الفرق بين الضرورة والحاجة تطبيقا على بعض أحوال الأقليات المسلمة.

 

الفرق بين الضرورة والحاجة تطبيقا على بعض أحوال الأقليات المسلمة.

 

 

 

 

فضيلة الشيخ

عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه

استاذ بجامعة الملك عبد العزيز

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه..

 

مقدمــة :

إن إعمال الحاجة في الأحكام أصبح من المشتبهات التي لا يعلمها كثير من الناس ، أضف إلى ذلك أن أكثر القضايا الفقهية المعاصرة سواءً تلك التي وقع البت فيها من طرف المجامع أو تلك التي لا تزال منشورة أمامها ترجع إلى إشكالية تقدير الحاجة وتقدير الحكم الذي ينشأ عنها : هل تلحق بالضرورة فتعطي حكمها أو لا تلحق بها ؟

 

سواءً كانت قضايا طبية تتعلق بعلاج العقم مثلاً أو الإجهاض ، أو قضايا اقتصادية تتعلق بالعقود الجديدة من إيجار ينتهي بالتمليك أو تأمين بأنواعه ، أو أحكام الشركات والأسهم وعقود التوريد والشروط الجزائية الحافزة على الوفاء بمقتضى العقد . مما يعني أن تحديد علاقة الحاجة بالضرورة أصبح مفتاحاً لأقفال معضلة المعاملات الفقهية في العصر الحديث .

 

وسأحاول الآن – عوداً على بدء – أن أنثر كنانة هذا الموضوع لأعجم عيدانها وأغور في أغوارها وأصعد في قنانها (وكم بالقنان من محل ومحرم) .  وذلك حسب الخطة التالية :

 

تعريف الضرورة :

لغة واصطلاحاً : من نصوص اللغويين ونصوص الأصوليين والفقهاء .

أصل مشروعية الضرورة .

تعريف الحاجة :

لغة واصطلاحاً : من نصوص اللغويين ونصوص الأصوليين والفقهاء مع أمثلة فقهية تبرز الفرق بينها وبين الضرورة .

أصل مشروعية الحاجة .

نتيجة التعريفين : التشابك اللغوي والتداخل الفقهي والأصولي ، منشأه الاشتراك أو التشكيك .

المصطلحات ذات العلاقة بموضوع الضرورة والحاجة .

إجمال الفروق بين الضرورة والحاجة بناءً على ما ذكرناه من الفقهاء والأصوليين واللغويين .

وأخيراً تطبيقات معاصرة من قرارات المجلس الأوربي للإفتاء ومجمع الفقه الإسلامي بجدة مع التعليق على هذه القرارات .

خاتمة تتضمن نتائج البحث .

تعريف الضرورة لغةً واصطلاحاً :

 

الضرورة في الاصطلاح لها ثلاثة معانٍ : المعنى الفقهي الخاص الذي يبيح المحرم والمعنى الاستعمالي الموسع وهو يشمل الحاجة ، والمعنى الأصولي .

 

الضرورة لغة : قال مجد الدين الفيروز أبادي في القاموس ممزوجاً بشرحه : (والاضطرار الاحتياج إلى الشيء) وقد (اضطر إليه) أمر ( أحوجه وألجأه فاضطُر . بضم الطاء) بناؤه افتعل جعلت التاء طاء لأن التاء لم يحسن لفظه مع الضاد (والاسم الضرة) بالفتح . قال دريد بن الصمة :

 

وتخرج منه ضرة القوم مصدقاً              وطول السرى دري عضب مهند

 

أي تلألؤ عضب، وفي حديث علي رضي الله عنه رفعه أنه نهى عن بيع المضطر. قال ابن الأثير:  وهذا يكون من وجهين أحدهما أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه ، قال : ” وهذا بيع فاسد لا ينعقد ، والثاني أن يضطر إلى البيع لدين ركبه أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس للضرورة ، وهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه ولكن يُعان ويُقرض إلى الميسرة أو تُشترى سلعته بقيمتها فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه صح ولم يفسخ مع كراهة أهل العلم له ” . ومعنى البيع هذا الشراء أو المبايعة أو قبول البيع .

 

 وقوله عزَّ وجلَّ :{فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ}  أي فمن أُلجيء إلى أكل الميتة وما حرم وضيّق عليه الأمر بالجوع وأصله من الضرر وهو الضيق .

 

( والضرورة الحاجة ) ويجمع على الضرورات ( كالضارورة والضارور والضاروراء) الأخيران نقلهما الصاغاتي وأنشد في اللسان على الضارورة :

 

أثيبي أخا ضارورة أصفق العدى                     عليه وقلت في الصديق أواصره

 

وقال الليث : الضرورة اسم لمصدر الاضطرار ، تقول حملتني الضرورة على كذا وكذا .

 

قلت : فعلى هذا الضرورة والضرة كلاهما اسمان فكان الأولى أن يقول المصنف كالضرة والضرورة ثم يقول وهي أيضاً الحاجة الخ كما لا يخفى .

 

وفي حديث سمرة يجزيء من الضارورة صبوح أو غبوق . أي إنما يحل للمضطر من الميتة أن يأكل منها ما يسد الرمق من غداء أو عشاء وليس له أن يجمع بينهما.(والضرر) محركة (الضيق) يقال مكان ذو ضرر أي ذو ضيق . (تاج العروس : 3/349) .

 

وإنما ذكرت هذا النص على طوله ليستبين القارىء الشيات اللغوية التي كانت – وبدون شك – عاملاً من عوامل تفاوت أقوال الفقهاء في معنى الضرورة. وقد يكون من المطلوب أن ينبّه إلى بعض الألفاظ التي وردت في هذا النص لتعريف الضرورة وهي الاحتياج والحاجة والإلجاء والضيق وما يكون حافزاً لها من دين يركب المضطر أو مؤنة ترهقه أو إكراه يجبره أو جوع يلجؤه أو أعداء يصفقون عليه كل هذه المعاني التي أشار إليها أهل اللغة وهي معانٍ تشير إلى الشدة والحرج وهي التي دندن حولها الفقهاء كما سترى .

 

الضرورة اصطلاحاً :

 

والضرورة في الاصطلاح فقهية وتطلق إطلاقين أحدهما : ضرورة قصوى تبيح المحرّم سوى ما استُثني . والثانية : ضرورة دون ذلك وهي المعبّر عنها بالحاجة إلاّ أنهم يطلقون عليها الضرورة في الاستعمال توسعاً .

 

وغير الفقهية وتُسمى ضرورة أصولية وهي : الضرورة العامة بالجنس ، ولعل إمام الحرمين من أول من انتبه إلى ذلك حيث قال في البرهان : ” إن الضرورة على أقسام ، فقد لا تبيح الضرورة نوعاً يتناهى قبحه كما ذكرناه . وقد تبيح الضرورة الشيء ولكن لا تثبت حكماً كليّاً في الجنس ، بل يعتبر تحققها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير (وهذه هي الضرورة التي تعني بالضرورة الفقهية بالمعنى الأخص) . والقسم الثالث ما يرتبط في أصله بالضرورة ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص وهذا كالبيع وما في معناه(البرهان: ص942).

 

ولنبدأ في تعريف أقسام الضرورة :

 

1 – الضرورة الفقهية بالمعنى الأخص :

 

عرّفها السيوطي بقوله : (فالضرورة بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام) (الأشباه والنظائر : ص61). وهذه هي الضرورة التي قال عنها إمام الحرمين أنها لا تثبت حكماً كلياً في الجنس بل يعتبر تحقيقها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير كما أسلفنا .

 

قال في مغني المحتاج وهو ” شافعي ” : (من خاف من عدم الأكل على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته أو خزف ضعف مشي أو ركوب ولم يجد حلالاً يأكله ووجد حراماً لزمه أكله). الرملي :

 

الدردير في الشرح الصغير ” مالكي” : (الضرورة هي حفظ النفوس من الهلاك أو شدة الضرر) – (الدردير : 2/183) .

 

وفسّر الزرقاني في شرحه الضرورة قائلاً : (وهي خوف الهلاك على النفس علماً أو ظناً) إلاّ أنه بعد ذلك نقل عن التتائي على الرسالة قوله :”وهل حد الاضطرار خوف الهلاك أو خوف المرض ، قولان لمالك والشافعي”. (الزرقاني: 3/8).

 

عرّفها الجصاص (حنفي) : “هي خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل” (أحكام القرآن : 1/195) .

 

قال القرطبي : الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو يجوع من مخمصة والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك ، وقيل معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرّمات . (القرطبي : 2/225) .

 

2- الضرورة بالمعنى الاستعمالي الفقهي الموسع والتي تعني الحاجة :

 

قال خليل : ” وصح قبله (أي بدو الصلاح) مع أصله أو ألحق به أو على شرط قطعه إن نفع واضطر ” أي احتيج كما في التوضيح عن اللخمي لا بلوغ الحد الذي ينتفي معه الاختيار ” . (الزرقاني : 5/187) .

 

ومن استعمال الضرورة ويُراد بها الحاجة قول المازري في شروط اغتفار الغرر اليسير : قال ابن عرفة : ” زاد المازري كون متعلق اليسير غير مقصود وضرورة ارتكابه ، وقرره بقوله منه بيع الأجنة وجواز بيع الجبة المجهول قدر حشوها الممنوع بيعه وحده وجواز الكراء لشهر مع احتمال نقصه وتمامه وجواز دخول الحمام مع قدر ماء الناس ولبثهم فيه والشرب من الساقي إجماعاً ، في الجميع دليل على إلغاء ما هو يسير دعت الضرورة للغوه ” . ابن عبد السلام في زيادة المازري إشكال ورد هذا ” الإشكال ” ابن عرفة (الموّاق في التاج والإكليل بهامش الحطاب 4/365) . بينما عبّر خليل بالحاجة في هذه المسألة حيث قال : ” واغتفر غرر يسير للحاجة لم يقصد ” – (نفس المرجع والصفحة) .

 

وقد نبَّه البناني في حاشيته على عبارة المازري قائلاً : “ولذا عبّر المازري عن قيد الحاجة بالضرورة وهي أخص من الحاجة لكن الخطاب سهل ” (حاشية البناني على الزرقاني : 5/80) .

 

وممن استعملـها بمعنى الحاجة من الشافعية صاحب نهاية المحتاج قائلاً : ” نعم الأولى بيعه ما زاد عليها ما فضل عن كفايته ومؤنة سنة ” ويجبر من عنده زائد على ذلك في زمن الضرورة . وعلم مما تقرر اختصاص تحريم الاحتكار بالأقوات ” (2/47) .

 

فالضرورة هنا الحاجة ، لأن الاضطرار إذا تحقق لم يبق للمالك كفاية سنة حسب عبارة أبي الضياء الشبراملسي في الحاشية على نفس الصفحة .

 

3- المعنى الأصولي للضرورة :

 

للضرورة معنى ثالث هو المعنى الأصولي ونبَّه عليه إمام الحرمين في البرهان في القسم الثالث ، وقد ذكرناه . وقد زاد الأمر وضوحاً عندما قال : “وهو يعتبر البيع من الضروري ويلتحق به (الضروري) تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجرّ ذلك ضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا آل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيقها في آحاد النوع . (ص 923 وما بعدها) .

 

وقد أوضح الشاطبي بأنها إحدى الكليات الثلاث التي ترجع إليها مقاصد الشريعة حيث يقول : ” فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ” وتكلم الشاطبي عن مراعاة الضرورة من جانب الوجود ومراعاتها من جانب العدم ومثَّل لذلك بأصول العبادات والمعاملات ( فليراجع : 2/8-9) .

 

وهذا هو الكلي المعبّر عنه بالضروري لأنه من ضرورات سياسة العالم وبقائه وانتظام أحواله حسب عبارة الطوفي (3/209) .

 

ويعبّر عنها بالضرورة بالنظر إلى المصلحة الواقعة في محلها ، فمن ذلك قول الغزالي متحدثاً عن المصلحة المرسلة : ” وإن وقعت في موقع الضرورة جاز أن يؤدى إليها اجتهاد مجتهد بشرط أن تكون قطعية كلية ” (الطوفي:3/211) .   ومثله قول الشوكاني : ” أنها إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر ، والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس وبالكلية أن تعم جميع المسلمين ، لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة “. (الشوكاني: إرشاد الفحول: ص242) .

