ارشيف ل March, 2019

الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية – كلمة العلامة عبدالله بن بيه

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

:كلمة حول

الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرُّف وخطاب الكراهية

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلممة


أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة،

أيها السادة والسيدات،

كل باسمه وجميل وسمه،

أحمد الله تعالى على تجدد اللقاء بكم على هذه الأرض الطيبة، أرض العلم والعمل والفقه والحكمة، في هذه المحفل السنوي المبارك، الذي أصبح سنة حسنة، حيث تتاح لنا الفرصة للمذاكرة والمدارسة حول جملة من قضايا الأمة وآمالها وآلامها.

وقد وقع اختيار الجهة المنظمة هذه السنة على موضوع (الوحدة الإسلامية.. في مواجهة تيارات التطرف وخطاب الكراهية)، وهو موضوع متسع الأرجاء مترامي الأطراف، ولا يزال محلّ الأشواق ومحلّ الإشفاق.

أود في هذه الكلمة الموجزة أن أُدْلي بدلوي وأسهم برأيي من خلالخمس برقيات سريعة، تتعلق بالعنوان دون الإفاضة في المقتضيات والمتعلقات، البرقية الأولى عن الوحدة وأهميتها والثانية عن الوحدة بين المثال والواقع، والثالثة عن التطرف، والرابعة عن ضرورة الوحدة الفكرية في وجه التطرّف، والخامسة عن الوحدة في سياق العولمة ومقاربة أولي بقية.

الكلمة الأولى: عن الوحدة أهميتها ودوائرها  

ولعلنا هنا لا نحتاج إلى إطالة الرشاء لنبرهن على أهمية الوحدة ومكانتها بالنسبة للمجتمعات عامة والمجتمعات المسلمة خاصة، فهو أمر معروف وعلى أطراف الثُّمام.

ونكتفي بالتذكير بأنّ الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.

إنّ هذه الوحدة لها أسسها ولها دوائرها:

فأساس الوحدة هو روح الأخوة الإسلامية: (إنّما المؤمنون إخوة) والمحبة: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)، الحبّ قيمة من أعظم القيم وشيمة من أمثل الشيم فهو وحده الذي يقوّي روح التّواصل وينسج لحمة التضامن والتكافل ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

وأما دوائر الوحدة التي تتجلّى فيها مظاهرها، فمتعددة تعدد مجالات حياة الفرد والجامعة، وهي على درجات يؤكّد بعضها بعضا ويكمّله،

فمن أشملها دائرة التضامن والتكامل، التي تتسع لتغطي جميع أنحاء التعاون المأمور به بين المسلمين وبين جميع البشر، في سبيل الخير والمصلحة، والتي تنطلق من مستوى وحدة الشعور والاشفاق “كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد”، لتتجسّد من خلال التكتلات الاقتصادية والثقافية والسياسية.  

كما أنّ منها دائرة لزوم الجماعة ومعناها الجماعة الفقهية -عند بعضهم- وهذا من أصول دليل الاجماع خلافا للنظام ومن معه من نفاة الإجماع الذين ادعوا أن المقصود هو الجماعة الإيالية أو السياسة بالمعنى الاصطلاحي والتي سمّاها الطوفي “الهيئة الاجتماعية”.  

 

الكلمة الثانية: الوحدة بين المثال والواقع

وهذه الدوائر والمستويات كلّها مطلوبة إلا أنّ الإسلام يضع مثالاً لكنّه يتعامل مع واقع ومصالح ومفاسد التي تطرأ على البشرية، فالمثال يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

ذلك هو المثال ولكن المثال مؤطّر عند التنزيل بمُقتضيات الواقع والإمكان.

فالوحدة وإن كانت مطلباً شرعياً ومقصداً عظيماً ومثالاً يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا، إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية وطواعية، وينبغي أن يُراعى في التدرج إليها السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.

ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك.فالاقتتال من أجل توحيد الأمة يكرُّ على الأصل بالإبطال ويجرُّ الصحيح الى الاعتلال والإعلال.

فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبدياً، قال الجويني وهو من العلماء الدستوريين: ( ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربطُ الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار)، وقال ابن الأزرق المالكي : (إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذُّر الإمكان).

