الكلمة التأطيرية لمؤتمر الاستيعاب الشرعي للمستجدات العلمية
الكلمة التأطيرية لمؤتمر الاستيعاب الشرعي للمستجدات العلمية |
||
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، حفظه الله وزير التسامح والتعايش أصحاب السمو، أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة والفضيلة، أيها الحضور الكريم، كلٌّ باسمه وجميل وسمه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يطيب لي أن أرحّب بكم في هذا المؤتمر الذي يعقد تحت الرعاية الكريمة لسمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية، وفي رحاب الإمارات العربية المتحدة، دولة العلم والمعرفة وبلد الأفكار والابتكار، وفضاء التسامح والإنسانية، ومنطلق دروب الخير، وملتقى محبي السلام والوئام تحت القيادة الرشيدة لصاحب السمو رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله. سأوجز القول في هذه المقدمة التأطيرية في محاولة للإحاطة بموضوع المؤتمر من خلال التفكير في الأسئلة التالية:
أولا: لماذا هذا المؤتمر؟ إن الداعي إلى هذا المؤتمر هي الوتيرة السريعة والمطردة للابتكارات والمستجدات العلمية في مختلف المجالات وتعدّد الاستخدامات ذات الصلة بحياة الناس، وما يترتب على ذلك من حاجة الانسان فرداً أو مجتمعاً إلى معرفة الحكم الشرعي والأخلاقي للتعامل مع هذه الوسائل والمخترعات وفق منهج فقهي أقرب إلى الانضباط. ولذلك جاء هذا المؤتمر ليسهم في بناء منهجية شرعية وأخلاقية منضبطة للتعامل مع المستجدات العلمية، من خلال المقاصد ومنظومة المصالح والمفاسد التي هي جسر العبور ودرب المرور بين الواقع المتبدّل والنّص المعلّل. كما أنّ هذا المؤتمر يجمع المختصين الشرعيين بنظرائهم من المختصين في علوم الواقع في تلاقح للفُهوم وتلاقٍ للعلوم، محاولةً لإسناد الرأي الشرعي بتصور أفضل وفهم أدق للمسائل المستجدة، ولمشاركة علماء الطبيعة استفسارات علماء الشريعة، ليمكن الوصول من خلال ذلك كله إلى حكم شرعي أقرب لروح الشريعة وأوفق لأحوال النّاس. وعلى مستوى كلّي أعلى، يأتي مؤتمرنا هذا إسهاما في بلورة الموقف الحضاري للمسلمين في إشكالات تهمّ الإنسانية جمعاء، على صعيد القيم، حيث يدور نقاش كوني اليوم حول الحاجة إلى الربط الواصب بين التطوّر العلمي وبين الأطر الأخلاقية التي تعلي من مكانة الانسان وتصون كرامته وتحمي حياته. ونحن، كغيرنا، مطالبون بتقديم موقفنا، انطلاقا من إيماننا بأن ازدهار واستقرار الإنسانية لا يكفي في تحصيلهما توفُّر الأسباب والشروط التقنية، والاقتصادية، بل يستوجبان القدرةَ على إثراء الوجود بمضامين قيمية ومعانٍ سامية، ويتطلبان نظرة شاملة للحياة مبنية على التناغم بدل التصادم والتعاون بدل التنازع. وذلك كله يؤكد الحاجة إلى أطر أخلاقية تنير الطريق وتهدي السبيل. وجل القضايا التي نناقش في هذا المؤتمر هي همّ إنساني لأن ما تطرحه من معضلات أخلاقية وعملية لا يختص بدين دون دين ولا بجنس دون جنس. فعلى سبيل المثال، يثير الذكاء الصناعي قضايا فلسفية وقيمية تتعلّق حتى بمعنى أن نكون بشراً نحيا حياة كريمة. وفي هذا السياق، قام منتدى أبوظبي للسلم بعقد شراكة وتعاون مع كلية الحياة في الفاتيكان للعمل على تطوير منظومة أخلاقية وقيمية توجه ذلك المجال، لأنه همّ عالمي مشترك. وهكذا فهذا المؤتمر أحد تلك الاستجابات لهذه المستجدات لكن من ناحية فقهية.
