الحضانة في الشرع

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه 

  

الحضانة في الشرع 

 الحضانة من المؤسسات الشرعية التي لا يوجد لها نظير في النظم الوضعية على الرغم من التطورات الحديثة فيما يتعلق بحقوق الطفل التي ظلت أكثرها توصيات غير محددة المعالم لا من حيث طابع عدم الإلزام بل أيضا من حيث الجهات المكلفة بها. ففي هذه المواثيق تسرد حقوق بدون جهات تجب عليها. 

وقد كفلت الشريعة حقوق الأفراد والجماعات البشرية بل وكل الكائنات في هذا الكون

(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل)     [1]

 


وبخاصة المخلوقات الضعيفة التي تحتاج في المحافظة على وجودها إلى حماية ورعاية ولم تكتف بوصايا ونصائح يطبقها من شاء ويذرها من شاء بل قننتها في نصوص ملزمة يرعاها المجتمع تطبيقاً للأوامر الربانية وصيانة للكينونة الإنسانية.


ومن هذه الفئات التي رعتها الشريعة حق الرعاية المرأة والطفل وسنت لذلك قواعد عامة وأحكاماً جزئية تفصيلية ترجع إلى مقاصد: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. 

الناظمة في مجملها للحقوق والواجبات ومحاسن الأخلاق والمعاملات والعادات.


والمقصد العام في الحضانة هو صيانة الطفل والمقصد الخاص هو تكليف المرأة بالحضانة لما جبلت عليه من الشفقة والرأفة. 

فالحضانة كما يقول القرافي تفتقر إلى وفور الصبر على الأطفال في كثرة البكاء والتضجر وغيرهما من الهيئات العارضة لهم وإلى مزيد الشفقة والرقة الباعثة على الرفق بهم ولذا فرضت على النساء غالباً لأن علو همة الرجال تمنعهم الانسلاك في أطوار الصبيان في المعاملات وملامسة الأقذار وتحمل الدناءة”.


قلت: ولعل غلظة الرجل هي السبب وليس علو الهمة والمرأة وهي تقوم بواجب الحضانة لا تمارس دناءة وإنما تؤدي واجباً وتنشر رحمة. فرحم الله القرافي فلعله لا يقصد بذلك تشهيراً بالمرأة ولا حطاً من مكانتها.  

والحضانة ولاية ولهذا يشترط في الحاضن أن يكون أهلاً لذلك ذا كفاية لرعاية المحضون وصيانته.


وأجمل الشروط التي يجب توفرها في الحاضن الشيخ خليل المالكي في النص التالي:” وشرط الحاضن العقل والكفاية لا كمسنة وحرز المكان في البنت يخاف عليها والأمانة واثبتها وعدم كجذام مضر ورشد لا إسلام وضمت إن خيف لمسلمين وإن مجوسية أسلم زوجها وللذكر من يحضن وللأنثى الخلو عن زوج دخل”. إلى قوله: وأن لا يسافر ولي.


وهذه الشروط في جملتها موجودة في المذاهب الأربعة مع تفصيل في بعضها واختلاف في بعضها. 

فلم يشترط المالكية الإسلام وكذلك الأحناف واشترطوا الرشد بالإضافة إلى الشافعية خلافاً لغيرهم.    

  

التعريف: 

الحضانة لغة: مصدر حضن ومنه حضن الطائر بيضه إذا ضمه إلى نفسه تحت جناحيه وحضنت المرأة صبيها إذا جعلته في حضنها أو ربته والحاضن والحاضنة الموكلان بالصبي يحفظانه ويربيانه وحضن الصبي يحضنه حضناً: رباه.    [2] 

وهي بفتح الحاء أشهر من كسرها مأخوذ من الحضن ما تحت الإبط للكشح. وهي كما في اللباب الحفظ والصيانة كما في الزرقاني. 

والذي في القاموس وشرحه التاج إنها بالكسر فقط. 

والحضانة شرعاً: هي حفظ من لا يستقل بأموره وترتبيته بما يصلحه. 

وعرفها بعضهم بأنها: صيانة العاجز والقيام بمصالحه.    [3] 

وعرفها ابن عرفة: بأنها حفظ الولد في مبيته ومؤنة طعامه ولباسه ومضجعه وتنظيف جسمه. 

