الاهتمام بمستقبلنا المشترك – النص الكامل لكلمة العلامة عبدالله بن بيه في مدينة لنداو الألمانية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
مؤتمر منظمة أديان من أجل السلام، لنداو، ألمانيا — ٢٠ أغسطس ٢٠١٩
معالي الشيخ عبد الله بن بيه
رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة
فخامة السيد فَرَانْك- وَالْتَرْ شْتَانـْمَايَر، رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية
سعادة الدكتور وليام فندلي، الأمين العام لمنظمة أديان من أجل السلام
أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، أصحاب الغبطة والنيافة، أصحاب الفضيلة،
أيها الحضور الكريم، كل باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
نجتمع اليوم في هذا المحفل العظيم، باستضافة كريمة من دولة ألمانيا، وبدعوة من منظمة “أديان من أجل السلام” التي أسعد بأن أكون جزءً منها. نجتمع اليوم لنتحدّث عن همومنا المشتركة، وعن آمال السلام وآلام الواقع، لنتحدث عن المستقبل.
إن الحديث عن المُستقبل، هو في الواقع حديثٌ بشكل أو بآخر عن الحاضر، وما المُستقبل إلا ثَمرة للحاضر. ففي صيرورة الواقع المستمرة، يتشكّل المستقبل من الحاضر، كما تَشَكّل الحاضر من الماضي، تَشَكُّلَ النّتيجة من مقدّمتها وتشكُّل الفرع من أَصله.
الحاضر محلُّ صناعة المستقبل، ولكي يكون اهتمامنا بالمُستقبل صادقا ينبغي أن يتجلَّى ذلك في اهتمامنا بالحاضر، وإلا كانَ مجرّد تمنّ، فكلُّ رجاء لمستقبل أفضل إذا لم يُبن على العمل في الحاضر، ليس برجاء وإنما هو غُرور؛ تلك حال من لم يزرع الأرض ولم يبذر البذور وهو ينتظر الحصاد.
ومَعرفة المستقبل واستشرافُه ليست ضَرْباً من الرَّجم بالغَيب ولا نوعاً من التَكَهُّن، وإنّما هي استنطاق لمعطيات الحاضر، وفق قانون السببيّة المُطَّرد في ظواهر الأَشياء، قانون الحياة الذي لا انفصام له: ما نصنع في حاضرِنا هو ما يُشكل مُستقبلَنا.
أيها السادة،
إن مصائر الأمم متشابكة فلا مستقبل لبعضنا إذا لم نهتم لمستقبل الجميع. تلك هي طبيعة العصر الذي نعيش فيه. إن البشرية جميعها في سفينة واحدة، حالها كحال السفينة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم حين وصف المسافرين في سفينة من طابقين، وحين أراد الذين في الطابق الأسفل أن يخرقوا خرقاً في جهتهم من السفينة، “فلو تركوهم لهلك الجميع ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجى أهل السفينة.”
إننا مثلُ ركاب هذه السفينة، تجمعنا وحدة المصير والمسار، فلا نجاة لبعضنا إلا بنجاة الجميع، ولا توجد سفينة نوح إنما هي سفينة التضامن والتعاون بين ذوي النيات الحسنة من أهل الأديان والعقول.
الاهتمام بالمستقبل صار واجبا ملحّا، لا يقبل التأجيل، فكل تأخُّر عن المبادرة إلى الفعل في الوقت المناسب يرهن مستقبل الإنسانية ويجعل الأجيال الآتية أسيرة صيرورات لن يكون بوسعها السيطرة عليها، كالنّمو السكاني والحروب الأهلية والهجرة وتدهور البيئة والتفاوت المجحف بين الأغنياء والفقراء.
نحن أمام نُذُر فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن العناية ببيئة كوكبه الذي يعيش فيه وعاجزاً عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله، وجاره على هذا الكوكب.
إن هذا الفشل إن استمرّ لا يبشّر بمستقبل أفضل، ولقد تعالت أصوات كثيرة تدق نواقيس الخطر، منبهة إلى قصور النموذج الحضاري المعاصر الذي انخرطت فيه الإنسانية جمعاء، عن تلبية آمالها في الازدهار والاستقرار.
لقد دخلنا في القرن الأخير سياق العولمة فغدت تتجاذبنا قوّتان، فمن جهة الاندفاع الجامح نحو إلغاء الخصوصيات الدينية والعرقية وتنميط العالم بنمط واحد، ومن جهة أخرى التشبُّث المستميت بالهويات الضّيقة وما يصحبها من خطابات الكراهية والعنصرية التي تركّز على الاختلافات بدل البحث عن المشتركات.
لأول مرة في التاريخ صارت لدى الإنسانية القدرة التكنولوجية على تدمير ذاتها، ومع فشو الفكر المتطرّف بكل أصنافه أصبح احتمال استعمال هذه القدرة أمراً وارداً. وعلى مستوى آخر طال هذا التطور التكنولوجي الأعمى مسار الحياة البشرية جميعها من خلال تقنيات الجينوم البشري وما أفضت إليه من معضلات أخلاقية.
