حِكَم الحج وأحكامه وفضائله وأعماله-العلامة عبدالله بن بيه
كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم
بمناسبة “ملتقى حجاج الإمارات”
27-28 ذو القعدة 1445هـ
4-5 يونيو 2024م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين،
سعادة الدكتور عمر حبتور الدرعي رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف والزكاة
أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة كل باسمه وجميل وسمه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يطيب لي بادئ ذي بدء أن أتوجّه إلى القائمين على تنظيم هذا الملتقى وفي مقدمتهم سعادة الدكتور عمر بجزيل الشكر على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذا اللقاء الهامّ.
نلتقي اليوم في ملتقى حجاج الإمارات، وهي مناسبة للتهنئة والتذكير. وهكذا فستكون هذه الكلمة مختصرة ومقتصرة على نقاط محدودة وجمل موجزة معدودة، متكلمين فيها عن حِكَم الحج وأحكامه وفضائله وأعماله. كما سيكون خطابا متجها بخصوصه إلى حجاج هذا العام، وإن كانت عمومتاه لكل عام.
أيها الأخوة الحجاج والأخوات الحاجات نهنئكم بتيسر أسباب الحج هذا العام، فالحج شعيرة عظيمة وركن جامع من أركان الإسلام، ومحطة للذنوب والآثام، ومنجاة من سخط الرحمن، ووسيلة لرضا الملك المنان، وطريق إلى الجنان، ﴿وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةَ﴾[1] كما في جاء الحديث. ولهذا فمن تيسر له الحج فقد تيسر له خير كثير وفضل جزيل يَحمد الله عليه ويسأل القبول لديه.
إن الحج عبادة من أشرف العبادات فهو خامس أركان الإسلام كما جاء في الحديث الصحيح ﴿ بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصَومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا﴾[2].
وهو واجب بالكتاب والسنة، قال تعالى ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾[3]، وقال عليه الصلاة والسلام ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا﴾[4].
فهو عبادة من أجلّ العبادات، وهي من ملة أبينا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، وخليل الرحمن. قال تعالى موجّهاً الخطاب لإبراهيم عليه السلام ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[5].
وورثته الأمة المحمدية فكان الركن الخامس، وقد شرع في العام الخامس[6] من الهجرة كما يقول ابن سعد في طبقاته؛ إذ إن وفادة ضمام بن ثعلبة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كانت سنة خمس؛ إذ علمه فرائض الدين ومنها ﴿حَجَّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾[7]، فهو شعيرة من شعائر الدين وفريضة من فرائضه.
وقد وعد الله سبحانه وتعالى بالأجر الجزيل من يأتي به على أكمل وجه قائماً بواجباته ومتصفاً بآدابه وسلوكياته، ومن أهم المثوبات التي يرجع بها الحاج مغفرة الذنوب، والتجاوز عن الخطايا، كما في قوله عليه الصلاة والسلام ﴿من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه﴾[8].
وإن موسم الحج مناسبة عظيمة للأمة الإسلامية وفريدة في نفس الوقت وإن أول ما يلفت انتباه المرء عندما يفكر في هذه المناسبة هو مظهر العالمية الذي يتجلى بأنصع صوره؛ إذ تتجمع أعداد هائلة تقدر بالملايين من كل الجنسيات، تتكلم بكل اللغات، وتمثل كل الأعراق والألوان، لا يجمعها إلا رباط الإيمان وهدي الإسلام.
ثانيا: مظهر الالفة والوحدة التي تتجاوز العصبيات القومية والخلافات المذهبية والاختلافات الثقافية.
إنها وحدة تتمظهر في وحدة الشعور والشعار والمشاعر والشعائر. إنها ألفاظ أربعة مشتقة من جذر واحد هو جذر “شعر”.
فما هو مرادنا بهذه الألفاظ “المصطلحات”؟ وما علاقتها بالحج؟
1- الشعور: إن شعور الحجيج هو شعور واحد، هو الافتقار إلى الخالق الباري العظيم والخضوع له .
2- أما شعارهم فهو الملابس البيضاء والتلبية.
3- أما الشعائر فهي أعمال الحج التي يقوم بها الجميع بهيئة واحدة، من إحرام ووقوف بعرفات، ونزول بمنى، ورمي للجمرات، وطواف إلى آخره .
4- أما المشاعر فهي الأماكن التي يغشاها الحجيج لتأدية الشعائر، فعرفة مشعر، والمزدلفة “المشعر الحرام” ومنى ومكة كلها مشاعر؛ لأنها مكان أداء الشعائر.
ثالثا: المساواة التي تذوب فيها الامتيازات؛ فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين رئيس ومرؤوس، فالكل يلبس نفس الزي، ويقيم في نفس الخيم المصممة على طراز واحد، ويجمع نفس الحصيات من مزدلفة ليرموا بها الجمار بمنى.
