المشروع الفكري للشيخ العلامة عبد الله بن بيه ” د. محمد المهدي محمد البشير
محاضرة مقدمة في المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية (مبدأ) في ندوة “المشروع الفكري للشيخ العلامة عبد الله بن بيه ”
د. محمد المهدي محمد البشير
هناك شبه اتفاق بين المؤرخين على أن الإسلام- بشقيه الدين المنزل و الاجتهاد المنبثق عنه – ظل لمدة اثني عشر قرنا هو المرجعية الوحيدة التي يقتبس منها الأفراد تصوراتهم العقدية و قيمهم الخلقية و على هديها تحاول الجماعة المسلمة أن تعيد صياغة علاقاتها الاجتماعية والاقتصادية و تسن مختلف نظمها و قوانينها ، و تؤسس القواد المحددة لمفهوم الحق و الخير و العدل و الجمال لديها ، و لكن ما ان برزت الدولة الحديثة بمؤسساتها القائمة على رؤية جديدة للعلاقات الاجتماعية و السياسية حتى بدأ تأثير الشريعة الإسلامية يتقلص تدريجيا نتيجة تعطيل آلية الاجتهاد و التجديد و التي هي وسيلة الدين الإسلامي لمواكبة التحولات الاجتماعية المتسارعة مما أدى إلى :
انهيار نظام الخلافة الإسلامية على المستوى السياسي
تقلص دائرة تأثير الشريعة الإسلامية في المجال التشريعي
حلول القوانين الوضعية محل النظم الإسلامية في أكثر مجالات الحياة أهمية (القضاء و الاقتصاد و السياسة )
حدث هذا بعد أن كانت الشريعة الإسلامية – كما يقول جون راولز- قانونا أخلاقيا أنشأ مجتمعا جيد التنظيم و ساعد على استمراره ، ولكن مع بداية القرن التاسع عشر و على يد الاستعمار الأوروبي تفكك النظام الاقتصادي – الاجتماعي و السياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا أي أن الشريعة نفسها أفرغت من مضمونها و اقتصرت و اقتصرت على تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدول الحديثة بالمادة الخام “الدولة المستحيلة “.
وقد أدى هذا الوضع – كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه – إلى أن تكون” الشريعة خارج المجال اليومي للحياة ، أي خارج الممارسة في الواقع في أغلب الأقطار ” (تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع) .
و قد ربط الشيخ عبد الله بن بيه هذا التحول الجذري الذي حدث في العالم الإسلامي بالثورة العلمية التي أدت إلى تحولات اجتماعية و سياسية لم تعرف البشرية لها مثيلا ، حيث يقول ” مسيرة الحياة تشهد تغيرات هائلة و تطورات مذهلة من الذرة إلى المجرة ، للتمازج بين الأمم و التزاوج بين الثقافات إلى حد التأثير في محيط العبادات و التطاول إلى فضاء المعتقدات ” ويلفت النظر إلى مدى قوة تأثير هذا التحول على النظام الاجتماعي و إلى خطر المآلات التي قد يقود إليها بسبب أن ” الأنظمة الدولية و المواثيق العالمية و نظم المبادلات و المعاملات قد أصبحت جزءا من النظم المحلية و تسربت إلى الدساتير التي تعتبر الوثائق المؤسسة فيما أطلق علي اسم العولمة و العالمية ” التجديد بين الدعوة و الدعوى”.
لقد أحدث هذا التحول – لأول مرة في التاريخ الإسلامي – صدمة عنيفة للعقل المسلم الذي لم يكن يتصور أن هناك نظاما – في الوجود – يمكن أن يطيح في أن ينافس الشريعة الإسلامية خارج المجال الإسلامي أحرى أن يوجد نظام يزاحمها في عقر دارها فيختاره المسلمون و يتبنونه من غير ردة عن الإسلام أو إكراه على ترك شريعتهم .
و قد فرض هذا الواقع نفسه على المسلمين مما جعل كثيرا من المفكرين و الفقهاء المجتهدين يكرسون حياتهم لعلاج هذه الظاهرة قبل الإجابة عن الأسئلة المفتاحية ماذا نجدد ؟ و كيف ؟ و “بم ” و من ” ؟ . فكثر الكلام عن التجديد و قل المجددون .