كل ذلك أدى إلى شيوع حالة من القلق والترقّب وعدم اليقين وفقدان الثقة، صارت تحتم على الإنسانية السعي الحثيث إلى أن يتوازى التقدم العلمي مع التقدم الأخلاقي لتأطير وتحصين هذه الاختراعات بسياج من قيم الخير والمحبة والسلام.
بالإضافة إلى سوء الفهم التاريخي الذي لم تستطع لغة الاتصالات ووسائل المواصلات أن تمحوه من الذاكرة، استجدّت أعمال مأساوية وعبثية في نفس الوقت يقوم بها أشخاص دون أي توكيل من سلطة دينية أو زمنية، فتضاعف سوء الفهم وانضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركام حوادث تعضّد كل يوم ظنون كُهّان صدام الحضارات.
وغدا الإرهاب بنجاعة أساليبه وقوة استقطابه يضع تحدياً وجودياً أمام كلّ محبي السلام، بل يمكن القول إن الديانات جميعها غدت اليوم في قفص الاتهام، حيث يعتبرها البعض المسؤولة عن العنف والحروب؛ بل صار البعض يرى عزل الدين عن المجال العام باعتباره عاملاً يفرّق ولا يجمع، يضرُّ ولا ينفع.
كل ذلك المشهد المتغيّر المحلولك لا يمكن أن ينسينا الجانب المضيء، حيث لم تزل غالبية الإنسانية شرقا وغربا، تؤمن بإمكانية العيش المشترك، وتتصدّى لخطاب العنف والكراهية، وتضع المبادرات الميدانية والحملات التوعوية وهبّات التضامن الأخوية ومنها مؤتمرنا هذا.
خطاب الكراهية الذي فشا في جسد الإنسانية، يدعونا إلى اليأس بعضنا من بعض، يدعونا إلى تنازع البقاء الذي يؤدّي إلى الفناء، وإلى تجاهل المشتركات الكثيرة التي تجمعنا. وإنّ أقوى ما نواجهه به أن نبقي جذوة الأمل حية في القلوب، وأن لا ندع مرض اليأس العضال يستولي على النفوس.
المشترك الإنساني هو القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغيُّر الزمان، أو محدّدات المكان، أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولاً تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر. تلك القيم تجب إعادتها في حياة الناس، وهي مبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء. إنها قيم السلم الثابتة التي لا تتغير، والتي يزكيها العقل وتقتضيها المصالح الإنسانية.
إن جهودا كثيرة تبذل في نطاق كل الديانات من أجل السلام، ولا تزال الصلوات تقام والدعوات ترفع من أجل ذلك. لكن تيار التضامن والتعاون يجب أن يبرز وأن ينجز أعمالا ميدانية تبرهن للعالم أن الدين في أصله هو عامل خلاص ورحمة للعالمين. لقد آن لقادة الديانات أن يبرهنوا على فعالية أفضل وانخراط أكبر في هموم المجتمعات البشرية لإعادة الرشد وإبعاد شبح الحروب والفتن المهلكة.
تلك هي رؤيتنا في دولة الإمارات العربية المتحدة التي تقدم نموذجاً للتعايش السعيد بين الديانات والأعراق مؤطراً بمبادرات نزعت الشرعية عن المتطرفين. ضمن هذه المبادرات إعلان مراكش لحقوق الأقليات وقوافل السلام الأمريكية للعائلة الإبراهيمية. وقد شهدت أبوظبي مؤخراً وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها الإمام الأكبر شيخ الأزهر والحبر الأعظم بابا الكنيسة الكاثولكية. كما شاركنا في منتدى تعزيز السلم وأيدنا وثيقة مكة المكرمة التاريخية التي أعلنتها رابطة العالم الإسلامي ووقع عليها أكثر من ألف ومائتي عالم يمثلون مذاهب ومشارب إسلامية منوعة.
كل ذلك يعبر عن ديناميكية وإيجابية تشهدها المنطقة، ترفض من خلالها الكراهية والعنف وتقدم الرواية الصحيحة للدين، رواية المحبة والتسامح.
تلك هي روايتنا ورؤيتنا المشتركة التي نتقاسمها معكم جميعا في هذا المحفل العظيم الذي يشرف عليه صديقي الدكتور وليام فندلي. إن اجتماعنا هذا يبعث الأمل ويجدد القناعة بأن اليوم الذي ننبذ فيه التصورات النمطية ومشاعر الكره لتجمعنا مشاعر الأخوة الإنسانية وحب الخير ، سيكون بحق يوماً مشرقاً في تاريخ الإنسانية.
ومن هنا من ألمانيا، نشارككم دعوة الأديان، دعوة الإنسانية جمعاء، دعوة المحبة والوئام، دعوة الاهتمام بالمستقبل من أجل تكريم الإنسان في كل مكان.