ومن ثمّ فإن أولئك الذين يقاتلون من أجل إقامة خلافة في الأرض تغيب عنهم المقاصد الشرعية وطبيعة العصر ومقتضيات النّهي والأمر، فكيف يتوسل إلى مصلحة بأعظم مفسدة؟ ولهذا فإنَّه في محلّ الاختلاف يلجأ إلى المجمع عليه ويتمسّكُ به، فحرمة الدماء أمر لا مرية فيه والانتقال عن هذا الأصل المجمع عليه يحتاج إلى قيام أسباب أكيدة وانتفاء موانع عنيدة وتوفر شروط عنيدة، فهذه مكونات خطاب التكليف التي لا ينفك عنها أية تكليف حتى الإيمان حسب عبارة القرافي في التنقيح، فإذا علمنا عدم توفرها أو جهلنا قيامها فلا يصح تنزيل هذه الأحكام.

           وعند جهل بعض هدى الخمس             ما العمل اليوم كمثل أمس

كما قال علامتنا النابغة الغلاوي -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن شروط إجراء العمل .      

وعلى هذا دلّت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعدّدت دول الإسلام وتعدد أئمتهم وسلّم ذلك العلماء.

 فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع.

الكلمة الثالثة عن التطرف

(التطرف L’extrémisme) هو الخروج عن الوسط إلى الأطراف، واسم الفاعل متطرّف.

وهذا المفهوم ليس مفهوما علمياً في الثقافة العربية الإسلامية،بمعنى أنه لم يستعمل في وصف الأفكار والآراء والممارسات والسلوك، بل اسْتُعْمِل مُقابلُه وهو الوسط لوصف حالة الاعتدال الفكري والسلوكي والاتزان.

واستعمل نظير التطرُّف وهو: الغلو وهو: الخروج عن الاعتدال والتجاوز عن المعهود والمطلوب في الأقوال والأفعال.

كما استُعمل مصطلح التنطع وهو: نوع من المبالغة والشدة والتجاوز عن حدود المطلوب.

كما استُعملت كلمة التشدد وهو إظهار الشدة في الدين.

وهذه المصطلحات المرادفة والمجاورة للتطرف وردت كلها في سياق الذم والتنديد في أحاديث معروفة، نورد منها بعضها:  

فقد نُهيَ عن التشدد في حديث أنس:”لا تُشدّدوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم”.

ونُهي عن الغلو في الدين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام:” إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”.

ونُهيَ عن التنطع، ففي حديث ابن مسعود (مرفوعاً): “هلك المتنطعون قالها ثلاثاً”.

خلاصة القول: إن التطرف سواء كان فكرياً أو سلوكياً، مفهوم يختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان، ويمكن تعريفه بأنه: خروج على النظام العام فكرياً وسلوكياً، يحمل إمكانية التحريض على العنف أو الإخلال بالأمن.

وخطاب التطرُّف خطاب حادٌّ وآحادي، له مظهران: أولهما: التكفير في العقائد ، ثانيهما: ضيق الصدور بالخلاف في الفروع.

إنَّ آثار هذا الخطاب بمظهريه مدمّرة، حيث إنه المقدمة الفكرية لاستباحة الدماء والأموال والأعراض، وبالتالي الإخلال بمقاصد الحق ومقاصد الخلق، الذي يترجم بمقاصد الشرع ومقاصد المكلفين.

والإسلام براء من كل تطرّف، مع أن التاريخ الإسلامي قد عرف غلاة ومتطرفين ومتنطعين، وكان من مآسيه في التاريخ حركات الخوارج والباطنية، وفي الزمن الحاضر حركات التكفير والعنف والشغب والقلق السياسي والاجتماعي.

إلا أن تيار أهل السنة والجماعة ظل متمسكاً بالمنهج الوسط، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. وما فتئ العلماء بالمرصاد لكل غلوّ في الاعتقاد أو الأحكام العملية الفقهية لتصويب الخطأ وتوضيح الجادة، التي كان عليها سلف هذه الأمة.

ولهذا فإن توحيد الخطاب وتأصيله وتفصيله لإبراز زيف خطاب التطرف والكراهية وضعف مستنده ومخالفته لمنهج السلف وقانون المصالح المعتبرة، هو ما على الأمة اليوم أن تقوم به. فالوحدة الفكرية للأمة هي السبيل الأمثل للتصدي للتطرف، من خلال القيام بجهود تربوية.

 

الكلمة الرابعة: الوحدة الفكرية سبيلا لمواجهة التطرُّف

إنّ روح الإقصاء التي يحذر منها مؤتمرنا اليوم تنبع أساساً من الانغلاق الذي يسبب رفض الآخر وإساءة الظن به، التي هي الداء. ولذلك فإنّ من أبرز وسائل تحقيق الوحدة اليوم تنمية أوجه التّضامن، من خلال تعزيز المشتركات، والإيمان بأن التنوع المتناغم هو القاعدة الذهبية، وأنه أساس الوحدة والانسجام وليس القطيعة والانفصام.