و قد اتخذت دعوات المجددين طرائق قددا ، فكان منهم من ركز على إصلاح العقيدة و منهم من اهتم بالسياسة ، و منهم من ولى وجهه شطر الأخلاق أو التعلم و منهم من بشر بتجديد شامل ينطلق من شمولية الإسلام و لكنه لم يهتم بتجديد طرائق التفكير و منهاج الاجتهاد و إصلاح العقل المسلم الذي تحول في عصور الانحطاط من أداة توليد للفكر و تحليل له ونقد إلى أداة تسجيل و استظهار حيث ركزت أكثرت الدعوات على إحياء السلوك الإسلامي و توظيف الأدوات و المعارف التي وظفها العلماء الأقدمون في التفكير و الاستنباط فأعدوا الأدوات و المعارف التي وظفها العلماء الأقدمون في التفكير و الاستنباط فاعدوا مقولاتهم الجزئية في غير زمانها و احيوا خلافاتهم التاريخية بعد أن ماتت مع أصحابها ، فشغلهم ذلك عن التصدي لمهمة التجديد ،و الإجابة عن الإشكاليات المعاصرة . لكن خطابهم لقي رواجا شعبيا كبيرا وهو ما أدى – كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه إلى –
“إقبال الناس على أحكام الشريعة دون أن يحيطوا علما بمصادرها ومواردها وجزئيات نصوصيات و كليات نصوصها”.
“بروز سوق ظاهرية قل علمها و ضاق فهمها ، استظهروا بعض الجزئيات دون ردها إلى الكليات فغاب عنهم الجمع و الفرق و التعليل ، فلم يصيبوا في التنزيل ”
“قيام نابتة علمانية –كرد فعل – كادت أن تودع الدين و تلوذ بأذيال الغرب ، بحثا عن الخلاص ، و فرارا من منطق لم تعهده ، و منطلقات لم تعرف مداها و مستقبل لم يهيئه حاضرها “(تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع ).
و من يتبع إنتاج الشيخ العلامة عبد الله بن بيه المعرفي الغزير و يحاول استيعاب منهجه التجديدي ، ونسقه الفكري ، يجد انه ينطلق من إشكالات تجديد مناهج التفكير الشرعي و طرائق الاستنباط أولا ، بدءا بتحديد مفهوم التجديد و موضوعه و مراجعة أدواته حيث يقول “إن للتجديد أدواته ، كما لكل بناء أدواته ، قبل الشروع في البناء علينا أن نخترع الأدوات أو تفحص ما لدينا من الأدوات ، نرى صلاحها و صلوحيتها “(التجديد بين الدعوة و الدعوي ).
و تأسيسا على هذا المنهج الأصولي و الرؤية الفكرية يعيد طرح مجموعة من الأسئلة التي يرى أنه يتعين على العلماء الإجابة عنها و هي :
ما مدى استجابة التشريع للقضايا البشرية المتجددة ، رغم أن نصوصها محدودة ووقائع الحياة غير متناهية؟
ما مدى ملاءمة التشريع للمصالح الإنسانية وضرورات الحياة ؟
ما هي المكانة الممنوحة للاجتهاد البشري المؤطر بالوحي الإلهي ؟(مقاصد الشريعة ).
و هذا ما جعله ينطلق في منهجه التجديدي من أصول الفقه ، باعتبار ذلك هو المدخل الصحيح لتجديد الفقه و التفكير ، لأن التجديد في أصول الفقه هو بالضرورة التجديد في الفقه ذاته ، لأنه هو المستهدف في الأصل و النتيجة المتوخاة ” ولان “القضايا الفقهية – التي تمثل للمسلمين المنظومة التعبدية و القانونية التي تحكم النسق السلوكي و المعياري في حياة الفرد و الجماعة يجب أن تواكب مسيرة الحياة ” (التجديد بين الدعوة و الدعوي ).
و قد حصر الشيخ وظيفة أصول الفقه في غايتين تشريعيتين هما الاستنباط ، و الانضباط بهدف التوسط بين الوحي و العقل و بين الأوامر الشرعية في إطلاقها الأزلي و بين الواقع الإنساني بعديه الزماني و المكاني “و بين أن ” أصول الفقه في الوقت الحاضر لا يفضي إلى إنتاج الأحكام في مستجدات الوقائع ” مستدلا على ذلك بواقع المجامع الفقهية نتيجة ” وجود عجز في التواصل بين الواقع و بين الإحكام و أحيانا إلى عدم الانضباط في الاستنتاج و الاستنباط “و أعاد سبب ذلك إلى عدم مراجعة أدوات توليد الأحكام و الاجتهاد المعطلة “,(فقه الواقع و التوقع).
