ارشيف ل June, 2022

الواقع المعاصر وأثره في الأحكام الشرعية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدّين

                                  

كلمة في المؤتمر الدولي

الواقع المعاصر وأثره في الأحكام الشرعية

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى أبوظبي للسلم

   

سعادة الأستاذ الدكتور جمال بن سالم الطريفي     رئيس الجامعة القاسمية

صاحب السعادة الدكتور عواد الخلف               مدير الجامعة القاسمية

        

أصحاب السعادة، أصحاب السماحة والفضيلة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

 

يطيب لي بادئ ذي بدء أن أتوجّه إلى القائمين على تنظيم هذا المؤتمر بجزيل الشكر على دعوتهم الكريمة الذي تمنيت أن تكون مشاركتي فيه حضورية ولكن لعل اللقاء عن بعد يغني ويثري. واسمحوا لي بين يدي هذه الجلسة أن أسهم بكلمات قليلة حول موضوع هذا اللقاء.

 

أيها الأخوة والأخوات،

لقد ظل الواقع مؤثرا دائما في الأحكام الشرعية باعتباره شريك النص في استنباطها. فهو داخل في دائرة النصوص ويتمثل ذلك في عمومات كليات الشرع وإن لم يكن منصوصا في الجزئيات المتناهية فهو مقبول في الكليات المشتملة على جزئيات لا متناهية. سواء عُبّر عنها بالقواعد الأصولية المؤصلة لقوانين الاستنباط كالقياس الذي يواجه مالايتناهى من الحوادث، أو عبر عنها بالمقاصد العامة كالعدل والمصلحة العرية عن الاعتبار الخاص. وواقعُ العصر مادام يمثل ضرورات الانسان وحاجياته وأحواله وأفعاله لا يشذ عن هذه القاعدة العامة.

هذه الدعوى نحتاج في اثباتها إلى الأدلة الشرعية المعتبرة من نصوص الشارع وعمل السلف بعد عصر الوحي أي بعد فترة حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلّم بالإضافة إلى القواعد المؤصّلة للعلاقة بين الواقع وبين النصوص في استنباط الأحكام.

ولكن قبل ذلك سنحاول أن نعرف الواقع المعاصر ليكون البحث كالتالي:

–      تعريف الواقع وبشكل خاص الواقع المعاصر

–      أدلة الشرع (النصوص) وعمل السلف والمقاصد والقواعد

–      أمثلة وتطبيقات فقه الواقع في القضايا المعاصرة

–      وخاتمة: حول ضوابط التعامل مع هذه القضايا

 

أولاً: تعريف الواقع:

ما هو الواقع الذي يجب فهمه والفقه فيه واستنباط علم حقيقته؟

يقول ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع. ثم يطبق أحدهما على الآخر؛  فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يَعدَم أجرين أو أجراً.

وبالتالي فإن الواقع حسب عبارة ابن القيم- يعني الإحاطة بحقيقة ما يحكم عليه من فعل أو ذات أو علاقة أو نسبة ليكون المحكوم به وهو الحكم الشرعي المشار إليه بالواجب في الواقع مطابقاً لتفاصيل هذا الواقع ومنطبقاً عليه.

والواقع لغة اسم فاعل من وقع الشيء وجب، ووقع القول ثبت {فَوَقَعَ الْحَق}،

فالوقوع هو الوجوب والثبوت، فالوجوب يدل على الوجود المؤكد، والثبوت يقابل النفي والعدم، الواقع إذاً هو وجود ثابت، فهو قريب من الحق والحقيقة؛ لأن الحق وجود ثابت وبمعنى من المعاني دائم لا يفنى، ولهذا فمن أسمائه سبحانه وتعالى “الحق”. والفعل الواقع هو المتعدي في اصطلاح النحاة.

