حلف الفضول : فرصة للسلام – الكلمة التأطيرية لمنتدى تعزيز السلم 5 – معالي الشيخ عبدالله بن بيه
خطة البحث
تمهيد:
- المنتدى ومنجزاته
- سياق الملتقى الخامس
المحور الأول: في الحاجة إلى حلف فضول جديد
- الوعي بالمأزق
- القناعة بالمشترك
المحور الثاني: أهداف حلف الفضول الجديد
خاتمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين:
أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، أصحاب الغبطة والنيافة، أصحاب الفضيلة،
أيها الحضور الكريم، كل باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
يجمعنا اليوم الملتقى الخامس لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، في أبوظبي، عاصمة الإمارات العربية المتحدة، أرض المؤسس القائد المغفور له الشيخ زايد في عام زايد الخير، برعاية كريمة من أبناء زايد، زادهم الله من خيره وفضله.
يسرنا أن نجتمع من ثقافات وخلفيات وديانات وأعراق مختلفة، هنا في أبو ظبي، فضاء الإنسانية والتسامح.
هنا بدأنا قبل خمس سنوات رحلة البحث عن السلام، وسرنا في دروبه، وعلى أرضها قام صرح منتدانا، ولوّح بلواء السلم عسى أن يفيء وينحاز إليه كل مؤمن بالسلام، وكلّ محب للعافية.
أيها الحضور الكريم:
في ملتقانا الأول بأبوظبي سنة 2014، غرسنا شجرة السلام، وتعهدناها بالرعاية والسقي في الملتقيات اللاحقة، ليقوى جذعها ويمتد فرعها وتثمر أقناؤها وأغصانها ؛ ففي كل نشاط أو فعالية يشارك فيها المنتدى في الداخل والخارج؛ كان همنا أن تصمد هذه الشجرة في وجه العواصف العاتية التي تهبُّ على البشرية ، وتزعزع أركان بناء السلام، فما يمر يوم إلا ونسمع من الأنباء ما تدمى له القلوب، ومن الأخبار ما تهتز له النفوس ألما وحسرة، فقد صار العنف لغة كل مفلس في مشارق الأرض ومغاربها، وخطاب الكراهية سلعة رائجة في أسواق المزايدات الإيديولوجية.
لكن لا يأس من روح الله، فلا يزال في الناس اليوم أولو بقية من المحبين للسلام، وهم وإن تنوعت مشاربهم، واختلفت أديانهم وألسنتهم، إلا أنهم توحدت مقاصدهم، لقد وضعنا أيدينا في أيديهم، وتقاسمنا وإياهم آمال السلام وآلام الواقع.
وكما اعتدنا في كل ملتقى يجمعنا، تلح علينا الأسئلة التقليدية التي هي نتاج طبيعي للمسار الذي نسيره، والمراحل التي نقطعها، ماذا ميز سنتنا الماضية؟ وماذا سيضيفه ملتقانا الخامس؟ ولماذا اجتماعنا اليوم؟
الأسئلة لا تتغير، لكن الأجوبة منها الثابت، ومنها الذي هو رهين بالمستجدات والأحداث التي عرفها العالم، ومنها الذي تجيب عليه مبادرات المنتدى وإنجازاته.
منجزات المنتدى بين 2017 و2018
سؤالنا الأول دائما من شقين: شق فكري تنظيري، وجوابه أن موسوعة السلم التي كانت بالأمس القريب توصية من توصيات البيانات الختامية للملتقيات السابقة، صارت اليوم واقعا، فسَعْي القائمين عليها حثيث نحو إخراج الجزء الأول منها خلال السنة التي نستقبلها بعد أن استقر تصور بنائها، واتضحت معالم منهجها، وارتسمت رسوم أبوابها ومباحثها.
وقد خصص أكثر بحوث الموسوعة لتصحيح المفاهيم المفجّرة، وذلك أن جزءا كبيرا مما يعيشه العالم اليوم من فتن مردُّه إلى التباس مفاهيم دينية في أذهان شريحة واسعة من المجتمعات المسلمة، كدولة الخلافة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وطاعة أولي الأمر، وهي مفاهيم كانت في الأصل سياجا على السلم وأدوات للحفاظ على الحياة ومظهرا من مظاهر الرحمة الربانية التي جاء بها الإسلام على لسان نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما فهمت على غير حقيقتها وتشكلت في الأذهان بتصور يختلف عن أصل معناها وصورتها، انقلبت إلى ممارسات ضدّ مقصدها الأصلي وهدفها وغاياتها، فتحوّلت الرحمة إلى عذاب اكتوى به المذنب والبريء، واستوى في إشاعته العالم والجاهل.
ذلك أن هذه المفاهيم مرتبطة بخطاب الوضع الذي هو الشروط والأسباب والموانع، والرخص والعزائم وهو يمثل أرضية تنزيل لخطاب التكليف، والآلية الناظمة للعلاقة بين خطاب التكليف وبين الواقع الذي هو الوجود الخارجي المشخّص، المركب تركيب الكينونة البشرية في سعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، وتطور سيروراتها.
إن المفاهيم منها مفاهيم منغلقة ضبطها الشرع فلم يعد للاحتمال اللغوي مجال لصرفها عن الحقيقة الشرعية، وهذه حال غالب المفاهيم العبادية كالصلاة والصيام، بينما يغلب على مفاهيم المعاملات البشرية أنها من نوع المفاهيم المفتوحة، بمعنى أنها ليست محصورة بالشرع ولا محاصرة باللغة، فهي قابلة للاجتهاد، مرنة في التداول على أساس المرونة اللغوية والسعة الشرعية، فتجب إعادة النظر فيها طبقا للمقاصد المعتبرة والمصالح المتوخاة طبقا لشروط الزمان والمكان وظروف الإنسان.
