ارشيف ل March, 2024

القرآن الكريم وآفاق العلوم الكونية – العلامة عبدالله بن بيه

   

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم

بمناسبة مؤتمر القرآن الكريم وآفاق العلوم الكونية وجهود دولة الإمارات في خدمته

24-25 مارس 2024م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين،

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش حفظه الله
فضيلة الدكتور محمد الضويني
سعادة الدكتور عمر حبتور الدرعي
سعادة الدكتور خليفة الطنيجي
أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة كل باسمه وجميل وسمه

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

نلتقي اليوم تحت دوحة القرآن الكريم، ونستضيء بنوره الذي لا يخبو،
مهما تعاقبت الأيام وتوالت الأعوام، ينير القلوب ويشرح الصدور، قال
تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا
مُّبِينًا﴾.
يندرج هذا اللقاء ضمن عناية دولتنا بكتاب الله، تعليما وتجويدا في
المساجد والمدارس، خدمةً للدين وحرصا على ما ينفع المسلمين والناس
أجمعين، وهو نهج راسخ ولله الحمد وامتداد لإرث المغفور له الشيخ زايد
طيب الله ثراه، ولا أدل على ذلك من مكرمة صاحب السمو رئيس
الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله لحملة القرآن من الأئمة
والمؤذنين، نسأله سبحانه أن يجعلها في ميزان حسناته. كما نثمن الرعاية
الكريمة لسمو الشيخ منصور بن زايد لهذا المؤتمر النافع المبارك.

أيها السادة الكرام،


نتذاكر اليوم حول آيات ربنا المكتوبة المعلومة بسبيل الوحي، وآياته
المبثوثة في هذا الكون المدركة للإنسان بالحواس أو العقل أو عن طريق
الاثنين معاً، أي عن طريق العلم بمعناه الحديث.
قال تعالى في محكم التنزيل:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)

، إن هذه الآية تؤصل لعلاقة الوفاق بين آيات
الآفاق أي العلامات التي تلوح في هذه الآفاق وبين صدق القرآن
الكريم. ولقد صدق القائل:

وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنه الواحد
لكن ما هي هذه الآيات وما هي الآفاق، وإلى ماذا يعود الضمير في
هذه الآية؟ كان ذلك مثار اهتمام المفسرين ومدار الاحتمالات التي
قدموا باعتبار كل واحد منها مقصودا في الآية. فهل هذه الآيات هي
الفتوحات التاريخية أي أنها تلك البلاد التي فتحها المسلمون في أقل من
مائة سنة، أو الآفاق هي الكون كله من آيات السماء والشمس والقمر
والنجوم، والظاهر أن كل ذلك مقصود وكل ذلك موجود، فالكون بما
فيه الآفاق التي أعلنت بها كلمة التوحيد، كلها علامات تدخل في عموم
الآية وشمولها.


يدخل في ذلك ما ظهر وسيظهر، فإن الفعل المضارع (سنريهم) ممتد
الدلالة وبخاصة مع حرف التسويف الدّال على الاستقبال والاتصال. كما
أن الضمير (أنَّه الحق) قد يرجع إلى القرآن أو إلى النبي أو الإسلام.
كلّ ذلك ممكن.
إن الرؤية القرآنية هي رؤية الموافقة والانسجام، فالخلق والأمر
صنوان؛ الكون كتاب الله المنشور؛ والأمر كتابه المسطور؛ يصدق كل
منهما الآخر (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، والكون

حق والوحي حق، (مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّابِالْحَقِّ );”(وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)”;، فلا تعارض بين الحق والحق، بل توافق وتصادق.


هذه الرؤية التوافقية بين علوم الوحي وعلوم الكون، تجعل المسلم لا يشعر
بالغربة في العالم من حوله، وتجعل الدين لا يخشى العلم بل يحبّه ويحثُّ
عليه.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن نحو ألف آية منها تتناول الكون
ومظاهره، بل لا تكاد سورة تخلو من إيقاظ القلب لينطلق إلى هذا
الكون تدبرا وتفكرا.