أما الغربيون فلهم جولات مع الواقع تعريفاً وتدقيقاً وتشذيباً وتشقيقاً، وبخاصة في التخصصات الفلسفية؛ فمنهم من يرى أنه واضح وضوحاً يكون التعريف فيه مدعاةً للغموض والتحريف، فقد جعله “ديكارت”: ضمن “المفاهيم الشديدة الوضوح في ذاتها؛ لدرجة أن كل محاولة لتوضيحها أكثر تقود بالضرورة إلى إغراقها في الغموض”.

ومنهم من يشك في وجوده أصلا وهم المسمون بفلاسفة الشك.

ومنهم من يقول: إنه التطابق بين مقتضيات الوعي من جهة والواقع أو “الشيء في ذاته” la chose en soi كما يقول “كانت”، وهو تعريف غير سديد لأنه يُحِيلُ الشيءَ على نفسه، فلا جنس ولا فصل.

و”كانت” في هذا يريد أن يرفض النظرة الأفلاطونية للواقع، والتي ترى أنه لا وجود له في ذاته بل وجوده في الأفكار باعتبار أن المظاهر المحسوسة للأشياء خداعة ومتغيرة. فالفكر هو الذي يؤسس في النهاية لما هو حقيقي منها،،

ونذكر هنا النظريات الخمس للغزالي لإدراك الواقع. حيث يدرك عن طريق الحس، والعقل، واللغة، والعرف والطبيعة كما ذكر في أساس القياس.

والواقع هو الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولهذا فإنَّ المناط لا يتحقق إلا بالإنسان ومن خلال الإنسان نفسه فهو المحقق الأول والأخير، لأنه الفاعل والمحل.

ونحن اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة للشرع على ضوء الواقع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائماً أو غائبا في ركام العصور وغابر الدهور.

وإنَّ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يظلان النبراس الدائم، والينبوع الدافق، بهما يستضاء في ظلمة الدياجير، ومنهما يستقى في ظمإ الهواجر، بأدوات أصولية مجربة، وعيون معاصرة مستبصرة.

فالاستنباطات الفقهية القديمة كانت في زمانها مصيبةً، ولا يزال بعضها كذلك، والاستنباطات الجديدة المبنية على أساس سليم من تحقيق المناط هي صواب؛ -أيضا- فهي إلى حَدِّ ما كالرياضيات القديمة التي كانت تقدم حلولا صحيحة، والرياضيات الحديثة التي تقدم حلولا سليمة ومناسبة للعصر.               

فالتطور الزماني والواقع الإنساني يقترحان صوراً مغايرة للصور التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، فالواقع مقدمة لتحقيق المناط. وواقعنا اليوم يفرض قراءة جديدة في ضوء الشرع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط، تحت تأثير ما يمكن أن نسميه بكلي الزمان أو العصر أو الواقع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجيا؛ فهو واقع فيه اليوم معاهدات دولية، وحدود، وأسلحة دمار شامل، وتعددية دينية وثقافية وإثنية داخل البلاد الإسلامية وخارجها، وتغيرت فيه الولاءات القبلية والدينية إلى أخرى تعاقدية، وصارت السيادة في الواقع الدولي للاعتماد المتبادل بين الدول، والمعاهدات والمواثيق الدولية شبه حاكمة، وأصبحت العولمة سيدة العالم وليست حالة عابرة يحضر فيها الآخر حضورا اختياريا أما اليوم فحضوره وإن كان اختيارياً في ظاهره فإنه في عمقه إجباري. إنه واقع يؤثر في النظم والقوانين ومدى ملاءمتها للنصوص الشرعية مجردة عن مقاصد التعليل وقواعد التنزيل.

 

ثانيا: برهان تأثير الواقع في الأحكام من الكتاب والسنة وعمل السلف

أيها السادة الأجلاء،

لقد راعى القرآن الكريم الواقع ورتب الأحكام عليه، فراعى واقع الإنسان فشرَّع التخفيفَ في التكليف {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وراعى ردّ فعل عبدة الأصنام فنهى عن سَبِّ الآلهة، قال تعالى{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم} 

وذلك يمثل أصلاً لرعاية الأحوال والعاقبة والمئال والأعراض والأمراض التي تَتَعاورُ الإنسان، وما أنواع التسهيلات والتيسيرات والرخص إلا مؤسِّسةً لاعتبار المقدمة الصغرى المعرِّفةِ لطبيعة الواقع والمحققةِ للمناط.

