ارشيف ل April, 2019

بن بيه ورؤية العالَم – بقلم الدكتور يوسف حميتو

د/ يوسف حميتو
مدير إدارة البحث والنشر – مركز الموطأ

 

من طبيعة المشاريع التصحيحية ارتباطها بروح العصر حسب تعبير هيجل، وهي الروح التي تفرضها طبيعة الزمان والمكان وما غلب عليهما من سمات. لكن التعامل مع هذه الروح، أيضا -ودائما حسب هيجل- يستلزم أن تمتلك هذه المشاريع نظرة للعقل ترى خلف الأحداث، وذلك لتكون أكثر لصوقا بدنيا الناس، وأكثر واقعية في منهجية التعامل مع ما يجري فيها من أحداث. فروح العصر حسب الاصطلاح الهيجلي هي التي تحدد ما ينبغي أن نفهمه، وكيف نفهمه، وكيف نتعامل معه بعد فهمه. وطبيعة هذه الروح لا تنحصر بالزمان والمكان، وهذا ما يؤكد شموليتها ومعقوليتها، كونُها لا تختص بمجتمع دون مجتمع، ولا أمة دون أخرى، بل هي الحاضر في كل تجليات الوجود الإنساني.

ولئن كان هيجل ينطلق في تقريره لروح العصر من رؤيته الفلسفية التي تتناسب مع واقع ألمانيا في زمنه، فإن من حظ المجتمعات الإسلامية أنها تمتلك مرجعية أقوى وجودا وأبعد امتدادا لقضية روح العصر أو ما يسميه العلماء المسلمونبواجب الوقت الذي يجد شرعيته في عدد كبير من النصوص الدينية الإسلامية، وفي كثير مما حملته كتب التراث الإسلامي المفترى عليه جهلا به وبملهمات مقترحات حلول بعض أزمات الواقع المعاصر الكامنة في طياته.

ومن حظ المجتمعات المسلمة الذي يمتد إلى غيرها أن يوجد بين علمائها اليوم من يستحضر أهمية واجب الوقت في بعديه: المحلي والعالمي، ويجعله ثمرة لمشروع فكري وتصحيحي تبلور في إطار مؤسسي يحمل اسم “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، والذي نحتفي بذكرى تأسيسه الخامسة على أرض الإمارات العربية المتحدة يوم 09 مارس 2014.

كثيرون هم أؤلئك الذين يجهلون الامتداد الزمني للمنتدى كفكرة ومضمون ومنهج، ويربطونه باعتبارات فسادها يغني عن إفسادها كما يقول الأصوليون، ويكفي تأمل بسيط بعين الإنصاف في المسار الفكري لمعالي العلامة عبد الله بن بيهرئيسِ مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى تعزيز السلم على مدى أزيد من ثلاثين سنة ليفضي إلى أن المنتدى كان استجابة لواقع ملح اقتضى الحفر المعرفي في أصول وبنية خطاب منحرف عن جادة الوسطية فرض نفسه على المجتمعات المسلمة نتيجة مجموعة من العوامل المعقدة والمتشابكة، والذي  تميز بثلاث سمات:

– اختلال في منهجية تأصيل المفاهيم الشرعية خاصة تلك التي تتعلق بالمخالف ديانة واعتقادا.

– غياب تصور صحيح لمنهجية تنزيل المفاهيم الشرعية على الواقع، والمؤسف أن هذا الغياب شمل فئة النخبة التي كان من المفروض أن تكون حامية حمى المنهجية السليمة في التعامل مع الدين ونصوصه ومفاهيمه.

– ضمور القيم الأربعة الكبرى للشريعة الإسلامية (الرحمة – العدل – الحكمة- المصلحة)، والتي من المفروض أن تكون القيم المؤطرة للتعامل مع واقع الإنسان فردا وجماعة ومجتمعات.

