رغبة في التواصل .. لكن كيف؟(1)
رغبة في التواصل .. لكن كيف؟
قبل أسابيع كنت في زيارة لبريطانيا بدعوة من بعض الجمعيات المسلمة وكان البرنامج ذا شقين: شق يشتملُ على محاضراتٍ واجتماعات مع قادة الجالية المسلمة في لندن ومدن أخرى، والشق الآخر كان لقاء مع المسؤولين البريطانيين، فتم اجتماع مع المدعي العام البريطاني ومع وزير الدولة لشؤون الشرق الأوسط والكومنولث، وعقدت ندوة مع كبار الموظفين في وزارة الخارجية، ثم عقد اجتماع في مقر الشرطة البريطانية (سكوتلند يارد) ولم أكن مجلوباً بتهمة في هذا الجهاز! وهذا ما قلته في كلمتي رداً على كلمة «سير بلير» رئيس الجهاز وليس رئيس الوزراء، إنه رجل مهذب وبطبيعة الحال أصفه طبقاً للزاوية التي تعرفت عليه منها، وأضيف للقارئ أني لم أكن حاملاً لمعلومات استخباراتية. وطلبت مني محاضرة في إحدى قاعات مجلس اللوردات حول صياغة القانون في الشريعة الإسلامية تلتها مناقشة حول بعض الفتاوى ومسألة الأمان والعهد في الإسلام. ثم زرت الكنيسة الأنجليكانية حيث استمعنا إليهم واستمعوا إلينا واتفقنا على عدة نقاط. وبعد تلك الجولة وقبل أيامٍ فقط كنت في مؤتمر بدولة الكويت نظمته وزارة العدل والأوقاف تحت عنوان «نحن والآخر» وكان المحور الذي طلب مني أن أقدم فيه ورقة هو «معالم التواصل وآلياته» وقُدمت بحوث قيمة كانت تدور في هذا الفلك، أبرزت رغبة الجميع في إيجاد صيغة للتواصل، وبمناسبة انعقاد المؤتمر التقينا ضمن مجموعة من العلماء والمفكرين مع سمو أمير البلاد ورئيس الوزراء، وقد سمعنا من الجميع الرغبة الصادقة في إيجاد آليات للتواصل الذي يعني التفاهم والانسجام بين الحضارات وإنهاء سوء الفهم وأسبابه ومسبباته.
فما هو الجامع بين تلك الجولة في بريطانيا والرحلة إلى الكويت؟
إنه الرغبة في التواصل، فكل من التقيت بهم على مختلف المستويات أدركت لديهم رغبة صادقة في إيجاد سبل للتواصل، أقولها عن الكويتيين بدون تحفظ، وبالنسبة للبريطانيين فمن المعروف أن دهاءهم مضرب الأمثال وخبرتهم التراكمية بالعالم الإسلامي لا تحتاج إلى دليل، ومع ذلك فإني أظن أن لديهم رغبة في استكشاف سبل أخرى للتواصل مع الحضارة الإسلامية فهم يتعاملون مع مواطنيهم المسلمين معاملة متحضرة جداً إذ قيست بطريقة تعامل دول أخرى.
والسؤال: لماذا يجب البحث عن التواصل؟
إن التواصل هو تفاعل بين اثنين فأكثر، فهو إقامة صلة مادية أو معنوية، وهو باللغة الأجنبية Communication ، وتستعمل في حقيقتها الأولى لإقامة علاقة مع شخص ما. وقد نبه الكاتب الفرنسي دومينك ولتون في كتابه «العولمة الأخرى» الصادر في فبراير 2004 إلى أن الإعلام مثلاً ليس هو التواصل، قائلاً: أميز جيدًا مصطلح أعلم : أخبر عن مصطلح تواصل؛ لأن عولمة الإعلام توصلت إلى إعلام الناس بالأخبار، لكنها لم تجعلهم يتواصلون ليتفاهموا بشكل أفضل».