وهذه المفاهيم المفتوحة تمكن صياغتها وترميمها ومراجعة أحكامها على ضوء النصوص الحاكمة وضمن المقاصد المعتبرة ووفق المصالح المقررة، والاختيار من اختلاف العلماء لا في التعريف فقط ولكن في الأحكام المتعلقة بموضوعها، مع سعة في التأويل وتوسّع في الملاءمة، فتمكن محاولة تنزيلها في المجال العام، طبقا لمزاج العصر ومذاق المصالح وروح الشريعة القاضية باليُسر، كل ذلك مع درجة عالية من الانضباط في الاستنباط والشعور بمسؤولية العلم وأمانة البلاغ.
بالإضافة إلى موسوعة السلم، أصدرت مجلة السلم أربعة أعداد فيها من فقه السلم وفكره ما يسدُّ بعض حاجات الفضاء الفكري، وأعمال أخرى ترى النور قريبا بإذن الله تعالى.
والشق الثاني: شق عملي ميداني، فمنتداكم منذ تأسيسه بحمد الله لم يغب عن الساحة العالمية، فعلى مدى العام كان المنتدى مشاركا فاعلا في كثير من المحافل التي التأم فيها محبو السلام، والساعون إلى كرامة الإنسان:
– ففي فبراير من هذه السنة نظم منتدى تعزيز السلم مؤتمر “إعلان واشنطن لتحالف القيم” الذي توج لقاءات قوافل السلام الأمريكية التي ضمت عددا مهما من علماء ورجال أديان العائلة الإبراهيمة، واستضافتها أبو ظبي والرباط في 2017. وسنكمل الحديث عن هذا المؤتمر لاحقا.
– كما شارك المنتدى في فعاليات مؤتمر التواصل الحضاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الإسلامي بدعوة كريمة من معالي الدكتور محمد عبد الكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
– وأسهم المنتدى في مؤتمر الحريات الدينية الذي تنظمه وزارة الخارجية الأمريكية، وفي مؤتمر السلام في الأديان الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع جامعة أكسفورد.
– وكان المنتدى شريكا للمجلس الإسلامي للأديان بسنغافورة في تنظيم المؤتمر الدولي عن القيم الدينية في عالم التعددية.
-وآخر فعالية نظمها المنتدى كانت بشراكة مع ويلتون بارك حول المواطنة الشاملة.
وفي كل هذه اللقاءات كان هدفنا الترويج للسلام والتخفيف من غلواء التعصُّب والكراهية.
أما سؤالنا الثاني، عن القيمة المضافة التي يقدمها الملتقى الخامس، فإن جوابه أن المنتدى يستثمر في كل ملتقى مخرجات الملتقيات السابقة، والدليل مجموع المبادرات التي قدمها خلال السنوات الأربع التي تلت تأسيسه، وهي مبادرات حية ومستمرة، وليست رهينة حاجات طارئة، أو ناتجة عن انفعالات غير مدروسة، ونحن نطمح من خلال الملتقى الخامس أن نفكر جميعا فيما يمكن أن نقوم به ونقدمه ونسهم به في الفترة القادمة بحول الله، وعليكم بعد الله المعول في مدنا بآرائكم السديدة وبمقترحاتكم القيمة.
سياق الملتقى الخامس:
في إطار الأوضاع الاستثنائية المتأزمة التي شهدها العالم الإسلامي إبان نشأة المنتدى؛ حتمت الطبيعةُ الاستعجالية لرهانات السياق أن تُولى الأولوية لجهود إطفاء الحريق المشتعل ولبث روح السكينة، فجاءت عملية الحفر المعرفي التي جسدتها الملتقيات السابقة، بمثابة المضادات الحيوية التي استطاع المنتدى من خلالها أن يقدم معالجة أصيلة وعلاجا ناجعا، وأن يؤثّث الساحة برؤية جديدة ورواية تجديدية.
غير أن المنتدى لم يزل منذ محطته التأسيسية يضع نصب عينيه الأفق الإنساني الأرحب، من خلال الوَعْي العميق بدرجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة التي أضحت ترجّح المقاربات التشاركية، وتفرض القطع مع المنظور الصدامي الذي يُركِّز على الخصوصيات ويلغي دوائر المشترك بين بني البشر.
لقد عبّرنا عن هذه الإرداة منذ الملتقى التأسيسي مارس 2014، حيث جاء في الكلمة التأطيرية: ” نحن نبحث عن أولي بقية من العالم، أولي عقول وتمييز لنكوّن معهم حلف فضول، يدعو إلى السلام، يدعو إلى المحبة والوئام، يدعو إلى الارتفاع عن وهدة الحروب إلى ربوة الازدهار والنماء”.
فصناعة هذه الجبهة الموحّدة بين محبّي الخير والدخول في تحالفات عابرة للثقافات ومتجاوزة لحدود الانتماءات الضيقة من صميم رسالة المنتدى وغاياته الاستراتيجية.
وفي هذا الصدد، جاء إعلان مراكش التاريخي في يناير 2016 ليضع الأسس المعرفية لهذا المسعى من خلال الكشف عن المبادئ الكلية للخطاب الإنساني في الإسلام.
وتأسيسا على هذا الإعلان؛ قامت قيادات دينية أمريكية تمثل العائلة الإبراهيمية الكبرى في الولايات المتحدة، بوضع ملامح مبادرة تتصف بالديمومة للتعاون الإيجابي بين أتباع الديانات الكبرى، من أجل التّخفيف من النبرة العدمية وإبعاد شبح الكراهية والعنصرية الذي أصبح يلقي بظلاله القاتمة على مجتمعاتهم وعلى العالم أجمع.