و قد فتح الشيخ المجال أمام العلماء – في كل زمان ومكان – لإعادة رسم مقاصد الشريعة حسب حاجات الاجتماع البشري ، وتطور المعرفة و الواقع الدولي انطلاقا من روح الشريعة و قواعد التشريع ، بشرط التقيد بقواعد أصول الفقه بدل التقوقع في “المقاصد” التي حددها إمام الحرمين أو الشاطبي ، أو الطاهر بن عاشور كما لو كان تطور الاجتماع قد توقف ، حيث يقول “المقاصد الكبرى التي تحكم الشريعة لا يمكن ادعاء الحصر فيها فكل عالم يقترح مقصدا بناء على ما فهمه (مقاصد الشريعة ).
فالشيخ يدعو إلى مقاصد متجددة بتجدد المعرفة و رقي العقل ، و تطور الاجتماع البشري ،كما ينادي بضرورة توظيف عناصر معرفية جديدة لهم “دلالات الألفاظ ” ، إذ يرى أن عملية الفهم تتعلق بموضوع : “دراسة الظاهرة اللغوية في علاقتها بالوحي ،وليس ذلك خاصا بحضارتنا ،فموضوع الظاهر ة اللغوية شغل الدراسات الغربية في ميدان اللسانيات و بخاصة في الهيرمينوطقيا وهي تفسير النصوص المقدسة أو ما عبر عنه بول ريكو بأنه : فن تأويل النصوص في سياق مؤلف النصوص و متلقيها الأوائل” .(التجديد بين الدعوة و الدعوي )
وقد سبق للشيخ في كتابه (أمالي الدلالات) أن أصل لهذه المسألة – من داخل التراث الإسلامي – حيث ذكر قول الجصاص إن “اللغة العربية لا شأن لها في الدلالات “وإنما يختص أهل اللغة بمعرفة الأسماء و الألفاظ الموضوعة لمسمياتها بأن يقولوا إن العرب سمت كذا بكذا فأما المعاني و دلالات الكلام فليس يختص أهل اللغة بمعرفتها دون غيرهم ممن ليس من أهلها فقولهم قال ذلك بعض أهل اللغة ساقط لا اعتبار له “.
من هنا اقترح الشيخ أن تنطلق عملية التجديد من : “وضع مقدمة لدراسة الظاهرة اللغوية من كل جوانبها و نواحيها و زواياها لاستخراج خباياها انطلاقا من ثلاثي : الوضع و الاستعمال و الحمل ” معتبرا أن انقسام الدلالة إلى (حقيقة وضعية ، و حقيقة عرفية و حقيقة شرعية ، ومجاز ) ،نما يعود إلى “توصيف الظاهرة اللغوية من حيث تطور الدلالة ” بسبب عامل الزمن و الاستعمال .
و يقترح اعتماد مقاربة تختصر التجديد في ثلاثة أجناس “تشتمل على أنواع كثيرة هي لب التجديد ، و مضطرب المجتهدين ، و مراد مراداتهم و تعاملهم و تحملهم ” و هي :
1 مدلول الدليل
2 منظومة التعديل
3 مباءة التنزيل
أولا : مدلول الدليل
ويرد به دلالات الألفاظ التي تمثل المرحلة للتعامل مع النص ، لكنه يدخل فيها دراسة الظاهرة اللغوية .
ثانيا : منظومة التعديل : الجواب عن لِمَ ؟
و يريد بها معقول النص ،أو مقاصد الشريعة الكلية و الجزئية ، الأصلية و التبعية ، لأنها بيئة العلل كليها و جزئيها ،و يدعو الشيخ إلى : “التعامل مع المقاصد تعاملا جديدا كأدوات فاعلة في مختلف أبواب أصول الفقه حيث يكون تفعيل المقاصد من خلال أدوات الإنتاج و الاستثمار موسعا لأوعية الاستنباط ، و جهاز استشعار في مجال الالتقاط ، لان المقاصد من دون هذا التفاعل مع المركب الأصولي تبقى صورا بلا روح ،واعية فارغة بلا محتوى ” وقد بين الشيخ أن بعض المقاصد هي مجرد حكم و إشارات لا تصلح للعلية ، و لهذا وضع خمسة ضوابط للتعاطي مع المقاصد حتى يراعيها المجتهد عند توليد الأحكام حتى لا يقع في خطا التعامل و خطا التداول (التجديد بين الدعوة و الدعوي ).
و قد خلص الشيخ إلى أن ” التعليل في الأحكام من أهم موارد الاجتهاد و أعظم قواعد الاعتماد ” و اقترح أن يصبح القياس جزاءا من منظومة التعديل و ليس كتابا مستقلا “.