إنَّ التواصلَ أصبح ضرورة وواجبا مقدساً، فقد بلغ السيل الزبى، فإذا كان السعي إلى التواصلِ يفترضُ وجودَ إشكالياتٍ يراد التغلب عليها، أو عقبات يرجى تجاوزها، أو سوء فهم تُحاول إزالته، فإن الجواب لا بد أن يكون إيجابياً، والتواصل ضرورة في هذه المرحلة من التاريخ، ليس فقط لوجود سوء فهم تاريخي لم تستطع لغةُ الاتصالاتِ ووسائلُ المواصلاتِ أنْ تمحوَهُ من الذاكرة، يضافُ إليه حوادثُ تُتهم فيها أطرافٌ تنتمي إلى الإسلام، على الرغم من أنها تتمُّ بدون استشارة، ولا إشارة من الغالبية العظمى من المسلمين.
وهكذا انضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركامُ حوادثٍ تحولتْ إلى أحداث مدوِّية، فصدَّقَ كهانُ صدامِ الحضارة ظنّهم، وتحولتْ الكهانةُ إلى كارثة ونشبت الحربُ في أكثر من رقعة ولم تنته القصة بعد.
فما هو أصلُ سوءِ الفهم هذا، أو سوء الظن ذلك؟
فلنقلْ أولاً: إنّ الاحتكاكَ طبيعي بين الجيران، وهذا الاحتكاكُ قد يتحولُ إلى معاركَ حولَ البحيرة «البحر الأبيض» فكان كلٌّ من الجيران يجتازُ البحرَ ـ هذا الحاجز المائي أو الواصل المائي ـ إلى الضفة الأخرى ؛ فكان ما قدَّره بعضُ الباحثين بـ 3000 معركة كبرى.
إذ أن ظهورَ الإسلامِ في القرنِ السابعِ كقوةٍ ـ حضاريةٍ وروحيةٍ وإمبراطوريةٍ ـ عازلةٍ بين أوروبا وإفريقيا وتخوم آسيا، وما تلا ذلك من أحداث امتدت فصولُها عبرَ قرونٍ بدأتْ بفتحِ الشامِ، وباقتطاعِ جنوبِ المتوسطِ عنِ الإمبراطوريةِ الرومانيةِ، والاستيلاء على الأندلس، وفتح القسطنطينية؛ جعلتْ الإسلامَ يشارُ إليه في الغرب بأنّه العدوُّ الأكبرُ والعدو اللدودُ الذي يجب القضاءُ عليه بكلّ السبلِ العسكريةِ والثقافيةِ، واستعمالِ أسلحةِ السبِّ والتشهيرِ، ووجدتْ تلكَ الألفاظ البذيئة والصفات المقيتة طريقها إلى ما يسمى بـ«الكتّاب التنويريين» من أمثال دانتي، وجان جاك روسو، وفولتير، وغيرهم ليكرسوا صورة نمطية سيئة للإسلام والمسلمين.
وهكذا نشبت الحروب الصليبية و«الاستردادية» بعد نداء البابا أوربان 1059م.
ولم يكن سقوط الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر وتراجعُ الجيش التركي عند أسوار فيينا 1683م إلا بداية للمد الاستعماري الغربي، وبقية القصة معروفة، وقد انتهت بإنشاء دولة إسرائيل في قلب العالم العربي وما تلا ذلك من أحداث لم تنته فصولها.
وهناك سبب آخر انتبه له بعضُ الكتاب الغربيين ـ مارسل بوزارـ وسماه بعقدة الأقارب، باعتبار أنَّ الأقاربَ هم أقلُّ الناسِ تفاهمًا، فالمسيحي يجد في الإسلامِ أشياءَ كثيرةً تذكّر بدينه، وأفكارًا قريبةً جداً من أفكاره.
* عضو مجمع الفقه الإسلامي ووزير العدل الموريتاني السابق