وهكذا استقبل المنتدى في أبو ظبي ثم في الرباط، أوَّل قافلة أمريكية للسلام، ضمَّت رجال دين من المسلمين والمسيحيين الإنجيليين واليهود الأمريكيين، يمثلون ولايات أمريكية كبرى أصبح فيها التنوع الديني واقعا والتعايش السعيد مطلبا ملحا.
ونحن نستحضر التوصية التي خلصنا إليها في الملتقى الرابع والذي جاء فيها ضرورة التحرك في اتجاهات ثلاثة: أحدها الانتقال إلى مرحلة التضامن مع أولي بقية يلتزمون بالقيم والمثل المشتركة للأخوة الإنسانية لتكوين حلف فضول ينبذ التمييز والكراهية، حلف يدعو إلى السلام والإخاء بين أبناء البشر كافة.
وتتويجا لهذا المسار واستكمالا لحلقاته، عقد منتدى تعزيز السلم في العاصمة الأمريكية واشنطن في مطلع فبراير 2018، مؤتمرا دوليا بعنوان “حلف الفضول من أجل الصالح العام”، بمشاركة المئات من القساوسة النصارى والحاخامات اليهود والأئمة المسلمين، ولفيف من العلماء الأكاديميين والباحثين المهتمين بثقافة السلام، وعدد من الرسميين الأمريكيين الحكوميين ومن أعضاء مجلس الشيوخ، وكذلك بعض ممثلي المنظمات الدولية الكبرى وجمعيات المجتمع المدني الأمريكي.
وقد مثّل هذا اللقاء التاريخي محطة بارزة في مسيرة العمل الديني المشترك من حيث شكله وأبعاده، إذ هذه هي أول مرة يلتئم فيها شمل العائلة الإبراهيمية بكل فروعها على أسس جديدة لحوارٍ دينيّ يتجاوز منطق الجدل الديني والتبشير بالحقيقة الخاصة لكلّ دين إلى منطق التعارف والتعاون انطلاقا من القيم والفضائل المشتركة.
لقد احتفظ التراث الإسلامي بذكرى حلف تاريخي انعقد قبل الإسلام من أجل التضامن والتعاون على تفعيل قيم الخير والمعروف ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، ومنع الظلم والتآسي في المعاش، وقد عرف هذا الحلف باسم حلف الفضول، وقد زكى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف وأكد استعداده للمشاركة في مثله لو دُعي إليه، وبَيّن كذلك أن اختلاف الدين لا يمنع التحالف على الخير بقوله: “وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة”، قال العلماء كالجصاص والنووي والقرطبي في تفسير هذا الحديث: إن العبرة بالغايات والقيم التي يمثلها، فأحلاف المسلمين إذا كانت للعدوان نفاها، وأحلاف الجاهلية (المشركين) إذا كانت على فضيلة تجوزها العقول وتستحسنها الشرائع كنصرة الحق والقيام به والمواساة – أَثْبَتَها ولم ينسخها، فالعبرة في الأحلاف بالغايات والأهداف لا بالشركاء والأطراف، لأنّ الإسلام يُزكّي الفضيلة أيا كان مصدرها أو مُصدّرها، ومهما يكن منشؤها أو منشئها.
ذلك أنّ رمزية حلف الفضول وخصوصيته إنما أتت من كونه لم يؤسس على ما هو معهود في ذلك العصر من المشترك الديني أو الانتماء القبلي أو العرقي، بل تأسس على القيم والفضيلة.
استلهاما لهذه الروح، روح حلف الفضول، حرصنا أن يكون من مخرجات مؤتمر واشنطن الدعوة إلى إطعام مليار جائع، من المعوزين من بني الإنسان، بلا ميز بينهم بالدين أو العرق أو الوطن، وخاصة ضمن المجتمعات التي تعاني من أثر الحروب والصراعات الدموية.
ويسرني أن أشكر معالي الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، عضو مجلس أمناء المنتدى، مستشار صاحب السمو أمير الكويت، على وفائه بوعده الذي قدمه في واشنطن ….
ومع ما حصل من التوفيق لهذه المبادرات تجدّد الأمل وتأكدت القناعة بضرورة المضي قدما في مسار ترسيخ هذه النجاحات، من خلال صناعة تحالف أخلاقي بين ديانات العائلة الإبراهيمية الثلاث بكل فصائلها ومذاهبها، وبمشاركة كل محبي الخير كذلك من أبناء العائلة الإنسانية الكبرى.
وهكذا اخترنا في اجتماعات مجلس أمناء منتدى تعزيز السلم أن يكون موضوع الملتقى الخامس هو “حلف الفضول: فرصة للسلم العالمي”.
ويأتي هذا الاختيار للدعوة إلى تفعيل إعلان واشنطن من خلال تعميق الحفر المعرفي في شروط إمكان حلف الفضول الجديد بين الأديان، ومدى راهنية التعاون الديني في سياق الواقع المعاصر المحكوم بمنطق مغاير، والمحتكم إلى المواثيق الدولية الجديدة. كما يتوخّى الملتقى الكشف عن ميادين عمل هذا الحلف والصيغ المؤسسية لتفعيله.