مقتضى الحضانة: حفظ المحضون وإمساكه عما يؤذيه وتربيته لينمو وذلك بعمل ما يصلحه وتعهده بطعامه وشرابه وغسله وغسل ثيابه ودهنه وتعهد نومه ويقظنه.


الحكم التكليفي: الحضانة واجبة شرعاً لأن المحضون قد يهلك أو يتضرر بترك الحفظ فيجب حفظه عن الهلاك فحكمها الوجوب العيني إذا لم يوجد إلا الحاضن أو وجد ولكن لم يقبل الصبي غيره والوجوب الكفائي عند تعدد الحاضن.    [4] 

أو إذا كان الولد لقيطاً فإنه تجب كفائياً على جماعة المسلمين حضانته إذ يقول خليل في مختصره:” ووجب لقط طفل نبذ كفاية وحضانته ونفقته إن لم يعط من الفيء”. 

وتبع خليل ابن الحاجب وابن شاس والغزالي في أن اللقط فرض كفاية إلا أنه إن وجد بيت مال تعين حفظه على الناظر فيه كما يراه ابن عرفة.      


صفة المحضون: تثبت الحضانة على الصغير باتفاق الفقهاء وكذلك الحكم عند الجمهور-الحنفية والشافعية والحنابلة وفي قول عند المالكية-بالنسبة للبالغ المجنون والمعتوه.


والمشهور عند المالكية أن الحضانة تنقطع في الذكور بالبلوغ ولو كان زمناً أو مجنوناً.    [5]


المستحقون للحضانة وترتيبهم: الحضانة تكون للنساء والرجال من المستحقين لهم إلا أن النساء على الرجال لأنهن أشفق وأرفق وبها أليق وأهدى إلى تربية الصغار ثم تصرف إلى الرجال لأنهم على الحماية والصيانة وإقامة مصالح الصغار أقدر.    [6] 

وحضانة الطفل تكون للأبوين إذا كان النكاح قائماً بينهما فإن افترقا فالحضانة لأم الطفل باتفاق لما ورد أن امرأة أتت رسول الله     r     فقالت يارسول الله: إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي”.    [7]


ولكل أهل مذهب طريقة خاصة في ترتيب مستحقي الحضانة بعد الأم ومن يقدم عند الاستواء في الاستحقاق. مع مراعاة أن الحضانة لا تنتقل من المستحق إلى من بعده من المستحقين إلا إذا أسقط المستحق حقه في الحضانة أو سقطت لمانع.


ما يشترط فيمن يستحق الحضانة: الحضانة من الولايات والغرض منها صيانة المحضون ورعايته وهذا لا يتأتي إلا إذا كان الحاضن أهلاً لذلك ولهذا لا يشترط الفقهاء شروطاً خاصة لا تثبت الحضانة إلا لمن توفرت فيه وهي أنواع ثلاثة: شروط عامة في النساء والرجال وشروط خاصة بالرجال.


أما الشروط العامة فهي:

1- الإسلام وذلك إذا كان المحضون مسلماً إذ لا ولاية للكافر على المسلم وللخشية على المحضون من الفتنة في دينه وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة وبعض فقهاء المالكية ومثله مذهب الحنفية بالنسبة للحاضن الذكر.. أما عند المالكية في المشهور عندهم وعند الحنفية بالنسبة للحاضنة الأنثى فلا يشترط الإسلام إلا أن تكون المرأة مرتدة لأنها تحبس وتضرب –كما يقول الأحناف- فلا تتفرغ للحضانة.