و قريب من هذا قول الشيخ عبد الوهاب خلاف ” كان مجتهدوا الصحابة يعملون لمطلق المصلحة لا قيام شاهد بالاعتبار ، و هاديهم في هذا فطرة سليمة و نظر صحح [ثم] صار الاعتبار لمصالح خاصة و المرجع إلى قواعد موضوعية .وبهذا بدأت تضيق دائرة التشريع و تلتزم في القضاء طرق خاصة و المرجع إلى قواعد موضوعية . وبهذا بدأت تضيق دائرة التشريع و تلتزم في القضاء طرق خاصة للوصول إلى الحق و تغل اليد عن تنفيذ ما قد يكون فيه بعض الإصلاح و كان هؤلاء المجتهدون في بعض الأحوال بحرج هذه القيود و ضيق قواعدهم بمصالح العباد فكانوا يخرجون من هذا الضيق بما يدعونه الاستحسان . و من أمثلة هذا عقد المزارعة فهو على قواعد اجتهادهم باطل لكنهم لما رأوه ضروريا لمصالح الناس أجازوه بطريق الاستحسان ،و ما هذا الاستحسان إلا بقية من روح الاجتهاد الفطري الذي كان سبيل السلف الأول ”
و هو ما عبر عنه الإمام محمد أبو زهرة بقوله : ” إن التعليل هو الذي فتح عين الفقه بل إن التعليل هو الفقه ، أو هو لباب الفقه ، و إن التعليل كما قلنا ليس الغرض منه إلا أن تعرف مقاصد الشارع الحكيم من النصوص “.
ثالثا مباءة التنزيل : الجواب عن كيف ؟
و يعني به ” تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع باعتبار أن الأحكام الشرعية معلقة بعد النزول على وجود مشخص هو وجود الواقع ، أو الوجود الخارجي كما يسميه المناطقة “ولذلك كان خطاب الوضع ناظما للعلاقة بين خطاب التكليف بأصنافه و بين الواقع بسلاسته و رخائه و إكراهاته “.”إن التنزيل – كما يرى الشيخ – هو عبارة عن تطابق كامل بين الأحكام الشرعية و تفاصيل الواقع المراد تطبيقها عليه ، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد ، في جدلية بين الواقع و بين الدليل الشرعي ، تدقق في الدليل بشقيه الكلي و الجزئي ، و في الواقع و المتوقع بتقلباته و غلباته و الأثر المحتمل للفتوى في صلاحه و فساده .
وقد اعتبر الشيخ أن “تجليات التنزيل في الشرع ” تبرز في إقرار الشرع الإسلامي لجملة من المؤطرات لإنزال الحكم ، و التي و إن كانت لا تولد حكما بطبيعتها إلا أنها تصوغ مضمونه و أحيانا تمثل سببا أو مانعا ، و هذه المؤطرات هي:
1 العرف
2 إكراهات الحكم و النظام
3 اعتبار المتوقعات
4 مراعاة الحاجة
و قد اعتبر الشيخ أن الخلل الذي أصاب العقل الفقهي يعود إلى هذه الأمور الثلاثة
عالم التأويل
عالم التعليل
عالم التنزيل
و يحتاج الأمر في بحث هذه القضايا إلى محددين أساسيين :
أولا : إلمام واسع بالواقع من كل جوانبه ورؤية شاملة لكن زواياه . وهو أمر يوجب على المجامع أن تعطي مكانة كبيرة للخبراء السياسيين و الاقتصاديين و أيضا للاجتماعيين دون إفراط في منحهم وظيفة إصدار الحكم الشرعي .
أما المحدد الثاني : فهو أن يرتفع أعضاء المجالس في معالجتهم للقضايا إلى النظر المتوازن بين الكلي و الجزئي بأن تضع نصب عيناها المقاصد الشرعية الأكيدة دون أن تغيب عن بصرها و بصيرتها النصوص الجزئية التي يؤدي إلى إيجاد نسبية لاطراد المقصد و موله و أن ذلك بعينه هو الوسطية .
و التجديد عند الشيخ عبد الله بن بيه يختلف عن الإصلاح و التنوير بالمفهوم الغربي ، وهو يبدأ من “مراجعة أدوات توليد الأحكام و إنتاجها و ضبط القواعد في عملية تأصيلية يمكن أن طلق عليها : التجديد”.
مشروع الشيخ مشروع مستوعب لمدارس التجديد
يقسم الشيخ عبد الله بن بيه مشاريع التجديد إلى اتجاهين :
اتجاه أصيل (الدعوة ) : يقول إنه مشروع جدير بالاندماج في جدول التجديد و هو يضم دعوات مقاربة يحاول بعضها التقريب و التسديد، لكنها يغلب عليها الجانب التعليمي التربوي دون جانب إنشاء الأحكام الذي هو الغاية المتوخاة لعملية تدوين الأصول .
