فقهاء المشرق والمغرب يستعينون بتقنية «تحقيق المناط»… لتجاوز «معضلات العصر»!

اختتمت أخيراً في الرباط ندوة حول «الاجتهاد بتحقيق المناط: فقه الواقع والتوقع»، جاءت في سياق حوليات «المركز العالمي للتجديد والترشيد» بالتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية والمركز العالمي للوسطية الكويتي. ومع أن الندوة الجديدة لا تقل أهمية عن أختها السابقة «فتوى ماردين» التي نظمها المركز في مثل هذا الشهر من العام الماضي في تركيا وأثارت جدلاً واسعاً، إلا أن موضوع الندوة الجديدة، محبوسة إثارته عن الرأي العام، بسبب صعوبة استيعابه، وخشية علماء كثرٍ من تنزيل تطبيقاته على مسائل، كان طرقها سيجعل عاليَ الأرض سافلها، في بعض المجتمعات المحافظة  .

لكن تلك الرهبة من التنزيل لم تمنع المشاركين في الندوة من مشارقة الفقهاء ومغاربتهم، من الإشارة إلى أن تقنية «تحقيق المناط» الفقهية، إذا ما جرى توظيفها بشكل محترف، بوسعها أن توجد المخارج من مسائل يكاد ترويضها فقهياً يكون ميؤوساً منه، مثل قضايا «المساواة بين الرجل والمرأة». ولأن الفقهاء أدركوا وهم يتوسَّعون في إيجابيات التقنية تلك، ما توفره من توسيع على المجتمعات، وكسرها أغلالاً فقهية عدة، تنادوا بتضييق خناقها، والضن بها على غير أهلها، خشية أن يتنافس فيها المتنافسون .

وجاء ذلك في توصيات ختموا بهم أيامهم الرباطية، وفيها دعوا إلى «إيلاء الأولوية في معالجة موضوع تحقيق المناط للمنظور الأصولي الكلي والمدخل المنهجي لصعوبة حصر القضايا الجزئية؛ ولأن ضبط الكلي ييسِّر ضبط الجزئي، وضرورة الصياغة العلمية لضوابط تحقيق المناط بما يمنع المتطفلين على المجال من التسرع في هذا الشأن ويكون عوناً لأهل العلم على ممارسته. ودراسة مستويات تحقيق المناط: بدراسة منهجية الاستنباط ومسالكها في تحقيق المناط، ومنهجية التلقين وخصائصها في تحقيق المناط، ومنهجية التطبيق وضوابطها في تحقيق المناط، ونظرية التطابق وصلتها بتحقيق المناط».

إلى جانب «العناية بدراسة علاقة تحقيق المناط بما يمكن أن يخدمه من مصادر أو مناهج أو أدوات في الاستنباط (بمقاصد الشريعة، والقواعد الفقهية، وتخريج الفروع على الأصول…)، والاهتمام بدراسة المزالق المنهجية في تحقيق المناط التي تنتج تطبيقات فقهية يطبعها الغلو والتنطُّع والتطرف. وإنجاز دراسات عن فقه تحقيق المناط في تطوره عبر تاريخ الأمة يبرز قيمته في تجديد فقه الأمة واستيعابه لحاجاتها المتجددة».

ورأوا أن ذلك يمكن أن يتحقق عبر وسائل عدة، بينها:

المزيد من الاهتمام بفقه النوازل وبخاصة في الغرب الإسلامي، لما يختزنه هذا الفقه من قواعد منهجية وخبرة تطبيقية تكون عوناً للمجتهدين والدارسين في تحقيق المناط في عصرنا هذا.

إشراك أهل الخبرة بالواقع في مختلف مستوياته في هذه المدارسات المتعلقة بتحقيق المناط.

تخصيص ورشة مستقلة لأهل الخبرة بالواقع تكون نتائجها وخلاصاتها بمثابة أرضية تنطلق منها المشاريع والدراسات المتعلقة بتحقيق المناط في مجالات الحياة المختلفة؛ وقد قدمت.