أما غير المسلمة –كتابية كانت أو مجوسية- فهي كالمسلمة في ثبوت حق الحضانة قال الحنفية: ما لم يعقل المحضون الدين أو يخشى أن يألف الكفر فإنه حينئذ ينزع منها ويضم إلى أناس من المسلمين لكن عند المالكية إن خيف عليه فلا ينزع منها وإنما تضم الحاضنة لجيران مسلمين ليكونوا رقباء عليها.    [8]


2- البلوغ والعقل فلا تثبت الحضانة لطفل ولا لمجنون أو معتوه لأن هؤلاء عاجزون عن إدارة أمورهم وفي حاجة لمن يحضنهم فلا توكل إليهم حضانة غيرهم وهذا باتفاق في الجملة حيث أن للمالكية تفصيلاً في شرط البلوغ.    [9]


3- الأمانة في الدين فلا حضانة لفاسق لأن الفاسق لا يؤتمن والمراد: الفسق الذي يضيع المحضون به كالاشهار بالشرب والسرقة والزنى واللهو المحرم أما مستور الحال فتثبت له الحضانة. قال ابن عابدين: الحاصل أن الحاضنة إن كانت فاسقة فسقاً يلزم منه ضياع الولد عندها سقط حقها وإلا فهي أحق به إلى أن يعقل الولد فجور أمه فينزع منها وقال الرملي: يكفي مستورها أي مستور العدالة. قال الدسوقي: والحاضن محمول على الأمانة حتى يثبت عدمها.    [10]


4- القدرة على القيام بشأن المحضون فلا حضانة لمن كان عاجزاً عن ذلك لكبر سن أو مرض يعوق عن ذلك أو عاهة كالعمى والخرس والصمم أو كانت الحاضنة تخرج كثيراً لعمل أو غيره وتترك الولد ضائعاً فكل هؤلاء لا حضانة لهم إلا إذا كان لديهم من يعني بالمحضون ويقوم على شئونه فحينئذ لا تسقط حضانتهم.    [11]


5- ألا يكون بالحاضن مرض معد أو منفر يتعدى ضرره إلى المحضون كالجذام والبرص وشبه ذلك من كل ما يتعدى ضرره إلى المحضون.    [12]


6- الرشد: وهو شرط عند المالكية والشافعية فلا حضانة لسفيه مبذر لئلا يتلف مال المحضون.    [13]


7- أمن المكان بالنسبة للمحضون الذي بلغ سناً يخشى عليه فيه فساد أو ضياع ماله فلا حضانة لمن يعيش في مكان مخوف يطرقه المفسدون والعابثون. وقد صرح بهذا الشرط المالكية.    [14]


8- عدم السفر الحاضن أو الولي سفر نقلة على التفصيل المذكور في مكان الحضانة.


مكان الحضانة وحكم انتقال الحاضن أو الولي:مكان الحضانة هو المسكن الذي يقيم فيه والد المحضون إذا كانت الحاضنة أمه وهي في زوجية أبيه أو في عدته من طلاق رجعي أو بائن. ذلك أن الزوجة ملزمة بمتابعة زوجها والإقامة معه حيث يقيم والمعتدة البقاء في مسكن الزوجية حتى تنقضي العدة سواء مع الوالد أو بدونه لقوله تعالى  (يا أََيهَا النَّبىُّ إِذَا طلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتهِنَّ وَ أَحْصوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكمْ لا تخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَ لا يخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَحِشة مُّبَيِّنَة وَ تِلْك حُدُودُ اللَّهِ وَ مَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظلَمَ نَفْسهُ لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يحْدِث بَعْدَ ذَلِك أَمْراً) [15]     

 وإذا انقضت عدة الأم فمكان الحضانة هو البلد الذي يقيم فيه والد المحضون أو وليه وكذلك إذا كانت الحاضنة غير الأم لأن للأب حق رؤية المحضون والإشراف على تربيته وذلك لا يتأتى إلا إذا كان الحاضن يقيم في بلد الأب أو الولي. 

هذا قدر مشترك بين المذاهب وهو ما صرح به الحنفية وتدل عليه عبارات المذاهب الأخرى.    [16] 

أجرة الحاضنة: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الحاضنة لها الحق في طلب أجرة على الحضانة سواء أكانت الحاضنة أماً أم غيرها لأن الحضانة غير واجبة على الأم ولو امتنعت من الحضانة لم تجبر عليها في الجملة. ومؤنة الحضانة تكون من مال المحضون فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته لأنها من أسباب الكفاية كالنفقة. والأجرة على الحضانة للأم هي أجرة المثل قال الحنابلة: ولو مع وجود متبرعة بالحضانة لكن الشافعية قيدوا ذلك بما إذا لم توجد متبرعة ولا من ترضى بأقل من أجرة المثل فإن وجدت متبرعة أو وجدت من ترضى بأقل من أجرة المثل سقطت حضانة الأم وقيل: إن حضانة الأم لا تسقط وتكون أحق بالحضانة إذا طلبت أجرة المثل وإن تبرعت بها أجنبية أو رضيت بأقل من أجرة المثل وهذا على ما بحثه أبو زرعة.    [17] 