هذه الموجبات الثلاث، هي التي أسهم التفاعل الإيجابي معها في التأسيس للنظرة العقلية التي ينظر من خلالها العلامة عبد الله بن بيه إلى ما وراء الأحداث التي عرفتها المجتمعات المسلمة في العقد الأخير، وهي النظرة التي شكلت جزءا من رؤيته للعالم، أو ما أسميته في وقت سابق ب“براديغم السلم”، فمن خلال هذه النظرة يطرح علامتنا رؤيته للعالم مقابل براديغمات تتمسك بها عقليات إما أنها تتبنى عقيدة المغالبة والصراع الدائم داخل المجتمعات المسلمة وخارجها، وإما تتبنى منطق التقوقع في ركام التاريخ وتتغطى بغباره وتعيش في دهاليزه سواء كانت مجتمعات مسلمة أم مجتمعات مسلمة تعيش وسط و مجتمعات غير مسلمة لكنها لا تزال تحمل فكرة الغربة الدينية وعداوة المخالف الذي تعيش على أرضه وبسلطة قوانينه.

لقد فرضت النظرة العقلية للعلامة بن بيه نفسها على أنشطة المنتدى، باعتبارها مسلكا من مسالك الكشف عن الواقع ومآلاته، وإطارا يجعل من التاريخ وخاصة التاريخ الإسلامي جزءا من حل مشاكل وإشكالات الواقع لا سببا من أسبابها، فالتاريخ حاضر بقوة في رؤية العالَم في فكر العلامة بن بيه، إذ يرى فيه أنه رافد عظيم الأهمية بكم هائل من النماذج التي يمكن استلهامها وإحياؤها لتقديم مشاريع حلول لأزمات العالم التي قد يكون الدين عاملها المهيمن ومسعر الحروب والصراعات، والدليل مبادرة إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية التي تأسست على صحيفة المدينة المنورة، وإعلان واشنطن لتحالف القيم وإعلان أبوظبي لحلف الفضول اللذين تأسسا على حلف الفضول العربي الذي كان قبل الإسلام وزكته النبوة المحمدية.

لذلك، فإن النظرة العقلية لما وراء الأحداث عند الشيخ بن بيه تثبت أنه لا يتنكر لتاريخ الأمة الإسلامية، ولا لرمزيته في وعيها المهزوز، وإنما يحاول أن ينأى بكثير من الفئات عن فهمه وتفسيره السطحي الذي يجعل الأمة تغيب عن مقام الفاعلية والشهود الحضاري.

إن رؤية العالَم لدى العلامة بن بيه والتي تجمع بين النظرة الدينية والنظرة العقلية لما وراء الأحداث تحاول:

1-  أن تنظم وتؤطر “مبدأ الحق” بجعل السلم بيئة لكل الحقوق لا يتعداها ولا يغني عنها، وهو من أجل ذلك يقوي ويدعم نظرته العقلية لما وراء الأحداث بالنظرة الشرعية الممثلة في المنهجية الأصولية الأصيلة التي هي جوهلا روايته للإسلام ورؤيته للواقع، وهي منهجية تعتمد بعدين: “موقعة النصوص والمفاهيم”، و“موضعتها بنفس الروح في البيئات الزمانية والبشرية“، وهي النظرة التي من بين تمثلاتها صناعة المفاهيم، لأن المنطق العقلي والشرعي يوجبان أن أي مشكلة تحتاج مفهوما يلتصق بها لا يمكن حلها بعيدا عنه، وهو ما يتطلب أحيانا تصحيحا للمفهوم أو إعادة صياغته بما يراعي المتغيرات الطارئة التي تؤثر فيه.  وبما أن بعض المفاهيم قد تكون هي نفسها المشكلة لا لعيب فيها وإنما بسبب الفهم السطحي أو الاجتزائي لها، أو بسبب المتغيرات التي قد توجب فقدان بعض جزئياتها التي قام بناؤها عليها، أو تفرض انضمام جزئيات أخرى مؤثرة عدم مراعاتها في تنزيل المفاهيم يؤول إلى نتائج معاكسة للمقاصد التي من أجلها كانت وتأسست.