 

وقال الشاطبي : ” مجموع الضروريات خمس وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل ” (الموافقات: 3/10) .

 

وأما لماذا سُميت بالضرورة ؟ إما لأنها ضرورة لانتظام حياة الناس كما تقدم ، أو لأن اعتبارها (التفات إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة عن الحصر – (إرشاد الفحول: ص242) .

 

وقد تحدث أكثر الأصوليين عن الضرورة والضروري في المعرض المناسب المرسل لإثبات حكم بالمصلحة المستندة إليه من غير اعتبار القياس بشروطه ، والأحكام التي تثبت عند القائل بها ، كمالك ، أحكام مستمرة وهي لا يتأتى العمل بها إلاّ عند غيبة النص .

 

وقد تكون استثناء من عموم كما يدل عليه الاستشهاد التالي :

 

قال الباجي : ” واختلف قول مالك في الرجل يأتي دار السكة فيدفع إليهم فضة وزناً ويأخذ منهم وزناً دراهم ويعطيهم أجرة العمل . فقال مرة : أرجو أن يكون خفيفاً . وذكره ابن المواز ورواه عيسى عن ابن القاسم ومنع ذلك عيسى بن دينار وحكاه ابن حبيب عن جماعة من أصحاب مالك ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي .

 

وجه رواية الجواز على الكراهية ما احتج به من ضرورة الناس إلى الدراهم وتعذر الصرف إلاّ في ذلك الموضع مع حاجة الناس إلى الاستعجال وانحفاز المسافر للمرور مع أصحابه وخوفه على نفسه في الانفراد ويخاف إن غاب عنه ذهبه أن لا يعطاه ويمطل به والضرورة العامة تبيح المحظور .

 

أما اليوم فقد صار الضرب بكل بلد واتسع الأمر فلا يجوز ووجه رواية المنع أنه لا يخلو أن يكون بيعاً أو إجارة ، فإن كان بيعاً ففيه التفاضل في الذهب ، وإن كان إجارة فهو إجارة وسلف وذلك غير جائز في الوجهين (المنتقى: 4/259) .

 

قلت: وضرورة الناس المذكورة هنا وكذلك الضرورة العامة إنما هي بمعنى الحاجة العامة ولكن يفهم من كلام أبي الوليد أن ما كان هذا سبيله من إثبات الأحكام من أجل الضرورة العامة بالاجتهاد يزول بزوال الوضع الذي أدى إليه وليس كتلك الثابتة بنص الشارع .

 

وعن استعمال الضرورة في معنى الحاجة بالمعنى الأصولي قول مالك في مسألة الرد على الدرهم (من مسائل الصرف) ؛ قال مالك : كنا نمنعه ويخالفنا أهل العراق ثم أجزناه لضرورة الناس ولأنهم لا يقصدون به صرفاً .

 

فكان سيدي ابن سراج رحمه الله يقول : رجع مالك في الرد على الدرهم لقول غيره من أجل الضرورة . (الموّاق: 4/301) .

 

وبعد التعريف بالضرورة لغة وبالضرورة في اصطلاح الفقهاء والأصوليين نلاحظ أن الضرورة أمر يورث ضيقاً ومشقة إلاّ أن هذا الضيق يتفاوت في شدته فالضرورة من باب الكلي المشكك عند المناطقة وهو كما قال الأخضري في شرحه لنظمه (السلم) في المنطق وإن اختلف فيها بالشدة والضعف سمي كلياً مشككاً كالبياض فإنَّ معناه في الورق أقوى من معناه في القميص مثلاً . وهذا بخلاف المتواطيء وهو الذي اتحد معناه في أفراده كالإنسان . (يُراجع شرح السلم عند قوله) :

 

ونسبة الألفـاظ للمعاني             خمسة أقسام بلا نقصـان

تواطؤ تشاكك تخالـف              والاشتراك عكسه الترادف

وأرى أن التنبيه على الضرورة والمشقة والحاجة ثلاثتهن من باب الكلي المشكك قد يكون مفتاحاً لفهم اختلاف عبارات اللغويين والفقهاء ، فالضرورة يمكن أن تُطلق في حال الشدة القصوى كما يمكن أن تُطلق في حالات دون ذلك وبالتالي تترتب أحكام مختلفة على ذلك كما رأيت .

 

أصل مشروعية حكم الضرورة :

 

في قول الله تعالى : } وقد فصَّل لكم ما حُرِّم عليكم إلاَّ ما اضطُررتم إليه{  ]سورة الأنعام:6:119 [

 

قال الجصاص : ذكر الله تعالى الضرورة في هذه الآيات وأطلق الإباحة في بعضها لوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة وهو قوله تعالى : } وقد فصَّل لكم ما حُرِّم عليكم إلاَّ ما اضطُررتم إليه{  ]سورة الأنعام:6:119 [فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وُجدت فيها . (أحكام القرآن للجصاص : 1/147) .

 

وقال تعالى: } فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه{  ]البقرة:173[. قال ابن عطية : ” ومعنى اضطر عدم ” وغرث ، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء . وقيل : معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات : ” (المحرر الوجيز لابن عطية: 2/71). والنصوص كثيرة بهذا المعنى .

 

وبالوقوف عند قوله تعالى: } وقد فصَّل لكم ما حُرِّم عليكم إلاَّ ما اضطُررتم إليه{ ، يفهم المرء معنيين : المعنى الذي ذكره الجصاص وهو وجود الإباحة حيثما وجدت الضرورة . ومعنى آخر وهو إنما فصّل من المحرمات لا تبيحه إلاّ الضرورة . وهذا ما يشير إليه الحصر في استثناء عموم من عموم يمكن أن يفهم منه بسهولة أن الحاجة إنما تدخل المجملات ولا تدخل في المفصلات والله أعلم .

 

تعريف الحاجة :

 

فقد قال الفيروز أبادي ممزوجاً بشارحه :

 

(والحاجة) المأربة (م) أي معروفة ، وقوله تعالى : } ولتبلغوا عليها حاجةً في صدوركم { ]غافر:80[. قال ثعلب : يعني الأسفار . وعن شيخنا : وقيل أن الحاجة تُطلق على نفس الافتقار وعلى الشيء الذي يفتقر إليه ، وقال الشيخ أبو هلال العسكري في فروقه : الحاجة القصور عن المبلغ المطلوب ، يُقال الثوب يحتاج إلى خرقة والفقر خلاف الغنى والفرق بين النقص والحاجة أن النقص سببها والمحتاج يحتاج إلى نقصه والنقص أعم منها لاستعماله في المحتاج وغيره ، ثم قال : قلت وغيره فرق بأن الحاجة أعم من الفقر وبعض بالعموم والخصوص الوجهي وبه تبين أن عطف الحاجة على الفقر هو تفسيري أو عطف الأعم أو الأخص أو غير ذلك فتأمل . قلت : صريح كلام شيخنا أن الحاجة معطوف على الفقر وليس كذلك بل قوله والحاجة كلام مستقل مبتدأ وخبره قوله معروف كما هو ظاهر فلا يحتاج إلى ما ذكره من الوجوه (كالحوجاء) بالفتح والمد (و) قد (تحوج) إذا (طلبها) أي الحاجة بعد الحاجة وخرج يتحوج يتطلب ما يحتاجه من معيشته ، وفي اللسان تحوج إلى الشيء احتاج إليه وأراده (ج حاج) قال الشاعر :

 

وأرضع حاجة بلبان أخرى                     كذاك الحاج ترضع باللبان

 

أما الحاجة في الاصطلاح فعلى ضربين : حاجة عامة قد تنزل منزلة الضرورة وهذه هي الحاجة الأصولية وقد سمّاها بعضهم بالضرورة العامة كما أسلفنا ، وحاجة فقهية خاصة حكمها مؤقت تعتبر توسيعاً لمعنى الضرورة .

 

أولاً : الحاجة العامة (الأصولية):

 

قال إمام الحرمين في المعنى الأول : ” والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة ، ومثل هذا تصحيح الإجارة فإنها مبنية على الحاجة إلى المساكن ، مع القصور عن تملكها ، وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ الضرورة الشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه الجنس لنال آحاد الجنس ضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد ، وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس على ما ينال الآحاد بالنسبة إلى الجنس ، وهذا ما يتعلق بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الآن ” . (البرهان:924) .

 

وقال أيضاً : ” ونحن نرى أن ننبّه قبل تبيين القول فيه على أمر وهو أن الإجارة جازت خارجة عن الأقيسة التي سميناها جزئية في القسم الأول فإن مقابلة العوض الموجود بالعوض المعدوم خارج عن القياس المرعي في المعاوضات فإن قياسها أن لا يتقابل إلاّ موجودان ولكن احتمل ذلك في الإجارة لمكان الحاجة وقد ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الأشخاص ” . (البرهان:931) .

 

وسلك تلميذه أبو حامد الغزالي مسلكه في كتابه ” شفاء العليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ” حيث قال في معرض كلامه عن الضرورة التي سنعود إليه في محله من هذا البحث : ” والحاجة العامة في حق كافة الخلق تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد ” (ص 246) .

 

وإلى جانب هذا الكلام نرى الغزالي نفسه عندما يتحدث عن المصلحة يقول  ” إنها وإن وقعت في موضوع الحاجة أو التتمة لم تعتبر وإن وقعت في موضع الضرورة جاز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد بشرط أن تكون قطعية كلية كما أسلفنا” .

 

وقفى على أثره تلميذه أبو بكر بن العربي المالكي حيث قال في كتابه القبس (القاعدة السابعة) :”اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرّم ” وبعد أن ضرب مثلاً لذلك باستثناء القرض الذي يضرب له أجل عند مالك من بيع الذهب بالذهب إلى أجل ، أضاف : ” ومن ذلك حديث العرايا وبيع التمر فيها على رؤوس النخيل بالتمر الموضوع على الأرض وفيه من الربا ثلاثة أوجه : بيع الرطب باليابس والعمل بالحرز والتخمين في تقدير المالين الربويين وتأخير القابض إن قلنا أنه يعطيها له إذا حضر جذاذ النخل ” (القبس : 2/790-791) .

 

إلاّ أن بعض الفقهاء كابن نجيم والسيوطي نقلوا الحاجة من مفهومها الأصولي إلى القواعد الفقهية دون تقديم ضوابط مما أوهم بعض الباحثين المعاصرين أنه كلما لاحت لوائح مشقة أو عرضت حاجة يعلن الإباحة وكأنه يستند إلى قاعدة قطعية تدل على الحكم بلا واسطة شأن الضرورة الفقهية بمعناها الأخص لا فرق بينهما . ولهذا فسنعرض نص القاعدة عند السيوطي لتكون مدخلاً لإبداء الفروق الكثيرة بين الضرورة والحاجة .

 

قال السيوطي (القاعدة الخامسة) :

 

الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة . (من الأولى) مشروعية الإجارة والجعالة والحوالة ونحوها جوزت على خلاف القياس لما في الأولى من ورود العقد على منافع معدومة ، وفي الثانية من الجهالة وفي الثالثة من بيع الدين بالدين لعموم الحاجة إلى ذلك . والحاجة إذا عمّت كانت كالضرورة ومنها ضمان الدرك جوز على خلاف القياس إذ البائع إذا باع ملك نفسه ليس ما أخـذه من الثمن ديناً عليه حتى يضمـن لكـن لاحـتياج الناس إلى معاملـة من لا يعرفون ولا يؤمن خروج المبيع مستحقاً ، ومنها مصلحة الصلح وإباحة النظر للمعاملة ونحوها وغير ذلك . من الثانية تضبيب الإناء بالفضة ويجوز للحاجة ولا يعتبر العجز عن غير الفضة لأنه يبيح أصل الإناء من النقدين قطعاً بل المراد الأغراض المتعلقة بالتضبيب سواء التزيين كإصلاح موضع الكسر والشد الوثيق ومنها الأكل من الغنيمة في دار الحرب جائز للحاجة ولا يشترط للأكل أن يكون معه غيره . (الأشباه والنظائر: ص 62-63) .