أجرة مسكن الحضانة: قال ابن عابدين – بعد نقله لهذه الأقوال-: والحاصل أن الأوجه لزوم أجرة المسكن على من لزمه نفقة المحضون فإن المسكن من النفقة لكن هذا إذا لم يكن لها مسكن أما لو كان لها مسكن يمكنها أن تحضن فيه الولد ويسكن تبعاً لها فلا تجب الأجرة لعدم احتياجه إليه. قال ابن عابدين: فينبغي أن يكون هذا توفيقاً بين القولين ولا يخفى أن هذا هو الأرفق للجانبين فليكن عليه العمل. 

سقوط الحضانة وعودها: تسقط الحضانة بوجود مانع منها أو زوال شرط من شروط استحقاقها كأن تتزوج الحاضنة بأجنبي عن المحضون وكأن يصاب الحاضن بآفة كالجنون والعته أو يلحقه مرض يضر بالمحضون كالجذام وغير ذلك مما سبق بيانه أو بسبب سفر الولي أو الحاضن حسب ما هو مبين في مكانه. 

وقد تسقط الحضانة بسبب إسقاط المستحق لها. 

انتهاء الحضانة: من المقرر أن النساء أحق بالحضانة من الرجال في الجملة وأن الحضانة على الصغار تبدأ منذ الولادة لكن انتهاء حضانة النساء على الصغار حال افتراق الزوجين مختلف فيه بين المذاهب وبيان ذلك فيما يلي: 

ذهب الحنفية إلى أن حضانة النساء على الذكر تظل حتى يستغني عن رعاية النساء له فيأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده وقدر ذلك بسبع سنين – وبه يفتى- لأن الغالب الاستغناء عن الحضانة في هذه السن وقيل تسع سنين. 

وتظل الحضانة على الأنثى قائمة حتى تبلغ بالحيض أو الاحتلام أو السن وهذا كما في ظاهر الرواية إن كانت الحاضنة الأم أو الجدة أما غير الأم والجدة فإنهن أحق بالصغيرة حتى تشتهى وقدر بتسع سنين وبه يفتى. 

وعن محمد أن الحكم في الأم والجدة كالحكم في غيرهما فتنتهي حضانة النساء مطلقاً – أماً أو غيرها- على الصغيرة عند بلوغها حد الاشتهاء الذي قدر بتسع سنين والفتوى على رواية محمد لكثرة الفساد. 

فإذا انقضت حضانة النساء فلا يخير المحضون ذكراً كان أو أنثى بل يضم إلى الأب لأنه لقصور عقله يختار من عنده اللعب ولم ينقل أن الصحابة رضي الله عنهم خيروا وتظل ولاية الأب على الصغير والصغيرة إلى البلوغ فإذا بلغ الغلام مستغنياً برأيه مأموناً عليه فيخير حينئذ بين المقام مع وليه أو مع حاضنته أو الانفراد بنفسه وكذلك الأنثى إن كانت ثيباً أو كانت بكراً طاعنة في السن ولها رأي فإنها تخير كما يخير الغلام. 

وإن كان الغلام أو الثيب أو البكر الطاعنة في السن غير مأمون عليهم لو انفردوا بأنفسهم بقيت ولاية الأب عليهم كما تبقى الولاية على البكر إذا كانت حديثة السن وكذلك الحكم بالنسبة للمعتوه تبقى ولاية الأب عليه إلى أن يعقل.    [18]


وذهب المالكية إلى أن حضانة النساء على الذكر تستمر إلى بلوغه وتنقطع حضانته بالبلوغ ولو مريضاً أو مجنوناً على المشهور. 