فلا يمكن أن نغفل الأسئلة المفاتيح التي بها يتم الإحكام المنهجي لهذه المبادرات، فهل ما تحقق من ثمراتٍ لإعلانَيْ مراكش وواشنطن بآفاقهما الإنسانية الفسيحة وأبعادهما الدولية وانبنائهما على الشراكة في القيم، يُسوّغ الدعوة إلى حلف فضول جديد؟ هل تعبّر دعوتنا هذه عن حاجة إنسانية حقيقية؟ ثم ما طبيعة هذا الحلف؟ وما الدور الذي سيناط به؟ وما هي مجالات اشتغاله وطرائق عمله؟ وما هي آلياته وصيغه العملية؟
تلك هي الأسئلة المقترحة على قرائحكم أيها العلماء والحكماء والخبراء، في ملتقانا الخامس، وأملنا كبير أن نتمكّن من الخروج بأجوبة علمية ومقترحات عملية.
المحور الأول: في الحاجة إلى حلف فضول جديد
إنّ كلمة “الحلف” قد يتبادر منها نوع من العسكرة أو الاستعداد لاستعمال القوة، وإنّ حلفنا هو حلف فضيلة وتحالف قيم مشتركة، يسعى أصحابها إلى تمثُّل هذه القيم في علاقاتهم، وإلى الدعوة إلى نشرها وامتثالها في حياة الناس؛ وسبيلُها تقديم النموذج، والمُعَبّر عنها هو الحوار والإقناع، وغايتها حسن التعايش بين البشر في ظل سلام لا يحميه السلاح، ولكن تحميه الأخلاق وقيم التسامح والعدل والمحبّة واحترام الإنسانية، إنّ سلاما تحميه الأسلحة النووية هو بمثابة من يستأمن الذئب على الغنم ليحميها، إنها حماية تتحوّل إلى كابوس.
إن الحاجة إلى هذا الحلف تتجلى من خلال مقدمتين، أولاهما: الوعي بالمأزق، وثانيهما: القناعة بوجود قيم إنسانية مشتركة.
أولا: الوعي بالمأزق
إن الدعوة إلى حلف فضول جديد تنبني على الوعي المشترك لدى العقلاء بالمأزق الذي غدت البشرية تعيش فيه، حيث بدأت أصوات كثيرة تتعالى بدق نواقيس الخطر، منبهة إلى عجز النموذج الحضاري المعاصر الذي انخرطت فيه الإنسانية جمعاء عن تلبية آمالها في الازدهار والاستقرار.
ليس من غرضنا في هذه الورقة أن نستوفي مظاهر المأزق، وإنما يكفي أن نشير إلى بعض أبرز هذه المظاهر التي يشترك الجميع اليوم في الشعور بها.
لقد دخلت الإنسانية في القرن الأخير في سياق العولمة التي تجسدت في حضور الآخر حضورا يبدو اختياريا، ولكنه في عمقه إجباري. فأنتجت العولمة واقعا جديدا معقد البنية والتركيب، تتجاذبه قوّتان، اندفاع جامح نحو إلغاء الخصوصيات الدينية والعرقية وتنميط العالم وفق النموذج الحضاري المتغلب، ومن جهة أخرى التشبُّث المستميت بالهويات الضيقة وما يصحبها من خطابات الكراهية التي تجذر التناقض في شخصية الفرد وعدم الانسجام مع النفس ومع المحيط بشراً وبيئة وقيماً وحضارة.
كما أن الإنسانية قد بلغت مستوى من التطور التكنولوجي خوّلها لأول مرة في تاريخها القدرة على تدمير ذاتها، ونظرا لفشو الفكر المتطرّف بكل أصنافه أصبح احتمال استعماله أمرا واردا، لا سيما في ظل إمكانية انفلات أسلحة الدمار الشامل عن سلطة الدول المسؤولة ورقابتها. وطال هذا التطور التكنولوجي الأعمى مسار الحياة البشرية من خلال تقنيات الجينوم البشري وما اجترحت من معضلات أخلاقية، إذ أتاح العلم لنفوس عطشى إلى الاكتشاف التدخل في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النطفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات، وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مآلات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من {يعلم الخبء في السموات والأرض} سبحانه وتعالى.
وحتى الأرض؛ هذه الأم التي وضعها الله سبحانه للأنام قد انْتُهِكَتْ حتى قاءت أفلاذ كبدها.
كل ذلك أدى إلى شيوع حالة من القلق والترقب وعدم اليقين وفقدان الثقة، صارت تحتم على الإنسانية السعي الحثيث إلى أن يتوازى التقدم العلمي مع التقدم الأخلاقي لتأطير وتحصين هذه الاختراعات بسياج من قيم الخير والمحبة والسلام.
وإن من مظاهر المأزق الذي تعيشه البشرية كذلك الانفصام الحادّ الحاصل في منظومة الإنتاج والتوزيع بين فلسفة الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إلهية أو إنسانية نبيلة، وغدا الإنسان مخلوقا جسديا، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، فلا نبل ولا كرم ولا إيثار ولا تضامن ولا نظر في المآلات إلا مآلات الربح بلا روح والثروة بلا رائحة، واستولى الشح على النفوس وهيمن الجشع على الأثرياء.
ومما يزيد الدعوة إلى تحالف القيم إلحاحا وضرورة في هذه المرحلة من التاريخ ليس فقط وجود سوء فهم تاريخي لم تستطع لغة الاتصالات ووسائل المواصلات أن تمحوه من الذاكرة، بل كذلك لما انضاف إليه من أعمال مأساوية وعبثية في نفس الوقت يقوم بها أشخاص يتلبسون بلبوس الدين دون أي توكيل من سلطة دينية أو زمنية، فتضاعف سوء الفهم، وانضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركام حوادث تحولت إلى أحداث مدوية فصدَّق كهانُ صدام الحضارة ظنهم وتحولت الكهانة إلى كارثة.
إننا أمام فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله في الأرض.