 

فائدة : كان القياس من السيوطي أن يزيد قد التقليلية في هذه القاعدة وكأنه لكثرة ما دخلت فيه لم يزدها ولكن الأحسن إثباتها فليتأمل .

 

وعبارة الزركشي رحمه الله تعالى الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس ، ثم قال : الحاجة الخاصة تبيح المحظورات . انتهى.

 

وما ذكرته أقرب إلى استعمالهم الأكثر ، أن الحاجة لا تقوم مقام الضرورة فتأمله.  (الجرهزي بهامش الأشباه والنظائر : ص 121-122) .

 

وهذه الحاجة التي ذكرها السيوطي وابن نجيم هي حاجة أصولية بدليل بقاء حكمها واستمراره بدون حاجة لتحققها في آحاد أفرادها وهي الحاجيات عند الأصوليين التي تعني على حد قول الشاطبي الحاجيات : ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب وإذا لم تراع دخل على المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ الفساد المتوقع في المصالح العامة وهي جارية في العبادات والعادات والعاملات والجنايات (الموافقات: 2/10-11) .

 

مناقشة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة :

 

قلت أن الحاجة لا يمكن اعتبارها قائمة مقام الضرورة بصفة مطلقة في إباحة المحرّم ، بل إن الأصل أن الضرورة وحدها تبيح المحرّم وأن هذا الحكم لا ينسحب على الحاجة كما قال الشافعي : ” وليس يحل بالحاجة محرّم إلاّ في الضرورات ” (الأم: 3/28) . وقال الشافعي : ” الحاجة لا تحق لأحد أن يأخذ مال غيره ” (نفس المرجع : ص77) .

 

والسيوطي نفسه صرّح بذلك : “أكل اميتة في حالة الضرورة يقدم على أخذ مال الغير ” (الأشباه والنظائر:ص62) .

 

ذلك أن أكل الميتة فيه حق الله تعالى فقط وأخذ مال الغير ومنه الربا فيه حق الله تعالى وحق الآدمي . قال القرافي : ” وقد يوجد حق الله تعالى وهو ماليس للعبد إسقاطه ويكون معه حق العبد كتحريمه تعالى لعقود الربا والغرر والجهالات. (الفروق: 1/140-141) .

 

فهذه العقود محرّمة لحق الله وحق العباد فكيف يمكن تنزيل الحاجة فيها منزلة الضرورة بإطلاق .

 

وأكثر العلماء رأوا أن المصلحة الحاجية لا يترتب عليها حكم . قال الطوفي في شرحه لمختصر الروضة : ” لا يجوز للمجتهد أنه كلما له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها ورتّب عليه الأحكام حتى يجد لاعتبارها شاهداً من جنسها ” (الطوفي : 3/207) .

 

وقال ابن قدامة في الروضة في سياق حديثه عن المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين ، وهذا على ثلاثة ضروب : أحدها مايقع في مرتبة الحاجات (وضرب له أمثلة) . الضرب الثاني ما يقع في موقع التحسين (وذكر له أمثلة) ثم قال : ” فهذان الضربان لا نعلم خلافاً في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل فإنه لو جاز ذلك كان وضعاً للشرع بالرأي ولما احتجنا إلى بعثة الرسل” (روضة الناظر:1/413 وما بعدها).

 

ومن قال بتأثير المصلحة في محل الحاجي شرط أن تكون جارية على أصول الشرع وقواعده متفقة مع مبادئه ومقاصده بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته . (الشاطبي “الاعتصام” : 2/129).

 

لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها بالسماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبعاً للرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها . (الموافقات للشاطبي:4/145) .

 

أما ما ليست قطعية كلية ولا في موضع الضرورات فإنها من نوع المصالح التي قال عنها الغزالي أيضاً : “فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من  الكتاب والسنّة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشارع فهي باطلة ومطروحة ومن صار إليها فقد شرع ” أي حرام تبيحه الحاجة على القول بها إن مراتب الأحكام متفاوتة وأعلاها النهي ومراتب النهي عديدة وأعلاها الحرام والحرام مراتب .

 

ولإيضاح ما نريده نورد كلمات القرافي الآتية في فروقه : (الفرق الحادي والثلاثون بين الانتقال من الحرمة إلى الإباحة يشترط فيها أعلى الرتب وبين قاعدة من الإباحة إلى الحرمة يكفي لها أيسر الأسباب) . (الفروق للقرافي: 3/273)

 

وضرب أمثلة من المحرمات  التي لا تباح إلاّ بأشد الشروط وأعلى الرتب ، والحاجة ليست من أعلى الرتب ، ومعلوم أن المنهي عنه يجب اجتنابه بنص الكتاب والسنّة ، ويرد للتحريم في أغلب الأحيان ومقتضى التحريم يغلب على مقتضى التحليل غالباً وهذه قواعد معروفة .

 

 إلاّ أن المحرم أنواع ، فمنه المحرم لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ومنه الحرام لكسبه : كالمأخوذ غصباً أو عقد فاسد وهذا التقسيم لابن تيمية . (الفتاوى: 29/320).

 

والمحرم لكسبه متفاوت ؛ فمنه محرم تحريم المقاصد ؛ ومنه المحرم تحريم الوسائل والذرائع . فالأول أشد من الثاني .

 

والربا أشد محرمات العقود ، وحرم الربا لأنه متضمن للظلم ، فإنه أخذ فضل بلا مقابل ، وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر (ابن تيمية)، وقال أيضاً : ” إن تحريم الربا أشد من تحريم القمار لأنه ظلم محقق ” .

 

والربا متفاوت : فربا الفضل لا يساوي ربا النساء ، فإن تحريم هذا من تحريم المقاصد ، وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة . (ابن القيم “أعلام الموقعين” : 2/107) .

 

ولتوضيح ما ذكره ابن القيم نذكر قول القرافي: “الأحكام على قسمين : مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ، ووسائل : وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد ” (الفروق: 2/33) .

 

من ذلك ندرك تفاوت مراتب النهي وأن الحاجة لا تدخل في نهي من مرتبة عليا .. بالإضافة إلى أن ما قاله ابن القيم يمكن أن يقيّد بقيد آخر غير التفريق بين المقاصد والوسائل بل إن الحاجة لا تؤثر حيث يوجد نص بخلافها كما قال ابن نجيم : ” المشقة أو الحرج إنما يعتبر في موضع لا نص فيه وأما مع النص بخلافه فلا يجوز التخفيف بالمشقة ، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد – رحمهما الله – بحرمة رعي حشيش الحرم المكي وقطعه إلاّ الأذخر”.(الأشباه والنظائر:1/117). ومفاد كلامه أن النص لا يعارض إلاّ بالضرورة لأنه من باب الرخص وذلك فرق آخر بين الحاجة العامة والضرورة .

 

إن الحاجة العامة لا تدخل في المفهوم الخاص للرخصة لأن أثرها مستمر وإن كانت تدخل معها في الاستثناء من أصل كلي فالرخصة هي ما شرع لعذر مع قياس الدليل المحرّم لولا العذر .

 

وقد نبه الشاطبي على ذلك في بحثه في الرخصة إذ قال :” وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ” .

 

وفسّر الفقرة الأخيرة بقوله : ” وكونه مقتصراً به على موضع الحاجة خاصة من خواص الرخص أيضاً لا بد منه وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكليّة وما شرع من الرخص فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة. فإن المصلّي إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم . والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصلِّ قاعداً وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم .

 

وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة،ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة فإنه ليس برخصة في حقيقة الاصطلاح لأنه مشروع أيضاً وإن زال العذر.

 

فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض وأن يساقي حائطه وإن كان قادراً على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه وأن يقارض بماله وإن كان قادراً على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار وكذلك ما شبهه . والحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي . والرخصة راجعة إلى جزئي مستعصي عن ذلك الأصل الكلي . (الموافقات للشاطبي :1/300-303) .

 

 وإذا كان كلام إمام الحرمين وتلاميذه يرمي إلى تعليل نصوص شرعية- غير اجتهادية – بالحاجة فإن المالكية توسعوا في بناء الفروع الاجتهادية على الحاجي الكلي .

 

قال المواق – بعد أن ذكر أنواعاً من عقود الإجارة التي لايجيزها مالك- : “وكان سيدي ابن سراج رحمه الله فيما هو جار على هذا لا يفتي بفعله ابتداء ، ولا يشنع على مرتكبه فقصارى أمر مرتكبه أنه تارك للورع. وما الخلاف فيه شهير لا حسبة فيه ولا سيما إن دعت لذلك حاجة . ومن أصول مالك أنه يراعي الحاجيات كما يراعي الضروريات فأجاز الرد على الدرهم مع كونه يجعل مد عجوة من باب الربا وأجاز تأخير النقد في الكراء المضمون .

 

إلى أن قال : ويُباح الغرر اليسير بخلاف باب الربا . وذكر من أجوبة لأصبغ بن محمد : قيل وكذلك ما يضطر إليه الرجل يستأجر الأجير يجري له الزرع وله بعضه ، قال ينظر إلى أمر إذا اضطروا إليه فيما لا بد لهم منه ولا يجدون العمل إلاّ به فأرجو ألاّ يكون به بأس إذا عم ما بين ذلك مما يرجع فيه إلى أعمال الناس ولا يجدون عنه بدّاً مثل كراء السفن في حمل الطعام .

 

وسُئل سيدي ابن سراج رحمه الله : هل تجوز المشاركة في العلوفة أن يكون الورق على واحد وعلى الآخر الخدمة وتكون الزريعة بينهما على نسبة الحظ المتفق عليه ؟ فأجاب : قد أجاز ما ذكر بعض العلماء ، فمن عمل بذلك على الوجه المذكور للضرورة وتعذّر الوجه الآخر فيرجى أن يجوز إن شاء الله . ورأيت له فتيا أخرى قال فيها : ” ويجري ذلك على مقتضى قول مالك في إجازة الأمر الكلي الحاجي ” .

 

 وسئل عن الجباح(1) لمن يخدمها بجزء من غلتها ، قال هي إجارة مجهولة وكذلك في الأفران والرحى. وإنما يجوز ذلك على من يستبيح القياس على المساقاة والقراض وحكى هذا عن ابن سيرين وجماعة ، وعليه يخرج اليوم عمل الناس من أجرة الدلال لحاجة الناس إليه وعليه الضمان لقلة الأمانة وكثرة الخيانة كما اعتذر مالك بمثل هذا في إباحة تأخير الأجرة في الكراء المضمون في طريق الحج لأن الأكرياء ربما لا يوفون ، فعند مالك هذا ضرورة إباحة الدين بالدين فالناس مضطرون لهذا والله المخلص (الموّاق: 5/390) .

 

وقريب من هذا المنحى ما ذهب إليه بعض الأحناف في مسائل الإجارة حيث قالوا : ” وجاز إجارة القناة والنهر مع الماء ، به نفتي لعموم البلوى مضمرات ” (الدر المختار) . علّق ابن عابدين بقوله : قوله (مع الماء) أي تبعاً قال في كتاب الشرب من البزارية لم تصح إجارة الشرب لوقوع الإجارة على استهلاك العين مقصود إلاّ إذا أجر أو باع مع الأرض فحينئذٍ يجوز تبعاً “.

 

 وأضاف ابن عابدين (تتمة) قال في التاتر خانية وفي الدلال والسمسار يجب أجر المثل وما تواضعوا عليه أن في كل عشرة دنانير كذا فذاك الحرام . وفي الحاوي سئل محمد ابن مسلمة عن أجرة السمسار فقال أرجو أنه لا بأس به وإن كان في الأصل فاسداً لكثرة التعامل وكثير من هذا غير جائز فجوزه للحاجة لحاجة الناس إليه كدخول الحمام .

 

وعنه قال : رأيت ابن الشجـاع يقاطـع نساجاً ينسج له كل سنة.(الحاشية: 5/38) . وفي الدر المختار : ( ويفتي اليوم بصحتها ” الإجارة ” لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ويجبر المستأجر على دفع ما قبل ) .

 

علّق ابن عابدين بقوله : ” قال في الهداية : وبعض مشايخنا رحمهم الله تعالى استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لظهور التواني في الأمور الدينية ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه الفتوى ” .