2- أن تستبق أزمة أخرى ستنشأ إذا لم يبادر علماء الدين ورجال الدين في الملل الأخرى والفلسفات الروحية إلى العناية بها، فهو يدرك تمام الإدراك قضية عودة الناس إلى مساءلة الدين بعد أن أحبطتهم الحداثة وأصابتهم شظايا الفشل الأخلاقي للعولمة، وتنامي خطر التدمير الذاتي الذي ولدته التكنولوجيا ، ومن ثم يدرك الحاجة الملحة لأن يتدخل علماء ورجال  الدين ليكونوا عامل جذب للسلام من خلال العمل في دائرة المشتركات الإنسانية وترسيخ ثقافة التسامح المتكافئ.

د/ يوسف حميتو
مدير إدارة البحث والنشر – مركز الموطأ

تفاصيل استقبال العلامة عبدالله بن بيه لإمام مسجد النور في كرايستشيرش بنيوزيلندا

استقبل رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، الشيخ عبد الله بن بيه، أمس، إمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا الشيخ جمال فودة، وذلك بحضور علي راشد النعيمي، رئيس المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، ومحمد مطر الكعبي، رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف.

ورحّب بن بيه بإمام مسجد النور مجدداً تعازيه لشعب نيوزيلندا في حادث كرايستشيرش الإرهابي، ومشيداً بتعامل حكومة نيوزيلندا الاحترافي مع الأحداث.

وأكد ضرورة العمل على محاربة خطاب الكراهية ونشر قيم الحب والخير والسلام التي تخاطب الفطرة السليمة بوصفها أساس الدين الإسلامي، مشيراً إلى أن الأعمال الإرهابية، أياً كان مصدرها، تتنافى والفطرة السليمة، فالإرهاب لا دين له.

وأضاف أن نهج دولة الإمارات الذي أرسى دعائمه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه – وتمضي عليه قيادة الدولة الرشيدة، يقوم على تعزيز التسامح، ويؤمن بالقيم الأصيلة وفهم روح العصر. وتابع: «لن نتخلى عن مسلمي نيوزيلندا، ولن نحجم عن ما ينفعهم، ولن نقصر في حقهم».

حرص

وأكد بن بيه حرص دولة الإمارات على تعزيز قيم التسامح والسلم من خلال مؤسساتها المختلفة، وأبرزها منتدى تعزيز السلم والمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة ومجلس حكماء المسلمين.

شكر

من جانبه، قدم إمام مسجد النور في كرايستشيرش الشكر لدولة الإمارات على موقفها المشرف مع مسلمي بلاده عقب الحادث المأساوي الذي تعرضوا له على أيدي الإرهاب الغاشم.

وأوضح أن الإمارات كانت سباقة في الاطمئنان على أوضاع مسلمي نيوزلندا عقب حادث كرايستشيرش مباشرة، مشيراً إلى أن أول اتصال تلقاه عقب الحادث، كان من السفير الإماراتي لدى نيوزيلندا.

وكان وفد من دولة الإمارات برئاسة معالي الدكتور علي راشد النعيمي، زار، في 20 مارس الماضي، مدينة كرايستشيرش التي شهدت الهجوم الإرهابي الدموي على المسجدين أثناء صلاة الجمعة، ما أودى بحياة العشرات.

ومثلت الزيارة تعبيراً عن التضامن الكامل الذي أعلنته دولة الإمارات قيادة وشعباً مع شعب وحكومة نيوزيلندا، والوقوف معها تجاه كل ما تتخذه من إجراءات لحفظ أمنها واستقرارها وسلامة المقيمين على أراضيها. وأشاد الوفد بالجهود التي بذلتها الحكومة النيوزيلندية برئاسة جاسندا أرديرن، رئيسة الوزراء.

أهمية ودوائر الوحدة : بين المثال والواقع

 

* هذا النص جزء من بحث بعنوان : الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية

 

أهمية ودوائر الوحدة : بين المثال والواقع- بقلم العلامة عبدالله بن بيه

الكلمة الأولى: عن الوحدة أهميتها ودوائرها  

ولعلنا هنا لا نحتاج إلى إطالة الرشاء لنبرهن على أهمية الوحدة ومكانتها بالنسبة للمجتمعاتعامة والمجتمعات المسلمة خاصة، فهو أمر معروف وعلى أطراف الثُّمام.

