العلامة عبدالله بن بيه :حلف الفضول الجديد يريد أن يبرهن عمليا على أن الدين يمكن ويجب أن يكون قوة بناء ونماء، يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرّق.
قال العلامة المجدد الشيخ عبدالله بن بيه في كلمته التأطيرية بالملتقي الخامس لمنتدي تعزيز السلم “حلف الفضول فرصة للسلم العالمي” إنه في ملتقانا الأول بأبوظبي سنة 2014، غرسنا شجرة السلام، وتعهدناها بالرعاية والسقي في الملتقيات اللاحقة، ليقوى جذعها ويمتد فرعها وتثمر أقناؤها وأغصانها ؛ ففي كل نشاط أو فعالية يشارك فيها المنتدى في الداخل والخارج؛ كان همنا أن تصمد هذه الشجرة في وجه العواصف العاتية التي تهبُّ على البشرية ، وتزعزع أركان بناء السلام، فما يمر يوم إلا ونسمع من الأنباء ما تدمى له القلوب، ومن الأخبار ما تهتز له النفوس ألما وحسرة، فقد صار العنف لغة كل مفلس في مشارق الأرض ومغاربها، وخطاب الكراهية سلعة رائجة في أسواق المزايدات الإيديولوجية.
وأكد الشيخ بن بيه أنه في إطار الأوضاع الاستثنائية المتأزمة التي شهدها العالم الإسلامي إبان نشأة المنتدى؛ حتمت الطبيعةُ الاستعجالية لرهانات السياق أن تُولى الأولوية لجهود إطفاء الحريق المشتعل ولبث روح السكينة، فجاءت عملية الحفر المعرفي التي جسدتها الملتقيات السابقة، بمثابة المضادات الحيوية التي استطاع المنتدى من خلالها أن يقدم معالجة أصيلة وعلاجا ناجعا، وأن يؤثّث الساحة برؤية جديدة ورواية تجديدية.
غير أن المنتدى لم يزل منذ محطته التأسيسية يضع نصب عينيه الأفق الإنساني الأرحب، من خلال الوَعْي العميق بدرجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة التي أضحت ترجّح المقاربات التشاركية، وتفرض القطع مع المنظور الصدامي الذي يُركِّز على الخصوصيات ويلغي دوائر المشترك بين بني البشر.
لقد عبّرنا عن هذه الإرداة منذ الملتقى التأسيسي مارس 2014، حيث جاء في الكلمة التأطيرية: ” نحن نبحث عن أولي بقية من العالم، أولي عقول وتمييز لنكوّن معهم حلف فضول، يدعو إلى السلام، يدعو إلى المحبة والوئام، يدعو إلى الارتفاع عن وهدة الحروب إلى ربوة الازدهار والنماء”.
فصناعة هذه الجبهة الموحّدة بين محبّي الخير والدخول في تحالفات عابرة للثقافات ومتجاوزة لحدود الانتماءات الضيقة من صميم رسالة المنتدى وغاياته الاستراتيجية.
وأشار العلامة ابن بية إلى أن التراث الإسلامي احتفظ بذكرى حلف تاريخي انعقد قبل الإسلام من أجل التضامن والتعاون على تفعيل قيم الخير والمعروف ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، ومنع الظلم والتآسي في المعاش، وقد عرف هذا الحلف باسم حلف الفضول، وقد زكى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف وأكد استعداده للمشاركة في مثله لو دُعي إليه، وبَيّن كذلك أن اختلاف الدين لا يمنع التحالف على الخير بقوله: “وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة”، قال العلماء كالجصاص والنووي والقرطبي في تفسير هذا الحديث: إن العبرة بالغايات والقيم التي يمثلها، فأحلاف المسلمين إذا كانت للعدوان نفاها، وأحلاف الجاهلية (المشركين) إذا كانت على فضيلة تجوزها العقول وتستحسنها الشرائع كنصرة الحق والقيام به والمواساة – أَثْبَتَها ولم ينسخها، فالعبرة في الأحلاف بالغايات والأهداف لا بالشركاء والأطراف، لأنّ الإسلام يُزكّي الفضيلة أيا كان مصدرها أو مُصدّرها، ومهما يكن منشؤها أو منشئها.