وهو اهتمام يتجلى في أسماء السّور نفسها، فمنها أسماء فلكية كالبروج
والشمس والقمر والفلق والضحى والنجم ومنها أسماء المعادن كالحديد
ومنها النباتات والثمار كالتين ومنها أسماء الحيوانات كالبقرة والنمل والنحل
والعنكبوت والفيل، ومنها ظواهر جيولوجية كالطور، ومنها الحقائق
البيولوجية كالعلق، إلى غير ذلك من الظواهر الطبيعية والحوادث
الكونية، التي تحيط بالإنسان، ويعيش في اتصال دائم بها.
ثم من مظاهر هذه العناية أيضا، قَسَمُ الله تعالى ببعض مخلوقاته الطبيعية
كالسماء ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) و(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا)، وبالزمان (والعصر والليل والنهار والضحى) بل أقسم بالكون
كلّه، شهادةً وغيبا:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}.
والقَسَمُ دليل التعظيم، وتعظيم الله لبعض مخلوقاته، تنبيه على شريف
مراتبها وعظيم منافعها بل جمال وإحكام صنعتها، والقسم أسلوب له وقع
جليل على العقول وأثر عجيب في القلوب، ناهيك به إن كان من الرَّبّ
سبحانه وتعالى، وهو دعوة للمكلف للتأمل في هذه المخلوقات ليمتلئ قلبه
إيمانا وتزداد نفسه يقينا، ويستشعر عظيم المنة فيذعن بالشكر لمن سخرها
وقدَّرها سبحانه وتعالى.


وقد فصل القرآن الكريم منافع الأرض في الكثير من الآيات فذكر
غلافها الجويّ وتكوين السحاب والأمطار وذكّر بمنافع البحار والأنهار
والجبال، ومنافع النجوم والأجرام السماوية، (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ
أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ
هُمْ يَهْتَدُونَ) وجعل الإنسان هو غاية الكون بآياته السماوية والأرضية،
فهو المستخلف فيه، والقائم فيه بمقتضى الأمانة، ولذلك ورد في القرآن
التعبير ب”لكم” ;، { وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 13)، قال الله تعالى: {
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } (البقرة: 29), واللام كما
قال المفسرون لام التخصيص أو لام التّمليك، وقيل لام السببية أي من
أجلكم، فكلُّ الكون بجميع ما حواه من أسباب الحياة، ومظاهر النعم
التي لا تحصر، وأوجه المنافع التي لا تحصى، إنما خلق من أجل الإنسان
لينتفع به ويعمر الأرض على أكمل وجه، وذلك من تجليات التكريم
الذي خصّه الله به: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
بل فتح القرآن أمام الإنسان آفاقا رحبة من التقدم العلمي، قال تعالى:
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ).


قد لا أذهب إلى ما ذهب إليه موريس بوكاي من أنها بشارة بغزو
الفضاء، لكن الآية تشير الى إمكان النفوذ إلى أطراف السموات، وهذا
قد يكون وجهاً في غَيْبَةِ تفسير نبوي أو تفسير لصحابي. فإن الآية لم
تقل لن تفعلوا بل قالت إنّ هذا النفوذ لن يكون الا بسلطان.

صاحب المعالي
أيها العلماء والسادة الفضلاء،
لقد دعا القرآن الكريم الإنسان إلى إعمال حواسّه وعقله لينظر في
البرهان القائم في نفسه على نفسه من نفسه {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُون}. وفي الكون من حوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}.
هذه الدّعوة الرّبانية تجعل المسلم ينظر إلى العالم من حوله، بوصفه آيات
وعلامات، دالة بدلالة الالتزام العقلي على مُوجده، انطلاقا من قانون
السببية، المركّب في فطرة الإنسان. كلّ شيء من حولنا هو دلالات
ونقوش للقدرة الإلهية على صفحة الخلق، ليدركها أولو الألباب بالعبرة
والفكرة.


فالعاقلُ يُدرك بمبدأ السّببيةِ ضرورة وجود سببٍ لإيجاد الخَلق، وبمبدأ
الغَايةِ غايات الخَلق من خلال إدراك وظيفة المخلوقات كحكمة نزول
المطر على الأرض وحكمة النبات ليكون غذاء للإنسان والحيوان: (الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ). فبالسببيّة يكون التَطلّعُ إلى الخَالق وبالغاية
يكون الاطّلاعَ على حِكمَته ونِعمته.
هذه الصنعة الإلهية المحكمة، تنبيه للإنسان، ثم يأتي الوحي على أيدي
الرُّسل رحمة للخلق وإقامة للحجة (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)، أوحى إليهم حقائق عظيمة، تقع وراء
دائرة مدركات الإنسان الحسية وفوق طور تصوّراته العقلية:
كصفة الرب وماله وجب وصلة الخلق ببارئ السبب
ونشأة الكون وأصل البشر وكمصيره غداة المحشر
فلا تناقض ولا تنافي بين علوم الوحي وعلوم الكون، بل تكامل
وانسجام فإنهما وإن تناول كلاهما الكون، فإنهما يتناولانه من منظورين
متكاملين، فالوحي يقدم للعقل العلل الأولى، علل الخلق وحكمة
الوجود، التي لا يزال في حيرة منها كنشأة الكون وأصل البشر،
ومصيرهم، بينما لا تعتني العلوم الطبيعية إلا بالعلل الثانوية كما يقول