فقد حقق النبي صلى الله عليه وسلم المناط في مسألة هدم الكعبة لإعادة بنائها: “لولا أنَّ قومك حديثو عهدٍ بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم”. وقوله عليه الصلاة والسلام-في بيع الرطب بالتمر-: “أينقص إذا يبِس؟ قيل: نعم، قال: إذاً فلا”. وهو تحقيق يتعلق بطبيعة الذات المحكوم عليها.

كل ذلك يدل على مراعاته عليه الصلاة والسلام لحال الوقت وواقع الزمان والمكان وحقائق الأشياء. ويوجد الكثير من القضايا من هذا القبيل في السنة النبوية. وأهم دليل على ذلك اختلاف أوصاف تصرفاته صلى الله عليه وسلم عندما يتصرف بالبلاغ أو الإمامة أو القضاء أو بالأفعال الجبلية، كل ذلك من باب “تحقيق المناط”

 

كيف كان الصحابة يتعاملون مع الواقع؟

ويندرج في هذا كثير من عمل الخلفاء الراشدين والصحابة رضي الله عنهم من العدول عن بعض الظواهر الجزئية لواقع تجدد أو مصلحة برزت.

ونكفتي هنا بالإشارة إلى أمثلة معروفة تبرهن على المراد وتدل على المقصود.

1- من ذلك جمع الصديق المصحف مع تردد بعض الصحابة في ذلك حيث سأل  زيد رضي الله عنه: “كيف نفعله ولم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم”. فرد الصديق هو خير. فهذهذه الخيرية هي المصلحة، وكذلك أيصاؤه بالخلافة لعمر، وهي تصرفات لم تكن مفهومة على البديهة، لكن سرعان ما التزم الجميع بها.         

2- في أيام عمر رضي الله عنه نزلت مسألة الأراضي الخراجية، وعقدت ثلاثة مجالس للشورى، -كما يقول ابن كثير في “البداية والنهاية”-، وكان رأي الإمام فيها راجحاً، وهو رأي الأكثرية، وظلت أقلية على مخالفة رأيه، من هذه الأقلية عبدالرحمن بن عوف وبلال وغيرهما، معتمدين على آية الغنائم في سورة الأنفال، والعمل السابق من تقسيم الغنائم، ولكن المصلحةَ الراجحة وتغيُّرَ موضوع الغنيمة كلُّ ذلك دعا إلى تحقيق المناط في الواقع الجديد.

وجعل الديوان عاقلة، بناء على تغير واقع العصبية. ووضع الزكاة على الخيل، مع علمه بأنه عليه الصلاة والسلام وأبا بكر لم يفعلاه ، وجعل الخلافة من بعده شورى، كل ذلك كان تحقيقاً للمناط وملاحظةً لواقع تغير.

وكان رضي الله عنه كثيراً ما يلاحظ الواقع المتجدد فَيعدِلُ عن رأي سابق له، فيختلف العلماء أحياناً بسبب ذلك، فيعتمد بعضهم الرأي القديم ويعتمد بعضهم الرأي الأخير.

3- في أيام الخليفة الثالث سيدنا عثمان رضي الله عنه حج بالمسلمين فصلى الصلاة الرباعية كاملة دون قصر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتان من بعده يقصرون الصلاة في الحج فهي سنة متواترة، فأنكر بعض الناس ومنهم ابن مسعود ولكنه لما وصل إلى مكة أتم الصلاة مع الخليفة، فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف شر .

وهكذا كان الفقه عاصماً للصحابة، فصلى الناس مع إمامهم.