اتجاه آخر : يرتكز على أربعة دعاوى لها طورتها على أصول الفقه بل على الشريعة و هي :
دعاوي الحكمة و المصلحة غير المنضبتين بضوابط التعليل ووسائل التنزيل مما سيحدث ارتجاجا في بناية الاجتهاد و زلزلة لأسسه .
الدعوية المقصدية مجردة عن مدارك الأصول و عارية عن لباس الأدلة و هي دعوى – و إن كان فيها شيء من الصدق – فإنها لا تجيب على كيف ؟ و هي إجابة لن تكون مماشية للموروث الفقهي إلا إذا تمسكت بعروة وثقى من أدلة الأصول و هي الدعوة التي أطقها الشيخ المجدد الطاهر بن عاشور .
دعوى تاريخية النص و ظرفيته ، – و هي مذهب عرف في الغرب بأنه توجه فلسفي يربط المعارف و الأفكار و الحقائق و القيم بوضع تاريخي محدد بدلا من اعتبارها حقائق ثابتة ، ة هذا من شأنه أن يقطع الصلة بالنصوص الشرعية “
دعوى الفطرة … و هي تقوم على الاعتماد على الفطرة الإنسانية في التجديد و هذه الدعوة يقول بها الدكتور حسن الترابي ” فالشريعة حاكمة ، و ما تركه عفوا فهو متروك لما يقدر فيه البشر فيعرفون و ينكرون وفقا لما تهتدي إليه الفطرة المنفعلة بمعاني الدين المنزل .
وقد بين الشيخ أن هذه الدعاوى و إن كانت “تتفاوت في خطورتها إلا أنها جميعا هروب من ديمومة النصوص و قفز إلى المجهول “.
يفرق الشيخ عبد الله بن بيه تفريقا واضحا بين مستويين من التعامل مع الشريعة الإسلامية :
التعامل مع النصوص : أي مدلولات الألفاظ اللغوية و هذا يشترط فيه معرفة اللغة العربية . لكن الشيخ إنما يشترط معرفة متوسطة للغة العربية إذا انضمت إليها معرفة الأصول ، و توفرت شروط الاجتهاد الأخرى ، و يجعل بلوغ رتبة الاجتهاد في اللغة شرط كمال ، ثم إنه فتح أمام الفقيه فرصة الاستفادة من “تطور اللغة عرفا في سبيل مسائل فقهية معاصرة كمدلول القبض و التقابض في البيع ، كمدلول الحوز و الحيازة في الهبات … لأن اللغة كائن متطور بالعرف الاستعمالي للتمكين “.
التعامل مع المقاصد : “فالمقاصد لا تفتقر إلى اللغة افتقار الألفاظ إليها ، و هي ترجع إلى حكمة التشريع ، و معقولية النص ، و إلى جلب المصالح و درء المفاسد ، و هذا الأساس الثاني من ركائز الاجتهاد و تدخل فيه أدلة كثيرة : القياس ، و الاستحسان و سد الذرائع ، و المصالح المرسلة التي تنبني على المقاصد ” (أمالي الدلالات ).
و إذا كان الشيخ يرفض اعتبار المقاصد أدلة مستقلة يمكن الاعتماد عليها في توليد الأحكام الشرعية دون الاعتماد في توليد الأحكام الشرعية دون الشرعية دون الاعتماد على دليل أصولي يضبطها – فانه يرى أنه بالإمكان “أن تكون مرجحا لقول ضعيف بناء على كلي المصلحة ، حيث يمكن ترجيح الضعيف في محل الحاجة عدولا عن الراجح إلى الضعيف بناء على مصلحة ، قال : و هذا ما نتعامل به في فقه الأقليات .
و يرى أن المقاصد يمكن أن تسهم في وضع فلسفة إسلامية شاملة تجيب عن الأسئلة التي يطرحها العصر في مختلف القضايا الكبرى التي تشغل الإنسان و شغلته منذ القدم في الكون و النظم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية لتفسير مختلف الظواهر الإنسانية و مظاهر العلاقات وتقديم قوانين عامة تنطلق من ثنائية الوحي و العقل “(التجديد بين الدعوة و الدعوي ).
و أخيرا اذكر أن الشيخ يدعوا إلى اعتماد العقل أصلا من أصول التجديد بدل المنطق و علم الكلام الذين أعتبرهما بعض من المجتهدين أصلين للاجتهاد .