«الواقع والتوقع»… من منظور «بن بيه»

 

 

 

جريدة الحياة – مصطفى الأنصاري


يؤصل الفقيه الموريتاني الكبير، عبدالله بن بيه، ما يقصد بمفردة «الواقع والتوقع»، فيؤكد أن ما يراد به: تقديم مقاربة لتنزيل أحكام الشريعة في شمولها وعمومها وإطلاقها على بيئة معيَّنة وفي ظرف زماني ومكاني معيَّن أو ما سماه البعض تعريفاً للواقع بأنه: التقاء بين الزمان وبين المكان والحدث في لحظة محددة، مع ملاحظة أن تلك اللحظة هي الزمان المقصود، وأن المكان مقيد بذلك الزمان باعتبار خصوصهما وتقييدهما والذي من شأنه أن يؤثر في عموم النصوص وإطلاقها، وأن يعيد مراجعة لحظة النزول وبيئة الوحي لاستحضار أسباب النزول الظاهرة والخفية. 

إلا أن الواقع قد يعني حقائق الأشياء أو الوجود الحقيقي في مقابل الوهم والخيال.والواقع اليوم أصبح يحمل قيماً تلد أحكاماً ونظماً.فما هي قيم الواقع اليوم؟ الحقوق الإنسانية والحريات الفردية والجماعية كحرية التعبير والضمير وتقديس حقوق المرأة إلى حد منح الحصص في المجالس. 

حقوق الأقليات التي أصبحت لا تحتاج دعوى اهتضام الحريات والحقوق إلى بيئات فالأقلية مصدقة ولو كانت غير محقة. 

وأصبحت الدساتير تطرز بهذه الحقوق وتعزز بهذه القيم وذلك هو معيار الدستور العصري وعنوان الديموقراطية وبرهان الحداثة والمساواة في الحقوق أحياناً على حساب الواجبات. 

واقع التكنولوجيا التي غيَّرت أسلوب وأدوات التواصل والاتصال – فالفيسبوك وتويتر ويوتيوب – أعانت الفرد على الإفلات من رقابة المجتمع والتماهي مع قيم أخرى بحيث تصبح الوسائل الزجرية أمام الوضع لا تخلص منه. 

وتقنيات الجينوم البشري وما اقترح من معضلات أخلاقية إذ أتاح العلم لنفوس عطشى إلى الاكتشاف التدخل في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النطفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مآلات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من يعلم الخبء في السموات والأرض. 

فالمجامع الفقهية أمام التلقيح الاصطناعي والتهجين وشهادة الجينات في تناكر الأزواج في حيرة. والقائمة طويلة والأفهام حسيرة في التوقعات. 

أما التوقع فهو مصطلح جديد وإن كان حديثاً بالنوع قديماً بالجنس، فالمجال الذي يغطيه فقه التوقع هو مجال تغطيه الذرائع والمآلات وتغطيه أيضاً المترقبات، وهي المصطلح الذي استعمله المقري واستعمله الزقاق في قوله: وهل يراعى مترقب وقع يومئذ أم قهقرى إذا رجع وتبنى عليه قاعدة الانعطاف وقاعدة الانكشاف. 

إن فقه التوقع يعني استناد الأحكام إلى المستقبل، قد يكون الحكم عدولاً عن إذن إلى حظر، وعن حظر إلى إذن، ورفع حرج بسبب أمر يمكن أن يترتب على ممارسة الفعل المأذون فيه، أو الامتناع عن الفعل المنهي عنه. 

فمحقق المناط يجب أن يكون يقظاً، وعلى علم أولاً بأنه ليس كل فعل مطلوب بأصله أو بطبيعته مطلوباً دائماً في مآلاته، وبالتالي عليه أن يوازن دائماً بين المصلحة المتأدية من هذا الفعل وبين المفسدة التي قد تترتب عليه. هذا هو فقه المآلات، وهو عبارة عن موازنة بين مصلحتين إحداهما أرجح، إحداهما مستقبلية والأخرى حاضرة، موازنة بين مفسدتين إحداهما مستقبلية والأخرى حاضرة، ففقه المآل هو عبارة عن توازن، لكنه توازن بين حاضر وبين مستقبل، هذا الذي نسميه فقه المآل، والفقيه عليه أن يعتمد على الأدوات التي بإمكانها أن تكتشف هذا المستقبل. 

عليه أن يعرف هذا الواقع حتى يعرف المتوقع، لأن المتوقع هو في حقيقته مآل للواقع في أحد توجهاته، لأن الذريعة عبارة عن وسيلة يتوسل بها إلى شيء، أو يتوصل بها إلى شيء. 

وأهم ما في الذرائع هو عنصر الإفضاء، فإذا أفضت الوسيلة قطعاً، فلا يختلف الفقهاء في اعتبارها إذا كانت الوسيلة غالباً تؤدي إلى المتوسل إليه، فهنا يختلف الشافعي وهو الذي لا يقول بالذرائع مع مالك وأحمد وهما يقولان بها، وإذا كان ذلك أكثرياً فمالك يقول بالذرائع في الأكثرية وبنى عليه – كما يقول القرافي – ألف مسألة في بيوع الآجال، «ومنع للتهمة ما كثر قصده». – خليل  

ولكن القضية هي قضية ضبط، أن نضبط النصوص الجزئية والقواعد الكلية، وأن نعرف الواقع بكل تضاريسه ومتوقعاته حتى نطبق عليه حكماً متوازناً لا هو بالمتحلل ولا هو أيضاً بالمتشدد المتزمت المتقوقع وكان بين ذلك قواماً. 

والتوقعات ليست أوهاماً ولا افتراضات بعيدة الوقوع، ولكنها مستندة إلى معطيات أو احتمالات راجحة. فالتوقع قد يكون بعيداً وقد يكون قريباً، وبالتالي فإن التوقع لا يعني البتة التوهم والاستباق anticipation   مع أن الاستباق أيضاً كالتوقع ليسا دائماً رجماً بالغيب؛ وإنما يعني أن نحصل من خلال معطيات الحاضر على معرفة توجه للمستقبل، قد يكون سلوكاً اقتصادياً ومالياً هو حركة السوق، قد يكون سلوك الفاعلين التجاريين نعرفه من خلال ما يسمى بنظرية الاحتمال probability   أو من خلال العينات المختلفة التي نطلع عليها ومن خلال الاستقراء، والاستقراء مؤصل في الفقه، فالتوقع له أدوات، هذه الأدوات قد تكون بديهية، حدس المفتي قد يعرف هذه الأدوات وقد تكون نظرية. 

 

Comments are closed.