أصبح الإرهاب بنجاعة أساليبه وقوة استقطابه يضع تحديا وجوديا أمام كلّ محبي السلام، ويفرض حتمية العمل المشترك لوضع خطط متكاملة أكثر نجاعة وأسرع وتيرة لاجتثاث التطرف والإرهاب من جذوره.
بل يمكن القول إن الديانات جميعها صارت اليوم في قفص الاتهام، حيث يعتبرها البعض المسؤولة عن العنف والحروب؛ فأصبح لزاما على رجال الدين أن يتصدوا لهذه الدعوى بالتفنيد قولا وعملا، لبيان أن الإنسان الذي يفسر الدين تفسيرا خاطئا أو يستنجد به، أو يسخره لأغراضه هو المسؤول وليس الدين في حد ذاته. وذلك بالعودة إلى نصوصهم الدينية وتراثهم ليستمدوا أسسا متينة للتسامح والتعايش، ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس أتباع هذه الديانات.
إن واجب الوقت يحتم على رجال الدين التعاون لنزع اللبوس الأخلاقي الذي يستقوي به الخطاب التحريضي وسلبه الشرعية الدينية التي تلبّس بها، وإظهار الدين على حقيقته قوةً صانعةً للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين وذلك من خلال إبراز الإمكانات الكبيرة للعمل المشترك بين الأديان.
هذه بعض مظاهر الأزمة التي يتأسس على الوعي بها والشعور بإلحاحها مسؤولية جميع النخب ولا سيما النخب الدينية في المبادرة، فكل تأخُّر عن المبادرة إلى الفعل في الوقت المناسب يرهن مستقبل الإنسانية ويجعل الأجيال الآتية أسيرة سيرورات لن يكون بوسعها السيطرة عليها، كالنمو السكاني والحروب الأهلية وتدهور البيئة والتفاوت المجحف بين الشمال والجنوب وداخل المجتمعات الواحدة.
ثانيا: الإيمان بالمشتركات
تنبثق الدعوة إلى حلف فضول جديد من الإيمان العميق والقناعة الراسخة بأن لدى الإنسانية مشتركات كثيرة أدَّى تجاهلها وإذكاء الخصوصيات بدلها إلى كثير من الحروب والدمار، وإلى ابتعاد البشرية عن القيم التي أرساها الأنبياء، قيم الخير والمحبة والتراحم.
إن هذه المشتركات على مستويات مختلفة، منها المشتركات على مستوى الدين الواحد ومنها أخرى على مستوى ديانات العائلة الإبراهيمية ومشتركات عليا يجتمع فيها جميع البشر تتجسد في القيم الإنسانية التي تجمع عليها البشرية بدياناتها المختلفة وفلسفاتها الكونية المتنوعة. إن تفعيل هذه الدوائر والوصل بينها في تناغم وانسجام هو الذي من شأنه أن يرأب الصدع ويزيل سوء الفهم ويخفِّف من غلواء الاختلاف.
في الإسلام ليس الآخر هو اللاوجود أو المعدوم كما لدى أرسطو، إذ هو المقابل الفلسفي للموجود être / autre، كما أنه ليس -كما لدى هيغل- النقيض الذي ينبغي الهيمنة عليه لتستكمل “الذات” وعيها بنفسها في صراع حتمي لإثبات الذات، ولا هو – كما لدى سارتر – الجحيم الذي يسلب الذات حريتها وكمالها الأصليَّين.
إن الآخر في رؤية الإسلام قد أجمل التعبير عنه الإمام عليٌّ رضي الله عنه بقوله: “الناس صنفان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، فالآخر هو الأخُ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.
ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامة الإنسانية بوصفها أول مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرّمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). (سورة الإسراء الآية 70) الكرامة الإنسانية سابقة في التصوّر والوجود على الكرامة الإيمانية.
وهكذا، يُشَدِّد الإسلام في التصور الكلي للآخر على وحدة النوع والمساواة في الكرامة الإنسانية، والبحث عن تنمية المشتركات ونبذ معايير التفاضل إلا بالخير والتقوى، وهو ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم (يأيها الناس إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).
المشترك الإنساني هو القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغير الزمان، أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولا تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر.
يذهب أكثر الفلاسفة تحت قيادة “كانت” رئيس المذهب المطلق إلى أن الحق والخير والجمال هي قيم أزلية، لا علاقة لها بالزمان ولا بالمكان، فما كان قيمة في الماضي هو قيمة في الحاضر، وسيظل قيمة في المستقبل، وأن هذه القيمة بالنسبة للصيني وبالنسبة للأوروبي وبالنسبة للعربي هي قيمة واحدة ولو كانوا يجهلون ذلك.
ولئن كان “كانت” قد رام تأسيس الأخلاق خارج الدين، ولم يعترف بأصولها وجذورها الدينية، إلا أن هذا المذهب المطلق، يتفق مع الديانات السماوية وتقدمه أوعية اللغة ومفاهيمها، فالعدل في كل لغة وفي كل مكان كلمة جميلة، وعندما ننطق كلمة الوفاء فإنها كلمة جميلة. عندما ننطق بالظلم وبالغدر نجدها في كل اللغات والثقافات كلمات ممقوتة، بل حتى الظالم والغادر لا يريد أن يكون كذلك، ويود لو وُصف بأنه عادل وفـيٌّ صادق.