إن هذه المعاني تعمق لدى المسلم الشعور بالتضامن والتعاون مع إخوانه، ولكنها تنطبع في ذهنه أيضا صورة للوحدة الإنسانية على حقيقتها، فيعود بشخصية إيمانية ملؤها التواضع وحب الخير للآخرين.
وهكذا فإن الحج رحلة عمر ومسيرة حياة، كما يذكر اجتماع الحجيج بجمع الخلائق في الاخرة ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾[9]. إنها أيام قليلة للتزود بالخير والأجر الوفير، أيام للتعارف والتآلف، أيام لبناء القيم في النفوس وتطبيق الاخلاق مع الناس.
وفي إطار خدمة حجاج بيت الله، فإن دولتنا المباركة بقيادة صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله لم تزل تبذل الجهد لتيسير وتسهيل هذه الشعيرة على أبناء هذا الوطن والمقيمين فيه من خلال الجهود الطيبة التي توجه بها الجهات ذات الصلة ومن بينها الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والاوقاف والزكاة، ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي. وفي هذا الصدد، قام مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي بإعداد فتاوى حول مسائل الحج الأكثر شيوعا مبينا فيها الرأي الشرعي والقول المختار متحرياً فيها التيسير ما أمكن دون اللجوء إلى قول شاذ ولا ضعيف متروك، فالحج مظنة المشقة وهو عبادة قرنت بالاستطاعة نصاً مع أن كل العبادات يشترط لوجوبها الاستطاعة قال تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾[10] وجاء في الحديث ﴿وحج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾[11].
وهو كذلك مبني على التخفيف والتيسير، فإن التصريح برفع الحرج من الشارع فيمن خالف أفعاله في الحج بقوله: ﴿افعل ولا حرج﴾ دليل بملاحظة مقصد التيسير في الحج بالإضافة إلى كونه مقصداً عاماً في كل مناحي التشريع الإسلامي، وتجدر الإشارة إلى أن قوله تعالى ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل﴾[12] ورد في سورة الحج والحج من أهم موروث ملة أبينا إبراهيم كما أسلفنا.
وأخيراً، فالحج فرض مرة واحدة في العمر كما أشرنا إلا أن يطوع المرء ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾[13] ولذلك فإن المسلم وهو يؤدي هذه العبادة يجب أن يكون حريصاً على سلامتها من الشوائب والمنغصات بله المفسدات والمبطلات.
والمفسدات على نوعين: مفسدات تفسد الحج وتبطله؛ لأنها منافية للصحة. ومفسدات لا تنافي الصحة لكنها تنافي القبول لأن الصحة لا تستلزم دائماً القبول. وتفصيل ذلك فيما سيعرِفكم به هذا الملتقى حول أحكام الحج ومقاصده ومعالمه ومراصده.
وعلى الحاج ليضمن السلامة من المفسدات أن يتحرى حكم الشرع فيما يقول وما يفعل أثناء الحج، قال تعالى ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.[14]
وأن يلمح جوانب المفسدات العامة في كل الأحوال والأمكنة والأزمنة كما في الحديث الشريف ﴿المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النّاسُ عَلى أمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ الخَطَايَا وَالذَنُوبَ وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ اللهِ تَعَالى﴾.
وعليه بالسكينة والبعد عن الصخب، ففي حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشير على الناس بيده السكينة السكينة، وأن يعظم الشعائر والحرمات ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾[15]، وأصل التقوى اجتناب وامتثال في الظاهر والباطن.
رزقنا الله وإياكم التقوى وتقبل حجنا وحجكم وشكر سعينا وسعيكم.
نود ختاما أن نشيد بتنظيم هذا الملتقى ودوره في خدمة ضيوف الرحمن متمنين لأعماله التوفيق والنجاح.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الحجيج حجهم، ويديم على هذه البلاد العافية، ويزيدها من سوابغ نعمه، ويوفق قيادتنا الرشيدة لكل خير، ويجزيهم أفضل الجزاء، إنه الوهاب الكريم الرحمن الرحيم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349).
[2] رواه البخاري (8)، ومسلم (16).
[3] سورة آل عمران، آية 97.
[4] رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
[5] سورة الحج، اية 27.
[6] على خلاف في سنة فرض الحج فقد قيل في سنة خمس كما ذكرنا، وقيل في سنة ست، وذكر في سنة تسع أو في سنة عشر.
[7] أخرجه مسلم من حديث أنس مالك.
[8] أخرجه البخاري (1521)، ومسلم (1350).
[9] سورة التغابن، اية 9.
[10] سورة آل عمران، آية 97.
[11] رواه البخاري (8)، ومسلم (16).
[12] سورة الحج، اية 78.
[13] سورة البقرة، آية 184.
[14] سورة البقرة، آية 197.
[15] سورة الحج، اية 32.