إن أهم قيمة يمكن أن تكون مفتاحا لتعزيز الوحدة هي احترام الاختلاف بل حبه بحيث ينظر له كإثراء وكجمال وكأساس لتكوين المركّب الإنساني، إن الاختلاف ليس بالضرورة عداوة وحربا بل إنه يمكن أن يكون جمالا كاختلاف ألوان الطبيعة.

إنّ الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع وما دام في حدود الشرع وضوابطه فإنه لا يكون مذموما، بل يكون ممدوحاً ومصدراً من مصادر الإثراء الثقافي والفكري، إذا احترمت آداب الاختلاف، كاحترام رأي المخالف وعدم تجريحه وإنصافه وعدم المعاداة وتغليب مصلحة الألفة وحسن الظن بالمخالف والبحث له عن أقرب الأعذار.

مع احترام آداب الاختلاف يكون الاختلاف رحمة كما جاء في الأثر المشهور على ألسنة الناس: (اختلاف أمتي رحمة).

وهذا الاختلاف يمكن أن يتصور في ثلاثة مستويات:

على مستوى العرق والقبيلة وهو موضوع أشبعته النصوص المحكمة من الكتاب والسنة ايضاحاً وألغت الفوارق وجعلته من أمر الجاهلية، ووضعت المعيار الوحيد للفضل وهو التقوى. فالوحدة في الإسلام تّتسامى على الفئوية ولا تلغيها، تستوعب الانتماءات الضيقة ولا تنفيها، حيث تكون الانتماءات ثراء والاختلاف جمالا وإغناء.

المستوى الثاني: هو مستوى اختلاف المصالح والتي تكون تارة حقيقية وتارة موهومة، ويزداد هذا المستوى أهمية في وقت كثرت فيه التصنيفات وتشعبت فيه الفرق والتفاريق، بما أنتجته الحداثة أو زادته حدّة من اختلاف المصالح بين الرجل والمرأة وبين الشباب والأقلّشبابا، وبين الفقراء والأغنياء وبين العمال وأرباب العمل والعاطلين،وبين أهل الريف وأهل المدينة.

ولم يعد مبدأ التكافل الطبيعي والتكامل والتضامن الأصلي الذي يقوم عليه مجتمعاتنا وينبع من صميم ديننا قائماً في حالات كثيرة بل أصبح التغالب والتضارب والاضراب هو الوسيلة المتبعة.

وعلى هذا المستوى لا بدّ من جهد تأصيلي يعيد مركزية قيم العدل والإحسان والمؤاساة والتآسي في العسر، التي أصابها الضمور في المنظومة التربوية في المجتمعات المعاصرة.

المستوى الثالث هو الاختلاف الفقهي والمذهبي.

وهذا المستوى من أخطر المستويات فبسببه تُشنّ الحروب ومن جرائه ترهق النفوس وتقطع نياط القلوب، ذلك أنّ منه ما يتعلق بدائرة التكفير المنهي عنه، ودعاوى الزندقة والبدعة.

وهذا النوع من الاختلاف علاجه النافي لآثاره الضارة هو أحد ثلاثة أشياء:

أولها: التسليم بأن الاختلاف من طبيعة الناس وفطرتهم فإنهم يختلفون في الإدراكات ويتباينون في التقديرات والأذواق وهو كذلك من طبيعة الأشياء، حيث يكون الاختلاف في المحكوم عليه لا في أصل الحكم فيسمى اختلافاً في حال أو في شهادة. كما يكون الاختلاف من الاحتمال في الدليل والاشتباه أو الحمل في التأويل،

ومن أهم من وسّع جيوب التأويل وبين تباين سبله لينفي التكفير أبو حامد في كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” وذلك عندما اعتبر أن الحامل لنصّ من المتشابه على أحد الوجودات الخمسة لا يعد كافرا، وهذه غير الوجودات الأربعة في المنطق سوى الأول منها الذي سماه هنا الذاتي وهو الحقيقي الخارجي وميّز بينه وبين الحسّي القاصر على الحس.

ثانيها: معرفة أسباب الاختلاف فإذا عرف السبب اتسع الصدر وارتفع الحرج، وقد حاول العلماء حصر هذه الأسباب فذكر الشاطبي عن ابن السيد أن أسباب الخلاف ثمانية وفصّلها وأكثرها يرجع إلى الألفاظ. ومنها ما يرجع إلى الثبوت كمسألة علل الرواية،ومسألة الاجتهاد والأقيسة وهي تنقسم إلى أقسام.