هذه القيم المشتركة تجب إعادتها في حياة الناس، وهي مبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء، والإنسانية كلها اليوم محتاجة إليها حاجة الرضيع إلى الحنو والحنان والعطف بعد أن أحال السفهاء والمجانين مجالات حركتها إلى حقول ألغام، إنها قيم السلم الثابتة التي لا تتغير، والتي يزكيها العقل وتقتضيها المصالح الإنسانية، ولا يمكن وصم هذا المستوى المشترك من القيم بالقصور أو العجز، أو ما أسماهُ بول ريكور “الأخلاق الفقيرة”، بل إنها تصلح أساسا متينا للعمل المشترك، مهما اختلفت المنطلقات اللاهوتية الدينية أو الفلسفية التي يتأسس عليها موقف كل طرف.
يلزمنا الانطلاق من الرغبة المشتركة النابعة عن القيم المشتركة والمسؤولية المشتركة لإحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، إذ من شأن ذلك أن يعبئ طاقات رجال الدين والمثقفين والأكاديميين – من أولي بقية من كل الأديان والثقافات، للتحالف في حلف فضول لإزالة هذا الخطر الحضاري.
إن البشرية الآن في سفينة واحدة على وشك الجنوح، فلا بد لأهل القيم أن يأخذوا على أيدي الذين يريدون خرق السفينة- على حد استعارة الحديث النبوي الشريف.
المحور الثاني: أهداف حلف الفضول الجديد
يقع السلم في مقدمة أهداف حلف الفضول الجديد ومقاصد الشراكة بين أطرافه، والسلم يمثّل غاية في ذاته ووسيلةً للوصول إلى الأهداف الأخرى والتي بتوفُّرها نضمن استمرار السلم وديمومته.
- صناعة جبهة من رجال الدين للدعوة إلى السلام ورفض استغلال الدين في النزاعات والحروب:
لعل أوّل خطوة في دروب السلم تتمثل في إيجاد مجموعة من رجال الدين من العائلة الإبراهيمية ومن يرغبون من الدّيانات الأخرى من العائلة الإنسانية تتبنّى أهدافا وغايات مشتركة، فذلك في حدّ ذاته هدف وإنجازٌ.
إن البحث عن حلف فضول جديد يحمّل رجال الدين عبئا فيما يتعلق بكل ديانة لمعالجة التطرف والغلو، وطرد النعاج الجرب -كما يقول المثل- من القطيع، وإعادة التوازن في نطاق كل ديانة لبناء الجسور بينها على أسس صلبة ودعائم قوية قابلة للاستمرار والاستقرار، بل للازدهار ولإعلان الانتصار على الشر.
ولا يتأتى ذلك إلا من خلال البحث عن آليات عملية تضمن انخراط أكبر عدد ممكن من رجال الدين من العائلة الإبراهيمية في خطوات عملية ميدانية لتعزيز السلم، وإلى تبني مقاربة تصالحية تتيح لهم نشر روح الأخوة ضمن أتباعهم ومجتمعاتهم، ودعوتهم إلى تجاوز العداوات ومشاعر الكراهية بكل أنواعها وأصنافها.
إن هذا الهدف المتمثل في الدعوة إلى قيم السلام أكيد وضروري في كل البيئات، ويزداد تأكدا في المجتمعات الموبوءة بداء التطرُّف والكراهية.
- تزكية العقود المجتمعية وتأصيل المواطنة الإيجابية:
من أهداف حلف الفضول الجديد تزكية العقود المجتمعية التي تلتئم فيها المجتمعات لتجنبها الحروب والفتن، وبالخصوص عقود المواطنة الإيجابية القائمة على مبادئ المساواة والحرية والاحترام المتبادل. لقد قمنا في منتدى تعزيز السلم من خلال إعلان مراكش بتأصيل المفهوم الجديد للمواطنة انطلاقا من صحيفة المدينة المنورة؛ بوصفها خيارا يرشحه الزمن والقيم للتعامل مع كلّيّ العصر وتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عناصر الإقصاء والطرد، وقد استهدفنا المصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، فلا نرى أن قوة الانتماء إلى الهوية الدينية تؤدي إلى انهيار روح المواطنة؛ بل نرى أن الانتماء الديني قد يمثل حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الديني عليها.
إن أهم مقومين من مقومات المواطنة في إعلان مراكش هما مقوم الاعتراف بالتعددية وإقرار الحرية الدينية، ومقوم المساواة في الواجبات والحقوق المتساوية، فبهذه المقاربة ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك.
إن حلف الفضول الجديد يربط المواطنة وقيمها كالحرية بهدفين أساسيين هما: السلم الاجتماعي والمحافظة على النظام العام باعتبارهما مؤطرين لتنزيل هذه المفاهيم في البيئات المختلفة تنزيلا لا يعود على المواطنة بالإبطال والإخلال. فلا بد من ربط عنوان الحرية بالسلم الاجتماعي، وربط مبدأ حرية التعبير الذي أصبح مقدسا في الحضارة السائدة بمبدأ المسؤولية عن نتائج التعبير.
- احترام جميع المقدسات
يهدف حلف الفضول الجديد إلى الدعوة إلى ميثاق بين أتباع ديانات العائلة الإبراهيمية، ميثاق احترام متبادل تجاه مقدساتهم، فلا يقبل من أحد منهم شتم مقدسات الآخرين أو أي شكل من أشكال إهانة المقدسات أو ازدراء أديان الآخرين، ويكونون في ذلك على سواء.