أما الحضانة بالنسبة للأنثى فتستمر إلى زواجها ودخول الزوج بها.    [19]


وقال ابن شعبان من المالكية: أمد الحضانة على الذكر حتى يبلغ عاقلاً غير زمن. وعند الشافعية تستمر الحضانة على المحضون حتى التمييز ذكراً كان المحضون أو أنثى فإذا بلغ حد التمييز- وقدر بسبع أو ثمان غالباً- فإنه يخير بين أبيه وأمه فإن اختار أحدهما دفع إليه وإذا عاد واختار الثاني نقل إليه وهكذا كلما تغير اختياره لأنه قد يتغير حال الحاضن أو يتغير رأي المحضون فيه بعد الاختيار إلا إن كثر ذلك منه بحيث يظن أن سببه قلة تمييزه فإنه يجعل عند الأم ويلغى اختياره.


وإن امتنع المحضون عن الاختيار فالأم أولى لأنها أشفق واستصحاباً لما كان وقيل: يقرع بينهما وإن اختارهما معاً أقرع بينهما وإن امتنع المختار من كفالته كفله الآخر فإن رجع الممتنع منهما أعيد التخيير وإن امتنعا وبعدهما مستحقان للحضانة كجد وجدة خير بينهما وإلا أجبر عليها من تلزمه نفقته وتظل الولاية عليه لمن بقي عنده إلى البلوغ. فإن بلغ فإن كان غلاماً وبلغ رشيدا ولي أمر نفسه لاستغنائه عمن يكفله فلا يجبر على الإقامة عند أحد أبويه والأولى أن لا يفارقهما ليبرهما. قال الماوردي: وعند الأب أولى للمجانسة نعم إن كان أمرد أو خيف من انفراده ففي كتاب العدة لابن الصباغ أنه لا يمنع من مفارقة الأبوين. 

ولو بلغ عاقلاً غير رشيد فأطلق مطلقون أنه كالصبي وقال ابن كجّ: إن كان لعدم إصلاح ماله فكذلك وإن كان لدينه فقيل: تدام حضانته إلى ارتفاع الحجر والمذهب أنه يسكن حيث شاء.


وإن كان أنثى فإن بلغت رشيدة فالأولى أن تكون عند أحدهما حتى تتزوج إن كانا مفترقين وبينهما إن كانا مجتمعين لأنه أبعد عن التهمة ولها أن تسكن حيث شاءت ولو بأجرة هذا إذا لم تكن ريبة فإن كانت هناك ريبة فللأم إسكانها معها وكذلك للولي من العصبة إسكانها معه إذا كان محرماً لها فيسكنها في موضع لائق بها ويلاحظها دفعاً لعار النسب. 

وإن بلغت غير رشيدة ففيها التفصيل الذي قيل في الغلام. 

أما المجنون والمعتوه فلا يخير وتظل الحضانة عليه لأمه إلى الإفاقة.    [20]


والحكم عند الحنابلة في الغلام أنه يكون عند حاضنته حتى يبلغ سن السابعة فإن اتفق أبواه بعد ذلك أن يكون عند أحدهما جاز لأن الحق في حضانته إليهما وإن تنازعا خيره الحاكم بينهما فكان مع من اختار منهما قضى بذلك عمر رضي الله عنه ورواه سعيد وعلي وروى أبوهريرة قال: جاءت امرأة إلى النبي     r     فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال النبي     r    : هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به”    [21]    .


ولأنه إذا مال إلى أحد أبويه دل على أنه أرفق به وأشفق وقيد بالسبع لأنها أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالصلاة بخلاف الأم فإنها قدمت في حال الصغر لحاجته ومباشرة خدمته لأنها أعرف بذلك قال ابن عقيل: التخيير إنما يكون مع السلامة من فساد فإن علم أنه يختار أحدهما ليمكنه من فساد ويكره الآخر للتأديب لم يعمل بمقتضى شهوته لأن ذلك إضاعة له.

ويكون الغلام عند من يختار فإن عاد فاختار الآخر نقل إليه وإن عاد فاختار الأول رد إليه هكذا أبداً لأن هذا اختيار تشه وقد يشتهي أحدهما في وقت دون آخر فأتبع بما يشتهيه فإن لم يختر أحدهما أو اختارهما معاً أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر ثم إن اختار غير من قدم بالقرعة رد إليه ولا يخير إذا كان أحد أبويه ليس من أهل الحضانة لأن من ليس أهلا للحضانة وجوده كعدمه. وإن اختار أباه ثم زال عقله رد إلى الأم لحاجته إلى من يتعهد كالصغير وبطل اختياره لأنه لا حكم لكلامه.