ونكتفي بالتذكير بأنّ الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.

إنّ هذه الوحدة لها أسسها ولها دوائرها:

فأساس الوحدة هو روح الأخوة الإسلامية: (إنّما المؤمنون إخوة) والمحبة: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)، الحبّ قيمة من أعظم القيم وشيمة من أمثل الشيم فهو وحده الذي يقوّي روح التّواصل وينسج لحمة التضامن والتكافل ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

وأما دوائر الوحدة التي تتجلّى فيها مظاهرها، فمتعددة تعدد مجالات حياة الفرد والجامعة، وهي على درجات يؤكّد بعضها بعضا ويكمّله،

فمن أشملها دائرة التضامن والتكامل، التي تتسع لتغطي جميع أنحاء التعاون المأمور به بين المسلمين وبين جميع البشر، في سبيل الخير والمصلحة، والتي تنطلق من مستوى وحدة الشعور والاشفاق “كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد”، لتتجسّد من خلال التكتلات الاقتصادية والثقافية والسياسية.  

كما أنّ منها دائرة لزوم الجماعة ومعناها الجماعة الفقهية -عند بعضهم- وهذا من أصول دليل الاجماع خلافا للنظام ومن معه من نفاة الإجماع الذين ادعوا أن المقصود هو الجماعة الإيالية أو السياسة بالمعنى الاصطلاحي والتي سمّاها الطوفي “الهيئة الاجتماعية”.  

لمشاهدة المحاضرة :

الكلمة الثانية: الوحدة بين المثال والواقع

وهذه الدوائر والمستويات كلّها مطلوبة إلا أنّ الإسلام يضع مثالاً لكنّه يتعامل مع واقع ومصالح ومفاسد التي تطرأ على البشرية، فالمثال يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

ذلك هو المثال ولكن المثال مؤطّر عند التنزيل بمُقتضيات الواقع والإمكان.

فالوحدة وإن كانت مطلباً شرعياً ومقصداً عظيماً ومثالاً يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا، إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية وطواعية، وينبغي أن يُراعى في التدرج إليها السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.

ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك.فالاقتتال من أجل توحيد الأمة يكرُّ على الأصل بالإبطال ويجرُّ الصحيح الى الاعتلال والإعلال.

فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبدياً، قال الجويني  وهو من العلماء الدستوريين: ( ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربطُ الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار)، وقال ابن الأزرق المالكي : (إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذُّر الإمكان).

ومن ثمّ فإن أولئك الذين يقاتلون من أجل إقامة خلافة في الأرض تغيب عنهم المقاصد الشرعية وطبيعة العصر ومقتضيات النّهي والأمر، فكيف يتوسل إلى مصلحة بأعظم مفسدة؟ ولهذا فإنَّه في محلّ الاختلاف يلجأ إلى المجمع عليه ويتمسّكُ به، فحرمة الدماء أمر لا مرية فيه والانتقال عن هذا الأصل المجمع عليه يحتاج إلى قيام أسباب أكيدة وانتفاء موانع عنيدة وتوفر شروط عنيدة، فهذه مكونات خطاب التكليف التي لا ينفك عنها أية تكليف حتى الإيمان حسب عبارة القرافي في التنقيح، فإذا علمنا عدم توفرها أو جهلنا قيامها فلا يصح تنزيل هذه الأحكام.

           وعند جهل بعض هدى الخمس             ما العمل اليوم كمثل أمس

كما قال علامتنا النابغة الغلاوي -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن شروط إجراء العمل .      

وعلى هذا دلّت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعدّدت دول الإسلام وتعدد أئمتهم وسلّم ذلك العلماء.

 فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع.

….