العالم الفرنسي كلود برنارد، فمطالبة العلم بتقديم العلل الأولى التي تقع
خارج مجاله شطط وعدول به عن منهجه:
إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالكِ

لقد سلم العلم الحديث للدين أهم ما يطلب منه وهو الإقرار بحدوث
العالم، فقد أصبح اليوم حقيقةً علمية ثابتة أن الكون ليس أزليا بل هو
محدث له عمر كما أثبته مجموعة من العلماء كآرفيد بورد (Arvid
Borde) والكسندر فيلنكن  (Alexander Vilenkin)سنة
2003م, فالكون محدث كما يثبت العلم الحديث وهو أيضاً سائر إلى
الفناء، بخُطى متسارعة.
فالعلم إذن صديق الدين وصنوه.

أيها السادة الكرام،
ولكن لا بد هنا أن نلفت الانتباه إلى أن القرآن الكريم كتاب هداية
وإرشاد، أنزله الله بعلمه، ; ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ )
يحتوي علم الله الذي هو الحقّ المبين، في مجالات كثيرة، لقصد هداية
الإنسان بقيم الخير، وليس أطروحة علمية، فلا ينبغي أن نحصر حقائقه


وإشاراته البديعة ورحابة معانيه المتجددة في ضيق فرضيات البشر
ونظرياتهم المعرضة للتغيّر، لأن مبناها على الاستقراء.
على أنه لا مانع من الاستئناس بما يتقرّر في علوم الكون من معطيات
جديدة، ومقبولة لدى الساحة العلمية، لإلقاء أضواء كاشفة على أوجه
من الدلالة في القرآن الكريم تحتملها اللغة، لا سيما في ظل غياب تفسير
مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة، أو كان التفسير
المأثور يحتمله. ففي القرآن من الحكم والاشارات ما يفهما العامي على
ظاهرها، والعالم الضليع في العلم الطبيعي بفهم خاص، كما يفهمها
صاحب السلوك بفهم آخر وتأويل معين، وتبقى الآيات كما هي هداية
ورحمة وموعظة وبشرى للمؤمنين.

أيها الأخوة الأفاضل
تلك شذرات واضاءات على دروب هذا الموضوع الجميل الجليل، متمنيا
لمؤتمرنا النجاح والتوفيق سائلين المولى سبحانه أن يكون من مجالس
مدارسة القرآن الكريم، التي صحّ في الحديث أن السكينة تتنزل على
أهلها، وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده.


كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلدنا هذا وقيادته الرشيدة وسائر بلاد
المسلمين والعالم، إنه الوهاب الكريم الرحمن الرحيم.

 

كلمة العلامة عبدالله بن بيه في مؤتمر مكة المكرمة “بناء الجسور بين المذاهب الاسلامية”

كلمة معالي العلامة عبدالله بن بيّه في مؤتمر بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية-17-03-2024PDF

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم

بمناسبة المؤتمر الدولي “بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية”

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمدلله رب العالمين نحمده على رحمته لنا بالإسلام ونعمته علينا بالإيمانوتفضله علينا بالانتماء إلى دين سيد الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الأبرار وصحابته الكرام.

 

صاحب السماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، مفتي عام المملكة العربية السعودية

صاحب المعالي والفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين     

أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يطيب لي في البداية أن أتوجّه إلى أخي صاحب المعالي والفضيلة أمين عام رابطة العالم الإسلامي بالشكر والتقدير على الدعوة الكريمة للمشاركة معكم في هذا اللقاء الهامّ الذي يتميَّزَ بشرف الزمان، وقدسية المكان، وراهنية العنوان، فهو ينعقد في رحاب بيت الله الحرام قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، وفي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، تحت رعاية كريمة منخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله فله الشكر والتقدير ولسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز الشكر والتقدير كذلك. وهو أمر ليس بغريب ولا جديدعلى هذا البلد الذي خصّه الله برعاية الحرمين الشريفين والعناية بحجاجهومعتمريه من كل المذاهب الإسلامية والأعراق الإنسانية دون تفريق ولاتضييق.