موضحا أنّ رمزية حلف الفضول وخصوصيته إنما أتت من كونه لم يؤسس على ما هو معهود في ذلك العصر من المشترك الديني أو الانتماء القبلي أو العرقي، بل تأسس على القيم والفضيلة.
استلهاما لهذه الروح، روح حلف الفضول، حرصنا أن يكون من مخرجات مؤتمر واشنطن الدعوة إلى إطعام مليار جائع، من المعوزين من بني الإنسان، بلا ميز بينهم بالدين أو العرق أو الوطن، وخاصة ضمن المجتمعات التي تعاني من أثر الحروب والصراعات الدموية.
وتسائل الشيخ ابن بيه لمادا نحن اليوم في حاجة إلى حلف فضول جديد؟ فعند النطق بكلمة “الحلف” قد يتبادر منها نوع من العسكرة أو الاستعداد لاستعمال القوة، وإنّ حلفنا هو حلف فضيلة وتحالف قيم مشتركة، يسعى أصحابها إلى تمثُّل هذه القيم في علاقاتهم، وإلى الدعوة إلى نشرها وامتثالها في حياة الناس؛ وسبيلُها تقديم النموذج، والمُعَبّر عنها هو الحوار والإقناع، وغايتها حسن التعايش بين البشر في ظل سلام لا يحميه السلاح، ولكن تحميه الأخلاق وقيم التسامح والعدل والمحبّة واحترام الإنسانية، إنّ سلاما تحميه الأسلحة النووية هو بمثابة من يستأمن الذئب على الغنم ليحميها، إنها حماية تتحوّل إلى كابوس.
إن الحاجة إلى هذا الحلف تتجلى من خلال مقدمتين، أولاهما: الوعي بالمأزق، وثانيهما: القناعة بوجود قيم إنسانية مشتركة.
موضحا أن الدعوة إلى حلف فضول جديد تنبني على الوعي المشترك لدى العقلاء بالمأزق الذي غدت البشرية تعيش فيه، حيث بدأت أصوات كثيرة تتعالى بدق نواقيس الخطر، منبهة إلى عجز النموذج الحضاري المعاصر الذي انخرطت فيه الإنسانية جمعاء عن تلبية آمالها في الازدهار والاستقرار.
و الإنسانية قد بلغت مستوى من التطور التكنولوجي خوّلها لأول مرة في تاريخها القدرة على تدمير ذاتها، ونظرا لفشو الفكر المتطرّف بكل أصنافه أصبح احتمال استعماله أمرا واردا، لا سيما في ظل إمكانية انفلات أسلحة الدمار الشامل عن سلطة الدول المسؤولة ورقابتها. وطال هذا التطور التكنولوجي الأعمى مسار الحياة البشرية من خلال تقنيات الجينوم البشري وما اجترحت من معضلات أخلاقية، إذ أتاح العلم لنفوس عطشى إلى الاكتشاف التدخل في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النطفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات، وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مآلات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من {يعلم الخبء في السموات والأرض} سبحانه وتعالى.
وحتى الأرض؛ هذه الأم التي وضعها الله سبحانه للأنام قد انْتُهِكَتْ حتى قاءت أفلاذ كبدها.
كل ذلك أدى إلى شيوع حالة من القلق والترقب وعدم اليقين وفقدان الثقة، صارت تحتم على الإنسانية السعي الحثيث إلى أن يتوازى التقدم العلمي مع التقدم الأخلاقي لتأطير وتحصين هذه الاختراعات بسياج من قيم الخير والمحبة والسلام.
وأشارإلى أن الدعوة إلى تحالف القيم إلحاحا وضرورة في هذه المرحلة من التاريخ ليس فقط وجود سوء فهم تاريخي لم تستطع لغة الاتصالات ووسائل المواصلات أن تمحوه من الذاكرة، بل كذلك لما انضاف إليه من أعمال مأساوية وعبثية في نفس الوقت يقوم بها أشخاص يتلبسون بلبوس الدين دون أي توكيل من سلطة دينية أو زمنية، فتضاعف سوء الفهم، وانضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركام حوادث تحولت إلى أحداث مدوية فصدَّق كهانُ صدام الحضارة ظنهم وتحولت الكهانة إلى كارثة.