وكان عثمان رضي الله عنه ينزل الحكم على وضع فيه عناصر جديدة هي كثرة الداخلين الجدد في الإسلام، ويخاف أن يظنوا أن الصلاة الرباعية أصبحت مقصورة أبدا فقطع الشك باليقين تنزيلا لا نسخاً. وورَّثَ المطلقة في المرض “تماضر زوج عبدالرحمن بن عوف”. وأمر بالتقاط الضوالِّ. وجمع الناس على مصحف، وأحرق ما سواه، على رواية. وأحدث الأذان الأول يوم الجمعة قبل دخول وقت الظهر، لكثرة الناس. ولم يأخذ الزكاة من المال الصامت، الباطن كالتجارة والنقود ووكل زكاتها إلى أمانة أهل المال ليدفعوها للفقراء خلافاً للخليفتين من قبله، واكتفى بجباية زكاة الأموال الظاهرة الناطقة، كالحيوان والزروع والثمار.

ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة، ولعل ذلك كان تحقيقا للمناط في زمنه، وهو زمنُ تَوسُّع الفتوح الإسلامية والرخاء فلم يكن بحاجة إلى مزيد من الأموال، أو أنه خاف عليها من خيانة الجُبَاة، فترك أمرها إلى أهلها، كما تأول أبوحنيفة أنه أناب أصحاب الأموال عنه في دفعها للمستحقين.

وكل ما مضى من عمل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه كان من قبيل تحقيق المناط في الأنواع أحيانا وفي الأشخاص أحيانا أخرى نظرا للظروف الزمكانية.

4- وفي أيام الخليفة الرابع سيدنا علي رضي الله عنه -وقد قل الفقه وعظم الخطب- بعد اغتيال الخليفة الثالث قال علي: لا يُقتصُّ من القاتل حتى يجتمع المسلمون على إمام، كما ذكر القرطبي وغيره.

وعلق القرطبي بقوله: ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخيرُ القصاص إذا أدى إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة .

ولكن بعض الناس لم يطع الإمام المبايع فبدلا من بيعته شنوا الحرب عليه فاعتبر ذلك خروجاً عليه. ولما قبل أمير المؤمنين عليٌّ التحكيم ثار الخوارج الذين لا فقه لهم، وقالوا: لا حكم إلا لله، فقال رضوان الله عليه: كلمةُ حقٍّ أريدَ بها باطلٌ. وقد حاور الخوارج وقاتلهم بعد أن هيّجوا.

وضمَّن الصناعَ بعد أن كانت يدُ الصانع يدَ أمانةٍ، وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك. بناء على واقع الناس وضعف حملهم للأمانة.

وذلك هو البرهان على أن الخلفاء الراشدين كانوا يحققون المناط بناء على واقع تجدد، وتبعاً لظروفٍ تغيرت وأحوالٍ تطورت، وأن الفقه في الدين كان عاصماً من الفتنة بُرهةً من الزمن وكان مفهوم الطاعة حاضراً في الأذهان.

ولهذا حاول العلماء في القرن الثاني والثالث تَقْنينَ اجتهاد الصحابة وضبطَه بآليات اجتهادية، وبعناوينَ كبيرةٍ ومتداخلةٍ، منها: القياس والمصالح المرسلة والاستحسان وسد الذرائع، والاستصحاب، وتندرج السياسة الشرعية في الاستصلاح، وسد الذرائع، بالإضافة إلى دلالات الألفاظ.

وبعبارة أخرى، فإنَّ جدلية النصوص والواقع إذا كانت مؤطرة بالمقاصد الكلية تنتج الإصابة في الأحكام والصواب في الاستنباط. 

 

ثالثاً: الواقع يفرض نفسه (تطبيقات وأمثلة معاصرة)

لا يخفى على الجميع مقدار التغيير الذي شهدته البشرية في هذا العصر والمسائل المستجدة التي ظهرت، في عالم متغير من الذرة الى المجرة، مما يستدعي من العلماء استعدادا واجتهادا، لمواكبة المسيرة البشرية في عصر تمازجت فيه الحضارات وتزاوجت فيه الثقافات واشتبكت فيه المصالح والعلاقات وأصبح مصير البشرية مشتركا وضرورة لا يخطؤها البصر ولا تنبو عنها البصيرة.