 

وذكر مجموع ما أفتى به المتأخرون من مشايخنا وهم البلخيون على خلاف في بعضه مخالفين ما ذهب إليه الإمام وصاحباه (حاشية ابن عابدين:5/34-35).

 

وهكذا نرى المتأخرين من أتباع الإمامين مالك وابن حنيفة يتوسعون في التعامل مع الحاجي أحياناً مع مخالفة منصوص الإمام بناءً على ما فهموه من قواعد الإمامين .

 

وقد احتج الشيخ تقي الدين بن تيمية لابن عقيل في مسألة إجارة الأرض والشجر بقوله : ” فإن قيل إن ابن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعاً لأجل الحاجة وأنه سلك مسلك مالك لكن مالكاً اعتبر القلة في الشجر وابن عقيل عمم فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض البيضاء التي فيها شجر وإفرادها عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه من الضرر فجوز دخولها في الإجارة كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر تبعاً في المساقاة (الفتاوى : 30/231) .

 

وفي مذهب الشافعي ما حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي رحمه الله أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس يجوز بيعها قبل قبضها . وبعد ذكره للخلاف في هذه المسألة ، قال النووي : ” ودليل ما قاله الأول وهو الأصح أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة احتمل للمصلحة والرفق بالجند لمسيس الحاجة ” (المجموع: 9/268) .

 

وقد أصل أبو إسحاق الشاطبي هذا المفهوم الحاجي واضعاً إياه في إطاره الأصولي قائلاً : ” ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان ” .

 

وهو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي . ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس ، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه ، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمراً إلاّ أنّ ذلك الأمر يؤدي إلى فوات المصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك .

 

وكثيراً مات يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي . والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقاً في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي ، أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر .

 

وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلاً فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل ، ولكنه أبيح لما فيه من الرفق والتوسعة على المحتاجين ، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين .

 

ومثله بيع العرية بخرصها تمراً فإنه بيع الرطب باليابس ، لكته أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعرِي والمُعَرى ولو امتنع مطلقاً لكن وسيلة لمنع الإعراء ، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر ، وقصر الصلاة ، والفطر في السفر الطويل ، وصلاة الخوف ، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل ، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص ، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل هذا الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة ، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه ومثله الاطلاع على العورات في التداوي والقرض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة .

 

هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه .

 

وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص ، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته .

 

ثم جعله أقساماً : فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير.

 

وقال في أحكام القرآن : الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين فالعموم إذا استمر والقياس إذا أطرد فإن مالكاً وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى .

 

ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ، ويريان معاً تخصيص القياس ونقص العلة .

 

ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصاً . وهذا الذي قالا هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام . (الموافقات للشاطبي: 4/205-209) .

 

ونتيجة لما تقدم من كلام الشاطبي فقد تدخل الحاجة في تخصيص عموم وفي الغالب يكون عموماً ضعيفاً .

 

ومعنى الضعف أن تكون الجزئية الوارد عليها التخصيص من نوادر الصور ويختلف في دخولها في حكم العام . قال في مراقي السعود :

 

هل نادر في ذي العموم يدخل                      ومطلق أو لا خلاف ينقل

 

ويعني بالنادر ما لا يخطر غالباً ببال المتكلم لندرة وقوعه ولذا قال بعضهم: لا تجوز المسابقة على الفيل وجوزها بعضهم . والأصل في ذلك لا سبق إلاّ في خف ..

 

قال زكريا : وجه عمومه أنه نكرة واقعة في الإثبات وأنه في حيز الشرط معنى إذ التقدير إلاّ إن كان في خف. والنكرة في سياق الشرط تعم . (راجع نشر البنود: 1/208 وما بعدها) .

 

وأجاز مالك تلاوة الحائض للقرآن حتى لا تنسى وهو مخصص لعام منع التلاوة للجنب.

 

وإذا قلت كيف تخصص الحاجة وهي ليست من المخصصات اللفظية من نصوص وظواهر الكتاب والسنّة وغيرها كالإجماع والمفهوم بنوعيه والقياس ؟

 

 قلت : إنما يعزى التخصيص للاستصلاح أو الاستحسان الذي يعتمد على الحاجة وذلك أمر معروف في المذهبين الحنفي والمالكي كما تقدم عن الشاطبي .

 

وإن الذي ينبغي التنبيه عليه أن هذه المسائل التي أجازها من أجازها للحاجة فإنها وإن كانت تخصيصاً من العموم في النهي عن قراءة الجنب للقرآن والنهي عن قرض يجر نفعاً والنهي عن بيع قبل القبض ، فإنه عموم ضعيف في المسائل المخصوصة لأن حديث الجنب جاء في معرض جنابة غير الحائض وهو حديث علي ، فكان الحيض بمنزلة الصورة النادرة بالنسبة لراوي الحديث .

 

وكذلك فإن استثناء السفتجة وهي منفعة لا تشتمل على زيادة من الصور النادرة بالنسبة للمتكلم فإنه عندما يتحدث عن جر النفع فإنه يعني بالأصالة الزيادة أو الهدية أو نحو ذلك وعلى هذا نبّه ابن قدامة من طرف خفي عندما قال إنه لا نص في تحريمها أي بخصوصها .

 

وقل مثل ذلك في مسألة الأرزاق ومعلوم أن نوادر الصور مختلف في دخولها في العموم كما أسلفنا .

 

ثانيا – الحاجة الفقهية : الملحقة بالضرورة الفقهية وهي من باب التوسع في معنى الضرورة والاضطرار ، إذ الضرورة لفظ مشكك ، وهو كلي يكون معناه أشد في بعض أفراده من بعض ، فمن توسع أطلق على الحد الوسيط (الحاجة) ومن لم يتوسع اقتصر على الحد الأعلى : الضرورة . وليس هذا من باب القياس وإنما هو من باب الأدلة اللفظية .

 

وهذه الحاجة الفقهية لا تحدث أثراً مستمراً ولا حكماً دائماً بل هي كالضرورة تقدّر بقدرها وقد ذكرنا مثالاً لذلك نعيده باختصار هو مسألة بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وشروط الاستثناء من المنع ، حيث قال خليل (وصح قبله) أي بدو صلاحه مع أصله أو ألحق به أو على قطعه واضطر أي احتيج كما في التوضيح (له) من المتبايعين أو أحدهما كما يعطيه ترك تقيده مع بنائه للمجهول (الزرقاني) .

 

وهذه حاجة فقهية لأنها تثبت حكماً فقط في محل الاحتياج وهي شخصية بمعنى أنها لا تجوز لغير المحتاج ولا تتجاوز محلها . وهذا ما يفرق الحاجة الفقهية عن الحاجة الأصولية التي تثبت حكماً مستمراً ولا يطلب تحققها في آحاد أفرادها . فالسلم يجوز للمحتاج وغير المحتاج كما قدمنا ، وكذلك قول خليل في مسألة تلقي السلع : ” وجاز لمن على ستة أميال أحذ محتاج إليه “.

 

ومعناه أن من كان بعيداً عن المدينة يجوز له اشتراء مايحتاج إليه من السلع قبل وصوله السوق. قال الحطاب عن ابن رشد : ” وأما إن مرت به السلع على قرية على أميال من الحاضرة فيجوز له أن يشتري ما يحتاج إليه لا لتجارة ، لمشقة النهوض عليه إلى الحاضرة . (الحطاب: 4/380) .

 

هذه هي الحاجة الفقهية وتعتبر توسعاً في معنى الضرورة فتقدّر بقدرها وهي حاجة شخصية .

 

هذا هو الفرق بين الحاجة الأصولية العامة التي تثبت بها الأحكام بالنص أو الاستحسان والاستصلاح وبين الحاجة الفقهية الخاصة التي تعتبر توسعاً في الضرورة ؛ مهم جداً في تصنيف الحاجة وترتيب الأحكام عليها.

 

وبذلك ندرك وجود نوعين من الحاجة أحدهما حاجة عامة والأخرى حاجة خاصة شخصية .

 

وحيث إن الحاجة الفقهية ملحقة بالضرورة فقد يُختلف في بعض الفروع هل تشترط فيها الضرورة القصوى أو الحاجة ؟

 

ففي مسألة إيجاب بيع الأقوات على من هي عنده وقت الغلاء يختلف في الضرورة التي توجب ذلك . فعند القرطبي إنما يجب البيع إن خيف بحبسه إتلاف المهج (أي الضرورة) فإن مست الحاجة ولم يكن الخوف المذكور بل دونه وجب عند ابن رشد (الزرقاني: 5/4) .

 

فابن رشد ألحق الحاجة هنا بالضرورة إلاّ أن الضرورة التي لا تعني الحاجة قد يصرح معها بما ينفي ذلك كما في رواية ابن القاسم في فسخ الدين في منافع يتأخر قبضها من الغريم . قال فيه إلاّ عند الضرورة التي تحل أكل الميتة مثل أن يكون في صحراء بحيث لا يجد كراء ويخشى على نفسه الهلاك إن لم يأخذ منه دابة يبلغ عليها ، وأشهب يجيز أن يأخذ منه دابة لما بقي له وإن لم تكن له ضرورة (الحطاب: 4/368) .

 

المصطلحات ذات العلاقة :

 

المصلحة :

 

مصدر ميمي من صلح يصلح بفتح عين الفعل وضمّها في الماضي والمضارع ، وهي ضد المفسدة والصلاح ضد الفساد وأصلها جلب منفعة أو دفع مضرة . قال الشوكاني : ” قال الخوارزمي : والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود  الشرع بدفع المفاسد عن الخلق ” (إرشاد الفحول : ص 242) .

 

وبين المصلحة والحاجة عموم وجهي ، فقد تُطلق المصلحة على الحاجة وغيرها ، وكذلك الحاجة قد تكون في محل المصالح واستعملت المصلحة بمعنى الحاجةالعامة في قول العز بن عبد السلام ( لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة) ( قواعد الأحكام : ص 326) .

 

وقول ابن قدامة في السفتجة بعد أن ذكر الخلاف فيها حيث قال : ” وقد نصّ أحمد على أن من شرط أن يكتب بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر . وروى عنه جوازها كونها مصلحة لهما جميعاً ” وبعد أن ذكر أقوال المجيزين والمانعين قال : ” والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر لواحد منهما . والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرّة فيها بل بمشروعيتها ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة (المغني : 6/436-437) .

 

عموم البلوى :

 

وهو الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيراً من الناس ويتعذّر الاحتراز منها (ابن عابدين : الحاشية 1/310) .

 

أو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال (كشف الأسرار: 3/16) كنجاسة النعل والخف تطهر بالدلك وإن كان رطباً على قول أبي يوسف وهو الأصح المفتى به لعموم البلوى (ابن عابدين : 1/309-310) .

 

وعموم البلوى كالحاجة لا يرفع نصاً . قال ابن نجيم : لا اعتبار عند أبي حنيفة بالبلوى في موضع النص كما في بول الآدمي فإن البلوى فيه أعم (الأشباه والنظائر ص 84) .

 

الغلبة :

 

الغلبة تنزل منزلة الضرورة وفي إفادة الإباحة . ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرّم . (البدائع : 6/30)

 

 عسر الاحتراز :

 

ومعناها صعوبة التحفظ عن أمر وهي في العبادات وغيرها. قال الكاساني: كل فضل مشروط في البيع ربا سواء كان الفضل من حيث الذات أو من حيث الأوصاف إلاّ ما يمكن التحرز عنه دفعاً للحرج ( بدائع الصنائع: 5/187) .

 

وعبّر عنه القرافي بالتعذر حيث قال : ” المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف ” (الفروق: 3/198) .

 

وأما خليل فقد قال : ” لا إن عسر الاحتراز منه ” (الزرقاني: 1/17) .

 

وعفى عما يعسر كحدث مستنكح (أي عما يعسر الانفكاك عنه بعد وجود سببه وهو المشقة) (الزرقاني وبحاشيته البناني :1/41) .

