654
[11] – تاريخ الطبري، 3/110.
[12] – غياث الأمم في التياث الظلم، ص:61
[13] – وليس هذا قول الجويني وحده، بل هناك كثير من الأئمة ممن نحا نحوه، يقول الآمدي الشافعي في غاية المرام في علم الكلام:” واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات، ولا من الأُمور اللابدِّيَّات، بحيث لا يسع المكلَّف الإعراض عنها والجهل بها ” (ص 363). ويقول الإيجي الحنفي في مواقفه: “وهي عندنا من الفروع، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا ” (ص 395).، ويقول الإمام الغزالي في كتابه:” الاقتصاد في الاعتقاد:”اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات ، وليس أيضاً من فنّ المعقولات ، بل من الفقهيات ” (ص 234) ، ويقول التفتازاني في شرح المقاصد:” لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة ، بعلم الفروع أَليق ” (2/271.
[14] – غياث الأمم، ص: 75.
[15] – غياث الأمم،
[16] – المعلم بفوائد مسلم، 3/54.
[17] – بدائع السلك في طبائع الملك، ص:76.
[18] – الجامع لأحكام القرآن، 1/273.
[19] – تفسير القرآن العظيم، 1/222.
[20] – الروضة الندية 2/774.
[21] – السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، 1/941.
[22] – جماهير العلماء على وجوب قيام دولة، وهذا أصل لم يخالف فيه إلا قلة كابن كيسان الأصم وبعض المعتزلة.
[23] – الموافقات، 1/440.
[24] – قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/6.
[25] – المصدر السابق، 1/9.
[26] – المصدر السابق، 2/189.
[27] – شرح مختصر الروضة، 3/214.