ومن أمثلة هذه النوزال والمستجدات، تقنيات الجينوم البشري وما اجترحت من معضلاتٍ أخلاقيةٍ، إذ أتاح العلمُ لنفوس عطشى إلى الاكتشاف التدخلَ في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النطفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات، وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مئالات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} سبحانه وتعالى.

فالمجامع الفقهية أمام التلقيح الصناعي والرحم المستعارة والتهجين وشهادة الجينات في تناكر الأزواج وتغيير الجنس في حيرة. بله القضايا الاقتصادية وتحديات المضاربات وتسليع النقود وتسييل العروض وسرعة المداولات والرواج في الأسواق وإبرام الصفقات في المراكز العالمية للاقتصاد التي لا تحترم الوضوح “الشفافية ” التي تدرأ خطر الغرر وغائلة الجهالة.

والواقع يفرض نفسه في قضايا شرعية بلا استئذان. كمشكلة بداية أشهر العبادة ونهايتها كل سنة، وإن كنت ممن يقول: بتقديم الرؤية مع التأكيد على العدالة والاستكثار من الشهود، والواقع فرض قبول الناس بإرسال المركبات إلى الكواكب بعد أن كان البعض يعتبره كفرا انطلاقاً من مفهوم الصعود إلى السماء المذكور في نواقض الإيمان. قال خليل: “أو ادعى أنه يصعد السماء أو يعانق الحور”.

فهل سنعرض عن الحكم بشهادة القافة لتحقيق المناط بـDNA قال خليل: “وإذا ولدت زوجة رجل وأمة آخر واختلطا عينته القافة وعن ابن القاسم فيمن وجدت مع ابنتها أخرى لا تلحق به واحدة منهما، وإنما تعتمد القافة على أب لم يدفن وإن أقرّ عدلان بثالث ثبت النسب، وعدل يحلف معه، ويرث ولا نسب”.

لكنْ هناك حالةُ التناكُرِ التي فرض الشرع فيها اللعان لوجود مقصد آخر هو الستر ومع صراحة النص فلا تصح فيها الوسائل العلمية. 

لكن يمكن أن يحقق المناط بالوسائل العلمية لتعليق العمل بمقتضى القيافة في فروع اختلاط الأولاد في المستشفيات أو في الأحوال الطارئة، أما الشهادة في الاستلحاق والإقرار به فمحل نظر واجتهاد.

والواقع فرض قبول الصلاة في الطائرة، وتغيير مفهوم السجود على الأرض أو ما اتصل بها، على حد حد ابن عرفة.

والواقع فرض على المجامع الفقهية الاعتراف بالموت الدماغي بعد أن كان الفقهاء مطبقين على أن الموت هو موت القلب. والواقع جعل الحامل لم تَعُد بعد ستة أشهر مريضةً مرضاً مخوفاً، محجوراً عليها كما هو مذهب مالك.

إن كثيراً من القضايا ينظر إليها من خلال الأدلة الفرعية بنظر جزئي، وهي قضايا تتعلق بكليِّ الأمة؛ كمسألة جهاد الطلب، وتصنيف الدار والعلاقات الدولية المالية، التي لا تحترم أحياناً من ماهية العقد إلا ركن التراضي الذي حصر فيه إمام الحرمين صحة العقد في حال تصور خلو العصر والقطر عن عالم.

فالواقع الجديد يقترح صورة مغايرة للصورة التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، ومعنى قولنا الجزئية أنَّ الأحكامَ الكليةَ التي يستند إليها التنزيل تشمل الصورة القديمة والحديثة.

إنَّ الظروف الواقعيةَ والمصالحَ الإنسانية هي المعيار الذي -بالاستقراء- كان حاكما في التصرفات مندرجاً في المقاصد الكلية.

ولنأخذ أمثلة من مجال المعاملات، فمن الضروري مراجعة جملة من المفاهيم في البيئة الحديثة وتحليل العقود الجديدة وتفكيكها لسبر ملاءمتها للشروط والضوابط الشرعية.