أما الأنثى فإنها إذا بلغت سبع سنين فلا تخير وإنما تكون عند الأب وجوباً إلى البلوغ وبعد البلوغ تكون عنده أيضا إلى الزفاف وجوباً ولو تبرعت الأم بحضانتها لأن الغرض من الحضانة الحفظ والأب أحفظ لها وإنما تخطب منه فوجب أن تكون تحت نظره ليؤمن عليها من دخول الفساد لكونها معرضة للآفات لا يؤمن عليها للانخداع لغرتها. 

والمعتوه ولو أنثى يكون عند أمه ولو بعد البلوغ لحاجته إلى من يخدمه ويقوم بأمره والنساء أعرف بذلك.    [22]

                                           

رؤية المحضون: لكل من أبوي المحضون إذا افترقا حق رؤيته وزيارته وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء لكنهم يختلفون في بعض التفاصيل.  


إن كان أنثى فإنها تكون عند حاضنها – أما أو أبا- ليلاً ونهاراً لأن تأديبها وتعليمها يكون داخل البيت ولا حاجة بها إلى الإخراج ولا يمنع.


خلاصة القول: 

إن الحصانة لها أهمية كبرى في رعاية الطفل وحماية الأسرة وتنمية روح المودة والرحمة التي يجب أن تؤسس عليها البيوت ليكون المجتمع أكثر تماسكاً والمجموعة أكثر تضامناً.


تلك هي الحكم والمقاصد لنظام الحضانة في الإسلام إلا أن وضع المسلمين في ديار الغرب حيث تختلف المعايير المؤسسة للمجتمع وتغلب النزعة الفردية وتسود روح المماكسة والكسب المادي في التعامل فيبتعد الإنسان رويداً رويداً عن روح التسامح والسماحة بالإضافة إلى انصراف المرأة عن دفء البيت إلى ورشة العمل وعن سكينة المسكن إلى نزق الشوارع وهيعات الأسواق مما أوجد حالات جديدة ومتغيرة في وظائف أطراف العقد العائلي.


ولهذا فإن الحضانة التي هي من خصائص النساء قد تتأثر كثيراً بهذا الوضع مما يدعو إلى اجتهاد في مسألة المرأة العاملة إذا كانت منفصلة عن والد الطفل حتى ولو كانت غير متزوجة إذ أن المتزوجة بغير والد الطفل تسقط حضانتها لانشغالها بحقوق الزوج وكذلك العاملة ينبغي دراسة وضعها.


كما أن مفهوم الحضانة لم يكن يشمل التعليم والتربية غير البدنية لأن هذا من واجب الأب فالتلازم اليوم بين الحالتين مدعاة لإعادة النظر. 

وأيضا فإن المسافة في سفر الولي التي تسقط حق الحاضنة في الحضانة في ظل تطور وسائل المواصلات يجب أن تكون موضوع دراسة. 

وإذا كانت الحضانة للوالدين مجتمعين في فترة بقاء العصمة فإن فترة الانفصال البدني فترة التلوم التي تسبق الطلاق يمكن أن تكون محل اجتهاد حتى لا يضيع الطفل.


وأخيراً: فإن دور المساجد والمراكز الإسلامية يجب أن يحدد في الفصل في قضايا الحضانة التي قد تفصل فيها المحاكم وعلى الأئمة والجمعيات أن تنير السبيل للمسملين وتسدى النصح في هذه القضية الحساسة وعلى الجمعيات أن توجد محاضن للأطفال وبخاصة أولئك الذين يهجرهم الوالدان أو يكونون لقطاء في حارات المسلمين. 

هذه إنارات أردتها أن تكون أساساً لمناقشة لمجلسنا تنتج إنارات ومقترحات وقرارات بناء على التأصيل الشرعي المذكور في الورقة. 

والله ولي التوفيق.             