ثانيا: ماذا نعني بالمستجدات؟ الجدّة سمة هذا العصر وقيمته الجُلَّى ومبدأه الأساسي، فهو عصر التغيّرات المتدفّقة، والكشوفات المتوالية، عصر الانفجار المعرفي الكبير. ولفرط توالي المستجدات وتعاقب المبتكرات، أصبح كلُّ جيل يكاد يعيش في عالم جديد مغاير في كثير من مناحيه لعالم سَلَفِهِ الأدْنَيْن، لا في سماته الجزئية التي أثارتها الكشوف العلمية والمخترعات الجديدة، وما أتاحته من إمكانات هائلة وتطورات مذهلة، غيّرت الحياة من الذرة إلى المجرة، بل وفي أبعاده الكلية كذلك، التي تطبع شتى مجالات الحياة ومختلف المظاهر والتجليات. والمستجدات عبارة عن منتج علمي له تأثير على الحياة سواء تعلق الأمر بالصحة الجسدية أو النفسية او المجال الأخلاقي أو النظام العام. على أن الوعي بهذه الجدة، يقابله الوعي بالثَّبَات المتأصّل في طبيعة الوجود، فما تحت الشَّمْسِ من جديد، فكلّ جديد مهما كان بدعا وبدا أُنُفا، لا يعدو لدى التحقيق أن يكون صورة مستحدثة لحقيقة قديمة، لا سيما أن الذي يتوجّه إليه الخطاب وتتعلق به القيمُ إنما هو فعل الانسان. فهذه الأشياء مهما جدّت فإن الإنسان الذي هو مناط التكليف ومحلّ الخطاب، لا جديد فيه، ولا تبديل لكينونته البشرية، فهي هيَ في سَعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، في سموها للخير وجنوحها إلى الشر.
ثالثا: ما هو الاستيعاب الشرعي للمستجدات العلمية؟ الاستيعاب الشرعي للواقع والمستجدات، مظهر من مظاهر الشريعة السمحة الحنيفية في كونيتها وشمولها لكل مظاهر الحياة، وهذا الاستيعاب الشرعي لا يقصد به التضييق على النّاس في حياتهم وإدخال المشقة عليهم والعنت في معايشهم، بل ديننا دين سعادة واطمئنان، فالحرج مرفوع والمشقة تجلب التيسير والأمر إذا ضاق اتسع، وفي الحديث عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” بعثت بالحنيفية السمحة” أي السهلة الميسرة، رواه أحمد في المسند، وذكره البخاري معلقا بقوله: باب الدين يسر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أحبّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة”[1]. وورد في مصنف عبد الرزاق تفسيره مرفوعاً بأنها الإسلام الواسع. فهذه الأحاديث تعطي للسماحة معنى اليسر والسهولة والسعة مما يدلّ على رفع الإصر والحرج والبعد عن الضيق والتشدّد. وإنما يتحقق الاستيعاب من خلال خصائص تتسم بها الشريعة، تمنحها مرونة وقدرة على التعامل مع كل جديد في يسر وسهولة، فمن ذلك:
ونخلص من ذلك إلى أن الاستيعاب الشرعي هو قدرة النظر الفقهي، بأصوله ومناهجه، على مواكبة مسيرة الحياة من خلال وصل المستجدات بحبل الدين، وإيجاد الحلول المناسبة، واقتراح الصيغ الملائمة، وهو الاستجابة الشرعية لإلحاح الواقع المتغير الباحث عن أجوبة عملية في قضايا متنوعة تمس حياة الأمة في شتى المجالات والميادين في وقت واحد وفي كل مكان، من خلال عملية مركّبة تربط في توازن دقيق بين النصوص الحاكمة والمقاصد الناظمة والمصالح اللازمة، وفي توازن بين الانضباط في الاستنباط وبين سعة الشريعة ويُسرها.