فمن هذه المفاهيم:   

الغرر في العقود: الكثير من العقود تتم في غَيْبة المعقود عليه, دون أن تكون سلَماً بشروطه، فهل هي من بيع الغائب، أو من بيع غاب فيه البدلان؟

وبهذا الخصوص يمكن الإستفادة من بعض مفردات مذهب مالك بن أنس الذي وسّع البيع بمعنى من المعاني فجعل مفهوم البيع هو العقد دون القبض على المشهور من المذهب وضمّر الربا في تعامله مع قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرّم الربا) مع الاستدراك على مسائل سد الذرائع التي تمثل الممنوع من الدرجة الثانية، ليكون ذلك منبها على ما تختزنه المذاهب الإسلامية المتعددة من إمكانات هائلة ومرونة عالية تسمح بالتعامل مع العصر.

وفي هذا السياق، يمكن العمل على معيار لبيع الديون يراعي الانضباط المطلوب ويسهم في مواجهة التحديات التي تطرحها السوق مثل عقود البترول والسلع المختلفة في الأسواق الدولية وذلك وفقا لمذهب مالك الذي يجيز ذلك مع شيء من الانضباط تمثله الشروط الخمسة لبيع الدين ومنها ثبوت الدين وإمكانية الحصول عليه في وقته لأنه يعتبر الدين مالاً موجوداً ويقدر المعدوم موجوداً.

وابتداء الدين بالدين الذي نعني هنا ليس هو بيع الكالئ بالكالئ، فبيع الكالئ بالكالئ عند مالك هو فسخ دين في دين، وأما ابتداء الدين بالدين فهو جائز عنده بشروط معلومة في السلم ومذهب سعيد بن المسيب جواز ذلك مطلقا. حيث نقل عنه ابن يونس في كتابه “الجامع لمسائل المدونة” جواز تأجيل البدلين، وسعيد بن المسيب كما يقول الشيخ ابن تيمية أفقه الناس في البيوع، وهو عند أحمد بن حنبل أفضل التابعين.

كما يمكن الأخذ ببيع الغائب الذي يجيزه مالك ببعض الشروط، باعتبار أنَّ الخبر بمنزلة النظر، وهي قاعدة نادرة ذكرها الحافظ أبوبكر بن العربي في كتابه “القبس”، أي الإكتفاء بالخبر عن النظر، وبالتالي أجاز بيع الغائب بالوصف، والمغيب في الأرض من الثمار.

ولهذه الآراء الواردة في مذهب مالك أدلتها وأصلها في عمل أهل المدينة وليس هذا محل إيرادها. لكن المراد أنَّ هناك أسساً يمكن البناء عليها لتطوير معايير جديدة تخدم التمويل الإسلامي مع الإبتعاد عن المحاذير التي تتنافى مع التعاملات الاسلامية وهي الربا والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل أو الثلاثي النكد كما نسميه، والتي ذكرها الحافظ أبوبكر بن العربي وسبقه إليها القاضي عبدالوهاب في كتابه التلقين.

ولاشك أنَّ مثل هذه المقترحات قد تحتاج إلى ورش ولجان عمل لتطويرها وتعميق النظر فيها، لكن ذكرناها هنا للتنبيه على مكنونات الشريعة السمحة وإمكانات الفقه الواسعة.

 

أيها الحضور الكريم،

رابعاً وأخيرا: ضوابط التعامل مع هذه القضايا (محددات المنهج):

وهنا سنشير سريعا إلى بعض القواعد والضوابط التي ينبغي للمتعامل مع النوازل والمستجدات الأخذ بها وذلك بالتعامل مع النصوص من خلال المقاصد والقواعد والواقع والوقائع، فيفرق بين العبادات التي مبناها على التسليم وبين المعاملات التي مدارها على التعليل المعقول، والتصرف وفق روح القيم الناظمة للشريعة المطهرة وهي: الحكمة، والمصلحة، والعدل، والرحمة. ومن هذه الضوابط:

1- النظرة الشمولية التي تعتبر الشريعة كلها بمنزلة النص الواحد: ونحن هنا ننطلق من مسلمة أن نصوص الشريعة بمنزلة نص واحد في نظام الاستدلال والاستنباط.