إننا أمام فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله في الأرض.
أصبح الإرهاب بنجاعة أساليبه وقوة استقطابه يضع تحديا وجوديا أمام كلّ محبي السلام، ويفرض حتمية العمل المشترك لوضع خطط متكاملة أكثر نجاعة وأسرع وتيرة لاجتثاث التطرف والإرهاب من جذوره.
بل يمكن القول إن الديانات جميعها صارت اليوم في قفص الاتهام، حيث يعتبرها البعض المسؤولة عن العنف والحروب؛ فأصبح لزاما على رجال الدين أن يتصدوا لهذه الدعوى بالتفنيد قولا وعملا، لبيان أن الإنسان الذي يفسر الدين تفسيرا خاطئا أو يستنجد به، أو يسخره لأغراضه هو المسؤول وليس الدين في حد ذاته. وذلك بالعودة إلى نصوصهم الدينية وتراثهم ليستمدوا أسسا متينة للتسامح والتعايش، ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس أتباع هذه الديانات.
إن واجب الوقت يحتم على رجال الدين التعاون لنزع اللبوس الأخلاقي الذي يستقوي به الخطاب التحريضي وسلبه الشرعية الدينية التي تلبّس بها، وإظهار الدين على حقيقته قوةً صانعةً للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين وذلك من خلال إبراز الإمكانات الكبيرة للعمل المشترك بين الأديان.
وأكد أنه في الإسلام ليس الآخر هو اللاوجود أو المعدوم كما لدى أرسطو، إذ هو المقابل الفلسفي للموجود être / autre، كما أنه ليس -كما لدى هيغل- النقيض الذي ينبغي الهيمنة عليه لتستكمل “الذات” وعيها بنفسها في صراع حتمي لإثبات الذات، ولا هو – كما لدى سارتر – الجحيم الذي يسلب الذات حريتها وكمالها الأصليَّين.
إن الآخر في رؤية الإسلام قد أجمل التعبير عنه الإمام عليٌّ رضي الله عنه بقوله: “الناس صنفان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، فالآخر هو الأخُ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.
ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامة الإنسانية بوصفها أول مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرّمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). (سورة الإسراء الآية 70) الكرامة الإنسانية سابقة في التصوّر والوجود على الكرامة الإيمانية.
وهكذا، يُشَدِّد الإسلام في التصور الكلي للآخر على وحدة النوع والمساواة في الكرامة الإنسانية، والبحث عن تنمية المشتركات ونبذ معايير التفاضل إلا بالخير والتقوى، وهو ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم (يأيها الناس إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).
يلزمنا الانطلاق من الرغبة المشتركة النابعة عن القيم المشتركة والمسؤولية المشتركة لإحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، إذ من شأن ذلك أن يعبئ طاقات رجال الدين والمثقفين والأكاديميين – من أولي بقية من كل الأديان والثقافات، للتحالف في حلف فضول لإزالة هذا الخطر الحضاري.
إن البشرية الآن في سفينة واحدة على وشك الجنوح، فلا بد لأهل القيم أن يأخذوا على أيدي الذين يريدون خرق السفينة- على حد استعارة الحديث النبوي الشريف.
وأكد ان الهدف من حلف فضول جديد هو صناعة جبهة من رجال الدين للدعوة إلى السلام ورفض استغلال الدين في النزاعات والحروب:
فالبحث عن حلف فضول جديد يحمّل رجال الدين عبئا فيما يتعلق بكل ديانة لمعالجة التطرف والغلو، وطرد النعاج الجرب -كما يقول المثل- من القطيع، وإعادة التوازن في نطاق كل ديانة لبناء الجسور بينها على أسس صلبة ودعائم قوية قابلة للاستمرار والاستقرار، بل للازدهار ولإعلان الانتصار على الشر.
