الخطاب الإسلامي بين القواطع والاجتهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه

 

“الخطاب الإسلامي بين القواطع والاجتهاديات” 

الخطاب هو: فعال مصدر من خاطبه خطاباً ومخاطبة. وهو يعني كلاماً موجها إلى طرف آخر، قال تعالى:( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) (وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) (وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ 

والخطاب عند الأصوليين حسب عبارة الزركشي في البحر المحيط عرفه المتقدمون: بِأَنَّهُ الكلامُ الْمَقْصُودُ منه إفْهَامُ مَنْ هو مُتَهَيِّئٌ لِلْفَهْمِ. وَعَرَّفَهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ أَعَمُّ مِن أَنْ يكون مَن قَصَدَ إفْهَامَهُ مُتَهَيِّئًا أَمْ لا. قِيل: وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِمَدْلُولِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ “.  

وهو في الاصطلاح الغربي: شرح شفوي يتعلق بموضوع معين يوجه إلى الجمهور، وهو عبارة  عن مجموعة المظاهر القولية والمكتوبة التي تمثل إيديولوجية.

وقد ينقسم إلى مستويات كثيرة، هي عند فوكو Michel Foucault   خطاب متغير وخطاب ثابت، فالأول هو خطاب الناس اليومي المعتاد، الذي يفنى وينقضي بانقضاء زمنه، والثاني هو خطاب يتردد في حياة الناس ولا ينقضى، كالخطاب الوارد في الكتب المقدسة.

كما عبروا عن مستويات الخطاب بأنها ترجع إلى موضوعاته، ومصادره، وفحواه، ومحتواه، فمنه الخطاب الديني، والخطاب الفلسفي، والخطاب الأخلاقي، والخطاب القانوني، والتاريخي، والخطاب الاجتماعي السياسي، إلى غير ذلك من أنواع الخطاب.

والخطاب الإسلامي بالنظر لشموله يحتوي كل هذه المناحى، باعتبار عموم مفهوم الدين وكونيته، التي تلج كل مجالات الحياة، ليس بالمعنى الضيق الكنسي للدين الذي يقابل العقل، ولكن بالمعنى الواسع الفسيح الذي يجعل كل نشاط -إنساني وجداني أو عقلي أو سلوكي بمختلف تعبيراته النافعة موزوناً بميزان القيم ومصالح العباد- من الدين.  

وحيث أنَّ البحث يتعلق بالخطاب الإسلامي في جوهره، في قواطعه واجتهادياته، في ثوابته ومتغيراته، فينبغي أنْ نقرر أنَّ الخطاب الإسلامي مبني في أصله على خطاب الله تعالى لعباده، فهو تقديم لمضمون الخطاب الإلهي إلى البشرية، سواء تعلق بالكليات أو الجزئيات، أو بالشكل أو الأساس، أو بالوسائل أو بالمقاصد.

وهنا تكون القواطع والاجتهادات الظنية.

ومعلوم أنَّ خطاب الله تعالى للعباد ينقسم إلى نوعين، خطاب إخباري يجب الإيمان بمقتضاه، كإخباره عن ذاته وصفاته وعن الكون من سموات وأرض وملائكة وجن وعن الآخرة وما فيها من جنان ونيران وحساب وميزان وثواب وعقاب.

وخطاب يتعلق بأفعال المكلفين من حيث إنهم به مكلفون، فهذا هو الذي يسمى بالحكم وينقسم إلى خطاب تكليف وخطاب وضع؛ لأنه إما أنْ يكون طلباً أو تخييرا أو وضعاً، على التفصيل المعروف عند الأصوليين.   

فالقواطع من الخطاب -سواء تعلق الأمر بالأخبار أو الأحكام- هي ما كان دليلها قطعياً، وغير القواطع هي ما بني على اجتهادات وظنيات.

يقول الاصفهاني في شرح المحصول: من الأحكام ما يثبت بأدلة حصل العلم بمقتضاها، وذلك في الأحكام الثابتة بنصوص احتفت بقرائن تدفع الاحتمالات المتعارضة عنها، بانحصار تعيين المدلول في واحد. ومنها ما ثبت بأخبار آحاد، أو نصوص لم تعتضد بما يدفع الاحتمالات، فتلك الأحكام مظنونة لا معلومة، قال: هذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وذلك بسبب انقسام الطرق إلى الأدلة والأمارات.    

ويرى ابن دقيق العيد أنَّ الأحكام تنقسم إلى متواترات وهي مقطوع بها وإلى ما ليس كذلك.

والحق انقسام الحكم إلى قطعي وظني، وممن صرح بذلك من الأقدمين الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب “الحدود” وابن السمعاني في “القواطع”.

ولشرح ما أشار إليه الأصفهاني من كون القواطع تنشئو عن أدلة يحصل بها القطع.

فلابد من لمحة هنا عن الأدلة القطعية، التي إذا ثبت خطاب أو حكم بها يكون قاطعاً، إنَّ الأدلة القطعية من حيث الدلالة هي نصوص من الكتاب والسنة، لا تحتمل التأويل، ومن حيث الثبوت قطعية الورود؛ لأنها في القرآن الكريم بين دفتي المصحف، أو في متواتر الحديث، على الاختلاف المعروف في حده، أو الإجماع النطقي، المستند إلى دليل من الأدلة القطعية، ويشترط في الجميع الخلو عن المعارض القوي الذي ينهض حجة.

وهناك ما هو قريب من القطعي كالمستفيض، إذا رواه أربعة فما فوق أو اشتهر، وكخبر الآحاد السالم من العلل، المروي في الصحيحين عند بعض العلماء، وقد ندد إمام الحرمين في البرهان بقائل ذلك في خبر الآحاد ببداهة احتمال الخطأ على رواية العدل.           

وكالعام المتكرر عند الشاطبي، وكالكلي المستفاد معناه من معقول النصوص، المشهود له بتفاريق الأدلة، وبشتى القرائن الحافة، والإجماع السكوتي على خلاف، مع الخلو من المعارض، وكذلك قياس الأولى، أو المساوي، إذا كان مستند الأصل قطعياً.

          وجود جامع به متمما شرطٌ    وفي القطع إلى القطع انتمى

بهذه المقدمة يراد إثبات نوعين من الخطاب، لا ترجع إلى القسمة المعهودة للخطاب بين خطاب تكليف وخطاب وضع، وإنما ترجع إلى مرتبة الدليل، ودرجته، قوة وضعفاً، ووضوحاً وغموضاً، تواتراً أو انفراداً، شيوعاً واستفاضة أو خمولاً وزمانة.

فيكسب الدليل القوي المتواتر الواضح مدلوله قوة وقبولاً وشمولاً يرفعه من درجة العمل بمقتضاه إلى مكانة تحتم الاعتقاد بمحتواه وذلك ما علم من الدين ضرورة.