وقد نبه الشاطبي على ذلك بقوله: وإنما يكون متشابها عند عدم بيانه، والبرهان قائم على البيان وأن الدين قد كمل قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لا يقتصر ذو الاجتهاد على التمسك بالعام مثلا حتى يبحث عن مخصِّصه، وعلى المطلق حتى ينظر هل له مقيد أم لا؛ إذ كان حقيقة البيان مع الجمع بينهما؛ فالعام مع خاصه هو الدليل، فإن فقد الخاص؛ صار العام مع إرادة الخصوص فيه من قبيل المتشابه، وصار ارتفاعه زيغا وانحرافا عن الصواب.

2- الجمع بين النصوص التي يوحي ظاهرها بالتعارض.

 3- الموازنة بين الجزئي والكلي: وهذه الموازنة ضرورية لتفادي صورة أخرى من صور الاجتزاء أي: الاكتفاء بالجزئي والإعراض عن الكلي، وعدم فهم التجاذب الدقيق بين الكلي والجزئي، فالشريعة ليست على وزان واحد، فلا هي مجموع الأدلة الجزئية، ولا هي مجرد كليات عائمة، أو قيم مجردة، وبالتالي لا ينظر إلى الجزئي إلا من خلال الكلي، كما لا قوام للكلي إلا بجزئياته، مع مراعاة أنه حال التعارض بينهما لا الكلي يقدم بإطلاق، ولا الجزئي كذلك، وذلك راجع إلى ميزان المجتهد الذي يستخدمه في كل موضوع.

4- عرض الخطاب الآمر “التكليف” على بيئة التطبيق “خطاب الوضع“:

وهذا ضمن البيئة الأصولية لعملية تحقيق المناط والمجال الناظم للدلالة التي تحوطها فالخطاب الشرعي قسمان: خطاب تكليف، وخطاب وضع. فالقسم الأول أحكام معلقة بعد النزول على وجود مشخص، هو الوجود الخارجي المركب تركيب الكينونة البشرية في سعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، وتطور سيروراتها، فإطلاق الأحكام مقيد بقيودها وعمومها مخصوص بخصائصها، ولذلك كان خطاب الوضع -الذي هو الأسباب والشروط والموانع والرخص والعزائم والتقديرات- ناظما للعلاقة بين خطاب التكليف بأصنافه: طلبُ إيقاع وطلبُ امتناع، وإباحة، وبين الواقع بسلاسته وإكراهاته.

وبعبارة أخرى، خطاب الوضع هو البيئة الأصولية لإنزال الحكم، وهو الذي يحوط خطاب التكليف ويكلؤه، ولهذا كان خطاب الوضع بالمرصاد لخطاب التكليف، ليقيد إطلاقه، ويخصص عمومه، فقيام الأسباب لا يكفي دون انتفاء الموانع، ولن تُنتج صحة أو إجزاء دون توفر الشروط سواء كانت للوجوب، أو شروط الأداء أو الصحة، فلا بد من تحقيق المناط للتدقيق في ثبوت التلازم طرداً وعكساً.

5- مراجعة سياقات النصوص

6- اعتبار العلاقة بين الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد.

7- مراعاة التطور الزماني والواقع الإنساني.

8- النظر في المئالات والعواقب: فالمآلات مسلك من مسالك معرفة الواقع والأدوات التي بإمكانها أن تكتشف المستقبل، بعد أن يكون الناظر قد عرف الواقع بكل تضاريسه ومتوقعاته ليضمن التوازن في تنزيل الحكم عليه ومعرفة توجه المستقبل من خلال معطيات الحاضر التي أفرزها الماضي، إنه توقع عقلاني بعيد عن التوهم أو عن معنى الاستباق وإن تقاطع معه، يتأسس على واقع يحقق ويثبت العلاقة بين الأحكام وبين الوجود المشخص، ولا يهمل فيه أي عنصر من عناصر العلاقة بينه وبين الدليل الشرعي الذي يقع التدقيق في شقيه: الكلي والجزئي، كما يدقق في تقلبات وغلبات الواقع والأثر المحتمل للحكم في صلاحه وفساده، بحيث لو تنزل بالفعل لكان محمود الغب جار على مقاصد الشريعة، والمقاصد قبلة المجتهد كما يقول الغزالي في تحصين المآخذ.