 

كل ما لا يمكن الاحتراز منه معفو عنه (ابن تيمية الفتاوى:1/592) وعسر الاحتراز هو عبارة عن المشقة اللاحقة في العبادة أو المعاملة .

 

المشقة :

 

التي تكون بمعنى الحاجة هي الواقعة في مرتبة متوسطة . ولإيضاح ذلك ننقل كلام القرافي في الفروق على أقسام المشقة حيث يقول ممزوجاً بابن الشاط باختصار محمد بن علي بن حسين المالكي في تهذيب الفروق ما يلي : (الفرق الرابع عشر بين قاعدتي المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها) :

 

 (اعلم أن التكليف إلزام الكلفة على المخاطب يمنعه من الاسترسال مع دواعي نفسه هو أمر نسبي موجود في جميع أحكامه حتى الإباحة. ثم يختص غير الإباحة بمشاق بدنية بعضها أعظم من بعض . فالتكليف به إن وقع ما يلزمه من المشاق عادة أو في الغالب أو في النادر كالوضوء والغسل في البرد والصوم في النهار الطويل والمخاطرة بالنفس في الجهاد ونحو ذلك، لم يؤثر ما يلزمه في العبادة لا بإسقاط ولا بتخفيف لأن في ذلك نقص التكليف إن لم يقع التكليف بما يلزمه من المشاق كان التكليف على ثلاثة أقسام :

 

الأول: متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف كالخوف على النفوس أو الأعضاء والمنافع لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة فلو حصلنا هذه العبادة مع الخوف على ما ذكر لثوابها لأدى لذهاب أمثالها.

 

الثاني:  متفق على عدم اعتباره في ذلك كأدنى وجع في أصبع لأن تحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة وخفة المشقة .

 

الثالث:  مختلف فيه فبعضهم يعتبر في التخفيف ما اشتدت مشقته وإن بسبب التكرار لا ما خفت مشقته وهو الظاهر من مذهب مالك . فيسقط التطهير من الخبث في الصلاة عن ثوب المرضع كل ما يعسر التحرز منه كدم البراغيث ويسقط الوضوء فيها بالتيمم لكثرة عدم الماء والحاجة إليه والعجز عن استعماله . وبعضهم يعتبر في التخفيف شديدة المشقة وخفيفها.

 

هذه الأقسام الثلاثة تطرد في جميع أبواب الفقه فكما وجدت المشاق الثلاثة في الوضوء ، كذلك نجدها في العمرة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوقان الجائع والطعام عند حضور الصلاة والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء والمشي في الوحل وغضب الحكام وجوعهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك . وكذلك الغرر في البيع ثلاثة أقسام وهكذا في كل أبواب الفقه (1/131-132).

 

وبين أن لكل عبادة مرتبة . قلت : وكذلك منهيات المعاملات لكل منها مرتبة .

 

مجالات تدخل فيها الحاجة :

 

الحاجة والغرر :

 

من أهم المجالات التي تدخلها الحاجة عقود الغرر وتقدمت بعض النصوص التي تدل على اغتفار يسير الغرر للحاجة .

 

ونريد أن نذكر الآن ما هو الغرر ؟ وأصل النهي عنه ومدى تأثير الحاجة في إلغاء حكمه .

 

والغرر عرّفه القرافي بأنه : الشيء الذي لا يدري هل يحصل أو لا . وعرّف الجهالة بأنها : ما عُلم وجوده وجهُلت صفته .

 

 وعرّف الجرجاني الغرر بأنه : ما يكون مجهول العاقبة لا يدري أيكون أو لا (التعريفات).

 

وقيل: ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. قال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط بكنهها المتبايعان (التاج: 3/443) .

 

وبيع الغرر ممنوع شرعاً بعموم الكتاب لقوله تعالى :} ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل { ]البقرة2/88[ .

 

ومحرّم بنصوص السنّة . ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اله عليه وسلّم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر (شرح مسلم للنووي : 11/156). وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً عن أبي حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر(المنتقى للباجي:5/41).

 

علّق الباجي بقوله ” نهيه صلّى اله عليه وسلّم عن بيع الغرر يقتضي فساده ومعنى بيع الغرر – واله أعلم – ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر فهذا الذي لا خلاف في المنع منه ” .

 

وأما يسير الغرر فإنه لا يؤثر في فساد عقد بيع فإنه لا يكاد يخلو منه عقد. وإنما يختلف العلماء في فساد أعيان العقود لاختلافهم فيما فيها من الغرر هل هو من حيز الكثير الذي يمنع الصحة أو من حيز القليل الذي لا يمنعها ، فالغرر يتعلق بالمبيع من ثلاثة أوجه : من جهة العقد ، والعوض ، والأجل (المنتقى:5/41).     قلت : وجه ما ذكره الباجي وغيره أن مجرد وجود الغرر ليس مبطلاً للعقد حتى يكون غالباً ناشئاً عن كون إضافة البيع إلى الغرر هي من إضافة الموصوف إلى الصفة . ووصف ابن مالك – في التسهيل – هذا النوع من الإضافة بأنه من شبه المحضة ومثل له بمسجد الجامع لأن المسجد هو الجامع وذلك صفته ومعنى هذا أن النهي وارد على بيع غرر وليس عن بيع فيه غرر والفرق يدركه البصير بموارد الألفاظ .

 

وقال القرافي : ” قاعدة : الغرر ثلاثة أقسام : متفق على منعه في البيع كالطير في الهواء ومتفق على جوازه كأساس الدار ومختلف فيه هل يلحق بالقسم الأول لعظمه أو بالقسم الثاني لخفته أو للضرورة إليه كبيع الغائب على الصفة والبرنامج ونحوهما ؟

 

فعلى هاتين القاعدتين يتخرج الخلاف في البراءة . فـ (ح) يرى إن كان المبيع معلوم الأوصاف حق للعبد فيجوز له التصرف فيه وإسقاطه بالشرط ، وغيره يراه حق الله تعالى وأنه حجر على عباده في المعاوضة على المجهول . و (ح) يرى أن غرر العيوب في شرط البراءة من الغرر المغتفر لضرورة البائع لدفع الخصومة عن نفسه وغيره يراه من الغرر الممنوع لأنه قد يأتي على أكثر صفات المبيع ، فتأمل هذه المدارك فهي مجال الاجتهاد وانظر أيها أقرب لمقصود الشرع وقواعده فاعتمد عليه والله هو الهادي إلى سبيل الرشاد (الذخيرة للقرافي : 5/93) .

 

ويقول النووي : ” (فرع) الأصل أن بيع الغرر باطل لهذا الحديث والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه ( فأما ) ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر وذكر أو أنثى وكامل الأعضاء أو ناقصها  وكشراء الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك  فهذا يصح بيعه بالإجماع .

 

ونقل العلماء الإجماع أيضاً في أشياء غررها حقير (منها) أن الأمّة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها ولو باع حشوها منفرداً لم يصح ، وأجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهراً مع أنه قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين ، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بأجرة وعلى جواز الشرب من ماء السقاء بعوض مع اختلاف أحوال الناس في استعمال الماء أو مكثهم في الحمام .

 

قال العلماء مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلاّ بمشقة أو كان الغرر حقيراً جاز البيع وإلاّ فلا .

 

وقد يختلف العلماء في بعض المسائل كبيع العين الغائبة وبيع الحنطة في سنبلها ويكون اختلافهم مبنياً على هذه القاعدة ، فبعضهم يرى الغرر يسيراً لا يؤثر ، وبعضهم يراه مؤثراً والله سبحانه وتعالى أعلم (المجموع للنووي: 9/258) .

 

أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فإنه قيّد الحاجة بالشدّة عندما قال في حديثه عن الجوائح : ” والحاجة الشديدة يندفع بها الغرر اليسير والشريعة مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها مصلحة راجحة أبيح المحرّم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ” (الفتاوى) .

 

الغرر المضاف :

 

واعتبر المالكية أن الغرر إذا كان مضافاً لأصل جائز يغتفر للحاجة بخلاف ما لو كان الغرر أصلاً في العقد فيبطل العقد . قال المواق: ” ومن المدونة من باع أمة وله رضيع حر وشرط عليهم رضاعته ونفقته سنة فذلك جائز إذا كان إن مات الصبي أرضعوا له آخر .. (ابن يونس) والفرق بين هذا وبين الظئر لا يجوز أن يشترط إن مات الطفل أن يؤتى بغيره ، أن مسألة الأمة الغرر فيها تبع لأنه انضاف إلى أصل جائز .

 

كقول مالك في بيع لبن شاة جزافاً شهراً أنه لا يجوز وأجاز كراء ناقة شهراً واشترط حلابها ، أصله جواز اشتراط المبتاع ثمراً لو يؤبر – انظر بعد هذا عند قوله – وخلفه الفصيل .

 

وقال أشهب إلا أنه على قوله يعطي الموجود حكم المعدوم كالغرر والجهالة في العقود إذا قال وعسر الاحتراز عنهما نحو أساس الدار وقطن الجبة ورداءة باطن الفواكه ودم البراغيث ونجاسة ثوب المرضع .

 

وانظر بالنسبة للربا لا يجوز منه قليل ولا كثير لا لتبعية في بيع الحلي- من ابن يونس – ( المواق حاشية على مواهب الجليل : 4/365) .

 

وهذا الكلام واضح في أمرين أحدهما أن الغرر قد يجوز تبعاً للحاجة ويجوز منه اليسير وأن الربا لا يجوز منه قليل ولا كثير .

 

وهذه نصوص تبين حدود تأثير الحاجة في المنهيات وذلك بحسب مرتبة النهي فما كان في مرتبة وسطى كالغرر تؤثر فيه بشروط وما كان في مرتبة عليا لا يتأثر بها.

 

ومن هذا القبيل تأثير الحاجة معتمدة على اشتمال العقد على معنى الرفق والمعروف فقد يكون العقد في أصله حراماً ولكنه يباح للحاجة بناءً على ما علم من التفات الشارع للمعروف والرفق .

 

ومن ذلك أنهم أجازوا إجارة لا تعرف فيها طبيعة المنافع المستأجر عليها ولا الذات المستأجرة وذلك في صيغة عرفت عند المالكية بـ”أعني بغلامك لأعينك بغلامي”.

 

 وتصور هذه المسألة من مختصر خليل ممزوجاً بشارحه الزرقاني : ” وجاز أعني بغلامك على حرثي ونحوه لأعينك بغلامي . أراد أو نفسي على حرثك أو غيره . ولذا حذف متعلق حال كون ذلك ، إجارة لا عارية  ، لأنها بغير عوض وهذا بعوض ، تحدث المنفعة أم لا ، تساوى زمنها أو اختلف ، تماثل المعان به للآخر أم لا ، كحرث وبناء وغلام وثور فلا يشترط اتحاد المنفعة ولا عين المستعمل) . وهذه إجارة ، ومعلوم أن الإجارة كالبيع .

 

أركانها ، والركن الثاني – الأجر- هو كالثمن يطلب كونه معروفاً قدراً وصفة ” هذا كلام ابن عرفة (المواق:5/389).

 

وهذه الصيغة التي اعتبرت تشتمل على جهل قدر الأجرة وصفتها ؛ لأنها قد تكون ثوراً في مقابل غلام ، وقد تكون حرثاً في مقابل البناء لأن الإعانة معروف حسب عبارة الزرقاني (نفس المرجع) .

 

 قال ابن شاس لو قال أعني بغلامك يوماً وأعينك بغلامي يوماً فليس بعارية بل ترجع إلى حكم الإجارة لكن أجازه ابن القاسم ورآه من الرفق (المواق:5/269) .

 

وسمع القرينان لا بأس أن يقول الرجل العامل لمثله أعني خمسة أيام وأعينك خمسة أيام في حصاد زرعك ودرسه وعمله (ابن رشد) .

 

لأنه من الرفق فكان ذلك ضرورة تبيح ذلك وإنما يجوز ذلك فيما قل وقرب من الأيام وإن اختلفت الأعمال (المواق: 4/418) .

 

قلت : قوله فكان ذلك ضرورة إلى آخره معناها هنا الحاجة كما قدمنا . وكذلك نصّوا على أن (قولهم الصفقة تفسد إذا جمعت حلالاً وحراماً مخصوص بالمعاوضات المالية بالبيع والشراء) (في الزرقاني: 7/79) .

