نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في موتمر السلام في الاديان في جامعة أكسفورد
نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في موتمر السلام في الاديان في مقر جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
أيها السيّدات والسّادة،
يطيب لي أن أحيي معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الدكتور/ محمد عبدالكريم العيسى، والقيادات الدينية الحاضرة معنا اليوم، وجامعة أوكسفورد ممثلة في مركز الدراسات الإسلامية.
يطيب لي أن أخاطبكم في هذا المؤتمر المشهود الذي يتحدث عن موضوع له راهنيته وحيويته، وهو موضوع من الموضوعات التي كانت أوروبا المسيحية قد ناقشتها منذ سنين طويلة فكان لبعض من فلاسفتها موقف سلبي بناء على الحروب التي عاشتها القارة العجوز والتي كان للدين والمذهبية في نطاق الدين الواحد منها نصيب ليس بقليل.
إن مؤتمركم هذا يمكن أن يقدم من خلال عملنا المشترك الدليل القاطع على أن الدين ليس سبباً للحروب ولا للكراهية على الرغم من الأمثلة التاريخية والمعاصرة الأليمة والتي حفرت في الذاكرة الإنسانية ذكريات كارثية، والأدهى من ذلك أن فلاسفة عصر “التنوير” جعلوها قاعدة ثابتة وقانوناً اجتماعياً على أساسه يجب عزل الدين عن المجال العام باعتباره يفرق ولا يجمع ويضر ولا ينفع ويسبب الحروب.
بل اعتبروا الأخلاق الدينية أفيون الشعوب -عند ماركس-، واعتبر ديفيد هيوم الأديان بدون سند عقلي، إنّ إيمانويل كانت -الذي جاء لإصلاح ما أفسده هيوم ويعيد للأخلاق مكانتها، اقترح دين الأخلاق أو الدين العملي الذي أنزل الأخلاق من السّماء إلى الأرض، من خلال مذهبه المنطقي المعروف.
إلا أنّ ”كانت“ استبعد الأديان التوحيديّة الثلاثة: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، قائلاً بأنّها إيديولوجياتٌ دوغمائية، لا يمكن أن تكون أساساً للسّلام. ربّما كان نتشه أكثر بصيرة عندما قال في كتابه ”ما وراء الخير والشّر“ إنّ الذين أوجدوا القيم في البشرية قلّة في التاريخ ومنهم موسى وعيسى ومحمّد.
كما ذكرنا فإنّ إيمانويل كانت يرى أنّ الدين لا يمكن أن يكون عامل إصلاح، ونحى باللائمة على الديانات الثلاث التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام) وهكذا فإنّ كانْت حاول أن يوجد سبلاً للسلام الدائم خارج الدين، لأنّ الدّين بمبادئه المطلقة لا يُمكن إلّا أن يكون مِحَشّاً للحروب مُحَرّضا على العنف.
معالي الأمين العام، الحضور الكرام، لقد بيّنت في كلمة في مطلع فبراير في واشنطن أمام “حلف الفضول للعائلة الإبراهيمية” -وكان لحضور معاليكم في ذلك الاجتماع الأثر البالغ في نجاحه-، عوار هذا الحكم الذي حكم به كانْت ومن لفّ لفّه من الفلاسفة والمفكرين الأوربيّين الذين يريدون إقصاء الدين عن المجال العام، وأظهرت فساد رأيه من وجهين:
أولاهما: أنّه حكم على الأديان من خلال ممارسة بعض أتباعها الذين وظفوها توظيفاً سيئا لأغراض سياسية وتوسعية بفهم منحرف، وهو أمر نعاني منه في عالمنا اليوم، ونماذج نسعى جاهدين للرد عليها وتفنيدها. وكان الأولى به أن يحكم عليها من خلال مبادئها السامية ونصوصها الحاكمة، ويطيب لي أن أذكر بعض النصوص الحاثة على السلام من هذه الأديان، ولنبدأ بالمسيحية التي نفترض أن ”كانت“ يدين بها:
من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضاً ومن أخذ ردائك فلا تمنعه ثوبك أيضا (انجيل لوقا 29:6)
سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ. (إنجيل يوحنا 14: 27).
فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ. ( رسالة بولس إلى أهل رومية، 14: 19).
وفي اليهودية: مَا أَجْمَلَ أن يَقِفَ الْمُبَشِّرُ عَلَى قدميه فوق الْجِبَالِ، الْمُخْبِرُ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرُ بِالْخَيْرِ، الْمُخْبِرُ بِالْخَلاَصِ..(سفر إشعياء، 52: 7).
حِدْ عَنِ الشَّرِّ، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَم، وَاسْعَ وَرَاءَه. (سفر المزامير لداود، إصحاح 33: 14).
لُقْمَةٌ يَابِسَةٌ وَمَعَهَا سَلاَم، خَيْرٌ مِنْ بَيْتٍ مَلآنٍ ذَبَائِحَ مَعَ خِصَامٍ. (سفر الأمثال لسليمان، إصحاح 17: 1).
وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ. (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي 3: 15).