وقد حصرها ابن رجب في ثلاثة واعتبرها ابن رشد الحفيد ستة بالجنس.

ولا اختلاف في الحقيقة بين هذه الأنقال إلا أن بعضهم فصل وبعضهم أجمل، ولو أردنا الاختصار لرددنا جميع الأسباب المذكورةإلى أربعة عناوين:

اختلاف في دلالات الألفاظ وضوحاً وغموضا واعتبارا ورداً
اختلاف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة وأخرى أيضا قبولا ورفضا
اختلاف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.  
اختلاف في ترتيب الأدلة عند التعارض في سلم الاحتجاج قوة وضعفا.

الكلمة الخامسة عن مقاربة أولي بقية

هل يمكن أن نتحدّث عن وحدة الأمة في عصر العولمة من دون أن نربطها بسياقها العالمي، حيث إن ظاهرة التطرف وخطاب الكراهية والعنف، ظاهرة معولمة، تنبغي محاربتها من خلال معالجة كلية تنبذ التطرف مهما كان مصدره أو مصدّره، على الضفتين وفي الساحتين الدولية والإسلامية.

فإن اليمين الشعبوي أصبح خطابا طاغيا على امتداد العالم وبخاصة في ديار الغرب وذلك لأسباب شتى منها: الضيق بالمهاجرين، واستحضار الذاكرة التاريخية، والبحث عن الشهرة، واستجلاب الأصوات في الحملات الانتخابية. كل هذه الأسباب أصبحت ترمز لأكثر الأعمال وحشية وأكثر الأفعال همجية بما في ذلك ارتكاب المجازر ضد المصلين في دور العبادة، كما حدث في نيوزيلندا مؤخّرا، تلك الحادثة البشعة والعملية الإرهابية الشنيعةالتي ندد بها جُلّ القوى الحية في العالم، وقد قامت الحكومة نيوزيلندا بإجراءات لحماية مواطنيها المسلمين وللحد من الجنون الذي يؤججه تارة الحقد وتحش جاحمه خطب البغضاء.

قد لا تكون تلك نهاية القصة.

فالأمر يحتاج منا معشر المسلمين إلى تحرك عاقل ومدروس، مبنيٍّعلى القيم والإقناع، وليس على مجرّد الإدانة للتنفيس عن الغضب المستحق، وذاك مشروع إلا أنه نفثة مصدور، لا تحلُّ إشكالاً في عالم مُعولم، وقد يقيم بجهتنا من لا يزن العواقب ولا يقدر المئالات ليرتكب جريمة ضد أبرياء من الجانب الآخر لا ذنب لهم سوى ذنب أصحاب المسجد، أنّهم أغيار.

وهكذا يستمرُّ الفعل ورد الفعل في تسلسل، تضيع فيه القيم وتذهب فيه العقول وتهدر فيه المصالح وينال فيه السفيه المتطرف بغيتَه،بقيام حرب عبثية دائمة لا تخدم الأديان ولا الإنسان، ويُصْدّق كهّانُ صراع الحضارات ظنّهم، فيحيل الإرهاب على الإرهاب والتعصب على التعصب، وتذهب مصالح العباد والبلاد سدى.

أذلك خير أم استثمار الإمكانات المتاحة بوجود طاقات فكرية ونظم حديثة وقيم أصيلة ومصالح اقتصادية ونخب ليبرالية وأخرى دينية في الغرب والعالم الإسلامي بوسعها أن تفعل الشيء الكثير وأنتُفَعّل لتكون سداً منيعاً وحصناً حصينا ضد الهستيريا.      

وهكذا تغدو الحريّة في خدمة القيم والتعايش وليست حرية التدمير والتكسير والسماح لنزعات الشر ونزوات السوء بالإفلات من عقالها لتعيث في الأرض فسادا.

ذلك ما نعتقد أنه الأولى والأكثر نجاعة والأوفق بأصولنا، وهو ما تتأسس عليه جهودنا المختلفة.

ومنها ما قمنا به في منتدى تعزيز السلم من حوارات جادة مع مختلف الديانات السماوية في أمريكا تحت عنوان “حلف الفضول”. لصناعة جبهة موحّدة بين محبّي الخير والدخول في تحالفات عابرة للثقافات ومتجاوزة لحدود الانتماءات.

وفي هذا الصدد، جاء إعلان مراكش التاريخي في يناير 2016 ليضع الأسس المعرفية لهذا المسعى من خلال الكشف عن المبادئ الكلية للخطاب الإنساني في الإسلام.