رابعا: كيف تتعامل المنهجية الفقهية مع المستجدات؟ السؤال الأهم الذي يثيره الاستيعاب الشرعي هو سؤال كيف؟ كيف يتم هذا الاستيعاب وما هي أسسه ومنهجيته؟ شراكة الواقع: ينطلق الفقيه في رحلة الاستنباط، من وعيه بأهمية الرّبط بين منظومة الدليل الشرعي وبين الواقع. وذلك أن الأحكام الشرعية التكليفية بعد نزولها تظل معلقة حتى تتوفر أسبابها في وجود مشخّص هو الوجود الخارجي. وبعبارة أخرى، خطاب الوضع هو البيئة الأصولية لإنزال الحكم، وهو الذي يحوط خطاب التكليف ويكلؤه، ولهذا كان خطاب الوضع بالمرصاد لخطاب التكليف، ليقيد إطلاقه، ويخصص عمومه، فقيام الأسباب لا يكفي دون انتفاء الموانع، ولن تُنتج صحة أو إجزاء دون توفر الشروط سواء كانت للوجوب، أو شروط الأداء أو الصحة، فلا بد من تحقيق المناط للتدقيق في ثبوت التلازم طرداً وعكساً. ومن نصوص العلماء الدالة على هذا المعنى ما نقل عن العز بن عبد السلام من قوله: “يحدث للناس في كل زمان من الأحكام ما يناسبهم”، وقال تلميذه القرافي: “الجمود على النصوص أبداً ضلال وإضلال”، يقول ابن القيم: إن المفتي الذي يطلق حكما واحدا في كل حالة هو مثل طبيب له دواء واحد كلما جاء مريض أعطاه إياه، بل هذا المفتي أضر، ويضيف الشاطبي أن الرباني هو الذي ينظر في كل حالة ليقدم الحكم المناسب. ذلك هو مبدأ تحقيق المناط وهو النمط الثالث من الاجتهاد الذي لا ينقطع مدى الدّهر، وبه يتحقّق التطابق الكامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع المراد تطبيقها عليه. ولذلك فإن الفقيه، فقيهَ النفس، هو صاحب البصيرة والبصر، الذي ينظر بعينين، عين على العصر وعين على الأصل، بالأولى يستلم المقدمة النظرية أو العلمية المعرفة بالواقع وهي صغرى قياسه، ومن الثانية يستلم المقدمة النقلية أو الكلية الشرعية وهي كبرى قياسه، ومن الاثنتين وما فيهما من حدّ وسط هو الوصف المؤثّر (العلة)، يتوصّل إلى النَّتيجة وهي الحكم الشرعي. تلك هي الصورة النموذجية للنظر الفقهي لدى البحث عن حكم المستجدات، ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين.
المرحلة الأولى: التشخيص والتوصيف: حيث يتعرّف على الواقع تعرّفا موجّها بغاياته العملية، ويستلم المقدمة الأولى وهي المقدمة النظرية أو العلمية. ويحتاج الفقيه في هذه المرحلة إلى رأي وعلم الخبير الذي هو العالم في العلوم الإنسانية أو الطبيعية. والخبير يقدّم الواقع كما هو بكل تفاصيله وشياته ومن مختلف زواياه، ليكون النظر أكمل والإدراك أتمّ، فيتطلب كل العوارض والأعراض اللازمة أو شبه اللازمة للشيء، مستخرجا العناصر الأساسية التي قد تساعد الفقيه في بحثه عن الحكم، فيجيب على أسئلة كثيرة هي المفاتيح للتعامل، فما المستجد؟ وما خصائصه؟ وما الباعث عليه؟ هل من ضرورة أو حاجة؟ وهل من بدائل أخرى؟ ما هي مزاياه؟ وما هي مخاطره وأضراره؟ وحيث كان جلُّ المسائل المستجدة يؤول النظر فيها إلى قواعد المصالح، فإن المختص ينبغي أن يعنى كثيرا بتحقيق القول في مستوى الضرر والضرورة، فإنه قد تقرّر في الشرع أن الأصل في كل ما يضرُّ المنع، وبالعكس الأصل في كل ما لا ضرر فيه الجواز. ومنشأ الصّعوبة هنا هو التباسُ المصالح بالمفاسد، فما من مصلحة إلا وفيها مفسدة في وجه من الوجوه، ولا توجد مفسدةٌ عريةٌ من مصلحة من وجه، كما يقول الشاطبي، فالعبرة بالغلبة، فما كانت المصلحة فيه أغلبَ اعتبر مصلحةً، وما كانت مفسدتُه أغلبَ اعتبر مفسدةً. فالنظر المطلوب من المختصّ هو الموازنة بين المصلحة والمفسدة أو بين مصلحتين أو مفسدتين، وقد يُسمى هذا النوع بارتكاب أخف الضررين أو اعتماد أصلح المصلحتين، أو درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. فكلّ تلك الموازنات تدخل في تحقيق المناط، الذي يقوم الخبير بصياغة مقدمته الأولى.