 

واسمحوا لي بين يدي هذه الجلسة الافتتاحية أن أسهم بكلمات مختصرةحول موضوع مؤتمرنا هذا.

 

الحضور الكريم،

إن أهمية الوحدة ومكانتها بالنسبة للمجتمعات الإنسانية عامة والمجتمعات الإسلامية خاصة، أمر أجمع عليه العقلاء والعلماء. والوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل بسماحته جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.

إن الآيات في تأصيل الألفة والحث على الوحدة كثيرة ومن ذلك قوله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ”، وقوله سبحانه: “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ”. أي قوتكم وجماعتكم ونصركم. وقوله عز وجل: ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ”، وقوله سبحانه: “أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ”.
فهذه أوامر بالاعتصام بحبل الله تعالى وإقامة دينه مقرونة بنواهٍ عن التفرق والنزاع مع التنبيه إلى النتائج الحتمية المتمثلة في الفشل الذي يعنى العجز عن الوصول إلى غاية هداية الخلق، وعمارة الأرض بالحق.

 

والأمر بالوحدة هو في حد ذاته نهي عن التفرق، كما أن النهي عن الفرقة هو أمر بالوحدة، كما قرره الأصوليون: 

والأمر بالشيء عن الضد زجر == والنهي عن شيء بضده أمر

 

إنّ هذه الوحدة لها أسسها الجامعة، ولها جسورها الممتدة من هذه الأسس والمؤدية إليها:

 

فالأساس الأول لهذه الوحدة هو شهادة التوحيد، شهادة أن لا إلهَ إلاَّ الله وأن مُحَمَّداً رَسُولُ الله.

فشهادة التوحيد هي المحطة الجامعة وهي أعلى درجات الوحدة التيتجمع كافة الطوائف والمذاهب الإسلامية على إله واحد، ورسول خاتم، وبهذه الشهادة تنبت شجرة الايمان، وعليها تبنى دعائم الإسلام، وبها ترجى النجاة في الآخرة، كما ورد في الحديث الصحيح ” أسْعَدُ النَّاسِ بشَفَاعَتي يَومَ القِيَامَةِ، مَن قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِن قَلْبِهِ، أوْ نَفْسِه”، وجاء في الحديث “يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَن قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وفي قَلْبِهِ وزْنُ شَعِيرَةٍ مِن خَيْرٍ، ويَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَن قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وفي قَلْبِهِ وزْنُ بُرَّةٍ مِن خَيْرٍ، ويَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَن قالَ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وفي قَلْبِهِ وزْنُ ذَرَّةٍ مِن خَيْرٍ”.

 

والأساس الثاني هو إقامة شعائر الإسلام الظاهرة التي يجتمع عليها المسلمون، كما جاء في الحديث الصحيح: ” مَن صَلَّى صَلَاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذلكَ المُسْلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسولِهِ، فلا تُخْفِرُوا اللَّهَ في ذِمَّتِهِ”. ففي هذا الحديث تنبيه على أن “أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها، فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك”، كما ذكره الإمام بدر الدين العينيفي تعليقه على هذا الحديث في عمدة القاري شرح البخاري.

إن هذا الحديث يعتبر أصلاً جامعاً وبرهاناً قاطعاً على استصحاب ظاهر أحوال الناس دون البحث في ضمائرهم ولا التفتيش عن سرائرهم.

فهذه هي الأسس الجامعة التي تنمو على ضفافها أزهار المحبة، وتنبثق من خلالها روح الأخوة الإسلامية: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ”.

لكن كيف نصل هذه الأسس بجسور تجمع شمل الأمة وتلم شعثها؟

يمكن تصور عدد من الجسور الموصلة أو المعينة على الوصول إلى هذه الوحدة المنشودة والتعايش المرغوب.

 

 

 

الجسر الأول، أدب الخلاف وحسن التعامل مع المخالف، 

روي أن الامام أحمد كان يقول: (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً).

 

إن الاختلاف من طبيعة الناس وفطرتهم، فلا زال البشر يختلفون في الإدراكات ويتباينون في التقديرات والأذواق وهكذا تختلف رؤاهم وتصوراتهم ومشاربهم ومصالحهم. 

 

أسباب الاختلاف:

ومعرفة أسباب الاختلاف يمكن أن تخفف من غلواء الخلاف، وتسهلالائتلاف، فإذا عرف السبب بطل العجب وارتفع الحرج. 