وهذه هي القواطع التي تمثل أساس بناء هذا الدين ومرتكزاته ودعائمه.

فالأساس هو الإيمان وما يجري مجراه وما يتعلق بمقتضياته.

أما الدعائم فهي تلك الأركان التي ترفع سقف الدين فهي برهان الإيمان، وتتفاوت بعد الأساس والدعائم مشمولات البناء التي تمثلها أحكام الشريعة الغراء حيث تتشكل منظومة كاملة وشاملة لمناحي الحياة موزعة في مختلف المهمات، وموجهة إلى مختلف المرامي والغايات، متناغمة في اختلافها، متجانسة في تنوع أهدافها.

فقواطع الخطاب الإسلامي إنما هي تذكير دائم بالأساسيات القطعية في الإسلام اعتقاداً وسلوكاً ومعاملة.

قد لا تكون هناك ضرورة لذكر الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة المعروفة والمتداولة في مختلف المصادر، وإنما التذكير بكبريات قضايا هذا الدين، الذي يقوم على التوحيد ومقتضياته، والنبوة ولوازمها، وتكريم الإنسان وتكليفه، والمحافظة على ضروراته لإيجاد توازن بين الدنيا والآخرة، وبين الروح والجسد.

إيمان بعالم الغيب لا يلغي عالم الشهادة، الذي يقوم دليلا وبرهاناً على عالم الغيب، ومعبراً إليه (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ)  (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،،،)

 

القواطع الكبرى 

تمهيد: إنَّ معظم القواطع كانت في القرآن المكي فيما يتعلق بالأصول العقدية، قال الشاطبي: وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى.

أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق، غير أنه يأتي على وجوه؛ كنفي الشريك بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة من كونه مقرباً إلى الله زلفى أو كونه ولداً أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.

والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد، وأنه رسول الله إليهم جميعا، صادق فيما جاء به من عند الله؛ إلا أنه وارد على وجوه أيضا كإثبات كونه رسولا حقا، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.

والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة، وأنه حق لا ريب فيه، بالأدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح الأمر.

فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر، وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر، ويتبع ذلك الترغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك”.

وطبق ذلك الشاطبي على سورة المؤمنين قائلا إنها: ” افتتحت بثلاث جمل:

إحداها: -وهي الآكد في المقام- بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه، وذلك قوله (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ،،، إلى قوله: هم فيها خالدون).

والثانية: بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جارياً على مجارى الاعتبار والاختيار، بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلا.

والثالثة: بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في  التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة، وأنّ ذلك له بتسخير السموات والأرض وما بينهما وكفى بهذا تشريفاً وتكريماً.

مما تقدم ومن قوله تعالى:( الرَّحْمَنُ  عَلَّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ)

نتحدث عن ثلاث قواطع:

الرحمن( الألوهية والتوحيد)  القرآن( الرسالة والنبوة) الإنسان ( مناط الخطاب).

القاطع الأول: توحيد الله تعالى الخالص

وما يتعلق به من قدرة وقدر وعلم ورحمة ورزق وخلق ونفع وضر إلى آخر الصفات.

فالخطاب في هذا المجال على ثلاثة مستويات:

 المستوى الأول: خطاب التوحيد الموجه إلي المسلمين وإنما يراد منه أن يتمسكوا بالتوحيد الخالص الكامل طبقاً لقوله تعالى{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} دون تشكيك في عقائد المسلمين ونواياهم.

وفي سياق هذا الخطاب تجب الإشارة إلى شيئين هما: أن تكون دعوة التوحيد مقرونة بالإحسان الذي هو قرين الإيمان مما يعني أنْ تكون التربية الإيمانية الروحية الرامية إلى تطهير النفوس والإرتقاء بها في مدارج التوكل والرضا والزهد والحب حاضرة.

أما الشيء الثاني فهو: العمل، فالإيمان قول وعمل، عبادة ومعاملة، فذلك أدنى إلى الهدي النبوي وأنئ عن الجدل والمراء الذي لا يجدي فتيلا.   

المستوى الثاني: الدعوة الموجهة إلى أتباع الديانات السماوية السابقة، وهي تذكير لهم بما في كتبهم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)

 (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)

(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)

إنه تذكير دائم بأن رسالة التوحيد هي رسالة كل الأنبياء، وأنه عليه الصلاة والسلام إنما هو مكمل لسلسلة الأنبياء، ومتمم لمكارم الأخلاق.

وبهذا الصدد تمكن الاستعانة بما في كتبهم كقول عيسى عليه السلام في أنجيل مرقس : إن أول الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا ربٌّ واحد. وتحب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى.) إلى غير ذلك من النصوص الواردة في العهد القديم والجديد. 

المستوى الثالث: خطاب موجه إلى سائر الأجناس واللادينيين انطلاقاً من قوله(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهذا الخطاب –وكل خطاب- يجب أن يعتمد على المنطق والعلم والأدلة الكونية والمنهج القرآني(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ)

لقد كان محمد بن أبي زيد القيرواني موفقاً عندما قال في عقيدته: نبهه بآثار صنعته واعذر إليه على ألسنة المرسلين….”.

ومعنى كلامه أنه سبحانه وتعالى أقام على وجوده ووحدانيته دلائل من كونه، الذي أبرز فيه بالغ حكمته، ودقيق صنعته، ودليل عنايته، وهي دلائل يتلقاها العقل المركب في الإنسان وكأنها كلام ينطق، وضوء يشرق، فتنتبه الفطرة الإنسانية إلى التشوف للخالق.

فتتدخل العناية الإلهية ببيان الوحي الناطق على ألسنة رسله، الذين أيدهم باسمي آيات الصدق، فقامت في نفوسهم وفي نفوس من باشرهم معان اضطرارية بصدق أخبارهم، وسطوع أنوارهم، فكان حديثهم عن الغيب كحال الشاهد الذي لا يتمارى أحد في صدقه، يحدثك عن مدينة لم ترها فتصدقه؛ لما عرفت قبل ذلك وجربته من صدق لهجته.

 والإيمان بالله يقتضى الإيمان بدعائم الإسلام الكبرى المتواترة، من صلاة وزكاة وصيام وحج‘ إذ تلك قواطع معلومة من الدين ضرورة.

ولكل مستوى من هذه المستويات أسلوبه في الخطاب ووسائله. 

وهو خطاب يرد كل الشبهات والمتشابهات إلى المحكمات، ككون عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى فإنه يُرد إلى أصل التوحيد المحكم، وهو أن كل ذلك بقدرة الله تعالى وإذنه.

وهكذا فإن كرامات الأولياء وخوارق العادات لهم أمر واقع ومقبول عند المسلمين؛ لكنه مردود إلى الأصل الثابت وهو قدرة الباري فهو سبحانه جل وعلا الخالق لذلك والمقدر له (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)

القاطع الثاني: النبوة ولوازمها.

وهذا القاطع الثاني يستلزم الإيمان بظاهرة الوحي، الذي هو اتصال إلهي بالإنسان المصطفى، لاطلاعه على جملة من الحقائق، وإبلاغه برسالة إلى البشرية هي مراد الخالق من الخلق، تبين له أساسيات فوق سقف العقل؛ إلا أن العقل لا يحيلها فالوحي وحده هو الذي يعرفه على الخالق جل وعلا، وما يجب في حقه جلت قدرته، وعلى شرائعه وعلى أصل الكون، ومصير البشرية، وأحوال الآخرة والبعث والنشور، وأحوال البرزخ وفتنة القبور والاختبار فيها وأخذ صحف الأعمال بالأيدي على ما يصف القرآن، ووزن الأعمال يوم القيامة والعبور على الصراط والورود على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم – سقانا الله تعالى منه- كما نؤمن بالملائكة وبالجن وبالسحر، وبكل ما ورد به الخبر الثابت، فالأبصار والأسماع محدودة الإدراك في هذه الدنيا. 

بل إنَّ العلوم الكونية فهي كما يقول بحق عالم الفيزيولوجيا –وظائف الأعضاء- الفرنسي كلود برنار في القرن التاسع عشر فإنها إنما تعرف العلل الثانوية، كما يحكيه عنه تلميذه.

تلك هي الحقائق الكبرى التي جاءت بها الرسل، والإسلام يؤكد أن رسالة الرسل هي في جوهرها واحدة (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا)

وهو عليه الصلاة والسلام إنما هو حلقة خاتمة لسلسلة الرسالات ومتمم لكلمات الله تعالى إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

ورسالة الرسل تقوم عليها دلائل المعجزات “: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامةً”. حديث صحيح.

وأهم دليل على صدق النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم القرآن الصادق، الذي تضمن الرسالة والدليل في نفس الوقت والدعوى والبينة، فكان تحدياً للبشرية بنظمه وبمعانيه وأخباره التي لم يزدها الزمان إلا جدة وصدقاً، فلم يأت أحد بقرآن يتلى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) محفوظ في الصدور والسطور، فلم تستطيع يد الدهر أن تسطو عليه، يخرج خب الضمائر وينفذ إلى خبايا النفوس.

وهذا الإعجاز العلمي في هذا العصر دليل على أنه من عالم الغيب والشهادة. فآية أطوار الإنسان (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ،،،) وآية الناصية وآية الأصل الدخاني للكون وآية الرتق. كل تلك أدلة لا ريب فيها على صدق القرآن، وقد صدق العلم الحديث ما جاء في القرآن.   

ولقد أقام الباري جل وعلا الدليل على النبوة في الإنسان نفسه (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وذلك بواردات استشعار الأحداث خارج السياق المعتاد؛ لإدراك الموجودات وذلك من خلال الرُّؤَى التي لا يتمارى أحد في وقوعها، والتي تقدم الأحداث مرموزة فتفسرها الوقائع أو يفك شفرتها من له علم من الكتاب.

وأحيانا تقدم المشهد الذي سيكون كما هو فيكون، ولقد نبه عليه الصلاة والسلام على الرؤيا في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري وغيره فيه: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة”.

وقد اضطرب شراح الحديث في المراد بهذه التجزئة، وفسرها بعضهم بفترة النبوية قبل الوحي، وسكت البعض الآخر، ويمكن أنْ تفسر – والله أعلم- بأنَّ الجزء يشير إلى أنَّ النبوة تشتمل على معان كثيرة، وأنَّ الرؤيا في كشفها للحقيقة الغيبية واستيعابها لها بوضوح تمثل هذا الجزء الصغير من حالة انكشاف المغيبات والوضوح والصدق، فهي مثال للاطلاع والصدق؛ لكنه ضعيف لا يرقى إلى الاطلاع الواضح للنبوة كما لا يجب الاعتقاد به فقد يتطرق إليها الوهم والخطإ والضبابية ما لا يتطرق إلى انكشاف الحقائق في حالة النبوة، ما لم تكن رؤيا نبي من الأنبياء فإنها حق سواء كانت مرموزة كرؤيا إبراهيم إنه يذبح ولده فكانت ابتلاء لتصدق على كبش عظيم يكون سنة وقربة إلى الله تعالى في الغابرين (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ) أو رؤيا يوسف عليه السلام (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) أو رؤيا دانيال من أنبياء بني إسرائيل التي لم يتأكد شراح أهل الكتاب من إدراك حقيقتها.

أما رؤى نبينا عليه الصلاة والسلام وهي التي بدأ بها الوحي فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح.

 وكثير من الرؤى من غير الأنبياء كانت صادقة وصحيحة كرؤيا ملك مصر الواردة في القرآن الكريم التي فسرها يوسف عليه الصلاة والسلام ( إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ)

ورؤيا الموبذان قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام رأى إبلا صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم.

ورؤيا الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن الذي رأى أنه قتل وسجل ذلك فكان كما رأى.

والكثير من الناس قد رأى أو سمع في نومه، إنها شهادة للنبوة قائمة في الإنسان، لأن الرؤيا في بعض صورها خارج دائرة الحس والعقل وما زالت محيرة، رغم تفسير العلم الحديث لها بأنها: ظاهرة نفسية ترد في حالة النوم”. ولهذا يقول الفيلسوف الفرنسي الشاعر بول فاليري :  إن الرؤيا هي فوضوية لأننا لن نعرفها أبدا إلا بالذكرى، Le réve est une hypothése puisque nous ne le connaissons jamais que par le souvenir”     

يجب أن نؤكد دائما على إمكان النبوة.

ومن مستلزمات النبوة العصمة التي تنافي الكذب والخطأ في البلاغ، مع وجوب الاعتقاد والاقتداء (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)

وكذلك فإن من مستلزمات ذلك أنْ لا تكون العصمة لغير النبي؛ إذ من شأن ذلك أن يوجد مصدرا للوحي غير المصدر النبوي، وهو مناف للعصمة الخاصة ومؤد إلى انتشار المصادر.

فمن العقائد أنه لا قول لأحد مع قوله الثابت جزماً، الواضح دلالة حتماً، ولهذا فقد تبرأ الأئمة المقتدى بهم من مخالفة ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في عبارات قوية وحاسمة كتلك الواردة عن مالك ” كل كلام يأخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر.

وكقول الشافعي: إذا خالف قولي الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط. وكقول أبي حنيفة: إذا ثبت الحديث فهو مذهبي”. وقول أحمد: ضعيف الحديث أحب إلي من رأي الرجال”.

ومن مستلزمات النبوة ومكملات إبلاغ الرسالة الاعتراف بمكانة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغين لرسالته والمطبقين لأوامره والمرآة الأمينة التي تتراءى من خلالها صورة الرسالة النبوية الشريفة.

ولهذا فإن أي دعوة ترمي إلى تجريح الصحابة حملة الرسالة وأمناء الوحي إنما هي في حقيقتها وفي مئالاتها تجريح في الرسالة يكاد يصل إلى التشكيك فيها. ولهذا فإن تظافر النصوص القرآنية والحديثية في الثناء على ذلك الرعيل في الجملة وفي التفصيل لخير دليل على أن تعظيم جنابهم ورعاية حرمتهم والذب عن حريم حماهم بمكانة من الدين فلنقرأ قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)

وقوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

وقوله (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ.. إلى قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ…)

ولنستمع لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: لا تسبوا أصحابي فلو أنَّ أحدكم أنفق مثل جبل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه”.

وعن أبي بردة قال صلَّينا المغرب مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قُلنا لو جلسنا حتى نُصلِّي معه العشاء، قال: فجلسنا فخرج علينا، فقال: ما زلتم هاهنا، قلنا: يا رسول اللَّه صلَّينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نُصلِي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم، قال: فرفع رأسه إلى السماء، -وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء- فقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فإذا ذهب أصحابي أَتى أُمَّتي ما يُوعدون“. رواه مسلم.

وقوله: يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ. نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ “. متفق عليه واللفظ لمسلم.

إلى ما لا يحصى من الأخبار والآثار.

ولهذا أجمع علماؤنا على تقديم أصحابه صلى الله عليه وسلم على غيرهم، والكف عما شجر بينهم رعاية لحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم وحرمة الرسالة، ونأيا بجانب الشريعة عن الطعن، بالإضافة إلى أنَّ لوك تاريخ يفرق الأمة وينشر التفرقة واللعن والسباب لا يفيد الأمة في دينها ولا في دنياها ولا يرضى الله ورسوله، ولهذا فيرد المتشابه إلى المحكم، وبنفس المبدإ فإن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عظيم الحرمة وجزيل الاحترام أبناء وبنات وزوجات فقد اذهب الله تعالى عنهم الرجس وجعل حبهم عنوان الإيمان وطهارة النفس (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)

ولقد أحسن الطحاوي في قوله: ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق”.

وكل ما خالف هذا من المتشابهات فيرد إلى المحكمات، فترد أخبار الآحاد المنافية إلى التواتر، وترد المشتبهات إلى التأويل.

ولهذا فيجب تربية الأمة على أنه لا يوجد تناقض ولا تناف بين حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب الصحابة، وأن الأمة المحمدية بريئة ممن ولغوا في دماء آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم فئة قليلة عليها ما اكتسبت من الإثم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

وهذا ما ندين الله تعالى به.                       

 القاطع الثالث: الإنسان

الإنسان هو هذا المخلوق الذي تحير الفلاسفة في وصفه فهو مادة وروح وعقل وعاطفة وعالم غيب وشهادة، هذا الإنسان المكرم بالعلم وتسخير الكائنات ولعل ذلك ما تشير إليه آيتان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ

ويرجع الإنسان إلى آدم الذي خلقه الله تعالى، ونفخ فيه من روحه، وقد كان ذلك إجماع البشرية، وهو رأي الفلاسفة وكل البشر إلى عهد داروين ولامارك ؛ حيث أصبح التمايز بين الأجناس موضوع مراجعة، وأصبح البحث جاريًا عن أصل جديد للإنسان بين البريمات التي يجمعها به كمال الأسنان والقدرة على المشي على رجلين واستعمال اليدين، وأصبحت اكتشافات الحفريات والخيال تمثل مرجعيات لهذا الأصل الذي لم يثبت علميًّا.

وفي أكتوبر 2009م اكتشف العلماء ما سموه “آردي” في حفريات بأثيوبيا: إنسان معتدل القامة مناف للشنبازا لا يتعلق بالأشجار ولا يمشي على أربع، ويرجع إلى أكثر من أربعة ملايين سنة، كل ذلك يدل على أن نظرية داروين إنما كانت رجما بالغيب.        

ونحن نؤمن بالوحي السماوي، ونعتقد أنه الجهة المؤهلة بجدارة للتحدث عن أصل الإنسان الذي هو من المقولات التي تقع فوق سقف الرؤية العقلية.

يقول البعض: إن طبيعة الإنسان ذات أوجه ثلاث :

       الوجه الغريزي البيولوجي كسائر الحيوانات.

       الوجه الاجتماعي فهو اجتماعي يمارس حياته ويتأثر بالمجتمع.

       الوجه الإنساني، الذي يطمح إلى الرقي وإلى ملكوت السماء، ويتعرف على الخالق، ويتوق إلى عالم القيم والروحانيات.

فهو مزيج من الجسم والروح، وفي هذا المزيج تتمثل أوجه الطبيعة: الروح الشفافة الرفافة، والمادة الثقيلة، وحاجاتها الضاغطة.

ولطبيعته المركبة قد يطغى: ] إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآَهُ اسْتَغْنَى [()  وقد يتعجل: ]خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ[ () ، وقد يضعف : ] وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا [() فسرها المفسرون بأنه لا يقاوم شهواته، ] إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [() .

إنَّ الوحي يضع الإنسان أمام مرآة الحقيقة ليرى صورته بدون مجاملة ولا محاباة، فهو كائن مميز بطبيعته الازدواجية المنسجمة وتركيبه النفسي الفريد في عالم ينسجم مع طبيعته وحاجاته وتكوينه في تركيبه العجيب وترتيبه الغريب -سبحان الخالق-.

ولذا كان مخلوقًا مميزًا سخر له الكون، وكان ذلك مظهر الاستخلاف: ] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [() ، والاستعمار للأرض: ] أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [() ووضعت الأرض مجهزة بمختلف الاحتياجات لاستقبال هذا الضيف الإنساني: ] وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ [ ()

إنَّ هذا الاستخلاف للإنسان مثَّل تشريفًا وتكليفًا أيضًا، اقتضته حكمة الباري -جل وعلا- ليحمل الإنسان مسؤولية الخلافة في الأرض: أيشكر أم يكفر؟ أيصلح أم يفسد؟ وهكذا كان الإنسان مخلوقًا مكرمًا، وليس سيدًا مطلقًا، وقد وصف الفيلسوف الفرنسي لامارك الإنسان بأنَّه مشروع الله في الأرض.

إلا أنه سبحانه وتعالى انطلاقاً من هذا التكريم ورحمة بالإنسان ومتاعاً له إلى حين أحاطه للمحافظة على كيانه وصيانة لوجوده بكليات تشريعية هي من الثوابت والقطعيات تتمثل في حماية دينه ونفسه وعقله ونسله وماله.

وتبعاً لذلك فهم العلماء مقصداً أعلى للشريعة الغراء أنها إنما جاءت لمصالح العباد حيث يقول الشاطبي: كما أنَّ كلَّ حُكمٍ شرعِيٍّ؛ ففيهِ حقٌّ للعبادِ إما عاجلاً وإمَّا آجلاً؛ بناء على أنَّ الشريعةَ إنما وُضعتْ لمصالحِ العبادِ، ولذلك قال في الحديث: «حقُّ العبادِ علَى اللهِ إذَا عبدُوه ولمْ يُشْرِكوا بهِ شيئاً ألاَّ يُعَذِّبهم».

ويقول العز بن عبدالسلام: معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل وذلك معظم الشرائع”.

ولهذا كانت حقوق الإنسان الكثيرة بإزاء واجباته خادمة لمصالحه في المعاش والمعاد فعلى الخطاب الإسلامي في هذا القاطع أنْ ينبه على كبريات قضايا الإنسان وثوابت حقوقه، وأن يشارك الآخرين في القيم الإنسانية النبيلة، التي تسهم في التعايش البشري وإقامة العدل ودرء المفاسد وجلب المصالح، ومؤكداً على مصدر القيم والحقوق في الإسلام وهو الوحي؛ الذي جعل الإنسان مكرماً، وهذا هو المصدر المتعالى الذي كرم الإنسان، وليس الإنسان منشئ حقوق ولا مصدر قيم باستقلاله، إنها مجالات مهمة يجب أن يلجها الخطاب الإسلامي.     

ثانياً: الاجتهاديات في الخطاب:

لقد قدمنا في المقدمة أن الخطاب ينقسم إلى قاطع وظني، باعتبار الدليل والقرآئن الحافة، فإذا قوي الدليل إلى حد تحصيل العلم صار قاطعاً، وإذا ضعف نزل إلى مرتبة الظن، وأحيانا إلى مرتبة التخمين، وقد قدمنا هناك صنفي الأدلة الواردة على الأحكام والتي مهدت لهذا التصنيف ولهذا فسنعرف الاجتهاد والمجتهد فيه. 

أما الظنيات فهي أخبار الآحاد الصحيحة التي يجب العمل بها إذا خلت عن معارض إلا أنها لا تقيد العلم عند جمهور الأصوليين خلافاً للبعض. قال في نظم ورقات إمام الحرمين:

                وموجب العمل دون العلم      دعاه بالآحاد أهل العلم

والظواهر ومفهوم المخالفة والأقيسة والمصالح المرسلة وسد الذرائع والإجماع السكوتي وقول الصحابي والاستحسان والاستصحاب والاستقراء على خلاف في التام.

  التعريف وتحرير المصطلح: عرف العلماء الاجتهاد بأنه: بذل الوسع من قبل المجتهد للوصول إلى ظن أو قطع بأن حكم الله تعالى هو كذا.

قال الرازي: وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أيِّ فعل كان يقال: استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال: استفرغ وسعه في حمل النواة. 

وأما في عرف الفقهاء فهو: استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه.

وهذا سبيل مسائل الفروع ولذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هذا حال الأصول”.

قال: الزركشي: وهو لغة: افتعال من الجهد وهو المشقة وهو الطاقة ويلزم من ذلك أن يختص هذا الاسم بما فيه مشقة لتخرج عنه الأمور الضرورية التي تدرك ضرورة من الشرع إذ لا مشقة في تحصيلها ولا شك أنَّ ذلك من الأحكام الشرعية.

وفي الاصطلاح: بذل الوسع في نيل حكم شرعيِّ عملي بطريق الاستنباط فقولنا: “بذل” أي بحيث يحس من نفسه العجز عن مزيد طلبٍ حتى لا يقع لوم في التقصير.

وقال أبو بكر الرازيّ: اسم الاجتهاد يقع في الشَّرع على ثلاثة معانٍ:

أحدها: القياس الشرعي لأن العلة لما لم تكن موجبة الحكم لجواز وجودها خالية منه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب فلذلك كان طريقه الاجتهاد.

والثاني: ما يغلب في الظن من غير علة كالاجتهاد في المياه والوقت والقبلة وتقويم المتلفات وجزاء الصيد ومهر المثل والمتعة والنفقة وغير ذلك.

والثالث: الاستدلال بالأصول”.    

ومع تخصيص ولوج باب الاجتهاد بالمجتهد مطلقاً أو مقيداً فإن الفقيه المتبصر إذا تمكن من ترتيب الأدلة الجزئية على المقاصد الكلية وأحسن عملية التنزيل على الواقع يكون أهلا لتقديم الخطاب.

قال في مراقي السعود :  

       بَذْلُ الفَقِيهِ الوُسْعَ أن يُحصِّلا    ظَنَّا بأنَّ ذاكَ حَتْمُ مَثَلا 

فلا بد من بذل الجهد واستفراغ الطاقة من الفقيه، أما غير الفقيه المجتهد وهو المقلد فاستفراغ طاقته لا يكون اجتهاداً بالمعنى الأخص. 

المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي عملي أو علمي يقصد به العمل ليس فيه دليل قطعي، فخرج بالشرعي العقلي فالحق فيها واحد، والمراد بالعمل ما هو كسب للمكلف إقداماً وإحجاماً.

وبالعلمي ما تضمنه علم الأصول من المظنونات التي يستند العمل إليها. وقولنا: ليس فيها دليل قاطع –احترازا- عما وجد فيه ذلك من الأحكام فإنه إذا ظفر فيه بالدليل حرم الرجوع إلى الظن.      

ومما يجرى هذا المجرى قول الأحناف: إنَّ المجتهد فيه الذي يسوغ فيه الاجتهاد هو: ما لم يخالف كتاباً ولا سنة مشهورة ولا إجماعاً، إذ لو خالف شيئا من ذلك في رأى المجتهد لم يكن مجتهداً فيه، حتى لو حكم به حاكم يراه لا ينفذ.      

قال في الفتح: وعدم تسويغ الاجتهاد لوجود الإجماع، أو النص الغير المحتمل بلا معارضة نص آخر في نظر المجتهد وإن كانت المعارضة ثابتة في الواقع. 

فالمعارضة المشار إليها في كلام صاحب الفتح يردها الأحناف بأحد أمرين باحتمال ناشئ عن الدلالة، كما أنَّ الاحتمال قد يكون ناشئا عن الثبوت.

إن الاجتهادات تتعلق بتفاصيل قيم التسامح والعدل والشورى والتعايش والتواصل والوحدة والتعدد في إطار الثوابت، وهو تعدد تجليه مرونة الفقه وسعته، وتنوع دلالات النصوص، وتوسع نطاق الأدلة الإجمالية في ضوء الزمان؛ لتحقيق مقولة هي بالتأكيد حق: إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ وذلك بتسليط الاجتهاد على الربط المتواصل بين الزمان وبين الشريعة نصوصًا ومقاصد وأصولاً وقواعد، انطلاقًا من مبدأي: العقل المصلحة. وترجمة لثلاثة مقاصد: الضروري الحاجي- والتحسيني.

إن تقرير وجود مساحة واسعة وفسيحة للاجتهاد في الشريعة يجب أن يكسو الخطاب الإسلامي ثلاث سمات هي:

1-   التسامح

2-   التصالح

3-   التيسير

ويمكن ترجمة ذلك في ثلاث قضايا أساسية هي: التسامح في الاختلاف، والتصالح مع الآخرين والكف عن التكفير. والتيسير على الناس.

 السمة الأولى: التسامح في الاختلاف

 إن الاختلاف ظاهرة لا يمكن تحاشيها باعتبارها مظهرا من مظاهر الإرادة التي ركبت في الإنسان إذ الإرادة بالضرورة تؤدي إلى وقوع الاختلاف والتفاوت في الرأي.
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول: “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه”

قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب الدر المختار: “وعلم بأنَّ الاختلاف من آثار الرحمة فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر”.

وهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة الناس وهو اختلاف أمتي رحمة قال في المقاصد الحسنة: رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة”. وأورده ابن الحاجب في المختصر بلفظ اختلاف أمتي رحمة للناس.

  ونقل السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: ما سرني أنَّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة.

وأخرج الخطيب أنَّ هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب – يعنى مؤلفات الأمام مالك- ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة. قال: يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده وكلهم على هدى وكل يريد الله تعالى. وتمامه في كشف الخفاء ومزيل الإلباس.   

  ولهذا اعتبر العلماء معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح أفقه.

فقد قال قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه.

وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.

وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس.

وقال يحي بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب ألي.

إلى غير ذلك من الأقوال يراجع الشاطبي في الموافقات، فقد عد معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها.   

كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها البعض الآخر إلا وقت صلاة العشاء ، ولم يعنف أحدا منهم كما جاء في الصحيحين.

وفي السفر كان منهم المفطر والصائم. وما عاب أحد على أحد كما جاء في الصحيح. حتى في الاختلاف في القراءة في حديث ابن مسعود وحديث عمر وأبي بن كعب…

إنها التربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم طبقا لاجتهادهم.

وبعده عليه الصلاة والسلام كانت بينهم اختلافات حسمت أحيانا كثيرة بالاتفاق، كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم.

وكما في اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة، وحول جمع القرآن الكريم، ورجوع عمر إلى قول علي في مسألة المنكوحة في العدة حيث كان عمر يرى التفريق بينها وبين من تزوجها في العدة وتحريمها أبدا عليه وإعطاءها الصداق من بيت المال ، وكان علي يرى أنها لا يتأبد تحريمها فرجع عمر إلى رأيه. 

وتارة يظل الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام لبعضهما البعض.
كقصة عمر مع ربيعة بن عياش في التفضيل بين مكة المكرمة والمدينة المنورة .

وقصة الأراضي المفتوحة هل تصير خراجية أم توزع على الغانمين.

وقصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا.
وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى.

وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سكنى المبتوتة ونفقتها حيث قالت بنت قيس إنه لا سكنى لها ولا نفقة وقال عمر بخلافها قائلا: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندرى أحفظت أم نسيت.

واختلاف ابن مسعود وأبي موسى الأشعري في مسألة إرضاع الكبير حيث رآه الأول غير مؤثر وراءه الثاني مؤثراً.

واختلاف أبي هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار حيث أوجبه الأول ولم يوجبه الثاني.

واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء حيث رأى عمر الامتناع من دخولها ورأى أبو عبيدة الإقدام عليها قبل أن يخبرهما عبد الرحمن بن عوف بالحديث.

ويدخل التابعون في بعض الأحيان في حلبة الخلاف كأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مع ابن عباس في عدة الحامل المتوفى عنها هل تعتد بأبعد الأجلين أو تعتد بالوضع.

وتقف عائشة إلى جانب ابن عباس قائلة لأبي سلمة إنما أنت فروج – رأى الديكة تصيح فصاح – معتبرة أنه لم يبلع بعد درجة الاجتهاد ولكن الأمر لا يتجاوز ذلك.

وموضوعات الاختلاف كثيرة جدا ولكنها تحسم بالتراضي أحيانا ، ويسجل لعمر رضي الله عنه كثرة رجوعه إلى آراء إخوانه من الصحابة واعترافه أمام الملأ بذلك قائلا أحيانا: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وتأصيله للقاعدة الذهبية وهي:” أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد” وهي قاعدة تبناها العلماء فيما بعد فأمضوا أحكام القضاة التي تخالف رأيهم واجتهادهم حرصاً على مصلحة إنهاء الخصومات وحسم المنازعات وهي مصلحة مقدمة في سلم الأوليات على الرأي المخالف الذي قد يكون صاحبه مقتنعا به.

أقوال العلماء في الاختلاف :

يقول الحافظ بن رجب: ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظن أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورا وقد لا يكون معذورا؛ بل يكون متبعاً لهواه، مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض، فإنَّ كثيراً كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا يقدح في أنْ يكون هذا البغض لله، فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه، خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.

وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أنَّ كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحاً ويكون فيه مجتهداً مأجوراً على اجتهاده فيه موضوعاً عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصد الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.

وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق فافهم هذا، فإنه مهم عظيم، (وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم). انتهى كلام الحافظ ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” وهو كلام في غاية الفضل.

قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة”.

وقال الشافعي: ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته”.

 

العذر باختلاف العلماء:

عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم: إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً.

ويقول العز بن عبد السلام: من أتى شيئا مختلفا في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا.

ويقول إمام الحرمين: ثم ليس للمجتهد أنْ يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موقع الخلاف إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا، ومن قال إن المصيب واحد فهو غير متعين عنده فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين.  

وكان مالك رحمه الله تعالى يستعظم أن يقول المفتي هذا حرام في مسائل الاجتهاد الخلافية وإنما يقول: أكره.

قال ابن رشد في البيان والتحصيل: قال مالك: لم تكن فتيا الناس أن يقال هذا حلال وهذا حرام ولكن يقال: أنا أكره هذا ولم أكن لأصنع هذا، فكان الناس يكتفون بذلك ويرضون به، وكانوا يقولون: إنا لنكره هذا وإن هذا ليتقى، لم يكونوا يقولون هذا حلال وهذا حرام. وقال: وهذا الذي يعجبني والسنة ببلدنا.

أسباب الاختلاف

إن أسباب الاختلاف بعضها يرجع إلى فطرة البشر وإلى طبيعة الأدلة فمن الأول ما يقول فيه ابن القيم : وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه.      

   أما طبيعة الأدلة فيمكن إجمالها في أربعة أوجه تعتبر عناوين كبيرة لأسباب الاختلاف الكثيرة والمتنوعة.

1- اختلاف في دلالات الألفاظ وضوحاً وغموضاً واعتباراً ورداً.

2- اختلاف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة قبولاً ورفضاً.

3- اختلاف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.

4- اختلاف في ترتيب الأدلة عند التعارض قوة وضعفاً.

فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء، وقد ذكر ابن السيد ثمانية أسباب لاختلاف العلماء .                                                          

   وأما الحافظ ابن رجب فقد قال عن أسباب الخلاف: منها أنه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.

ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما: بالتحليل، والآخر: بالتحريم، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر؛ فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.

ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.

ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف أفهام العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.

إنه بالنظر إلى منهجية مختلف المذاهب ندرك بداهة أنها لا تختلف في اعتبار الكتاب والسنة مصدرين منشأين للتشريع، وهو أصل عقدي للمسلم كما أنها تعتبر الإجماع والقياس مصدرين معرفين على الأصلين، وهذا في الجملة.

أما في التفصيل، فإنَّ ملامح الاختلاف تتحدد على ضوء اجتهاد يتوسع في معتبر الحديث؛ فيعمل بالمراسل والبلاغات والمنقطع والضعيف أحياناً، مقدماً ذلك في الرتبة على معقول النص المدرك بالاجتهاد. وبين مقتصر على اعتبار ما صح بمعايير حديثية صارمة تاركاً للاجتهاد بالقياس وما في حكمه، أو للاستصحاب مساحة أوسع، وربما قدم بعضهم عمل الراوي على العمل بمرويه.

كما أنَّ تفاصيل التعامل مع الإجماع يعرض فيها الاختلاف بين موسع لمفهوم الإجماع ليشمل الإجماع السكوتيّ وإجماع سائر القرون والعصور ومعتبر إجماع أهل المدينة.

وبين مضيق في مفهوم الإجماع لحصره في النطقي، ومن يحصره في إجماع الصحابة فقط.

وكذلك فإن قياس العلة يتفق على اعتباره أكثر العلماء، غير أنَّ الاختلاف يعرض في أنواع أخرى من القياس؛ كقياس الشبه وقياس العكس، وكذلك بعض مسالك العلة.

أما الأدلة الأخرى كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي وشرع من قبلنا.

فتتفاوت المذاهب بالأخذ بها، ولكنها لا تعرو عنها، والتباين إنما هو في التنائي عن النص والشسوع عنه أو اللياطة به واللصوق، كما يشير له إمام الحرمين وهو يقرر موقف الشافعي من المصالح المرسلة.

وبصفة عامة يختلف الأئمة في الأخذ بالمقاصد، فمن متوسع في الأخذ بها متعمق في أغوارها دائر مع إيرادها وإصدارها ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها. 

وكل المذاهب بدون استثناء اعتمدت قادة مجتهدين ومجتهدى مذهب ومقلدين متبصرين ومقلدين ناقلين، وجعلت من سلك سبيلهم من عوام المسلمين في سعة في دينه وسداد في أمره، كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلاء وترجح لكنها أيضاً ذكرت جواز العمل بغير الراجح وبغير المشهور لضرورة أو حاجة منزلة منزلتها.

السمة الثانية: التصالح في الخطاب والكف عن التبديع والتكفير.

لخطورة التكفير فقد ورد في الحديث: من رمي مؤمنًا بكفر فهو كقتله”.()

“إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما”.()

والأحاديث بمثل هذا المعني كثيرة، وما ذلك إلا لما يستلزمه الكفر من النتائج الخطيرة التي من جملتها إباحة الدم، والمال، وفسخ عصمة الزوجية، وامتناع التوارث، وعدم الصلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين، وغيرها من البلايا والرزايا نعوذ بالله تعالى منها.

هذا وقد اختلف العلماء في مسائل التكفير وتبادلت الطوائف تهمته بحق أو بغير حق، إلا أنه بسبب ما ورد فيه من الوعيد حذّر أشد التحذير من التكفير جماعة من العلماء حتى قال الإمام السبكي: ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكفيره صعب”.

وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني: لا أكفر إلا من كفرني”.

وقد بالغ الإمام أبو حامد الغزالي حتى نفي الكفر عن كل الطوائف فقال: هؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد، والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطا، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.

وبعد أن ذكر أمثلة لطوائف يكفر بعضها بعضاً.

قال: والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق، ووجهه أن كل من نزل قولاً من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التي لا تحقق نقصًا فهو من التعبد، وإنما الكذب أنْ ينفي جميع هذه المعاني ويزعم أنَّ ما قاله لا معني له إنما هو كذب محض، وذلك هو الكفر المحض، ولهذا لا يكفر المبتدع المتأول ما دام ملازمًا لقانون التأويل؛ لقيام البرهان عنده على استحالة الظواهر”.()

“وفي جامع الفصوليين روي الطحاوي عن أصحابنا: لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها، وما يشك أنه ردة لا يحكم بها؛ إذا الإسلام الثابت لا يزول بالشك، مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رُفع إليه هذا أن لا بادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضي بصحة إسلام المُكره”.

أقول: قدمت هذا ليصير ميزانًا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل، فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة، فليتأمل أحد ما في جامع الفصوليين.

وفي الفتاوى الصغرى: الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرًا متى وجدت رواية أنه لا يكفر”.

وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتي أنْ يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم، زاد في البزازية: إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل، وفي التتار خانية: لا يكفر بالمحتمل؛ لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية والاحتمال لا نهاية معه “.

“والذي تحرر أنه لا يفتي بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة، فعلي هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكور لا يفتي بالتكفير فيها، ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها”. أ.هـ كلام البحر –باختصار-().

ومثله نص عليه في تنوير الأبصار مع شرحه رد المحتار، وعلق ابن عابدين على قوله: ولو رواية ضعيفة بقوله: قال الخير الرملي: أقول: ولو كانت الرواية في غير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعًا عليه”.()

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أن ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفًا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع، لكن للناس نزاع في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع –والمقصود هنا- أن ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ أو لإمام من الأئمة أن يكفروا من عداهم، بل في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما”.()

ولهذا فالخطاب الإسلامي ينبغي أن لا يكفر أحداً من الأمة المحمدية من دخل الدائرة الكبرى وهي دائرة التوحيد والاعتراف بالنبوة الخاتمة إلا أن يأتي بناقض غير محتمل عليه من الله برهان قاطع.

هذا الذي رجع إليه العلماء وارتضاه الفقهاء ورجع إليه من خاضوا بحور علم الكلام ودونوا مقالات أهل البدع وأهل الإسلام.            

ولعلي اختم بكلمات للحافظ الذهبي وهي قوله: رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: أشهد على أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات..

قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ” فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم”.( الذهبي   سير أعلام النبلاء 15/88 )

السمة الثالثة: التيسير على الناس ورفع الحرج

قال أبو إسحاق الشاطبي:”المسألة السادسة”: فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور:

أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى:} وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ { وقوله} رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا{ وفي الحديث:”قال الله تعالى قد فعلت” وقد جاء:} لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا{  }يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ{ و } وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ { و}يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً{ و} مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { وفي الحديث:” بُعِثتُ بالحَنِيفية السمحة” وحديث:”ما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُما أَيْسَرُ من الآخَرِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً فَإنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ”.

وإنما قال:” ما لم يكن إثماً ” لأن ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى. ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.

والثاني: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.

ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.

وأطال النفس قائلاً: إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء.

والتيسير قاعدة من قواعد الترجيح في الخلاف لما تقدم ومن مظاهر التيسير التعامل مع عامل الزمن.

ومن مظاهر التيسير النظر في مئالات الأفعال والأقوال واعتبار الأعراف والعادات.

فالخطاب الإسلامي يجب أن يستوعب كل هذه القواعد ليكون أكثر نجاعة وجدة وتأثيراً لأنه أكثر تيسيراً وتبشيراً.


خلاصة القول: إن الخطاب الإسلامي يقوم على قواطع وثوابت علمت من الدين بالضرورة، هي أساس الدين ودعائمه كالألوهية والتوحيد والنبوة والرسالة ومكانة الإنسان في التشريع والكليات التي تحميه وتصوب حياته.

هذه الثوابت يجب أنْ توظف كل الأساليب العلمية في بيانها، وجمع الأمة حولها، وتقديمها للبشرية مدعومة بالحجج العلمية والبراهين العقلية ليهدي الله تعالى بها من يشاء من عباده.  

ولحسن حظنا وحظ الإنسانية ليس في ديننا ما يناقض العلم أو ينافي العقل، بل إن العلم والعقل خير معين على بيان صحة هذا الدين.

فهل أحسنا العرض وأجدنا الإبرام والنقض ؟

إنَّ الخطاب الجديد في عصر العولمة والقرية الكونية وطغيان القيم المادية الخالية من كل قيم إلاهية أو إنسانية نبيلة مما أوجد الإنسان الحسي أو الجسدي الذي يعيش لذاته مستغرقاً في لذاته فلا نبل ولا كرم ولا إيثار ولا تضامن ولا نظر في المئالات إلا مئالات الربح بلا روح والثروة بلا رائحة، إنه نذل لا غيرة له حسب ما يقول فوكوياما وهو الهلباجة في مفهوم الأعرابي وخلف الأحمر.

فالخطاب الإسلامي متسامح؛ لأنه يقبل الاختلاف ويتسع لمختلف وجهات النظر والآراء، فلا إنكار في مختلف فيه كما أصلنا ذلك، إذا كان اختلافاً معتبرا، ومن لا يستطيع إدراك طبيعة الاختلاف فليس من أهل الميدان ولا من فرسان الشان.

والخطاب الإسلامي متصالح لأنه لا يكفر من دخل الدائرة الكبرى؛ إلا بناقض مجمع عليه قام عليه برهان قاطع.

والخطاب الإٍسلامي ميسر لأنه يتوخى مصالح الناس ويراعى ضعفهم ( يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)

والخطاب الإسلامي إنساني لأنه يرفع قيمة الإنسان.

والخطاب الإسلامي ثابت صلب في جوهره مرن في تعبيراته.

ومع ذلك فإن خطابنا بقواطعه وثوابته راسخ رسوخ الجبال الراسيات شامخ شموخ الأطواد المشمخرات ولكنه في تفريعاته مائس مع رياح المصالح ميس فروع البان بنسائم الأسحار على وعساء الكثبان.

والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.         


– الزركشي       البحر المحيط                   1/96  

– الشاطبي            الموافقات               3/416

([3]) سورة العلق : 6 – 7 .

([4]) سورة الأنبياء : 37 .

([5]) سورة النساء : 28 .

([6]) سورة المعارج : 19 .

([7]) سورة البقرة : 30 .

([8]) سورة هود : 61 .

([9]) سورة الرحمن : 10 – 12 .

– جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه “كتاب الجهاد” وغيره. ومسلم في صحيحه “كتاب الإيمان”.

– القرافي                نفائس الأصول في شرح المحصول         4/513

– الزركشي                  البحر المحيط             4/488

– سيدي عبدالله             نشر البنود                 2/315

– نفس المرجع        2/560

– نفس المرجع        2/574

– ابن القيم           إعلام الموقعين

– قال الملا علي القارئ: إن السيوطي قال: أخرجه تصر المقدسي في الحجة والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند، ورواه الحليمي والقاضي حسين، وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خُرِّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا.  

– ابن عابدين             رد المحتار      1/46-47  

– الذهبي                            سير أعلام النبلاء          ترجمة الإمام الشافعي

– ابن القيم                 إعلام الموقعين     3/365

– العز بن عبد السلام       قواعد الأحكام    1/109

– إمام الحرمين            الإرشاد         ص 312

– ابن رجب        جامع العلوم والحكم   1/131  

([24]) هو جزء من حديث أوله: ((من خلف بملّة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال))، فتح الباري 8/32.

([25]) متفق عليه، البخاري، فتح الباري 8/32، مسلم 1/79.

([26]) الزركشي، المنثور 2/ 87- 88.

([27]) حاشية ابن عابدين 3/ 289.

([28]) حاشية ابن عابدين: 3/ 289.

([29]) مجموع الفتاوى: 7/ 685.

[30] سورة الأعراف       الآية 157

– سورة البقرة         الآية 286

 أخرجه مسلم عن ابن عباس باب الإيمان حديث رقم180

– سورة البقرة       الآية 286

– سورة البقرة        الآية 185

– سورة الحج        الآية 78  

– سورة النساء       الآية 28

– سورة المائدة       الآية 6

– الحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه حديث رقم 21260 باقي مسند الأنصار.

– الحديث أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها كتاب الفضائل رقم 6047

– الشاطبي      الموافقات      2/121- 122

– نفس المرجع    2/ 299

Comments are closed.