وتأسيسا على هذا الإعلان؛ قامت قيادات دينية أمريكية تمثل العائلة الإبراهيمية الكبرى في الولايات المتحدة، بوضع ملامح مبادرة تتصف بالديمومة للتعاون الإيجابي بين أتباع الديانات الكبرى، من أجل التّخفيف من النبرة العدمية وإبعاد شبح الكراهية والعنصرية الذي أصبح يلقي بظلاله القاتمة على مجتمعاتهم وعلى العالم أجمع.

لقد جمعت القافلة الأمريكية فئتين من الفئات الثلاث التي وجه إليهاالخطاب الإلهي، وهما مجتمع (يايها الذين آمنوا) ومجتمع (يا أهل الكتاب)

والمجتمع الثالث وهو مجتمع (يآيها الناس)،

وبعد عقد مؤتمر واشنطن، الذي لم يكن فقط خاصا بهذه الديانات بل شارك فيه ممثلون لهيئات دولية وأعضاء من الكونغرس الأمريكي، عقدنا مؤتمر “حلف الفضول” في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات في فضاء التسامح والسماحة.

وكان من أهم النقاط التي وضعت للنقاش والبحث: ما هو الإمكان المتاح في الإسلام لمثل هذا الحلف؟

وقد خرج المشاركون في هذا اللقاء وهم نخبة من أفضل العلماء والفقهاء والباحثين من أنحاء العالم، بنتائج ومقترحات رائعة أثبتوا فيها بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام يزكي كل اتفاق يؤدي إلى الفضائل والمصالح مهما كانت أطرافه إذا صلحت غاياته وأهدافه.

لقد حاولنا في حلف الفضول أن نفكّر معًا كيف نضع خارطة طريق لتحقيق بعض هذه الأهداف ولتجربة تعاوننا ميدانيا وتفعيل المشتركات. إنّ ذلك يمثل أفضل رد على المتطرفين من كل الاتجاهات الذين يستغلون الجماهير لإشعال الحروب والفتن ويبثون روح الكراهية؛ وبه نقدم خير برهان على أن الأخلاق الدينية قادرة من جديد على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية في هذه الدنيا، والتي منها الظلم والجهل والتعصب والحروب والإرهاب، والتهديد بالحروب النووية والكيمياوية والإبادة، لتحل محلَّ ذلك روح الأخوّة والعدل وحبّ الإنسانية والمصالحة والتسويات بالحسنى، فيكون الدين أساسا للوحدة والأخوة.

وفي الختام أجدّد الشكر لقيادة بلدنا الرشيدة، داعيا لهم بالتوفيق والنجاح، قائلا مع الزقاق:

فيا ربّ سلم من تولى أمورنا             وسدّد وأصلح حاله ومع الملا

فحمداً وشكراً للإله الذي هدى     على كلّ ما أسدى وأندى وأكملا

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بيان بخصوص الهجوم الإرهابي الذي استهدف المصلين في نيوزيلاند

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله،

وبعد،

فإننا ندين المجزرة الوحشية التي استهدفت المصلين في مسجدي كرستشرش بنيوزيلندا، داعين للشهداء بالمغفرة وللجرحى بالشفاء والعافية ولذويهم بالصبر والسلوان، ونستبشع أشد الاستبشاع هذا العمل الارهابي والجريمة الشنعاء النكراء التي أقدم عليها أناس انخلعوا من ثياب الانسانية وقيمها.

وإننا إذ ننوه بتضامن الحكومة والشعب النيوزيلندي مع مواطنيهم من المسلمين، لندعو إخوتنا المسلمين للصبر والتسامح امتثالاً للتوجيهات الربانية: (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ).

فالصبر محمود الغبّ والعاقبة، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي
رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

المواطنة بين إطلاقية المبادئ ونسبية التنزيلات

——-

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله المطهّرين وجميع إخوانه من النبيئين والمرسلين، وعلى صحبه الطيبين.

المواطنة بين إطلاقية المبادئ ونسبية التنزيلات

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

أيها السادة الأفاضل،

أيتها الأخت رئيسة الجلسة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يسرني أن يتجدّد لقاؤنا اليومَ، هنا في ولتن بارك، لنستأنف ما كنّا بدأناه في الحلقات الحوارية السابقة في روما وأبوظبي، من التفكير في موضوع المواطنة، وبذل الوسع في وضعِ تَصوّر مؤصَّل، مستمدّ من النصوص الدينية ومراع للسياق الحضاري المعاصر المتجسّد في الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية.