وقد اجتهد العلماء في حصر هذه الأسباب، فذكر الشاطبي عن ابن السيد أن أسباب الخلاف ثمانية وأكثرها يرجع إلى الألفاظ، ومنها ما يرجع إلى الثبوت كمسألة علل الرواية، ومسألة الاجتهاد والأقيسة. واعتبرها ابن رشد الحفيد ستة، وذكر ابن رجب أربعة أسباب والحقيقة أن الموضوع تعرض له الكثير من العلماء فأفاضوا فيه وأفادوا إلا أن بعضهم فصّل وبعضهم أجمل، ولعل الاختلاف يرجع باختصار إلى أربعة عناوين:

أولا-اختلاف في دلالات الألفاظ وضوحاً وغموضا واعتبارا ورداً.

ثانيا-اختلاف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة قبولاً ورفضاً.

ثالثا-اختلاف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.

رابعا-اختلاف في ترتيب الأدلة عند التعارض في سلم الاحتجاج قوة وضعفا.

 

وإن اتساع الصدر للاختلاف السائغ بين أهل الحق، وحسن أدب الخلاف مع الجميع، لا ينافي التشبّث بما يؤمن به المرءُ ويعتقده، فليس تنازلا عن حقيقة أو تجافيا عن حقّ، بل هو من مقتضى الإيمان، فلا تناقض بين الإثنين ولا تجافي بين القبيلين. فالجدال بِالَّتِي هي أحسن مع المخالف في الدين أصل ثابت، فكيف مع الموافق في الدين، وهو جدال وحوار مع من لم يظلم بنص القرآن ومع من ظلم باعتبار كون لفظ “الا” الوارد في الآية بمعنى “الواو” أي “والَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ” كما يقول الشريف التلمساني في مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول، وهو أصل في اللغة العربية:

وإن تكن إلا بمعنى الواو::فاعطف بها في قول كل راو-، 

كما في شعر المخبل القريعي:

وَأَرى لَها داراً بِأَغدَرَةِ ال​​سيدانِ لَم يَدرَس لَها رَسمُ

إِلّا رَماداً هامِداً دَفَعَت​​عَنهُ الرِياحَ خَوالِدٌ سُحمُ

 

وهو ما تدل عليه السيرة النبوية في صلح الحديبية.

 

نماذج من الاختلاف الحميد:

ومن أمثلة الاختلاف الحميد ما ورد في ترجمة التابعي الجليل زر بن حبيش ” قال عاصم بن أبي النجود: كان أبو وائل عثمانيا، وكان زر بن حبيش علويا، وما رأيت واحدا منهما قط تكلم في صاحبه حتى ماتا، وكان زر أكبر من أبي وائل، فكانا إذا جلسا جميعا، لم يحدث أبو وائل مع زر – يعني: يتأدب معه لسنه”. وأحسب أن العثماني والعلوي في ذلك العصر لا تعني الانتقاص من أي من الخليفتين الراشدين، بل مجرد المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما. 

 

وقد قال الامام مالك للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور حين أراد حمل الناس على الموطأ -وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه – لا تفعل يا أمير المؤمنين معتبراً أنَّ لكل قُطر علماءه وآراءه الفقهيةِ، وذلك حرصا من مالك على بقاء الامة على ما كانت عليه من تنوع في الآراءوالاجتهادات. 

 

وقال يونس الصدفي: (ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة).

 

ثانيا: مبدأ سد الذرائع وهو جسر من هذه الجسور، والأصل في سدالذرائع قوله تعالى: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ”. فالأمر قد يكون مطلوباً فإذا أدى إلى مفسدة سقط الطلب وحلمحله النهي. ذلك هو الأصل الأكبر لسد الذرائع الذي توسع فيه بعضالعلماء وبخاصة في المجالات الفقهية والفروعية وعلى الأخص الإمام مالكبن أنس والإمام أحمد بن حنبل، أما الشافعي وإن اشتهر عنه أنه لا يأخذبسد الذرائع فهو في الحقيقة يأخذ به فيما كان منصوصاً عليه أو كانإفضاؤه إلى المفسدة قطعياً. والنظر إلى المآلات فرع من فروع سد الذرائع. 