 

قاله في معرض التعليق على بعض عقود الوقف التي تجمع حلالاً وحراماً ومفهومه أن التبرعات لا تبطل بالجمع بين الحلال والحرام بل يبطل فقط الجزء الذي تعلقت به الحرمة ويصحح غيره وذلك لأن عقود المعروف والرفق يتسامح فيها نظراً لقصد الشارع العام في إيقاعها ما لا يتسامح في غيرها ويغتفر فيها من الخلل الذي تدعو إليه الحاجة ما لا يغتفر في عقود المكايسة المحضة .

 

ومن هذا القبيل ما ذكر ابن يونس في جامعه وهو يعلل بعض عقود الصرف:” انظر هل العلة أنهم إذا قصدوا الإقالة جاز لأنها معروف ، وإذا قصدوا التبايع لم يجز لأنها مكايسة .

 

فيجب على هذا إذا ابتاع حنطة بوازن فأعطاه ناقصاً ورد عليه من الحنطة ، إن قصدوا التبايع لم يجز ولو قصدوا الإقالة فقال المشتري وقد وجد ديناره ينقص سدساً أقلني بهذا النقص من سدس الطعام وخذ الدينار الناقص لجاز ” (كتاب الصرف من ابن يونس) .

 

في هذه المجالات برز إعمال الحاجة لتصحيح خلل مضاف للعقد وليس متبوعاً في تصحيح خلل يتعلق بعقد إرفاق ومعروف .

 

الحاجة ترجح المختلف فيه بين العلماء :

 

وقد نصَّ المالكية على جواز العمل بالضعيف بثلاثة شروط : أن تلجيء إليه الضرورة ، وأن لا يكون ضعفه شديداً جداً ، وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً . ذكره البناني في حاشيته على الزرقاني عن المسناوي(5/124).

 

ونظمه سيدي عبدالله في مراقي السعود حيث قال :

 

وذكر ما ضعف ليس للعمل      إذ ذاك عن وفاقهم قد انحظل

بل للترقي في مدارج السنا        وليحفظ المدرك من له اعتنى

ولمراعاة الخلاف  المشتهر      أو المراعـاة لكل ما سطـر

وكونه يلجي إليه الضـرر         إن كان لم يشتد فيه الخـور

ثبت العـزو وقد تحــققا             ضراً من الضـر به تعلقـا

 أصل مشروعية الحاجة رفع الحرج والتيسير فهي تشترك مع الضرورة في مسألة رفع الحرج وهي مبنية على التسهيل والتيسير والتوسع .

 

قال الشاطبي (المسألة السادسة) : فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور :

 

أحدها : النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى :} ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم { ]الأعراف : 157[ . وقوله :}  ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا { ]البقرة: 286/2 [ . وفي الحديث : ” قال الله تعالى قد فعلت ” (حديث رقم 180 أخرجه مسلم عن ابن عباس – باب الإيمان). وقد جاء : } لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها { ]البقرة 286 [. و  } يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر { ]البقرة: 185 [ . و } وما جعل عليكم في الدين من حرج { ]الحج : 78 [ . و } يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفا { ]النساء : 28 [ . و } ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليُطهركم { ]المائدة : 6 [ .

 

وفي الحديث : ” بُعِثتُ بالحنيفية السمحة ” (الحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه ، حديث رقم 21260 باقي مسند الأنصار) ، وحديث : ” ما خُيِّرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ” (الحديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها ، حديث رقم 23702 باقي مسند الأنصار) . وإنما قال : ” ما لم يكن إثماً ” لأن ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى . ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل .

 

والثاني : ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة ، وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال . ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف . (الموافقات:2/121-122) .

 

فالنصوص السالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط ، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل .

 

وأطال النفس (إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء) . (الموافقات: 2/299)

 

إجمال الفروق بين الضرورة والحاجة :

 

بعد هذا العرض يتبين أن الفرق بين الضرورة والحاجة يرجع إلى :

 

التعريف في أن الضرورة في معناها الفقهي الأخص شدة وضيق في المرتبة القصوى تبيح المحرّم ، وفي معناها الأصولي كلي ينتظم الأحكام التي بها قوام الأديان والأبدان .

 والحاجة مشقة في مرتبة وسطى في معناها الفقهي تلحق بالضرورة   لفقهية في إباحة منهي ضعف دليله وتدنت مرتبته في سلم المنهيات وفي معناه الأصولي كلي أورث عدم اعتباره مشقة وحرجاً للعامة وأدى اعتباره إلى سهولة ويسر فكان أصلاً لعقود منصوصة حادت عن قياس أو خرجت عن قاعدة كلية أو أدى إليها اجتهاد مجتهد استصلاحاً أو استحساناً .

 

أصل المشروعية في أن النصوص المتعلقة بالضرورة نصوص واضحة محددة تتعلق برفع حرج وشدة من نوع خاص .

 والنصوص التي ترجع مشروعية الحاجة إليها تتعلق برفع الحرج بصفة عامة أعم من تلك التي قبلها وأقل تحديداً .

 

وهذان الفرقان بين الضرورة وبين الحاجة ثابتان في الضرورة بالمعنى الأصولي (الضروري) ومتعلقها مستمر ، أي أن الحكم الملحق من أجلها على خلاف القياس مستمر بناء على دليل الاستحسان أو المصلحة المرسلة وفي الضرورة بالمعنى الفقهي ومتعلقها موقت من باب الرخصة بالمعنى الأخص وهي تغيير حكم لعذر مع علة الحكم الأصلي .

 

وفي الحاجة بمعنى الحاجي وهو المعنى الأصولي ومتعلقها مستمر أي أن الحكم ثابت بها مستمر سواء كان منصوصاً معللاً بها كالسلم والإجارة… إلى آخره ، أو منسوباً إليها استحساناً كالاستصناع للحاجة والتعامل أو استصلاحاً كجواز تلاوة الحائض عند مالك.

 

والحاجة بمعنى الحاجي يشترط فيها أن تكون عامة وأما الحاجة الفقهية وهي كالضرورة الفقهية لأنها ملحقة بها وتوسيع لمعناها وهذه ترفع الحرج مؤقتاً بخلاف الضرورة بمعناها الفقهي فإنها تبيح مع قياس النص المانع صريحاً فيما توجد فيه فترفعه مؤقتاً وتشاركها الحاجة الفقهية في التوقيت لكنها تختلف معها في مرتبة دليل الحكم الذي ترفقه ، فالأولى ترفع حكماً دليله قطعي كالنص بدليله الظاهر والاقتضاء والإشارة والمفهوم والقياس .

 

أما الثانية فإنها ترفع حكماً دليله ظني كحال العام وبخاصة العام الضعيف في نوادر الصور كما أسلفنا وهذا الاختلاف في طبيعة الدليل الذي تواجهه كل منهما ناشيء عن اختلاف المشقتين  فالمشقّة في محل الضرورة هي مشقّة كبرى بينما المشقّة في محل الحاجة هي مشقّة وسطى .

 

أما الضرورة بمعنى الضروري عند الأصوليين فإنها تكون تأصيلاً لأحكام منصوصة من الشارع أو مجتهد فيها عن طريق المصلحة المرسلة .

 

يكمن الفرق بين الضروري والحاجي في أن ما كان من قبيل الضروريات فهو أرفع مرتبة مما كان من قبيل الحاجيات تأصيلاً وتعليلاً ، فما كان من الضروريات من حفظ نفس ودين ونسل ومال وعقل يقع في المرتبة العليا من المصالح الشرعية ولهذا فإنه معتبر في غيبة الشاهد الخاص عند من يعمل بالمصالح المرسلة وهو مالك رحمه الله تعالى ولم يستبعده من لا يعمل بها كالغزالي في المستصفى بشروط وابن قدامة في الروضة  .

 

أما الحاجيات فلتدني مرتبتها  فإن الاستصلاح في محلها نفاه كثير من العلماء كالغزالي في المستصفى وابن قدامة في الروضة .

 

وكل هذه الفروق تدعو إلى التأمل في هذه القاعدة وإعادة النظر في موقعها والذي نراه أنها قاعدة أصولية وليست فقهية وأن العقود والفروع التي تثبت عليها مقررة بالنص فذكرها إذاً من باب التعليل والتأصيل وليست مطردة ولهذا عبّر بعضهم بقد التقليلية وأن الأولى أن تذكر مع الضرورة الأصولية لأنها تثبت حكماً دائماً وهي من الكلي الذي لا يتوقف على تحققه في كل فرد من أفراده بل يكتفى بتحقيقه بالجملة في الجنس .

 

وأعتقد أن هذا المنحى هو الذي انتحاه إمام الحرمين حيث تحدث عن الضرورة الأصولية في القسم الثالث وجعل منها البيع ثم تحدث عن إلحاق الحاجة بها في المرتبة التي تليها ووضع بها الإجارة وتلاه تلاميذه .

 

وهذا في رأي هو القول الفصل وإن وضعها قاعدة فقهية أحدث ارتباكاً عند كثير من الباحثين حيث أباحوا بالحاجة دون استفصال ودون النظر في شروط الاستصلاح والاستحسان .

 

ولم ينتبهوا إلى أن الحاجة لا تؤثر فيما ثبت النهي عنه بأدلة قوية بحيث تعتبر في مرتبة قوية من مراتب النهي فلا تؤثر في تحريم الخمر والميتة والدم.

 

بل إنما تؤثر في عموم ضعيف كثرت أفراده وتناوله التخصيص وإنما تؤثر في مرتبة المنهيات لا توصف بأنها في أعلى درجات المنهيات فمن المعلوم أن محرّمات المقاصد ليست كمحرّمات الوسائل والذرائع وهذه فروق دقيقة توزن بميزان دقيق .

 

فالأولى لا تبيحها إلاّ الضرورة الخاصة بينما تتأثر الأخيرة بالحاجة منزلة منزلة الضرورة وتؤثر الحاجة في بعض العمومات وبعض المنهيات الأقل قوة بحيث يلاحظ الفقيه أن الشارع لم يشدد فيها فليست حرمة الربا كحرمة القمار والميسر والغرر فالربا أشد من هذه كما يقول ابن تيمية .

 

ثم إن الحاجة لا يمكن أن تفني العام بمعنى أنه لا يمكن تحت ضغوط الحاجة أن نقر أن الغرر كله أصبح جائزاً أو أن بيع ما ليس عندك أصبح جائزاً ، بل إن الحاجة تتعامل مع جزئيات فقط من هذه العمومات لأن العام نص فيما يصدق عليه أقله فإلغاؤه يصبح إلغاء للنص .

 

وإذا كانت العبادات ليست على وزان واحد كما يقول الشاطبي فكذلك المعاملات ليست على وزان واحد .

 

وباختصار فإن الفرق بين الضرورة وبين الحاجة يتجلى في ثلاث مراتب: مرتبة المشقّة ومرتبة النهي ومرتبة الدليل .

 

فإن الضرورة في المرتبة القصوى من المشقّة أو من الأهمية والحاجة في مرتبة متوسطة .

 

والنهي الذي تختص الضرورة برفعه هو نهي قوي يقع في أعلى درجات النهي لأن مفسدته قوية أو لأنه يتضمن المفسدة فهو نهي المقاصد بينما تواجه الحاجة نهياً أدنى مرتبة من ذلك لأنه قد يكون نهي الوسائل .

 

أما مرتبة الدليل فإن الدليل الذي ترفع حكمه الضرورة قد يكون نصاً صريحاً من كتاب أو سنّة أو سواهما . أما الدليل الذي تتطرق إليه الحاجة فهو في الغالب عموم ضعيف يخصص ، أو قياس لا يطرد في محل الحاجة ، أو قاعدة يستثنى منها .

 

من خلال التعامل مع هذه المراتب الثلاث يتبين فقه الفقهاء وفطنة الأذكياء في التمييز بين الضرورة بمعنييها الفقهي والأصولي والحاجة بمعنييها الأصولي والفقهي .

 

وعلى ضوء هذا يكون إعمال الحاجة في العقود المتجددة يقتضي أن لا يكون العقد كله مبنياً على الفساد بل يكون الفساد لاحقاً ببعض أوجه العقد كما قالوا في بيع الوفاء .