لقد رمت في كلمتي التأطيرية في لقاء أبوظبي أن أقدّم بعض الأسس والمحدّدات المنهجية لتعريف المواطنة في مفهومها الحديث الذي هو عبارة عن رابطة اختيرية معقودة في أفق وطني يحكمه الدستور. وفي هذا الصدد أوليت جلّ عنايتي لإبراز مقوّمات المواطنة في إعلان مراكش باعتباره وثيقة نموذجية وجهدا اجتهاديا صالحا لتأصيل المواطنة التعاقدية في المجتمعات الإسلامية. كما حرصت على ربط هذا التصوّر بإطاره الناظم، المتمثّل في مقصد السلم والمحافظة على النظام العام، باعتبارهما الأفق الذي ينبغي أن تتحرّك في ضمنه كلّ تصوراتنا النظرية وتدابيرنا الميدانية لإحقاق المواطنة وتعزيزها.

ورجائي أن نكون جميعا قد تسنّت لنا الفرصة لتقليب النظر وإمعانه في مضامين هذه الورقة، لتُحَقِّق غايتَها في إثراء الحوار والدفع بأعمالنا نحو مزيد من الإحكام في التأصيل والحكمة لدى التنزيل.

ووصلا لما انفصل، وبناءً لللاحق على السابق، سأكتفي في كلمتي اليوم باستخلاص النتائج التفصيلية التي كانت الكلمة الأولى بمثابة المقدمة النظرية لها، وذلك من خلال توجيه القول إلى زوايا من الموضوع أكثر التصاقا بمقصودنا وهو صياغة وثيقة للمواطنة الشاملة، على أن أهمّية الموضوع وحساسيته تستدعي لا محالة مزيدا من التدقيق والتفكير والحوار، لن تستنفده هذه الإثارات السريعة.

إن المواطنة لم تكن على مرّ الأعصر واختلاف الأقطار، على نمط واحد، ووزان واحد، في حقيقتها ومقوّماتها، بل ربما الأصوب أن نتحدث عن مواطَنات، تتّسع أو تَضيقُ، بحسب السّياقات.

فأصل المواطنة كما هو ملحوظٌ من لفظها اللاتيني مشتقٌّ من المدينة، CITY، بوصفها المُنْتَظَم السياسيّ للوجود الإنساني في المجتمع. ومن ثَمّ فهي حالة خاصة أو صلاحية قانونية في علاقة الشّخص بالوطن، وبسكان الوطن الآخرين، فهي أَمْر زائد ونسبة إضافية تفترض علاقة بين مواطنين ووطن، وعيش مشتركا، تقوم في الأصل على الانتماء المشترك للعرق أو الدين أو التاريخ المشترك أو على عنصر نقاء النسب.

هذا التصوّر القديم للمواطنة هو الغالب على المجتمعات البشرية تاريخيا، ولكنّه لم يكن الوحيد، حيث شهدت بعض البيئات ذات الطبيعة التعددية، تطوّر صيغة مختلفة للمواطنة، تنحو منحى تعاقديا، لا يتركز على الانتماء المشترك ولا على الذاكرة التاريخية الموحدة، أو الدين الواحد، وإنما على عقد مواضعة واتفاق طوعي يؤطّر الوجود المشترك في شكل قوانين ونظم تحدّد واجبات وحقوق أفراد الجماعة.

وقد فَشا هذا التصوّر الدستوري التعاقدي للمواطنة في العصور الحديثة في سياق ما شهدته البشرية من التمازج والتواصل وغلبة سمة التعددية في كلّ أقطار المعمورة. وهو تصوّر يقوم على الإحالة إلى مرجعية قيمية مشتركة يعترف بها المجتمع، من خلالها يتعرَّفُ على هويته، وبواسطتها يتعارف أبناؤه في ما بينهم.

فما هو المرجع القيمي الذي نريد أن نقدمه أساسا للمواطنة، إذ ليس هناك نموذج واحد ملائم لكل البيئات. فهل كلُّ عقد توافقي هو في حدّ ذاته مرجعية قيمية كافية، أم لا بدّ من منظومة نموذجية.

قد تكون مرجعية حقوق الإنسان كما تجسدت في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي انبثق عن الثورة الفرنسية سنة 1789، وما عقبه من مواثيق وطنية وإعلانات عالمية، وما لحق ذلك من أجيال الحقوق، تعتبر الأساس الصالح المعتمد لدى المنظرين المعاصرين.