        قرار 5/15 أحكام الحضانة


استعرض المجلس موضوع “الحضانة” والأبحاث التي تناولته، وبعد     المداولة والنظر قرر ما يلي    : 

أولاً: الحضانة، هي: حفظ الولد في بيته ذهابه ومجيئه والقيام  بمصالحه، أي في طعامه ولباسه وتنظيفه.

ثانياً: حكم الحضانة.

الحضانة فرض عين في حق أحد الوالدين أو أقربائهم ضمن أولويات ذكرها الفقهاء تفصيلاً، فإن لم يوجد من تجب عليه الحضانة أو وجد ولكنه امتنع لأي سبب، فإن الحضانة تصبح فرض عين على المسلمين. وتحقيقاً لهذا الواجب فإن على المراكز الإسلامية القيام به بإعداد المحاضن المناسبة.


ثالثاً: الأصل في أحكام الحضانة رعاية الأصلح للمحضون، وعليه فكل أمر يعود بالفساد على المحضون في دينه وعرضه وبدنه ونفسه وغير ذلك، ينبغي أن يمنع؛ لأنه مخالف لمقاصد الشريعة عامة، ولمقصد أحكام الحضانة خاصة.


رابعاً: الأصل في الحضانة أنها للنساء، فقد فطرن على نوع من الحنان والشفقة لا يوجد في الرجال، وهن أرفق وأهدى وأصبر على القيام بما يعود بالمصلحة على المحضون، وعليه كانت الحضانة للأم ما لم تتزوج، لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي طالبت بحضانة ولدها: “أنت أحق به ما لم تنكحي“.


خامساً: الحضانة حق مشترك بين الأم والولد، فلها أن تتنازل عن حقها بشرط عدم ضياعه، ولا تجبر عليها إلا إذا ترتب على تركها ضياع مصلحة المحضون.


سادساً: شروط الحضانة:

ذكر الفقهاء – رحمهم الله – شروطاً كثيرة يجب توافرها فيمن تثبت له الحضانة، وكلها تدور على مقصد واحد، وهو توفير البيئة الصالحة لرعاية المحضون. والذي يراه المجلس وجوب اعتماد الشرطين التاليين:

1.    استقامة السلوك.

فلا حضانة في حال الانحراف السلوكي الظاهر المؤثر في رعاية المحضون. أما اختلاف الدين بين الوالدين فليس مؤثراً على القول الصحيح.

2.      القدرة على أداء مهام الحضانة.

فإذا كان اشتغال الحاضن خارج البيت بعمل ونحوه مضيعاً للمحضون، فهذا سبب كاف لإسقاط حق الحضانة عنه.


سابعاً: زواج الأم الحاضنة.

ذهب جمهور العلماء إلى أن زواج الأم الحاضنة يسقط حقها في الحضانة، للحديث السابق ذكره، مع مراعاة القيود الآتية:

1.    قدرة الأب أو من تنتقل له الحضانة بعد الأم على القيام بشئون المحضون.

2.    أن لا يترتب على ذلك نقل المحضون عن بلد أمه؛ لأن في ذلك تفريقاً بينها وبين ولدها.

3.    عدم سكوت الأب عن المطالبة بحقه بإسقاط الحضانة عن الأم المتزوجة لمدة معينة تُظهر رضاه بذلك.

4.    أن يتم الدخول بالأم الحاضنة، ولا يسقط حقها بمجرد عقد الزواج.

ثامناً: رؤية المحضون.


يؤكد المجلس على حرمة منع أحد الوالدين في حال الطلاق أو التفريق من رؤية الأولاد، ويوصي لمنع ذلك بالآتي:

1.      على الأب أو الأم الاتفاق ابتداءً – في إطار الأحكام الشرعية – على تنظيم العلاقة في حال الحضانة إذ هو الضمان الوحيد لكل الحقوق، ولا سيما أن القضاة في المحاكم المدنية يحبذون الاتفاق بين الأبوين على كل ما يعود على المحضون بالمصلحة والحفظ.

2.      إذا كان المحضون صغيراً دون سن التعليم القانونية ولا يستطيع البقاء مع أبيه، أو كان الأب عاجزاً عن القيام بشؤون طعامه وشرابه وتنظيفه، فعلى الحاضن تهيئة الظروف المناسبة لرؤية المحضون.