فإن شتم المقدس لا يمكن أن يعتبر وجها من وجوه حرية التعبير، لأن المسيء لا يرمي من خلاله إلا إلى إيذاء الآخرين والإساءة إليهم، وليس يقصد به تحقيق خير أو نفع له أو لغيره، فإن شتم الرموز المقدسة لدى أتباع دين معين هو في الحقيقة شتم وإيذاء لهؤلاء المؤمنين بتلك المقدسات وتعد على حقهم في احترام معتقداتهم، هذا فضلا عن كونه يهدّد السلم والأمن وهذا من أهمّ الاعتبارات فأولوية السّلم بين المواطنين والبشرية جمعاء ينبغي الحرص عليها، ولذلك فإننا نثمّن قرار المحكمة الأوروبية (360/2018) الصادر منتصف شهر أكتوبر الماضي والقاضي بسلامة أحكما القضاء النمساوي في قضية شتم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معللا بأن الدعاوى المسيئة لا يمكن أن تدخل في نطاق حرية التعبير حيث إنها تمس حقوق المواطنين الآخرين في احترام معتقداتهم الدينية وتهدد السلم الديني في المجتمع النمساوي. إن هذا القرار يسهم في تعزيز السلم العالمي ونشر المحبة والتسامح في العالم ويمثل مع أحكام أخرى مشابهة سوابق قضائية سيكون على محاكم الغرب أن تأخذها بعين الاعتبار في هذا النوع من القضايا، وهو ما راعاه وأرساه القانون الاماراتي.
ولا يفوتني هنا أن أشيد بالسياسة الرشيدة لدولة الإمارات في ترسيخ مبادئ المواطنة التي تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي وبوضوح الهدف، ويتجلّى ذلك بوضوح في سنّها القانون الاتحادي رقم 2 سنة 2015، والذي يتعلق بمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان، ويعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف وزعزعة السكينة والسلم الاجتماعي.
- التصدّي لاضطهاد الأقليات باسم الدين
يؤكّد حلف الفضول الجديد ويشدّد على رفض كل اضطهاد يوجّه إلى أقلية دينية أو عرقية أو ثقافية، ويرفض استغلال الدين في هذه الأعمال الشنيعة التي لا يقبلها عقل أو يبرّرها دين.
ولا يفوتني هنا أن أنوّه هنا بجهودكم أخي -سعادة السفير سام براون باك- في حماية الروهينغا والتحسيس بقضيتهم، حيث أسهمت جهودكم في إيصال صوت هذه الأقلية إلى المحافل الدولية والأمم المتحدة، وكان لها الأثر المهم في اتخاذ الأمم المتحدة القرار في حمايتها من جحيم الإبادة الجماعية.
- تزكية المعاهدات الدولية الرامية إلى إحلال السلام وتعزيزه
يهدف حلف الفضول الجديد إلى تزكية ودعم المعاهدات الدولية والإقليمية التي تتغيا إحلال السلام وتعزيزه ووقف الصراعات ودعم روح الوئام والإخاء بين البلدان والشعوب والثقافات.
وقد سنّ الإسلامُ المعاهدات فما كانت العرب تعرف إنهاء الحروب بالمعاهدات، بل كانت تتفانى وربما استمرّت الحرب بين القبيلتين عقودا من الزمن. وقد وقّع النبي صلى الله عليه وسلّم العديد من المعاهدات مع مختلف الفئات والديانات لنشر السلم في جزيرة العرب.
وقد عظّم الإسلام شأن المعاهدات وجعلها تقوم على حسن النية والشفافية قال تعالي: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتــمّوا إليهم عهدهم إلى مُدّتهم إن الله يحبّ المتّقين). وقال عز وجل: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) وفي الحديث (لا دين لمن لا عهد له)، رواه أحمد.
- إحياء القيم وإرساء الفضيلة
كما أن من أبرز أهداف حلف الفضول الجديد إحياء قيم الفضيلة وتعريفها والدعوة إليها وتحسس الخلل الحائق بالحضارة ومحاولة رأب صدعه وإصلاح ثآه بتفعيل قيم الأخلاق الكريمة، وليس فقط حقوق الإنسان التي تمثل الحد الأدنى الذي لا غنى عنه لتعايش البشرية : كالرأفة والرحمة والإيثار والتضامن ومساعدة المحتاج من الفقراء والعاجزين، دون التفات إلى عرقهم أو دينهم أو أصولهم الجغرافية، إذ من شأن ذلك أن يقدم مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز المبدأ المحايد لحقوق الإنسان المتمثل في المساواة وعدم الاكتراث بالاختلاف إلى الإيجابية في التعامل التي تشعر الآخر بدفء المحبة والأخوة.
ومن أهم قيم الفضيلة التي أصابها الضمور في سياق عولمة القيم وقيم العولمة، والتي ينبغي أن يحييها حلف الفضول الجديد لشديد حاجة البشرية إليها: قيمة الضيافة، وهي قيم أصيلة في العائلة الإبراهيمية. فإكرام نزل الضيف سنة إبراهيمية، حدثتنا عنها الكتب المقدسة، ففي القرآن الكريم: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون). وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: “من لم يضف فليس من محمد ولا من إبراهيم”. وكذلك قيمة الجوار أصيلة في قيم العائلة الإبراهيمة، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ملك الحبشة وكان نصرانيا بأنه ملك لا يظلم عنده أحد، فقد حمى اللاجئين المسلمين الفارّين من بطش مشركي مكة، وقال لهم: “اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، فما أحب أن لي دَبْرَ ذهبٍ وأني آذيت رجلا منكم”. ونجد في سفر الخروج (9:23): ( لا تضايق الغريب فإنكم عارفون نفس الغريب، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر)، وفي سفر اللاويين (33:19): ( وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك، لأنكم كنت غرباء في أرض).