ولا يتأتى ذلك إلا من خلال البحث عن آليات عملية تضمن انخراط أكبر عدد ممكن من رجال الدين من العائلة الإبراهيمية في خطوات عملية ميدانية لتعزيز السلم، وإلى تبني مقاربة تصالحية تتيح لهم نشر روح الأخوة ضمن أتباعهم ومجتمعاتهم، ودعوتهم إلى تجاوز العداوات ومشاعر الكراهية بكل أنواعها وأصنافها.
والهدف الثاني هو تزكية العقود المجتمعية وتأصيل المواطنة الإيجابية التي تلتئم فيها المجتمعات لتجنبها الحروب والفتن، وبالخصوص عقود المواطنة الإيجابية القائمة على مبادئ المساواة والحرية والاحترام المتبادل.
إن حلف الفضول الجديد يربط المواطنة وقيمها كالحرية بهدفين أساسيين هما: السلم الاجتماعي والمحافظة على النظام العام باعتبارهما مؤطرين لتنزيل هذه المفاهيم في البيئات المختلفة تنزيلا لا يعود على المواطنة بالإبطال والإخلال. فلا بد من ربط عنوان الحرية بالسلم الاجتماعي، وربط مبدأ حرية التعبير الذي أصبح مقدسا في الحضارة السائدة بمبدأ المسؤولية عن نتائج التعبير.
والهدفى الثالث احترام جميع المقدسات والدعوة إلى ميثاق بين أتباع ديانات العائلة الإبراهيمية، ميثاق احترام متبادل تجاه مقدساتهم، فلا يقبل من أحد منهم شتم مقدسات الآخرين أو أي شكل من أشكال إهانة المقدسات أو ازدراء أديان الآخرين، ويكونون في ذلك على سواء.
فإن شتم المقدس لا يمكن أن يعتبر وجها من وجوه حرية التعبير، لأن المسيء لا يرمي من خلاله إلا إلى إيذاء الآخرين والإساءة إليهم، وليس يقصد به تحقيق خير أو نفع له أو لغيره، فإن شتم الرموز المقدسة لدى أتباع دين معين هو في الحقيقة شتم وإيذاء لهؤلاء المؤمنين بتلك المقدسات وتعد على حقهم في احترام معتقداتهم، هذا فضلا عن كونه يهدّد السلم والأمن
والهدف الرابع هو التصدّي لاضطهاد الأقليات باسم الدين ورفض كل اضطهاد يوجّه إلى أقلية دينية أو عرقية أو ثقافية، ويرفض استغلال الدين في هذه الأعمال الشنيعة التي لا يقبلها عقل أو يبرّرها دين.
وفي ختام كلمته طالب الشيخ بن بيه بضرورة أن نفكّر معًا كيف نضع خارطة طريق لتحقيق بعض هذه الأهداف ولتجربة تعاوننا ميدانيا وتفعيل المشتركات. إنّ ذلك يمثل أفضل رد على المتطرفين من كل الاتجاهات الذين يستغلون الجماهير لإشعال الحروب والفتن ويبثون روح الكراهية؛ وبه نقدم خير برهان على أن الأخلاق الدينية قادرة من جديد على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية في هذه الدنيا، والتي منها الظلم والجهل والتعصب والحروب والإرهاب، والتهديد بالحروب النووية والكيمياوية والإبادة، لتحل محل ذلك روح الإخوة والعدلوحب الإنسانية والمصالحة والتسويات بالحسنى، كما أنَّ الدين بذلك يوفر مناخا للتنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية.
لقد آن لقادة الديانات أن يبرهنوا على فعالية أفضل وانخراط أكبر لهموم المجتمعات البشرية لإعادة الرشد وإبعاد شبح الحروب والفتن المهلكة، فإذا كان البعض ينظر إلى الدين كعامل تفرقة وتمزيق لنسيج الشعوب؛ فإن حلف الفضول الجديد يريد أن يبرهن عمليا على أن الدين يمكن ويجب أن يكون قوة بناء ونماء ووئام وإطفاء للحريق، يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرّق، ويعمّر ولا يدمّر.