 

 فالفساد يلحق ببعض أوجهه دون بعض، وذلك إنما يعتبر في عقد منفرد ولا يعتبر في عدة عقود أو معاملات بعضها فاسد وبعضها صحيح ، فلا يمكن تصحيح الفاسد بناء على صحة الصحيح.

 

وهذا مع الأسف ما خفي على بعض الفضلاء فطبقوا حالة الفساد اللاحق بجزء من العقد والذي يمكن جبره إذا كان غرراً يسيراً مثلاً مضافاً إلى أصل جائز ، طبقوا ذلك الحكم على عقود متعددة بعضها مستقل عن بعض وبعضها ممنوع وبعضها جائز بدعوى العين المنغمرة.

 

وهذا كما هو واضح غير صحيح ، ولا يمكن قبوله من خلال مبدأ الحاجة بحال من الأحوال.

 

تطبيقات معاصرة

 

فيما يلي بعض التطبيقات المعاصرة لمبدأ الحاجة :

 

1 – فتوى المجلس الأوروبي بشأن شراء بيوت السكنى في ديار غير المسلمين:

 

نبدأ هذه التطبيقات بفتوى أثارت جدلاً في الساحة الفقهية وهي فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المتعلقة بقرار إباحة شراء بيوت السكنى في ديار غير المسلمين ترجيحاً لمذهب أبي حنيفة ومن قال بقوله انطلاقاً من مبدأ الحاجة .

 

نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها ، وهي قضية المنازل التي تشترى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية .

 

وقد قدمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض قُرئت على المجلس ، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة ، انتهى بعدها بأغلبية أعضائه إلى ما يلي :

 

يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا وأنه من السبع الموبقات ، ومن الكبائر التي تؤذن بحرب من الله ورسوله ، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام .

يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية التي لا شبهة فيها ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية ، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشيء مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين ، وغير ذلك .

كما يدعو التجمعات الإسـلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعاً ، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل ، فإن هذا سيجلب لهم عدداً كبيراً من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة ، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية ، وقد رأينا عدداً من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعها لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية ، كما في البحرين وغيرها . ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك لتعديل سلوكها مع المسلمين .

وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسراً في الوقت الحاضر ، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية ، لا يرى بأساً من اللجوء إلى هذه الوسيلة وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته ، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه ، وأن يكون هو مسكنه الأساسي ، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة ، وقد اعتمد للمجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين :

المرتكز الأول :

 

قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهي قاعدة متفق عليها مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع ، منها قوله تعالى في سورة الأنعام :} وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه { ]الآية: 119[ . ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرّمات الأطعمة :} فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فإن ربَّك غفور رحيم { ]الآية:145[ . ومما قرره الفقهاء هن أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة ، خاصة كانت أو عامة .

 

والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج وإن كان يستطيع أن يعيش بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها ، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن كما في قوله تعالى في سورة الحج :} وما جعل عليكم في الدين من حرج { ]الآية:78[ ، وفي سورة المائدة :} ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج { ]الآية:6[ . والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه بحيث يكون سكناً حقاً .

 

وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة ، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها ، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها ، فلم يجز تملّك البيوت للتجارة ونحوها .

 

والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة ، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال :}  والله جعل لكم من بيوتكم سكناً { ]النحل: 80[ ، وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم المسكن الواسع عنصراً من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم ، ولا يشعره بالأمان ، وإن كان يكلف المسلم كثيراً بما يدفعه لغير المسلم ويظل سنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجراً واحداً ، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه ، كما أنه إذا كبرت سنه أو قلّ دخله أو انقطع عرضة لأن يُرمى به في الطريق .

 

وتملك السكن يكفي المسلم هذا الهم ، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريباً من المسجد والمركز الإسلامي والمدرسة الإسلامية ، ويهيىء فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشيء لها مجتمعاً إسلامياً صغيراً داخل المجتمع الكبير ، فيتعارف فيه أبناؤهم ، وتقوى روابطهم ، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام وقيمه العليا .

 

كما أن هذا يمكن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية مادام مملوكاً له .

 

وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام ، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية ، حتى يرتفع مستواهم ، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمة أُخرجت للناس ، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين ، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم ، ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام ، وهذا يقتضي ألاّ يظل المسلم يكد طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه ، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه أو نشر دعوته .

 

المرتكز الثاني : (وهو مكمل للمرتكز الأول الأساسي)

 

هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني  – وهو المفتى به في المذهب الحنفي – وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي ، وهو رواية عن أحمد بن حنبل ، ورجحها ابن تيمية – فيما ذكره بعض الحنابلة – من جواز التعامل بالربا – وغيره من العقود الفاسدة – بين المسلمين وغيرهم في غير دار الإسلام .

 

ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات ، منها :

 

أن المسلم غير مكلف شرعاً أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام ، لأن هذا ليس في وسعه ، ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها ، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي . وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فرداً مثل أحكام العبادات وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية ، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً .

أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة – ومنها عقد الربا – في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سبباً لضعفه اقتصادياً وخسارته مالياً ، والمفروض أن الإسلام يقوّي المسلم ولا يضعفه ، ويزيده ولا ينقصه ، وينفعه ولا يضرّه ، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم بحديث : ” الإسلام يزيد ولا ينقص ” أي يزيد المسلم ولا ينقصه ، ومثله : ” الإسلام يعلو لا يعلى ” ، وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه ولا يأخذ مقابله ، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم ، فعليه الغرم دائماً وليس له الغنم ، وبهذا يظل المسلم أبداً مظلوماً مالياً بسبب التزامه بالإسلام ، والإسلام لا يقصد أبداً إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به ، وأن يتركه – في غير دار الإسلام – لغير المسلم يمتصه ويستفيد منه ، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة والمعترف بها عندهم .

 وما يُقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء  لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلاّ بشرطين الأول : أن يكون فيها منفعة للمسلم ، والثاني : ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم ، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم .

 

فالجواب : أن هذا غير مسلَّم ، كما يدل عليه قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير ، وإطلاق المتقدمين من علماء المذهب ، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد إذ به يتملك المنزل في النهاية.

 

وقد أكّد المسلمون الذي يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة : أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك ، بل أحياناً تكون أقل ، ومعنى هذا أننا إذا حرّمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته ، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبّر الفقهاء ، وربما يظل عشرين سنة أو أكثر يدفع إيجاراً شهرياً أو سنوياً ولا يملك شيئاً على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة – وربما أقل – أن يملك البيت .

 

فلو لم يكن هذا التعامل جائزاً على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه لكان جائزاً عند الجميع للحاجة التي تنزل أحياناً منزلة الضرورة في إباحة المحظور بها .

 

ولا سيما أن المسلم هنا إنما يؤكل الربا ولا يأكله ، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها والأصل في التحريم منصب على (أكل الربا) كما نطقت به آيات القرآن ، وإنما حرم الإيكال سداً للذريعة كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد .

 

ومن المعلوم أن أكل الربا المحرّم لا يجوز بحال ، أما إيكاله – بمعنى إعطاء الفائدة – فيجوز للحاجة ، وقد نصّ على ذلك الفقهاء وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهه أبواب الحلال .

 

ومن القواعـد الشـهيرة هنا : أن ما حـرم لذاته لا يباح إلاّ للضرورة ، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة ، والله الموفق .

 

وتعليقنا على هذا القرار : نقول عنه باختصار إنه لا يبيح التعامل بإطلاق بالربا في ديار غير المسلمين كما هو مقتضى مذهب أبي حنيفة ومن قال بقوله لكنه يبيحه في حالة الحاجة الشخصية التي لا تتجاوز محلها فهو ترجيح مقيد بالحاجة طبقاً لشروط الترجيح بالحاجة التي نقلناها عن مالك .

 

وإن كنت لا اتفق مع صياغة بعض الفقرات وبخاصة فيما يتعلق بالقول أن الحاجة وحدها تكفي في إباحة هذا التعامل .

 

والحقيقة أن الحاجة لا تكفي في إباحة الربا وإنما تعتمد الفتوى على قول العلماء القائلين بهذا مرجحاً بأصل عام شهد الشرع باعتباره وهو الحاجة والتيسير .

 

 2 – قرار مجمع الفقه الإسلامي : 63(1/7) بشأن شراء أسهم في شركات تتعامل أحياناً بالربا :

 

 فيما يلي بعض البنود التي وردت بقرار مجمع الفقه الإسلامي فيما يختص بهذا الموضوع :

 

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9-14 مايو 1992م .

 

بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع “الأسواق المالية” الأسهم ، الاختيارات ، السلع ، بطاقة الائتمان ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ، قرر ما يلي :

 

أولاً ـ الأسهم :

 

1- الإسهام في الشركات :

 

أ)     بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز .

 

ب)   لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرّم ،  كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرّمات أو المتاجرة بها .

 

ج)   الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرّمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .

 

2 – تحديد مسؤولية الشركات المساهمة المحدودة :

 

لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة .

 

ثانياً ـ التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة :

 

السـلع : يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي :

الطريقة الأولى :

 

أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه . وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة .

 

الطريقة الثانية :

 

أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق .

 

وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة .

 

الطريقة الثالثة :

 

أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد أجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم ، وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين ، ويمكن أن يعدّل ليستوفي شروط السلم المعروفة ، فإذا استوفى شروط السلم جاز . وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها.

 

الطريقة الرابعة :

 

أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمّة في موعد أجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين ، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس . وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع ، وهذا العقد غير جائز أصلاً .

 

وتعليقنا على هذا القرار المتعلق بالأسواق المالية نرى أن المجمع تارة لم يعتبر الحاجة لما عارضها من الدليل الذي يجعل اعتبارها ملغي وتارة اعتبرها . فعلى سبيل المثال :

 

1- الفقرة (ج) : الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرّمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .

 

           وبهذا يرى المجمع أن الربا لا تبيحه الحاجة ولا عبرة بقلته بالنسبة لأعمال الشركة وأنشطتها باعتبار ذلك وصفاً طردياً والمجمع في ذلك كان مصيباً كل الإصابة لأن الربا كما أسلفنا في مرتبة من النهي لا تبيحها إلاّ الضرورة .

 

          وكان بودي أن تُحذف كلمة (الأصل) التي أصبح البعض يتذرّع بها لإباحة الاشتراك في هذه الشركات بدعوى التطهير ، وقد بيّنا خطأ ذلك في بحث آخر.

 

2-   قرر المجمع أن لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محددة برأس مالها .

 

      والمجمع تجاوز عن مشكلة الديون التي على الشركة فإن أصحابها وإن كانوا يعلمون أنها مرتبطة برأس مال الشركة فإنهم مع ذلك إنما تعاقدوا مع أرباب الشركة وهذا القرار فرع عن الاعتراف بالشخصية المعنوية والأصل في الشريعة اعتبار الذمّة الشخصية والمجمع قرر ذلك للحاجة .

 

3-   في الفقرة الأخيرة من الطريقة الثالثة قرر المجمع أنه ( لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها ) ولم يعتبر الحاجة مع أن مذهب مالك والأوزاعي جواز ذلك ما لم تكن السلعة طعاماً .

 

 هذه القرارات تدل على تعامل حذر مع مبدأ الحاجة ، ولعل بحثنا هذا يسهم في إيضاح معايير التعامل مع الحاجة.

 

بالإضافة إلى ما تقدم فقد منع المجمع عقود التوريد في قرارات سابقة وأكّد هذا المنع في دورته الأخيرة بالرياض بتاريخ 25 جمادى الثانية 1421هـ ، ماعدا ما يتعلق منها بالاستصناع بناءً على تأجيل العوضين .

 

والذي يظهر لي: أن عقود التوريد من المجالات التي تدخل فيها الحاجة لعدم وجود نص فيها وقد أجاز مالك تأجيل العوضين في السلم بشرط لثلاثة وإلى غاية أجل المسلم بلا شرط النقد وأجازه في الاستجرار في الشراء من دائم العمل كالخباز .