* هذا النص جزء من بحث بعنوان : الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية

لنشاهدة المحاضرة كاملة :

فقه السلام.. مع الشيخ بن بيّه فى زيارة موريتانيا

 

أحمد المسلمانى

 كاتب صحفي وإعلامي مصري،

 

موريتانيا بلدٌ رائع يقع فى آخر بلاد العرب.. ثُلث السكان من الشعراء والثلثان يحاولان. هى بلاد القصائد والحكايات، الخيمة والكتاب.. بحار الرَّمل ووجْه القمر. تزيد مساحة موريتانيا على أربعة أضعاف مساحة بريطانيا.. يسيْطر اللون الأصفر على صحرائها الشاسعة.. ثم ينحنى قليلًا أمام اللون الأخضر فى الواحات والأراضى الزراعية.. حتّى ينهزم تمامًا أمام اللون الأزرق على امتداد الساحل الأطلسي. فى موريتانيا شعبٌ آسِر.. يأسِرك هدوءً وطيبة.. كرمًا وثقافة. يتكئّون على البلاغة فى منازلة الركاكة، ويستعينون بالتاريخ فى مواجهة العولمة. زرتُ موريتانيا – ربيع 2019 – بدعوة من وزير الشئون الإسلامية الدكتور أحمد ولد أهل داوود.. للمشاركة فى مؤتمر وحدة الأمة الإسلامية فى مواجهة تيارات التطرف وخطاب الكراهية.. والذى انعقد تحت رعاية الرئيس الموريتانى محمد ولد عبد العزيز. ألقيتُ كلمتى بعنوان الخوف من الإسلام والخوف على الإسلام.. واستمعتُ إلى نخبة من العلماء والفقهاء من بلدانٍ شتّي، وقد مثّلتْ كلماتهم زادًا مهمًّا فى الإطلاع والتفكير. ولقد ارتأيتُ أنْ أتّوقف عند المحاضرة التى ألقاها العلّامة الموريتانى الشيخ عبد الله بن بيّه.

الشيخ بن بيّه من أكابر العلماء فى العالم الإسلامي.. تشرفّتُ بمعرفة الشيخ وأسرته فى السنوات الفائِتة، وسعدتُ بلقائه عدة مرات من أبوظبى إلى نواكشوط. وفى كلِّ مرة كنتُ أزدادُ إعجابًا برؤيته المتزّنة ومعرفته الواسعة. حظيَ الشيخ باهتمام عالمى كبير، وقد راجتْ مقولته الشهيرة يجب أن نعلن الحرب على الحرب.. لتكون النتيجة سِلمًا على سِلم.. بعد أن استشهد بها الرئيس باراك أوباما فى خطابٍ له بالأمم المتحدة. تُمثِّل هذه العبارة جوهر المشروع الفكرى للشيخ بن بيّه. إنّه داعية الأمن والسلام.. وحسب تعبير أحدهم إنّه يجمع ولا يفرِّق، ويُنير ولا يثير. وحسب تعبير الشيخ عن مشروعه: يجب الاتفاق على الاختلاف. إن قضية الوحدة الإسلامية هى قضية شائكة للغاية، حيث اختزلتها حركات الإسلام السياسى لقرونٍ طويلة فى فكرة الخلافة وإقامة دولة مركزية واحدة لكل المسلمين.. وجرى القول بقتال أيّ دولة مسلمة لا تكون جزءًا من مشروع الخلافة. لقد أدّت هذه الفكرة إلى تفجير بحار الدم على مرّ التاريخ الإسلامي، ولم تكن راية الخلافة فى حقيقة الأمر سوى راية الحرب الأهلية فى الإسلام.. حيث أصبح المسلمون بعضهم لبعض عدوا، وبدلًا من أن يكون المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، صار المسلمون ضدّ المسلمين.