الحاجة إلى دراسات وصفية مركزة للواقع العام للبلدان الإسلامية.

مراجعة مناهج مؤسسات تكوين العلماء ودارسي الفقه الإسلامي بما يؤهلها للإسهام في إيجاد المؤهلين لتحقيق المناطات بمختلف مستوياتها ومجالاتها.

مجالات أحوج إلى «المرونة»

ولئن كان «تحقيق المناط» منجماً لا ينضب للمرونة الفقهية في التعاطي مع القضايا المعاصرة، كما ينظر إليه الفقهاء، فإن هؤلاء يرون حاجة المسلمين الكبرى إليه في واقعهم الراهن، تتصدره مجالات «الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية؛ وبخاصة ما تطرحه قضية الدولة الإسلامية من تحديات للمسلمين داخلياً وخارجياً. والمجال الاجتماعي خصوصاً ما يتعلق بالأسرة، وقضايا المساواة بين الرجل والمرأة بوجه خاص. ثم المجال الاقتصادي وعلى رأس مواضيعه الأزمة الاقتصادية العالمية، والربا، وبيع الديون والغرر. إضافة إلى مجال الأقليات المسلمة في دول غير إسلامية لإيجاد فضاء من السعة ومناخ من التيسير؛ فقضايا الأقليات بحاجة إلى تحقيق مناط بناء على المكان والزمان وتغيرات الأحوال».

ويؤصل المشاركون في الندوة مثل عضو هيئة كبار العلماء الشيخ قيس المبارك والشيخ عبدالله عمر نصيف ناهيك عن المنظم العلامة عبدالله بن بيه، جوانب لا بد من تحريرها للمهتمين بتحقيق المناط، فهذا الأخير كما أشاروا له أنواع ومراتب «فمنه تحقيق المناط في الأعيان، وفي الصفات المعنوية، وقد يتعلق بإبراز صفة خفية، لا يكون ظهورها بدهياً للسامع من النص المراد تطبيقه على القضية (…) ومنه الموجَّه إلى الفرد في خاصة نفسه، والموجَّه إلى الجماعة، والموجَّه إلى الجهة الولائية، حتى يصل إلى السلطان». فيما أجمعوا على أن «المؤهل لتحقيق المناط هو العالم الرباني العاقل الحكيم الذي ينظر في كل حالة، ويعرف هذا الواقع حتى يعرف المتوقع، لأن المتوقع هو في حقيقته مآل للواقع في أحد توجهاته». واعتبر المنظم العلامة عبدالله بن بيه أن «فقه الواقع مبادرة ترشيدية يتعيَّن أن تقدم رؤية عامة متأصلة ومؤصلة من الكتاب والسنة، لكي يطمئن إليها العلماء والعالم». وانطلاقاً مما تزخر به الأمة الإسلامية من قيم الرحمة والمودة، أكد أن فقه الواقع يجب أن يستنبط أحكامه من المجتمع، كما أنه يتطلب تأطيراً وتخصصات تمتد لتشمل المجالات الإنسانية والاجتماعية. من جهته، اعتبر وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي السيد أحمد التوفيق في تصريح إلى الصحافة أن الورشة تشكِّل نقطة التقاء بين علماء المشرق والمغرب لتدارس ما يعرف بـ «مراعاة الأحوال عند إصدار الأحكام، سواء في ما يتعلق بالمجال السياسي أو المجتمعي أو الاقتصادي».

فيما أعلن وكيل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويتي الدكتور عادل الفلاح استضافة الكويت المؤتمر العالمي «فقه الواقع والتوقع» المقبل، لافتاً خلال كلمته أمام المؤتمر إلى أن الأمة الإسلامية تمتلك رصيداً ضخماً وكماً هائلاً من موروث فقه الأحكام الشرعية، مشيراً إلى أن «هذا النوع من الفقه امتد في حياتنا واستبحر كثيراً، وبلغ الفقهاء في تفريع مسائله وتشقيق فروعه مبلغاً كبيراً حفلت به مكتباتنا العلمية مخطوطاً ومطبوعاً.

 

 

Comments are closed.