 

وأجازه في أكرياء الحج وهو كراء مضمون تأجل فيه العوضان بحاجة الناس إلى ذلك وقد نقلنا كلام ابن سراج عن المواق وفيه أن مالك ( أجاز تأخير النقد في الكراء المضمون).(التاج والإكليل:5/390) .

 

قال خليل 🙁 أو في مضمونه لم يشرع فيها إلاّ كراء حج فاليسير) وكان مالك يرى أن لا بد أن ينتقد ثلثي الكراء في المضمونة إلى أجل ، ثم رجع وقال :” قد اقتطع الأكرياء أموال الناس فلا بأس أن يؤخروهم بالنقد ويعربونهم الدينار وشبهه ” (التاج والإكليل: 5/3939) .

 

قلت : قوله (ويعربونهم) أي : يعطونهم عربوناً .

 

كما أجيز الاستصناع للحاجة وقد أقر المجمع جوازه مع أن جواز تأجيل العوضين مذهب ابن المسيب رضي الله عنه .

 

وأنا أرى إعمال الحاجة في مثل هذه العقود مما لم يرد فيه نص إذا ثبتت الحاجة المعتبرة التي يؤدي عدم ارتكابها إلى مشقة وحرج يلحق العامة بغض النظر عن تحقق ذلك في آحاد صورها وقد شرحنا رأينا في تأجيل البدلين في بحثنا في البورصات المقدم إلى المجلس الأوروبي للإفتاء .

 

 

 

نتائج البحث

في هذا البحث الوسيط عرفنا الضرورة لغة بأنها الضيق والشدة والحاجة وأنها اصطلاحاً ” أمر إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك ” في معناها الأخص وأنها تطلق على الحاجة .

 

وأنها أصولياً الكلي الذي ينتظم المحافظة على ضرورات الحياة الخمس من جهة الوجود ومن جهة العدم . وبيّنا أصل مشروعية الضرورة .

 

 وعرّفنا الحاجة لغة بأنها الافتقار إلى الشيء وذلك هو المأربة والمأربة هي الحاجة.  وعرّفناها اصطلاحاً بأنها ما نزل عن الضرورة بحيث يؤدي فقده إلى مشقة وقلق وحصوله إلى سعة وتبسط .

 

ثم إن الحاجة منها ما هو حاجة عامة بشرية وهذه تحدث حكماً مستمراً وهي من باب الكلي الذي لا يجب تحققه في آحاد صورة فتكون أساساً للاستحسان والاستصلاح .

 

وحاجة خاصة فقهية تعتبر توسيعاً للضرورة تعطي حكمها وتقدر بقدرها وأنها رخصة بالمعنى الأخص ، وذكرنا أمثلة لذلك وناقشنا وضع قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في القواعد الفقهية وأخرجنا أصلها الأصولي مسلسلاً من الجويني إلى تلاميذه .

 

كما أوضحنا أن قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة ليست على إطلاقها وإن الحاجي لا يمكن أن يكون نداً للضرورة الفقهية وأن الأمثلة التي ذكروها منها – وهو أغلبها – منصوصة في الشرع فما معنى كون الحاجة تنزل منزلة الضرورة فيه إلاّ أنه استثناء من أصل يفيد التحريم كما الضرورة استثناء من نصوص تقضي بالتحريم .

 

وما عدا هذه المقارنة الجزئية فلا يبدو تنزيلها منزلة الضرورة مطرداً حتى يكون قاعدة فقهية قد بيّنا أنه لا تبيح ما كان النهي فيه قوياً كمحرمات المقاصد فلم تنزل منزلة الضرورة فيها .

 

 وأشرنا إلى تفاوت درجة النهي في المنهيات وبيّنا أنها لا تواجه نصاً بالرفع ولا ترفع عامّاً في كل مدلوله بل ترفع جزئية من جزئياته وهي في الغالب جزئية تنتمي إلى العام بضعف وتلك نكتة لم يطلع عليها الباحثون وقد أيدناها بالاستقراء .

 

كما أبدينا أوجهاً أخرى تدخل فيها الحاجة حيث لا يكون الخلل في العقد مقصوداً أو حيث يكون الغرض من العقد معروفاً أو فيه شائبة المعروف والارتفاق أو يكون الخلل تابعاً وليس متبوعاً ، أو تتوخى الحاجة مواقع الخلاف لتكون مرجحاً لقول مرجوح عرف قائله وثبت عزوه .

 

وأجملنا الفروق الجوهرية في المراتب الثلاث : مرتبة المشقّة ، ومرتبة النهي ، ومرتبة الدليل .

 

وهكذا اتضحت الخطوط الدقيقة للفرق بين الضرورة والحاجة التي فصلناها في القائمة الملحقة .

 

وذكرنا بعض التطبيقات من قرارات مجمع الفقه الإسلامي بجدة تراوحت بين الإقدام والإحجام طبقاً لتقدير النهي والحاجة والتفاتاً في الغالب إلى وجود نقل يستأنس به أو أصل يعتمد عليه .

 

بعد أن ذكرنا قراراً واحداً للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ، وعلقنا على هذه القرارات تعليقاً موجزاً دون مناقشة قد تطول وتخرجنا عن سياق المطلوب في هذا البحث وأبدينا وجهة نظرنا الخاصة التي توافق قرارات المجمعين أو تخالف وتباين القرارات وبخاصة في مسألة تأجيل البدلين .

 

كل ذلك باختصار تارة بالعبارة الصريحة أو بالإشارة السريعة التي يفهمها أهل الاختصاص .

 

الفروق :

 

من حيث التعريف : الضرورة شدة وضيق ومشقّة تبيح المحرّم كالميتة والدم ولحم الخنزير ومال الغير ، والحاجة : افتقار ونقص فهي أعم من الضرورة .

الضرورة : أدلتها نصوص واضحة ، والحاجة : أدلتها عمومات .

الضرورة الفقهية : لا تحتاج إلى نص في كل حالة تنزل فيها بل إن الإذن بها عام سوى ما استثنى لأدلة أخرى وقرائن . والحاجة : تفتقر إلى نص لإثبات اعتبارها وأكثر الأمثلة المذكورة كالإجارة والقراض والمساقاة منصوصة .

الضرورة : ترفع النص وغيره ، والحاجة مجالها هو تخصيص العموم عند من يراها وبخاصة ماكان تناوله بالعموم ضعيفاً ، وقد تخالف قياساً وتستثنى من قاعدة .

الضرورة : أثرها مؤقت محدود بها والحاجة العامة أثرها مستمر .

الضرورة شخصية لا ينتفع بها غير المضطر والحاجة لا يشترط فيها تحقق الاحتياج في آحاد أفرادها .

الضرورة رخصة بالمعنى الأخص والحاجة العامة ليست رخصة بالمعنى الأخص .

الضرورة ترفع نهياً في مرتبة عليا من سلم المنهيات كما ترفع غيره . والحاجة لا ترفع نهياً في مرتبة عليا من مراتب النهي بل تتوخى محرّمات الوسائل دون محرمات المقاصد .

الضرورة تبيح العقود التي يكون الخلل فيها أصلياً أو تابعاً والحاجة تبيح العقد الذي يكون فيه الخلل تابعاً ومضافاً .

الضرورة تبيح الكثير واليسير والحاجة تبيح اليسير لا الكثير .

الضرورة تبيح الخلل المقصود وغيره ، والحاجة تبيح غالباً الخلل غير المقصود في العقد .

الضرورة لا تختص بعقد دون آخر ، والحاجة تبيح الممنوع أحياناً في سياق إرفاق ومعروف دون قصد المكايسة .

الضرورة لا تفتقر إلى خلاف ، والحاجة ترجح الضعيف في محل الاختلاف بشروط .

      وأخيراً لعلنا بهذه الفروق التي تسجل لأول مرة بهذه الطريقة أسهمنا في تجلية هذه المسألة أو على الأقل بيّنا الوجهة الصحيحة التي يجب على الباحثين أن يأموها والمسالك التي ينبغي للدارسين أن يسلكوها . وناقشنا مناقشة غير مسبوقة قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في القواعد الفقهية مع أننا لا ندعي الاستيعاب حيث إن العادة جرت في ميدان البحوث المنشورة أن تكون مختصرة غير منتشرة .

 

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق وهو الهادي بمنه إلى سواء السبيل…

 

مراجع البحث:

 

ابن تيمية ، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ، ت 728هـ ، مجموع الفتاوى ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت 1397هـ ـ 1978هـ .

ابن رشد ، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد القرطبي، ت 595هـ ، البيان والتحصيل ، إدارة إحياء التراث الإسلامي ، قطر .

ابن عبد السلام ، عز الدين عبد العزيز ، قواعد الأحكام ، دار الجيل ، بيروت 1400هـ .

ابن عابدين ، محمد أمين ، ت 1258هـ ، حاشية رد المختار على الدر المختار ، مصطفى البابي ، القاهرة 1386هـ .

ابن العربي ، أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي ، ت 542هـ ، القبس ، شركة عيسى الحلبي ، القاهرة 1376هـ .

ابن عطية ، أبو محمد عبد الحق المحاربي الغرناطي ، ت 541هـ ، البحر الوجيز ، مؤسسة دار العلوم ، القاهرة .

ابن قدامة ، موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد ، ت 620هـ ، المغني ، مكتبة القاهرة ، القاهرة 1389هـ .

ابن قيم الجوزية ، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، ت 751هـ ، إعلام الموقعين عن رب العالمين، مكتبة الكليات الأزهرية،القاهرة 1388هـ .

إمام الحرمين ، أبو المعالي عبد الملك بن أبي عبد الله الجويني ، البرهان ، دار الأنصار ، القاهرة 1400هـ .

الباجي ، أبو الوليد بن سليمان بن خلف ، ت 494هـ ، المنتقى شرح موطأ الإمام مالك ، دار الكتاب العربي ، بيروت 1332هـ .

الحطاب ، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المغربي ، ت 954هـ ، مواهب الجليل على مختصر خليل ، دار الفكر ، بيروت .

الدردير ، أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد ، ت 1201هـ ، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، مطبعة المعاهد الأزهرية، القاهرة 1386هـ .

الرملي ، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة ، ت 1004هـ ، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1386هـ.

الزرقاني، عبد الباقي ، شرح على المختصر ، دار الفكر ، بيروت 1398هـ.

السيوطي، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر، ت911هـ ، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ، مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة 1378هـ.

الشاطبي ، أبو إسحاق إبراهيم ، الموافقات ، دار المعرفة ، بيروت .

الشاطبي ،أبوإسحاق إبراهيم ،الاعتصام ،دار الكتب العلمية ، بيروت 1988م.

الشوكاني ، محمد بن علي بن محمد ، ت 1250هـ ، إرشاد الفحول ، دار الكتاب العربي ، بيروت 1419هـ .

الطوفي ، نجم الدين ، شرح مختصر الروضة ، مؤسسة الرسالة ، القاهرة .

العلوي ، سيدي عبد الله ، نشر البنود على مراقي السعود، صندوق إحياء التراث ، القاهرة .

الغزالي ، أبو حامد محمد بن أحمد ، ت 505هـ ، شفاء العليل ، تحقيق: حمد الكبيسي ، مطبعة الإرشاد ، بغداد 1316هـ .

القرافي ، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس ، ت 684هـ ، الذخيرة ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت .

القرافي ، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس ، ت 684هـ ، الفروق ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة 1344هـ .

القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ،ت 671هـ، الجامع لأحكام القرآن ، دار القلم ، القاهرة 1386هـ .

الكاساني ، علاء الدين أبو بكر بن مسعود ، ت 587 هـ ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، دار الكتاب العربي ، القاهرة .

المواق ، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري ، ت 897هـ ، التاج والإكليل حاشية على الحطاب ، دار الفكر ، بيروت 1992م .

النووي ، أبو زكريا محي الدين بن شرف الشافعي ، ت 676هـ ، المجموع شرح المهذب ، دار الفكر ، بيروت

(1) الجباح : خلايا النحل – قال في اللسان : هي مواضع النحل في الجبل وفيها تعسل (المحرر) .

Comments are closed.