بيد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة والذي يعتبر أسمى وثيقة دولية ، هو نفسه غير حاسم في هذا الصدد، إذ يتصف بازدواجية تعبّر عن وعي واضعيه بعُسر الجمع بين كونية المبادئ ونسبية التنزيل. ففي الفصول الأولى من الإعلان، تتوالى الحقوق مفصلة مطلقة، ثم يأتي الفصل 29 بمثابة الفصل المقيّد لإطلاق كل ما سبقه، حيث يعيد التوازن بين الحقوق والواجبات، وبين الفرد والجماعة، وبين الحريات والنظام العام. ونص هذا الفصل : “

على كلِّ فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموّا حرا كاملا.

يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقرّرها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. “

إن هذه القيود تعيد للمرجعية المحلية شيئا من الحاكمية، وتفرض علينا عند الحديث عن تصور كلي للمواطنة الكثير من النسبية، والتأني في توظيف المفاهيم والمفردات، والوعي بما يفرضه اختلاف المشارب الحضارية من ضرورة الحوار المستمة حتى نتوصّل إلى أرضية مفهومية متينة، بعيدا عن منهج الفرض من الخارج أو من الأعلى بسلطان القوة، الذي تثبت التجربة التاريخية أنه دائما ما تأتي نتائجه عكسية.

ومنا هنا أيضا تأتي ضرورة سلوك منهج التدرّج من خلال التفريق بين مستوى الاعتراف المبدئي ومستوى التفعيل، ومن خلال التمييز بين مستويات الحقوق في المواطنة، بين مقوماتها الأصلية وبين مكملاتها ولوزامها التي تختلف من بيئة إلى بيئة، والتي يلزم التدرج في اكتسابها عن طريق استراتيجية المحافظة على السلم المجتمعي، لكي لا تعود هذه المكملات على الأصول بالإبطال، فلا يمكن أن ننزع عن عقد اجتماعي سار في بلد صفة المواطنة بدعوى تخلّف بعض اللوزام الثانوية أو التنظيمية في التصور المثالي للمواطنة، ولذلك أرى أن نستعيض عن وصف الشمول بالمواطنة الحاضنة للتنوع فهو أكثرُ وضوحا وأنسب لحاجة الواقع.

كما يفرض علينا عدم تجاهل الفروق المجتمعية والتباينات التاريخية والثقافية، والخصوصيات المحلية. فلا يمكن أن نؤسس لمواطنة متينة متجذرة في نسيجها المجتمعي إلا بالحرص على ربط مفاهيمها بثقافتها الموروثة، فلا يغترب الناس عن موروثهم فتلتبس عليهم المفاهيم.

إن ذلك ما نقوم به من خلال ترجمة لغة الدين إلى لغة المدينة والفضاء العمومي، لغة الحياة والقانون، حيث نستعير من نصوص التاريخ لإنزالها على العصر الحاضر مع الاحتفاظ لكل عصر بلغته وبيئته الزمانية والمكانية.

بهذا المنهج التأويلي تمكنّا في إعلان مراكش من تقديم مصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، ورفع التنافي المزعوم بينهما، وذلك من خلال تأصيل المفهوم الجديد للمواطنة، انطلاقا من صحيفة المدينة المنورة بوصفها تقدّم أساسا متينا للمواطنة التعاقدية في المجتمعات الإسلامية، وخيارا يرشّحه الزمن والقيم للتعامل مع كلي العصر لتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عناصر الإقصاء والطرد، فهي اتفاق أتى من غير حرب ولا قتال ولا عنف ولا إكراه، اتفاق تداعت إليه أطرافه طواعية للالتفاف حول المبادئ التي تضمنها ضمن دائرة التفاعل الإيجابي بين مكوّنات مجتمع المدينة، من أجل تحقيق السلم الاجتماعي القائم على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، والقبول بما يفرضه التنوع من اختلاف العقائد والمصالح وأنماط الحياة، مع وجود مرجعية حاكمة يفيء إليها الجميع حال التنازع والاختلاف.

إن الإسلام وضع الأسس القانونية لحماية التعددية الدينية، إذ يعتبر وجود هذه التعددية مقصدا شرعيا وإرادة قدرية، حيث ذكُرت التعددية في القرآن كثيرا، ومنها قوله تعالى: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)،

تتحدّث هذه الآية عن أماكن العبادة وتوعز بل تأمر بالدفاع عنها، إن الأماكن المذكورة ليست للمسلمين فقط وإنما هي للملل التَّوحيدية جميعها، فقد قال كبار المفسرين من الصحابة وغيرهم إن هذه الآية توجب على المسلمين الدفاع عن كنائس النصارى وعن بيع اليهود كما يدافعون عن مساجدهم، فلم يكتف الإسلام باحترام التعددية الدينية وإقرارها، وإنما دعا المسلمين إلى حمايتها والدفاع عنها.