وفي الإسلام: فإن النصوص اليهودية والنصرانية المذكورة آنفاً لا تعتبر غريبة على التراث الإسلامي، لأن المسلمين يعتبرون أنفسهم امتدادا للديانات السابقة، ففي القرآن الكريم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة: 285].
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“ فهو يقدم نفسه متمما لا مبتدعاً {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِين} [الأحقاف: 9]
وفي القرآن الكريم:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: 34، 35]
بالإضافة إلى أنّ الوصايا العشر الواردة في سفر الخروج تعتبر من صميم الديانات الثلاث.
كل هذه النصوص ترد على دعوى تحميل الأديان مسئولية الحروب، بل الإنسان الذي يفسر الدين تفسيراً خاطئاً أو يستنجد به، أو يسخره لأغراضه هو المسؤول.
فالدين في حد ذاته يدعو إلى الحب والتسامح والعفو والترابط والتكافل.
وتدعوا الديانات التوحيدية إلى المحافظة على الكليات الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والعرض.
الوجه الثاني: هو أن قانون ”كانت“ الأخلاقي ليس فيه ثواب إلهي ولا عقاب، أي ليس فيه وعد الآخرة، مما يَجعله قليل الجدوى في ردع النفوس الجامحة، وبالتالي لن يحقق سلاماً بل هو مجرد افتراض سعادة في السلام قد يجدها الفيلسوف المتأمل، ويعجز عن إدراكها عامة الناس.
هل الدين سبب ظاهرة العنف أم العنف ناشيء عن عوامل أخرى والدين وسيلة؟ فكيف نعالج تلك الدعوى؟ وكيف يكون الدين حلاً وليس مشكلة؟
تلك أسئلة واجهتنا، حيث توجد دعوى مظلومية فهل السلم أولاً أم العدالة؟
للإجابة على هذا نقول إن من شأن الظواهر البشرية أنها ترجع إلى شبكة عوامل متعددة متداخلة ومتضامنة، وهذه العوامل منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو ذاتي، ومنها الحقيقي، ومنها الوهمي، وهذا التعدد هو ما يجعل البحث في الظاهرة متشعبا، وإن للخلفية الثقافية للمحلل دورها البارز في تحديد الأسباب لترتيب نوعية الحلول التي يتبناها. ولهذا يلزم الباحث حينما يعالج الظاهرة أن يسبُر شبكة الأسباب، ويفحص قوة تأثيرها ليخلص إلى انتقاء العامل المهيمن الذي ينبغي أن يُخص بمعظم المعالجة.
انطلاقا من هذا الوعي بتركيب المشكل وتعقيد بنيته، وتداخل العوامل الطاردة والجاذبة في تشكيل ظاهرة العنف، مما يفرض في الحلول أن تكون هي أيضا مركبة تتضافر فيها جميع المقاربات التي تمكن من التفسير الصحيح والمعالجة القويمة، استصحابا لذلك كله فإننا نعتقد مع ابن القيّم أنّ العنف كسائر أنماط السلوك والأفعال البشرية قبل أن يتجسّد في الوجود الخارجي العياني بكسب الإنسان ينشأ في نفسه ويعتمل في خواطر ذهنه وأفكاره وتتوجّه إليه إرادته وقصده.
وفي هذا العامل الفكري بمعناه الأعم والأشمل يمكن أن ندمج الدين في بعض تمظهراته المنحرفة كعنصر من عناصر ثقافة العنف. إن الديانة قد تكون أحد المبررات للعنف، ولكن هذا السبب غالباً ما يكون ممزوجاً بأسباب أخرى كالإحباط والإهانة والفشل، ويقوم الدين بدور مؤطّر للنزاعات، بل أحياناً بدور مكرّس للنزاعات.
ومن هنا يتجلى واجب القيادات الدينية في البحث في نصوصهم الدينية وتاريخهم وتراثهم ليجدوا أسسا متينة للتسامح والتعايش ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس معتنقي هذه الديانات. لأنه بالرجوع إلى النصوص وإلى التأويل المناسب والمقارب يمكن أن نتصدى لمروجي الكراهية والمتلبسين بلبوس الدين من المجرمين.
وأن نقدّم الرواية والرؤية، رواية الإسلام في دعوته للسلام والتسامح اعتمادا على نصوص أكيدة وعلى ممارسات رشيدة، وعلى التأويل الصحيح، على عكس الرواية المحرفة على يد الغلاة الخارجين عن الضبط الديني والضبط العقلي، ويجب الاعتراف بأن جذور هذا الانحراف والمعارف المسببة له ليس بعضها بجديد وإنما هو وريث فكر كان في التراث الإسلامي وتاريخه، وهو علاقة هذا الفكر بالنص التي تتميز بحرفية في الفهم بلا تأويل ولا تعليل، وكذلك فإنّ استغلال الدين سياسياً وطائفياً قد يكون سبباً للاضطراب.
إنّ مؤتمركم هذا سيكون فرصة لإظهار الدين كقوة للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين وليس عامل حروب وإثبات أن ذلك ممكن فعلاً، فديناميكية المحبة تتغلب على الكراهية، المحبة والسلام والصداقة هي رسالتنا إلى البشرية وهي شعارنا.
شكراً لكم على الإنصات وتمنياتي لكم بمؤتمر ناجح.
تحياتي لكم.