9- استحضار البعد الإنساني والإنتماء إلى الكون.

10- استغلال الإمكان المتاح في الشريعة.من خلال المصالح أو المقاصد أو من خلال مراعاة اختلاف العلماء.

11- التعامل مع مقصد التيسير مرجحاً عند تعارض الأدلة كما ذكر بعض الأصوليين. وكما فصلنا في كتابنا (صناعة الفتوى)- فاستعمال الرخص عند قيام الأسباب، مؤصل من الأصلين، ومن قاعدة إشفاق المفتي على أهل ملته، كما يقول الخطيب البغدادي لأن الإعنات مخالف لتيسير الشرع.

هذه المنهجية التي ندعو إليها، هي منهجية من رحم الشريعة، كانت موجودة وممارسة في واقع الحياة، وإن كانت اليوم غائبة عن الذاكرة الجمعية فإننا نريدها أن تعود مرجعية للعلماء كما كانت من قبل، ولم يكن يشذ عنها إلا المنشقون الخارجون عن المجتمع وعن الأمة الذين لهم في الشرع وضع محدد وصفات معينة يتحقق بها المسلم من أمرهم كما بينتها نصوص الشريعة.

 

العنوان الأصولي لفقه الواقع هو تحقيق المناط:

تحقيق المناط يمثل التحقق من مناط معين وهو العلة لتنزيل الحكم عليه فتحقيق المناط بوصفه الاجتهاد الثالث كما يقول الشاطبي، لا ينقطع فيه الاجتهاد لانه مسايرة للزمان والمكان.

وفي ختام هذه الكلمة كان لنا في مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي جهد واجتهاد معتبر في إصدار مجموعة من الفتاوى والبيانات خلال جائحة كورونا التي لم يكن منحى من مناحي الحياة بمنأى عن تبعاتها وآثارها لتوضيح الموقف الشرعيّ من عدد من القضايا المستجدة التي أثارتها الجائحة: كقضايا صلاة الجماعة والتروايح والعيدين، وكقضايا صوم الممرضين ومصابي كورونا، وتقديم الزكاة أو تأخيرها والحج،  وأصدرنا فتوى حول استخدام اللقاح المضاد لفيروس كورونا، وغير ذلك من الفتاوى التي اعتبر فيها المجلس تغيّر الواقع مؤثرا ومرجحا، وأعمل الاستحسان وهو العدول عن القياس إلى ما هو أرفق بالناس على حد عبارة بعض الأحناف.   كما نظم المجلس بالتعاون مع رابطة العالم الإسلامي مؤتمرا دوليا حول “فقه الطوارئ” جمع فيه العلماء من مختلف القارات لتحقيق المناط في واقع الجائحة ومناقشة ما أثارته من أسئلة فقهية في جميع المجالات من عقائد وعبادات ومعاملات، موضحين يسر الإسلام وسعة الشريعة وقدرتها على استيعاب مصالح الناس في مواجهة الجوائح والأزمات.

ولعلنا نهدي إلى جامعتكم الموقرة الكتاب الذي سيصدر متضمنا أعمال ذلك المؤتمر.

 

وختاماً، أشكركم جميعاً وأدعو الله أن يبقي بلدنا بلد خير ونماء وعطاء ونفع للناس، وأن يحفظه ويحفظ قيادتنا الرشيدة من كل ضر وبأس، وأن يصلح أعمالنا وأن يجعل اجتماعنا اجتماع خير وأن يكلّله بالنجاح إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.