إن هذا النموذج دالٌّ على ضرورة أن نتجاوز النظر الإقصائية للإسهام الديني في بناء نموذج إبداعي للمواطنة يتسق مع طبيعة البيئات التي يراد تنزيلها عليها. وهي مراجعات شرع فيها بعض كبار فلاسفة العصر، على ضوء متغيرات البنية الاجتماعية في أوروبا وأمريكا الشمالية، وما أصبح يعرف بعودة الدين، مما حدا بهم إلى وضع تصورات جديدة لمواطنة مفتوحة على الثقافة الدينية. وأشير هنا إلى موقف هابرماس الذي أفضى به التفكير في شروط العيش المشترك في المجتمعات المعاصرة إلى الدعوة إلى إفساح المجال العام للإسهام الديني ليقدم كل دين من تراثه الخاص ونصوصه المقدسة ما يراه من مقترحات أخلاقية.

ولعل الإسهام الديني في تعزيز المواطنة يتجلّى كذلك في بعده التربوي، إذ الدين في كثير من البيئات هو الذي يوعز للإنسان بالفعل ويضع له منظومة التصورات الذهنية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياته الفردية والجماعية. فالمواطنة أكثر من كونها معرفة تتعلّم أو مبادئ تُلَقّن هي سلوك وممارسة تكتسب، من خلال التربية، التي تعنى بتهذيب السلوكيّات وتقويم التصرفات وتحسين الأخلاقيات. فبالتربية يكتسب الإنسان طرق العيش في الجماعة، وتتجذّر في شخصيته قيم المواطنة.

وبهذه القيم التي تقدمها التربية ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة، وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك. لتكون المواطنة بذلك بوتقة تنصهر فيها كل الانتمـاءات، وبقدر الانسجام والانتظام بين هذه العناصر في الجمـاعة يجد المواطن نفسه والجمـاعة مكانتها.

وفي الختام أجدّد دعوتي للمضي قدما في سلسلة الحوارات المجتمعية، حوارات جدية ومفتوحة تشارك فيها كافة فعاليات المجتمع، وخاصة المجامع الفقهية ومجالس الإفتاء وسائر الشركاء الأساسيين.

إن المواطنة تقوم على أسس كبرى هي المساواة في الحقوق والواجبات، ومبادئ الحرية وقبول التعددية، وهي أسس تحميها الدساتير، فلا ينبغي أن تكون محلّ خلاف، والإسلام كسائر ديانات العائلة الإبراهيمية لا ينافي ما وصلت إليه التجربة الإنسانية في هذا المفهوم الحديث للمواطنة. وإن زاد عليها بالروح الأخلاقية التي يصبغها بها، والتي قد تعوز الصيغ المعاصرة أحيانا كثيرة.

فلنتفق على أنّه حيثما وجدت قوانين تحمي هذه الأسس الكبرى، فثمة المواطنة، مهما كانت نسبيتها لدى التفسير أو التطبيق، بحسب الظروف الحضارية والسياقات التاريخية. فتلك تباينات طبيعية لا تعود على أصل المواطنة بالنقض والإبطال.

فلا ينبغي أن نجعل ملتقياتنا الحوارية هذه منابرَ لمحاكمة الدول وسلب عقودها الاجتماعية وصف المواطنة، وإنما ينصبّ الحوار على ما وراء ذلك من إشكالية المعيارية ومقصد تحسين المواطنة.

فما هو المعيار الأمثل لقياس جودة المواطنة؟ وكيف يتنزّل هذا المعيار في كل بيئة بيئة، مراعيا ظروفها وتوفر شروطها التنموية والاجتماعية؟ ما هي مؤشرات هذه الجودة؟ وما هي التدابير الحكيمة للارتقاء بها؟ كيف نحسن ظروف المواطنة ونرفع من مؤشراتها بتحقيق مكملاتها ضمن إطار يحافظ على السلم الأهلية والنظام العام؟

تلك هي الأسئلة المحورية التي يلزم أن نجعلها موضوعا لحواراتنا الممهدة لوثيقة المواطنة.

وتلك هي المبادئ الموجهة لرؤية قيادتنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، رؤية قائمة على قيم الابتكار والجودة والتميّز، حيث يتعزّز كل يوم واقع المواطنة الإيجابية من خلال مبادرات إبداعية تدعم مؤشرات الجودة في المواطنة، وتسهم في الارتقاء بميثاق المواطنة وتعزيز الولاء والانتماء للوطن، بل تحسّن كذلك جودة المواطنة العالمية من خلال حسن الرعاية وكريم العناية التي توليها الدولة لكل المقيمين فيها على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم.