علاقة الدين بالدولة: وجهة نظر إسلامية

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه  

 

علاقة الدين بالدولة: وجهة نظر إسلامية  

الأستاذ/ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه  

     

((ولقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))

الدين: -هنا- مجموعةُ العقائد والقواعد والأعمال المتلقاة للرسول من الله الخالق يَعدُ العاملين بها بالنعيم المقيم والمعرضين عنها بالعقاب.

وقد يُطلقُ على الشريعة -وهي سلسلةٌ محكمةٌ من القواعد والضوابط- المبادئ والأحكام التفصيلية، مغطيةً العقائدَ والأخلاق والسلوك والمعاملات في كل أبعادها، منظمةً علاقةَ الإنسان بربّه، وعلاقته بأبناء جنسه “البشر”، فكانت إيمانًا وعبادات مقرونةً بالعمل الصالح، مما جعل القيم أساسًا لقوانين المعاملات، إنَّه تسلسلٌ مترابطٌ نسيجُ وحده بين الإيمان والعمل والمعاملة ، يحقق العدالةَ والسعادة في حياة البشر، ويجنّبهم الظلمَ والطغيان والشقاء.

الدولة-هنا- سلطاتٌ عامةٌ تمارس الحكمَ على شعبٍ وعلى أرضٍ.

وللحديث عن العلاقة بين الدين والدولة لعلي أستعين بهذا العنوان المثير لمستشار فيدرالي في الإتحاد السويسري هو موريتيس …

لمحاضرة ألقاها في جامعة لوزان في 2 فبراير 2005م كالتالي: هل الإله ضرورة للدولة ؟             

وقد بنى عليه العديدَ من الأسئلة التي تواجه الفيدرالية السويسرية التي تُعتبر من الدول النادرة في أوربا التي ينص دستورها على أنها دولةٌ دينيةٌ وكنيستها هي كنيسة دولة مع ما يترتب على ذلك من إلتزامات الدولة تجاه المؤسسة الدينية.

ولعلَّ سبب طرح السؤال هو الوجودُ الحديث لأديانٍ غير المسيحية في سويسرا والتي أصبح الموقف منها قبولاً ورداً وتسامحاً واعتراضاً يدفع إلى الواجهة تساؤلات أهمها: ما مدى ضرورة انحياز الدولة لدينها الرسمي؛ لتمنع ذبح الأعياد والحجاب بالنسبة للمسلمين وحياديتها للتسامح مع الديانات، أو يضعها على قدم المساواة مع الكنيسة فتقدم لها الدعم المادي والمعنوي لتبني دور العبادة وتدفع الرواتب للأئمة.

لكنْ لنتجاوز دوافع السؤال التي هي سويسرية وربما أوروبية أيضا في العلاقة بين الدين والسلطات.

ودعونا نصوغ السؤالَ بطريقة أخرى ليكون أقرب إلى مفهوم المسلمين وهو: هل الدولة ضرورة للدين ؟

  لهذا آثرنا عبارة :  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وقد تلاحظون أنَّ السؤالَ قد لا يُمثل حرفياً قلباً للقضية التي طرحها لكنه يمكن أنْ يمثله بالقوة إذ أننا معشر المسلمين لا يمكن أنْ نعتبر شيئاً ضرورة للإله وذاك بالتأكيد هو موقف المسيحيين؛ لأنَّ الإله يفتقر إليه كل شيء ولا يفتقر إلى شيء: هل الدولة ضرورة للدين ؟

هناك موقفان من هذه القضية:

الموقف الأول: وهو موقف قلة من الأولين وثلة من المحدثين يرى أنه لا دولةَ في الدين. فالجواب إذا بالنفي.

فمن الأولين بعضُ المعتزلة كعبدالرحمن بن كيسان الأصم الذي قال بأنَّ الدينَ لا يوجب نصب الحكام وأنَّ الناسَ يمكن أنْ يتركوا على حالة الطبيعة أو أخيافاً. حسب عبارة إمام الحرمين في “الغياثي”.

ومن المحدثين عليّ عبد الرزاق ولا بأس من سوق بعض نصوصهم التي تعترف بمضمون دولة ما دون الاعتراف بدولة في الدين الإسلامي فعلى سبيل المثال يقول برهان غليون: أما الإسلامُ فقد انطلق من موقف مشابه للموقف المسيحي الإنساني والعالمي، فجعل من الهداية إلى طريق الله والدعوة لدينه والشهادة في سبيله رسالته الجوهرية.

: قل لابن أخيك أنْ يترك هذا الدين، وإنْ أراد مالاً جمعنا له من أموالنا حتى يكون أكثرنا مالاً، وإنْ كان يطلب به الشرف فينا فنحن نسوده علينا، وإنْ كان يريد به ملكاً ملكناه علينا، وإنْ كان هذا الذي يأتيه رئياً تراه قد غلب عليه بذلنا له أموالنا في طلب الطب حتى نبرئه منه أو نعذر فيه. عن عزمه، قالت لأبي طالب عم الرسولوعند ما حاولت قريش أنْ تثني الرسولَ

 قولته المشهورة: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أنْ أترك هذا الأمرَ ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.فقال الرسول

 يدعو المسلمين كذلك إلى الاستعداد لليوم الآخر، وكان يطلب منهم تجنيد أنفسهم في سبيل الله لنشر دعوته والموت من أجلها وليس لبناء سلطة لهم باسمه، إنَّ ما جعل من الإسلام خاتم الرسالات وأكملها معاً هو جمعه بين رسالة السيد المسيح التي هي التبشير والبشارة بالخلاص عن طريق الإيمان بالله الواحد، ورسالة موسى التي لا تكتفي بالتبشير الروحي ولكنها تدعو المؤمنين إلى القتال والشهادة في سبيل نشر الدين الحق. لكن هذا القتال لا يغير من هدف الرسالة وغايتها؛ إنه ليس قتالاً في سبيل الملك ولا في سبيل الدولة ولكن في سبيل الله.وكان محمد 

وكذلك فإنه كان يدعو ملوك الأرض إلى الدين ولا يطلب منهم التنازل عن ملكهم فمن قبل بالدين أُمر بالصلاة والزكاة ليوزعها على فقراء بلده فمنهم من أسلم كالنجاشي وبقي ملكاً على شعب مسيحي.

وكذلك لم يُعين أحداً ليخلفه في الحكم وإنما عينه ليخلفه في إمامة الصلاة لكن أصحابه هم الذين انتخبوا الحاكم”.

أما الفئة الكاثرة من مختلف المذاهب الإسلامية فلا تتردد في أنَّ الدولةَ جزء من الدين بمعنى أن إيجاد سلطة حاكمة مطلبٌ ديني.

فالجواب بنعم: الدولة ضرورة للدين بناء على مجموعة من الأدلة:  

أولاً: الأصل في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام مارس تصرفات تعتبر من باب الحاكمية لكونه حاكماً لجماعة المسلمين أو رئيساً للدولة، ولقد ظهر في فقه الصحابة ما يدلُ على أنَّ هذه التصرفات ترتبط بالمصلحة الراجحة العامة، وليس لها حكم الدوام والاستمرار.

 بوصف القضاء يقتضي ذلك، وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث؛ ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به  أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة فإنْ كان مأموراً به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح، وإنْ كان منهياً عنه اجتنبه كل أحد بنفسه، وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أنْ يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام؛ ولأنَّ سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك، وما تصرف فيه  بهذه الأوصاف تختلفُ آثارها في الشريعة فكل ما قاله  منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً، ومنها ما يجمع الناسُ على أنه قضاءٌ، ومنها ما يجمع الناسُ على أنَّه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماءُ فيه لتردده بين رتبتين فصاعداً فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته  بالتبليغ؛ لأنَّ وصفَ الرسالة غالبٌ عليه ثم تقع تصرفاته  إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصباً منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب دينيِّ إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه  هو الإمامُ الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو  بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة” قال القرافي: اعلم أنَّ رسولَ الله وقد أصل لذلك الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه “الفروق” في الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرفه [1].

 كانت ذات أبعادٍ مختلفةٍ منها البلاغُ للوحي، ومنها أنَّ يتصرف كرئيس للدولة يوقعُ المعاهداتِ، وكقاض يفصلُ الخصوماتِ. مقتضى هذا أنَّ ممارسةَ النبي 

ومن هذه التصرفات نُدرك اندماج الدولةِ في الدِّين من حيث المبدإ لا من حيث التفاصيل حسب رأي القرافي وحسب رأي بعض الكتاب المحدثين.

ثم إنَّ الصحابةَ انتخبوا حاكماً بعده فكان إجماعاً على حاجةِ الدِّين للدولةِ، ولهذا تنتفي بشكل أو بآخر مقولةَ من يقول: إنَّ الإسلامَ دين فرديُّ وليس دولةً؛ لأنَّ الفرديَّ ليس دائماً منافياً للجماعيِّ بل إنَّه أصلُه.

وتصرفُ الصحابةِ في نصب الحاكم وفي نظام الحكم يدلُ على أهمية الدولة في الإسلام. 

 إلى الرفيق الأعلى بعد أنْ أسلم أهلُ الجزيرة العربية أو سالموا في وقت كان الكثيرُ من الصحابة لا يتوقعون ذلك الرحيل ومن هؤلاء عمر الذي كان يهدد من يقول ذلك. أما البعض الثاني الذين فهموا مغزى خطبة التخيير -والتي أخبر فيها عليه الصلاة والسلام أنَّ عبداً خيرَ بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله- قبل وفاته بأيام فقد توقعوا ذلك وذرفت دموعهم عندما سمعوه على المنبر يعلن ذلك دون أن يصرح به حتى لا تهيج المشاعر.فما أنْ انتقل النبي 

بعد الانتقال تولى الصديق البيعة الذي انتخب في سقيفة بني ساعدة حتى تمايز حقلان من التشريع حقل العقائد: الإيمان بالله الواحد الأحد وبالأنبياء جميعاً وبكتب الله كلها وبالبعث الأخير وأن البشر كلهم إلههم واحد وأبوهم واحد فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج.

فهذه لا يجوز تغيير شيء منها ولا تبديله ولا تأويله تأويلاً مجحفاً.

أما الحقل الثاني فهو التشريعُ المتعلق بأنظمة الحكم؛ سواء كانت سياسة كنظام الدولة واختيار رأس الدولة وطريقة الاختيار ونظام الجيوش والعلاقات الدولية والحروب والمعاهدات وكذلك المعاملات المالية من بيوع وإجارات وغيرهما من أنواع العقود فقد تناولها التأويلُ والاجتهادُ الذي يرجع إلى المعاني من المصالح والمفاسد. وهذا هو الدليل الثاني. 

إما الدليل الثالث فإنَّ القرآن الكريم وجه نوعين من الخطاب؛ خطاب للأفراد وخطاب للجماعة وهذا ما عرف عند علماء الأصول بفرض العين بالنسبة للخطاب الأول كالصلاة والصيام والحج.

وأما خطاب الجماعة وهذا ما يعرف بفرض الكفاية؛ بمعنى أنه ليس موجهاً إلى شخص بعينه وإنما هو موجه إلى الأمة كلها، كإقامة العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلوم من الظالم، وهذا النوع من الفروض لا يمكن أنْ تقوم به إلا سلطةُ الدولة.

 فقد كان يمتدح الشورى ويمارسها في الشؤون الحياتية، وكان أصحابه يعرفون ذلك، فربما بدأوه بعرض آرائهم بعد جملة التحفظ الاعتيادية: “هل هو الرأي” ، وفي كثير من الحالات يتغير الموقف فيتنازل عن رأيه.ولهذا أقام الصحابةُ حكماً على أساس نظام الشورى والبيعة الذي فهموه من النبي

، وهكذا تمت البيعة الأولى، بيعةُ أهل الحل والعقد.، حيث إنه لم يوص بالخلافة إلى أحد؛ بل أناب فقط صراحة في إمامة الصلاة تاركًا أمر تعين الخليفة –رئيس الدولة- لاختيار الأُمة، فكانوا حزبين: حزب الأنصار سكان المدينة الأصليين، وحزب المهاجرين من أهل مكة، فعقدوا اجتمعًا في بيت زعيم الأنصار تبادلوا فيه الخطب، وقدموا فيه الحجج المعتمدة على المصالح العامة، وهكذا تمت البيعة لأبي بكر الصديق الذي كان معروفًا بإخلاصه الشديد وتفانيه في الدعوة، ولم يكن من بيت النبي لكن القرآن ترك للأُمة أمرَ تفصيل هذا المبدأ الكلي وتحديد معالمه طبقًا لمصالحهم المتجددة وحاجتهم المتطورة، فكان أولُ اختبار لوعي الأمة وقدرتها على تطبيق مبدأ الشورى بعد وفاة النبي 

وكانت البيعة الثانية وهي بيعة الجمهور في المسجد وفي المواطن التي وصلها الإسلام كمكة، وقال العلماء صراحة حيث بويع له فلا بد من هذه البيعة.

يدّعي محمد أسد –وهو مسلم نمساوي- أنَّ هذه أول تجربة ديمقراطية.

وعندي أنها قد لا تكون كذلك، إلا أنها على كل حال تجربة إنسانية عظيمة، أن يجتمع أولئك القوم نصف البدو وهم من المقاتلين الأشداء أن يجتمعوا بدون سلاح ليتناقشوا، وأن لا تستعمل أي كلمة جارحة أو أي تهديد، ثم يتفقون على واحد منهم ليقول في أول خطاب علني بعد تولي رئاسة الدولة: إني وُليتُ عليكم، ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعتُ الله، وإن عصيت فلا طاعة لي عليكم”.

إنَّ نظام الشورى يصب في جدول واحد هو “العدالة” في الإسلام والتي بإمكانها أنْ توفر للإنسان ما نقدر ونظن أنَّ الديمقراطيةَ تبحث عنه من إسعاد الإنسان، وما نظن أنها لم تصل إليه بَعدُ باعتبار الديمقراطية كالشورى وسيلة وليست غاية، والديمقراطية محطة من محطات الإبداع الإنسان وليست نهاية التاريخ، فالبحث عن إسعاد الإنسان إذن هو هدف مشترك للديمقراطية والشورى معًا.

لعلكم تسألون كيف مورست الشورى وكيف تمارس؟

إنه سؤال مشروع، وإنني قدمت لكم مرجعية هذا البحث؛ فإنَّ الإسلامَ هو مثالٌ تجب محاولة الوصول إليه، وبقدر ما نقترب منه يكون وضع العدالة أفضل، ويكون الإنسان أسعد.

وهذا النظام ليس جامدًا ومتصلبًا بل قابل للتطور والتطوير، وقابل للإفادة من التجارب الإنسانية التي تحترم الثوابت والمرجعية وتقدر الأولويات والضرورات الاجتماعية والأمنية.

 وكل إنسان هو خليفة وليس الحاكم وحده.(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فهو سبحانه وتعالى في عليائه إذ هو “العلي” وهو “الأعلى” تلك أوصافه وأسماؤه في الإسلام، ولكنه مع ذلك قريب من خلقه، أقرب إليهم من حبل الوريد، والإنسان مستخلف في الأرض ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَأولاً: مرجعية الشورى: إن مرجعية الشورى هي ربّانية بتطبيقات إنسانية، وهذا يعني أنَّ الإنسانَ وهو يتولى سيادة اختيار الحاكم عن طريق البيعة والشورى له أنْ يضع الأنظمة الكفيلة بنجاح العملية، وهي أنظمة تتأثر بالزمان والمكان، والمصلحة التي هي أساس الشريعة على حد تعبير ابن القيم، ولكن مع ذلك فإنَّ خاصيةَ النظام الإسلامي هي أنَّ كل شيء هو لله، فهو الذي له الخلق، فهو خالق الكون ولكنه لم يخلقهم ويتركهم بل أمرهم ونهاهم. وهذه العلاقة بين الخلق والنظام التي توضحها الآية الكريمة:

إنَّ “الثنائية” بين السيادة المطلقة للخالق في الأمر: وهو أصول التشريع وثوابته وتحديد الحق والباطل، وفي نفس الوقت بين الإمكانية المتاحة للإنسان؛ وليس فقط الإمكانية ولكن التكليف للإنسان بإعمال عقله وفكره ليصل إلى الصلاح العام. 

هذه “الثنائية” هي التي ربما تجعل البعضَ يُحجم عن وصف النظام الإسلامي بصفة الديمقراطية أو تيوقراطية أو أرستقراطية؛ لأن أيًا منها لا ينطبق عليه.

، فعمر يريد أنْ يتحمل خطأ رأيه وصوابه دون أنْ ينسب لله شيئًا.إنَّ الانسجامَ بين هذه الثنائية يمثل حجرَ الزاوية في النظام الإسلامي، وهذا ما يجعله بعيدًا من الثوقراطية التي هي تفويض إلهي للحاكم، ويُفسر بُعدَه عنه قولُ الخليفة الثاني عمر لمّا كتب كاتبه في رسالة كان يكتبها بأمره: هذا ما أري الله عمر. فزجره قائلاً: اكتب: هذا ما رأي عمر؛ لأنَّ هذه الصفةَ مختصةٌ بالنبي 

 [ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَـكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]ولهذا فإنَّ الرقابةَ ثلاثيةٌ لحسن تطبيق خلافة الإنسان في الأرض 

قال إمام الحرمين: في معنى الإمامة ووجوب نصب الأئمة وقادة الأمة:

الإمامةُ رياسةٌ تامة، وزعامةٌ عامّة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا. مهمتها حفظُ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامةُ الدعوة بالحجة والسيف، وكفُّ الخيف والحيف، والانتصافُ للمظلومين من الظالمين، واستيفاءُ الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين[2].

-العلاقة يمكن أن تتصور على ست مستويات:  

المستوى الأول: اندماجٌ كاملٌ بمعنى أنَّ نظامَ الدولة يعتمد على النصوص الدينية، وتمارسه سلطةٌ مفوضة من الإله، معصومة، هذا هو مفهوم الثيوقراسية.

المستوى الثاني: نظامٌ يقوم على نصوص دينية يمارسُ السلطةَ فيه علماءُ دينٍ لكنهم ليس لهم تفويض إلهي، فهم لا يمارسون أعمالهم باسم الإله ولا نيابة عنه، ولكنهم يسعون ليكونوا أقرب ما يمكن لروح التعليمات الإلهية.

المستوى الثالث: أنْ يكون التشريعُ مستمداً من النصوص الدينية، ولكن الذين يمارسون السلطةَ فيه ليسوا علماء دين، ولا رجال دين، بل مدنيون ملوك أو قادة جيوش، تارة باسم النسب والعصبية ، وتارة عن طريق القوة والغلبة.

ملاحظة مهمة: إنهم يستمدون شرعيتهم من الدين، ويفسحون المجال لفقهاء الدين لممارسة القضاء والفتوى والتوجيه، وبالتالي تنشأ طبقة الفقهاء موازية لطبقة السلطان.

المستوى الرابع: نظام لا يكون التشريع فيه مستمداً من نصوص الدين؛ لكنه يعترف بمرجعية دينية للشعب أو للدولة، قد يستمد بعض قوانينه من الشريعة كالأحوال الشخصية مثلاً ، وفي نفس الوقت يمارس وصاية على المؤسسات الدينية كالمدارس الدينية ودور العبادة، وفي مقابل ذلك فإنه يتحمل التكاليف المادية اللازمة لتشغيل المؤسسات، ونتيجة لذلك قد يضمن ولاءَ مجموعة من رجال الدين، وقد يَسنُّ قوانين تهتم بالأخلاق أو بالشعائر ويكسب بذلك شيئاً من الشعبية إنْ لم نقل شيئاً من الشرعية مثال المحافظين الجدد وبعض الدول الإسلامية.

المستوى الخامس: دولةٌ تطبق نظاماً مدنياً كاملاً، وتجعل الدين شأناً خاصاً لا علاقة له بالمجال العام ولكنها لا تعارضه: “دولة علمانية”.

المستوى السادس: دولةٌ لا دينية وتناصب الدين العداء؛ بحيث تتدخل في الشئون الدينية تحجيماً وتقليصاً، وقد كان لهذا دعاةٌ في أوربا في وقت من الأوقات ومثاله الدول الشيوعية وتركيا الكمالية.

هذه هي المستويات في التعامل والتفاعل التاريخي بين الدين والدولة، وهو أمرٌ لا يزال له نوع من الوجود في العالم المعاصر، ولا يزال موضوع نقاش في كثير من الأوساط الثقافية في العالم الإسلامي وخارجه في الجانبين العملي والنظري مع بروز التيارات الإحيائية إلى جانب التيارات العلمانية المغالية.

يمكن أنْ نقول إنَّ الدولةَ في الإسلام ليست دولة دينية بالمعنى التيوكراسية المفهومة في الغرب وبخاصة بعد انتقاله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، أما في زمن النبي الخاتم فلقد كان يمكن وصفها بذلك؛ لأنه ناطق بالوحي متصرف بإذن الله تعالى مهما يكن من تفسير لتصرفاته.

وإنْ كان البعضُ يراها دولةً مدنيةً أو دولةَ مواطنين فإني شخصياً لا أتصور دولةً مدنيةً بالمعنى الغربي يُديرها نبيُّ مرسلٌ ، إنها دولةٌ دينيةٌ.

 آمراً لجنده: وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا “.أما بعد زمنه فليست كذلك بل إنها دولة يحكمها علماء دين في زمن الخلفاء وهذا هو المستوى الثاني الذي أشرنا إليه في العلاقة بين الدين والدولة، فهم ليسوا ناطقين باسم الإله ولا نواباً عنه يفسر ذلك قوله 

وقول الخليفة الأول: أقول في ميراث الجد برأيي فإن كان صواباً فمن الله ورسوله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.

وقول عمر لكاتبه: “هذا ما رأى عمر” رداً على كاتبه الذي كتب: هذا ما أرى الله تعالى عمر.

لهذا يمكن أن نقول بدون تردد أن نظام الحكم ليس تيوقراطياً بالمعنى المتداول، وإنْ كان قد ورد في كلام بعض الملوك ما يدل على ذلك، فقد روي عن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي أنه بعد أنْ استولى العباسيون على زمام الملك وأصبح الأمر بأيديهم بعد سقوط دولة بني أمية قال في خطبة له بمكة: ” أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه فقد جعلني الله عليه قفلاً إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني فارغبوا إلى الله أيها الناس[3].

وكذلك تجربة الثورة الإيرانية المعاصرة حيث يقوم على الحكم فيها رجال الدين هناك وعلى رأسهم رجل الدين الأكبر آية الله الخميني ثم خليفته، مما يعطي انطباعاً لأول وهلة أنَّ الحكم ديني بحت؛ لأنه يعتمد نظريةَ ولاية الفقيه، والشيعة الأمامية لهم وجهة نظر في هذا.

وكذلك فإن بعض الشعراء يعبرون عن ذلك. وكان بعض الشعراء في مدائحهم للخلفاء يقولون لهم ما يحبون    

كقول الفرزدق : خَليفَةُ اللَهِ مِنهُم في رَعِيَّتِهِ       يَهدي بِهِ اللَهُ بَعدَ الفِتنَةِ البَشَرا

وكقول آخر: خليفةَ اللهِ إن اللهُ أَهَّلكم       للأمرِ والنهيِ تحيا سنةُ السَّلَفِ

 وبدرجة أقل لصحابته، على الرغم من حاجته السياسية المستمرة للشرعية الدينية.أما بعد الخلفاء الراشدين فلعلي اتفق مع الكاتب المغربي عبدالإله بلقزيز في هذه الفقرة حيث يقول: ويمكننا أن نضيف –هنا- أن تنمية حالة الانفصال بين السياسي والديني جرت بوتائر أسرع حينما انتقلت الخلافة إلى “ملك عضوض”، وبات الخليفة بعيداً عن أنْ يدعي الدور الديني الذي كان للنبي

لقد حصلت تحولات هائلة في نظام المجال السياسي وسلطة الدولة، وفي أنماط الحكم وتقنيات التولية واختيار الحاكم منذ انصرمت حقبة الخلافة الراشدة.

ومع ذلك، لم تتعرض ثوابت النسق السياسي الإسلامي لتغيير جوهري، بل حوفظ عليها وجرت إعادة إنتاجها، وخاصة ما يتعلق منها بالمضمون الزمني للسلطة والنظام السياسي[4].

ولهذا فإنه في فترة طويلة من التاريخ يمكن أنْ نعتبر أنَّ المستوى الثالث أصبح سائداً في دول الخلافة، وكان الفقهاء في أوقات كثيرة حزبان حزب مع السلطة وحزب ضدها.

ففي مرحلة من الدولة العباسية كان المعتزلة بطانة السلطان في عهد المأمون والمعتصم والواثق فحكموا العقل وقالوا بخلق القرآن واضطهدوا أهل الحديث بين القرن الثاني والثالث للهجرة القرن الثامن والتاسع الميلادي، ولكن بموت الواثق 233هـ أصبح أهل السنة -مع المتوكل ومن بعده- في صدور المجالس، وأعلن الخليفة القادر الوثيقةَ القادرية التي يتبنى فيها اعتقاد أهل السنة ويحظر فكر المعتزلة وآرائهم ويجرمها.

وكانت المراجعات الفقهية تتجاذب الدول وتتنازع سلطان الفكر؛ إلا أنَّ الحكومات ظلت تستمدُ شرعيتَها من الدِّين بتطبيق أحكام الشريعة.

ولم يبق هذا الأنموذج إلا في مناطق قليلة لم يمتد إليها الاستعمار وهي بلاد الحرمين لأسباب تاريخية ودينية معروفة.

وفى العصر الحديث وبعد دخول الاستعمار الغربي لديار العالم الإسلامي وانجلاءه عنها ترك ازدواجية قانونية بين الشريعة والقوانين الوضعية التي هي في الحقيقة قوانين أوروبية منتجة هناك مع بعض التعديلات غير الجوهرية وأصبحت المؤسسة الدينية الرسمية تقوم بدورها في الشعائر الدينية والدعوة إلى الأخلاق دون إلزام وهي تشبه إلى حدما دور الكنيسة في اتفاقية الكونكوردات النابليونية في العلاقة بين الكنيسة والدولة.

ولم تلغ أي دولة من الدول الإسلامية إلى الآن دور الدين ولو شكلياً حتى إنَّ المؤسسة الأتاتوركية العلمانية بالمعنى المناهض للدين ظلت تحتفظ بمؤسسة دينية لتنظيم الشعائر.

وفي الحقيقة فإن أياً من المحطات أو المسارات للإصلاح الديني التي وقعت في أوربا وبخاصة في القرن السادس عشر لا تنطبق على التطور التاريخي للعالم الإسلامي.

وفي الواقع فإنَّ العلاقة بين الدين والدولة وفي الحقيقة بين السلطة والدين لا تزال مشكلة من مشكلات العصر في العالم الذي يشهد عمليات تحديث ودعوات للديمقراطية ورياح تهب من وراء المحيطات تؤثر تارة بحرها الساخن وتارة ببرد القارس على جسم شعوب المنطقة التي لم تحسم خيارها بعد.

خلاصة القول: إنَّ الدولةَ هي آلة من آليات الدين، وليست دولة تيوكراسية ولا دولة مدنية بالكامل، لكنها بالتأكيد ليست دولة علمانية، إنها دولة يكون للدين فيها مكانه ومكانته في مزاوجة مع المصالح واتساع من التأويل لا يقوم عليها رجال دين ولكن رجال مدنيون بمختلف الطرق التي يصل بها الحكام إلى الحكم قد تكون بعض الطرق مفضلة بقدر ما تحقق من المصلحة والسلم الاجتماعي والاقتراب من روح الشرع ونصوصه.

إنَّ الأصلَ في النظام الإسلامي أنه يقوم على البيعة والشورى وبتفسير هذين المفهومين نجد أنهما لا يبتعدان في نتائجهما كثيراً عما وصلت إليه الأنظمة العقلانية مع التحفظ على الممارسات التي تتم باسم الدين وذلك أمر مفهوم، فإنَّ الديمقراطيةَ التي يرى البعضُ أنها نهاية المطاف أو نهاية التاريخ قد تمارس بطريقة غير ديمقراطية حتى ولو احترمت الشكلَ فإنَّ المضمونَ قد يكون مُختلاً وفي بعض الأحيان مأساوياً فإنَّ أدولف هتلر وصل إلى الحكم بطرق ديمقراطية والنتائج معروفة.

لكنَّ موقف أكثر علماء المسلمين على أنه لا تلازم بين الحاكم والفقيه وإن كان يوجد نظرياً من يُلزم الحاكم بأن يكون مجتهداً، ولكن سرعان ما وقع فصل تام بين الاثنين منذ الدولة الأموية بعد الخلافة الراشدة فانفصلت طبقة الفقهاء عن طبقة الحكام؛ إلا أنَّ الفقهاء ظلوا يمارسون السلطة القضائية وسلطة الإفتاء والتعليم.

وقد يقع احتكاك بين الفقيه وبين الحاكم حيث شهد التاريخ إشكالات من هذا النوع بين الفقيه أحمد بن حنبل مع الخليفة العباسي المأمون في مسألة القول بخلق القرآن حيث عذب العلماء الذين لم يقولوا بقول الخليفة بل قالوا إن القرآن كلمة الله.

ووقع ذلك لمالك في مسألة أيمان البيعة ولأبي حنيفة في مسألة القضاء، لكن يذكر التاريخ أنَّ فقهاء آخرين كأبي يوسف نعموا بالجاه الكبير في ظل السلطان حيث يكرم السلاطينُ من العلماء من لم يخالفهم في الرأي ولم يؤلب عليهم العامة، وهذا بصفة عامة؛ فإن الفقهاء كانوا بين ملتزم للحياد في مسألة الحكم أو متعامل مع السلطان دون ممالاة وبين ثائر مطالب بالحكم منتقداً سلوك السلطان كما فعلت طائفة الخوارج وبين طائفة أخرى جلست في الزوايا واهتمت بالروحانيات وتصفية النفوس وهم من الصوفية الذين اعتزلوا الجميع ورأوا أن البعد من السلطان ومن الدنيا هو النجاة ووجد منهم من كان مباركاً للسلطان كما وقع في مرحلة معينة من الدولة العثمانية.         

والإشكال في العلاقة بين الدين والدولة ظل قائماً ليمنح شرعية لقول هيجل: لا يكفي أنْ يقول لنا الدين: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لأنه يبقى علينا بعد ذلك أنْ نعلم على وجه الدقة ما هي الأشياء التي لقيصر.

وإذا كان هناك إشكال بالنسبة لعصر العولمة بالنسبة للعلاقة بين الدين والدولة فإنَّ الإشكال لن يكون حله – حسب رأينا- بالدفع إلى القطيعة والحلول الحادة والرؤية الآحادية، وإنما بالبحث عن إبداع الحلول الذكية التي تحافظ على الصلات النافعة، وتقيم الموازنة السعيدة بين مستلزمات المعاصرة ومنتجاتها الفكرية والمادية، وطموحها إلى تذويب البنى وتحويل السلوك وتجاوز الديانة والخصوصيات، وبين القيم الروحية وميراث النبوات والأخلاق الفاضلة والتوفيق البارع بين المتناقضات التي تتجاذب حياتنا……..

 


 

[1] – القرافي          الفروق               1/205- 206 

[2] – إمام الحرمين       الغياثي       ص22        

[3] – تاريخ الطبري وتاريخ دمشق وغيرهما من كتب التاريخ

[4] –  بلقزيز عبدالإله         الإسلام والسياسة           ص45    

 

 

 

Comments are closed.