ومحل إعمال سدّ الذرائع في بناء جسور الوحدة، هو إغلاق الباب أمام المفاسد العظيمة الواقعة من كلام بعض المسلمين فيبعضهم وبخاصة مع كثرة وسائل نشر المعلومات والتواصل وإذاعة مايؤدي إلى التنافر والتباغض، فالأولى في هذه الحال أن يكون مبدأ الألفةبين المسلمين مقدما، وسد ذريعة التنافر والتباغض مطبقا وفق النهيالنبوي الصريح الوارد في الحديث الصحيح “لاَ تقاطعوا ولاَ تدابروا ولاَ تباغضوا ولاَ تحاسدوا وَكونوا عبادَ اللَّهِ إخوانًا”. 

 

الجسر الثالث هو القول اللين والشفقة على أهل الملة، وهذا الجسر يحمل المسلم على حسن الظن بالآخرين والتلطف في النصح ومحبة الخير للغير، قال تعالى مخاطبا نبيه عليه السلام: ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”. 

وقد ورد في الحديث الضعيف أن فتن آخر الزمان يكون “اللِّسَانُ فِيهَا أَشَدُّ مِنْ وَقْعِ السَّيْفِ”، وفي ذلك تحذير من أثر الكلام وخطره وخاصة في زمن الفتن.

فالتلطف في القول وحسن الظن ولين الجانب والبحث للغير عن أقرب الأعذار أدعى لقبول النصح وأدوم للألفة.

 

 

الجسر الرابع: تفعيل الحوار

إن الحوار مؤصل من الشرع وهو مصلحة إنسانية؛ ولذا أمر به الباري عز وجل فقال “وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” وبالحوار يتحقَّق التعارفوالتعريف، التعرف على الغير والتعريف بالنفس. وقد أَصّل الإسلام للحوار، وجعله مبدأ أساسياً للتواصل مع الآخر، القريب أو الغريب، المشابه أو المغاير.

وعُبِّر عن الحوار في القرآن والسنة بعبارات متعددة تشير كلها إلى غاية واحدة، هي الفهم والتفهم، واستخدام الكلام بدلاً عن الحسام، والسلام بدلاً عن الخصام.

 

الجسر الخامس: تعزيز قيمة التسامح

وقد وُصفت الشريعة بأنها حنيفية سمحة، كما قال عليه الصلاة والسلام:”بعثت بالحنيفية السمحة“، أي السهلة الميسّرة، حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، بعيدة عن التشدُّد، مرفوع فيها الحرج. ويعبّر عن التسامح في القرآن الكريم بأربعة مصطلحات: العفو والصفح والغفران والإحسان. 

 

ختاما، ومن خلال هذه الأدوات المتنوعة والجسور المتعددة يمكن أن نعبر إلى واحة التعايش الغناء وربوع الاخوة الفيحاء في ظلال الاسلام الوارفة ورحمته الشاملة.

 

وهذه الوحدة التي نتحدث عنها ليست وحدة طاردة بل تتعايش مع عموم البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم على قاعدة المشتركات الإنسانية أو قاعدة المصالح التي بنى عليها العز بن عبدالسلام كتابه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”، وقال الشاطبي : “أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً” والسعي في الخير والبر ونشر السلام وإعلاء كرامة الانسان: “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ”، والتعارف بين الناس ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ”، وطبقاً لقانون المصالح والمفاسد الذي تشهد له عمومات الشريعة والسيرة النبوية الشريفة دون أن يعني ذلك تنازلاً عن العقيدة بل تنزيلاً للأحكام طبقا لسياقات الزمان والمكان.

ولعلنا نستذكر في الختام أبيات الإمام أبي محمد القاسم بن فِيرّهالشاطبي الذي تمثل روح هذا المؤتمر الجليل والتي يمكن أن نسميها بعنوان “دعوة للتسامح”: 

 

أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ … يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلَا
وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ … بِالاِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلَا
وَسَلِّمْ لإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ … وَالاُخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْباً فَأَمْحَلَا
وَإِنْ كانَ خَرْقُ فَادَّرِكْهُ بِفَضْلَةٍ … مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلاَ
وَقُلْ صَادِقًا لَوْلاَ الْوِئَامُ وَرُوحُهُ … لَطاَحَ الأَنَامُ الْكُلُّ فِي الْخُلْفِ وَالْقِلَا
وَعِشْ سَالِماً صَدْراً وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ … تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلاَ

 

وهذا مؤتمر الوئام والسلام، 

 

يسرني مرة أخرى أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي بقيادة معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى في التقريب بين المسلمين ومد جسور الوحدة والتعايش فيما بينهم، كما أتمنى لمؤتمرنا الذي يجمع بين شرف المكان والمكانة النجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.