إن هذه النصوص تمثل الإطار الأمثل لما ينبغي لأبناء العائلة الإبراهيمية القيام به في حقِّ كل غريب يدخل أرضا ليست أرضه، وخاصة في سياق ما يشهده العالم اليوم من حروب أدت إلى نزوح الفئام من الناس هربا من الموت والجوع، وبحثا عن حياة كريمة، إلى مناطق قد لا تكن لها المودة أو تتوجس منها خيفة، فأمام الأديان تحدّ كبير يتعلق بدورها في جبر النقص في الآليات الدولية المتعلقة بحماية اللاجئين والنازحين والمهاجرين ومواجهة الأزمات الإنسانية.
إن على أبناء العائلة الإبراهيمية أن يعودوا إلى هذه النصوص لتمثل لهم الإطار الأمثل الذي يعيد للدين طاقته الإيجابية، ليغدُوَ بلسما لجراح الإنسانية ودواء لمآسيها وسكينة تنزل على القلوب وحُبّا يَسْكُن في النُّفوس.
خاتمة
لا بُدّ أن نفكّر معًا كيف نضع خارطة طريق لتحقيق بعض هذه الأهداف ولتجربة تعاوننا ميدانيا وتفعيل المشتركات. إنّ ذلك يمثل أفضل رد على المتطرفين من كل الاتجاهات الذين يستغلون الجماهير لإشعال الحروب والفتن ويبثون روح الكراهية؛ وبه نقدم خير برهان على أن الأخلاق الدينية قادرة من جديد على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية في هذه الدنيا، والتي منها الظلم والجهل والتعصب والحروب والإرهاب، والتهديد بالحروب النووية والكيمياوية والإبادة، لتحل محل ذلك روح الإخوة والعدل وحب الإنسانية والمصالحة والتسويات بالحسنى، كما أنَّ الدين بذلك يوفر مناخا للتنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية.
إن نموذج قوافل السلام يمكن أن يؤسس لنوع جديد من الحوار التعارفي، فالقس بوب روبرت يستقبل في كنيسته في تكساس إخوته من المسلمين، والحاخام بروس لاستك يفتح أمامهم أبواب كنيسه في واشنطن، والإمام ماجد يحتفي بإخوته من الإنجيليين واليهود في مسجده بمركز آدم في فرجينيا. إنه حضور الذوات في الحيز المكاني والزماني ولو لمدة محدودة، حضور يتمثل في التشارك في العيش في الحركة معا والأكل معا والنوم معا والسفر معا، وكلهم يقوم بشعائر دينه التي هي جزء من حياته اليومية بمرأى ومسمع من الآخر، إنهم يتكلمون ويبحثون، ولكن الأهم أنهم يشاهدون ويشهدون ويكتشفون في النهاية أنهم إخوة يشتركون في أكثر مما يتصورون.
ينبغي لحلف الفضول الجديد أن يرسخ هذا النموذج ليصبح آلية للتعاون والتعايش أكثر عملية ونجاعة، وتقليدا ينبغي العمل على تعميمه والاستفادة منه. وستظل هذه التجربة نموذجا للتعارف ولعملية الحوار، بل لعملية التعارف الإيجابي والتعاون على البر في حركة أسست لما نحن بصدده من تدشين عهد جديد في العلاقات بين ديانات العائلة الإبراهيمية، وبالتالي فاتحة عهد في التعاون بين أصحاب العقول النيرة وذوي النهى لتصحيح مسيرة الإنسانية.
إن جهودا كثيرة تبذل في نطاق كل الديانات من أجل السلام، تقام الصلوات وترفع الدعوات من أجل ذلك، لكن تيار التضامن والتعاون يجب في النهاية أن يبرز وأن ينجز أعمالا ميدانية تبرهن للعالم كله أن الدين في أصله هو عامل خلاص ورحمة للعالمين.
لقد آن لقادة الديانات أن يبرهنوا على فعالية أفضل وانخراط أكبر لهموم المجتمعات البشرية لإعادة الرشد وإبعاد شبح الحروب والفتن المهلكة، فإذا كان البعض ينظر إلى الدين كعامل تفرقة وتمزيق لنسيج الشعوب؛ فإن حلف الفضول الجديد يريد أن يبرهن عمليا على أن الدين يمكن ويجب أن يكون قوة بناء ونماء ووئام وإطفاء للحريق، يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرّق، ويعمّر ولا يدمّر.
تلك هي العبرة والدعوة والرسالة التي نوجهها من خلال هذا الحلف.
عمليا: قد يكون من المناسب إيجاد إطار تنظيمي لهذا التجمّع طبقا للقوانين والنظم المعمول بها في البلد المقرر، كما سبق أن أشار به بعض القادة في اجتماع واشنطن.
وعمليا: يمكن أن يقوم رجال الدين بمبادرات لتشجيع الحلول السلمية في بعض المناطق التي تشكو من داء البغضاء وتنازع البقاء إذا وجدوا مكانا أو صدورا تتسع لتدخلهم. لا نحمل سلاحا بل نحمل سلاما وكلاما، نحن إطفائيون بالحكمة والكلمة الطيبة.
نحن نشفق على هؤلاء الأطفال الذين يتنازعون أحيانا ويتصارعون في حين يمكن أن يتصالحوا، إنهم رجال ولكنهم في الحقيقة أطفال كبار، بحاجة إلى رجال عقلاء ليحجزوا بعضهم عن بعض، ويُبَصّروهم بالطريق الأفضل. بالحوار تتبين البدائل عن الاحتراب كما يقول أفلاطون.
إن الحرب وبخاصة في هذا الزمان لا غالب فيها، بل الكل مغلوب.
وأخيرا أقول للصحافة: أوصلوا أفكارنا وأخبارنا، روجوا للخير، لا تنتظروا أن يقتتل القساوسة والحاخامات والأئمة لتتحدثوا عن عدد القتلى والجرحى، ذلك ما لا نرجوه، إننا نرجو السلام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.