3.      إذا كان المحضون في سن التعليم فعلى الأب أن يأخذه للتعليم والتأديب بشرط أن يبيت في بيت الحاضنة، وأن يكون ذلك بالاتفاق بينهما.

4.      على الأب أن يراعي آداب الزيارة للمحضون، كعدم حدوث خلوة بين الأبوين المفترقين بعد العدة، وعدم إطالة المكث، واختيار الوقت المناسب منعاً للشُّبه، واستئذان صاحب البيت للدخول، فإن لم يُؤذن له أُخرِج الولد إليه ليستطيع رؤيته.

5.      تكون الرؤية على ما جرت به العادة كيومي عطلة الأسبوع أو أكثر وكل ذلك بحسب الاتفاق بين الأبوين.

6.      التنبيه على حرمة تلقين المحضون قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، والتحذير من منع المحضون من زيارة أرحامه وأقاربه سواء من جهة الأب أو جهة الأم.

7.      التعاون الكامل بين الأبوين على كل ما يحافظ على دين المحضون وأخلاقه في هذه الديار، وذلك كالتردد على المساجد والمراكز الإسلامية وحضور الجمع والجماعات وحلقات تحفيظ القرآن.

تاسعاً: وهناك موضوعات أخرى متصلة بالحضانة أرجئ البت فيها لمزيد من الدراسة والتطبيقات العملية في الغرب.

 


 


[1] – سورة الحجر         الآية 85

[2] – لسان العرب والمصباح المنير مادة “حضن”

[3] – مغني المحتاج 3/452 وكشاف القناع 5/495- 496 والمغني 7/613 والقوانين الفقهية 224 وابن عابدين 2/641

[4] – الفواكه الدواني 2/102 والمغني 7/612

[5] – ابن عابدين 2/641 والفواكه الدواني 2/101 والقوانين الفقهية 224 ونهاية المحتاج 7/214 والمغني 7/614 وكشاف القناع 5/496

[6] – البدائع 4/41

[7] – حديث: ” أنت أحق به ما لم تنكح …..” أخرجه أحمد 2/182والحاكم 2/207 من حديث عبد الله بن عمر وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.  

[8] – ابن عابدين 2/633- 639 والدسوقي 2/529 وجواهر الإكليل 1/409 ومغني المحتاج 3/455 وكشاف القناع 5/498

[9] – ابن عابدين 2/633 والدسوقي 2/528 ومغني المحتاج 3/454- 456 وكشاف القناع 5/498

[10] – ابن عابدين 2/633 – 634 والدسوقي 2/529 ونهاية المحتاج 7/218 ومغني المحتاج 3/455 وكشاف القناع 5/498

[11] – ابن عابدين 2/ 634 والدسوقي 2/528 ومغني المحتاج 3/456 وأسنى المطالب 3/448 وكشاف القناع 5/499

[12] – الدسوقي 2/528 ومغني المحتاج 3/456 وكشاف القناع 5/499 

[13] – جواهر الإكليل 1/409- 500 ومغني المحتاج 3/456 – 458 

[14] – الدسوقي 2/528- وجواهر الإكليل 1/409

[15] – سورة الطلاق      الآية 1

[16] – البدائع 4/44 والمواق بهامش الخطاب 4/215- 217 والدسوقي 2/527 ومغني المحتاج 3/458 وكشاف القناع 5/500 والمغني 7/ 618- 619

[17] – مغني المحتاج 2/338، 345 و3/ 452 وحاشية الشرواني 8/359 والجمل على شرح المنهج 4/520 وحاشية الرشيدي على نهاية المحتاج 7/219 وكشاف القناع 5/496 – 498 ونيل المآرب 2/307 

[18] – ابن عابدين 2/641 -642 والبدائع 4/42- 43

[19] – الدسوقي  2/526

[20] – معغني المحتاج 3/356- 457- 459- 460 ونهاية المحتاج 7/220- 222 وأسنى المطالب 3/449- 451

[21] – حديث: ” هذا أبوك وهذه أمك …….” أخرجه أبوداود 2/708 والحاكم 4/97 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.   

[22] – كشاف القناع 5/501- 502 – 503 والمغني 7/614- 616

 

Comments are closed.