المرحلة الثانية: المعالجة الفقهية: فمن خلال التشخيص والتوصيف يدلف الفقيه إلى المحطة الثانية وهي محطة التّكييف والمعالجة الفقهية، حيث يضع اسما وعنوانا شرعيا على الحدث الواقعي ليصيره حدثا فقهيا وشرعيا، فالتكييف عملية معقدة تمكّن الفقيه من إسناد اسم إلى شيء أو حالة، ليتسنّى له بإثر ذلك أن يُلزم المسند إليه أحكاما أو قِيَماً. نجاح هذه الخطوة يتمثل في العثور على العنوان الشرعي المناسب من ضمن لفيف كبير من العناوين والمفاهيم الشرعية، وفق هندسة دقيقة، هي صناعة الفقيه الخاصة التي بها يصير فقيها. وفي هذه المرحلة يحتاج الفقيه إلى استنفار أدوات الاجتهاد ومولدات الأحكام الجزئية عن طريق إثارة ونثر مكنونات الكليات التي ارتضتها الأمة أسساً لاستنباط الأحكام من النصوص في مختلف دلالاتها، من منطوق النص وإشارته، ومن خارج النص في أروقته كمفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، وحول النص في جاذبية مقاصده وقواعده من قياس بل أقيسة واستصحاب حكم العقل المبقي على نفي التكليف وفي ضوء المصالح المعتبرة والمرسلة وظلال الاستحسان والذرائع سداً وفتحاً والعوائد والأعراف المشروعة تحت سقف المقاصد الثلاثة الكبرى بصفتها الكلي الأعلى الذي لا كلي وراءه كما يقول الشاطبي والقواعد الخمسة التي بني عليها الفقه كله.
الخاتمة: من خلال هذه المنهجية المقترحة للموائمة بين خبرة الخبير وفقه الفقيه تولد الأحكام الشرعية وتنبثق القيم الأخلاقية، محققة لمصالح الإنسان في العاجل والآجل، أفرادا ومجتمعات. وبهذه المنهجية نسائل المواضيع المطروحة على جدول أعمال المؤتمر، مسائل الغذاء والدواء ونوازل الفضاء والذّكاء، وهي قائمة لا تدعي الحصر ولا تروم الاستيعاب، وإنما هي نماذج أردناها دالة على ما وراءها، ومشيرة إلى ما خلفها، وإنما القصد والغاية هو البعد المنهجي. فتطورات الذكاء الاصطناعي امتزجت فيها المصالح والمفاسد والاضرار والمنافع ولم يتبين فيها الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. أما سؤال الرحم المستعارة، فالتبست فيها المفاهيم وغاب فيها الانتماء واختلطت فيها قواعد البر والقرابات التي جعلها الله سياجا يحفظ كينونة الانسان كما في قوله تعالى ” وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ…” وحليب الأطفال الخداج، تدور مسألته بين الحاجة وخشية الافضاء البعيد إلى المحرمية، وغياب اليقين حول أفضليته أو مساواته لأنواع الحليب الأخرى مما يحدده خبراء الصحة والتغذية. أما اللحوم المستنبتة، فما كان منها من حيوان مذكى تنفع فيه التذكية أو من النبتات أو المعادن فلا إشكال فيه، وما كان من سواها، فأمره يرجع إلى قاعدة الفرق بين الابتداء والانتهاء. فقد يكون حكم الابتداء مخالفاً لحكم الانتهاء عند الضرورة الفقهية (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ). وفي مسائل الفضاء، التقدير للأوقات، والاتجاه للقبلة، والطهارة كل تلك القضايا يسعف في التعامل معها قاعدة (الأمر إذا ضاق اتسع). تلك بعض الاشكالات التي يثيرها النظر الفقهي الأخلاقي في مثل هذه النماذج التي أردناها مُلمعة إلى ما ورائها منبهة بإشارتها إلى القضايا التي على مؤتمركم هذا أن يناقش منهجية التعامل معها. وختاما، فما ذكرته آنفا ليس المقصود منها تقديم فتوى جاهزة ولا رأيا شرعياً محررا وإنما هي إشارات وإثارات وتذكرة وذكرى (فإن الذكرى تنفع المؤمنين). أجدّد الشكر لكم جميعا، على تلبية الدعوة، وأتمنى لأعمال مؤتمرنا هذا النجاح والتوفيق ولضيوفنا مقاما سعيدا وأوبا حميدا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [1] – وخرجه في الأدب المفرد |