أفتى الشيخ بن بيّه بأن الدولة الوطنية هى دولة شرعية، وليست ابتداعًا فى الإسلام. ودلّل الشيخ على ذلك بدولة المسلمين فى الحبشة بقيادة الملك النجاشي، والتى لم تكن جزءًا من الدولة الإسلامية فى المدينة المنورة وقتها. ومع ذلك لم يطلب المسلمون العرب من أهلها الهجرة، وحظيتْ دولة المسلمين فى الحبشة باحترام دولة المسلمين فى الجزيرة العربية. ولم يطالب أحدٌ بدمج الدولتيْن معًا فى دولةٍ واحدة أو خلافةٍ واحدة. يقول الشيخ بن بيّه: إن راية الخلافة التى يحملها المتطرفون.. راية وهميّة، ولا تقوم على أسس شرعيّة.. إن دولة الخلافة هى صيغة حُكم غير ملزِمة.. ولا يجوز نزع الشرعية عن الدولة الوطنية.. فى زمن النبى – صلى الله عليه وسلم – كانت توجد دولة أخرى رأسها ملكٌ مسلم.. هو النجاشى الذى أسلم، وتركه النبى فى مُلكِه هناك فى الحبشة، ولم يأمره بالهجرة أو المجيء.. لقد تجاوز علماؤنا ذلك، وذكروه فى باب الجنائز.. حين أَطْلع الله نبيّه غيبًا على وفاة النجاشي.. فقام وكبّر أربع تكبيرات عليه.. إن دولة الخلافة وهْم، وقتْل النفوس من أجلها لا مبرِّر له شرعيًّا.

كان ذلك ما سمعته من الشيخ فى أبوظبي، وفى نواكشوط زادَ الشيخ: الوحدة الإسلامية محلّ أشواق لدى البعض، ومحل إشفاق لدى البعض الآخر.. يقوم الإسلام على مركزية قيم العدل والإحسان: لا تؤمنوا حتى تحابّوا، ومثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي.. إن الوحدة لا تعنى أن يكون المسلمون كلهم فى كيان سياسى واحد. الدولة الوطنية شرعيّة، والإسلام يحرِّم القتال لأجل إقامة الكيان الواحد.. دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم حرام.

يعمل الشيخ بن بيّه على تفكيك الإدعاءات الشرعية للخوارج الجُدد، ويذهب للقول: إن تقسيم العالم الإسلامى إلى داريْن: دار الإيمان ودار الكفر.. كان له سياقُه التاريخي.. حيث كان المغول يغيرون على أراضى المسلمين وبلدانهم، والآن يجب إعادة النظر فى ذلك فى ضوء التغيّرات السياسية.. إن فتوى ماردين التركيّة قبل (700) عام والتى قال بها الشيخ ابن تيميّة قد تم تحريفها لتصبح أساس فتاوى الجهاد والولاء والبراء.. لقد تمّ التحريف أثناء الطباعة. كان النص قبل التحريف يُعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقّه.. وأصبح النص بعد التحريف: يُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه. لقد تمّ حذف كلمة يُعامل ووضع كلمة يُقاتِل. أبدى الشيخ بن بيّه شكوكه إزاء مآلات الثورات العربية المعاصرة، وانتقد بعضًا منها قائلًا: الثورات التى أمامنا.. هى حروب تدميرية، وتقطيع للأرحام، وتشتيت للأمّة. ودعا الشيخ إلى عودة الأمن والسلام، وأعادَ إلى الأذهان حديثًا لم يعد متردّدًا.. رغم وروده فى البخارى – عن أنّهُ من الإيمان بذل السلام للعالم. وحسب الشيخ بن بيّه العالم هو كل ما سوى الله.. وعلى ذلك فالعالم يشمل كل الموجودات والكائنات.. والإسلام يتضمن السلام للعالم.. للإنسان وللبيئة معًا.

يحتاج المشروع الفكرى للعلامة الموريتانى الشيخ عبد الله بن بيّه إلى دراسة واسعة. إن المواجهة الأمنية للإرهاب لا يمكنها البقاء من دون المواجهة الفكرية، كما أن المواجهة الفكرية لا يمكنها البقاء من دون مواجهة شرعيّة. لا يكفى أن نقول للمتطرفين: أنتم عملاء. يجب تحطيم غرورهم تحطيمًا.. يجب أن يدركوا أنهم جهلاء.

الغباء جريمة كبرى ضد الدين والدنيا.. العلم هو الحلّ.