ابن بيه في افتتاح منتدى “تعزيز السلم”:إننا لم نأت هنا لتنصيب محكمة وتوزيع الأحكام بل لنقول كلمة بسيطة هي الدعوة إلى السلم
ألقى فضيلة العلامة الشيخ عبدالله بن بيه أحد أبرز العلماء المعاصرين في العالم الإسلامي رئيس اللجنة العلمية للمنتدى الكلمة التأطيرية للمنتدى تناول فيها معنى السلم ومفهومه وتأصيل مقصد السلم وإسهام الإسلام فيه تاريخيا ومفاهيم لخدمة السلم تتحول إلى ضده والجهاد بنوعيه الداخلي والخارجي ومبادرة الجماعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتصرف الأفراد وتطبيق الحدود والتعزيرات الشرعية والديمقراطية والحداثة اضافة الى مفهوم الطاعة ومفهوم الولاء والبراء .
وأكد فضيلته أن مسؤولية المرجعيات الدينية كبيرة في هذه الفترة بالذات خاصة وإن التكلفة البشرية والإنسانية لا يمكن أن تترك أي شخص يقف متفرجا بل يجب علينا أن نكون إطفائيين والإطفائي لا يسأل عمن بدأ وإنما يحاول أن يطفئ الحريق .
وقال إن المنتدى غير مسبوق في موضوعه وأوضاعه أما موضوعه فهو السلم وأما الأوضاع التي دعت إليه فإنها الأوضاع الكارثية لهذه الأمة التي أصبحت لعبة الموت أمرا معتادا فيها وسبيل الحياة أمرا مستبعدا فمشاهد الدماء والأشلاء والخراب والدمار لا تحتاج إلى تعليق لافتا الى أنه أصبح من المذهل والمحزن انه ما من أمة اليوم يستشري فيها الصراع وإراقة الدماء أكثر من هذه الأمة وتحت عناوين وذرائع وشعارات لا يقرها شرع ولا يقبلها عقل.
وأضاف ” إننا لم نأت هنا لتنصيب محكمة لفصل الخصام وتوزيع الأحكام بل جئنا لنقول كلمة بسيطة هي الدعوة إلى السلم .. ونحن هنا لا نتنكر لقضايا الأمة الكبرى في فلسطين أو غيرها ولكننا نبحث عن تعزيز السلم داخل المجتمعات المسلمة فمن لم يرتب بيته لن يستطيع أن يحقق شيئا في القضايا الكبرى لا سلما ولا غيره مؤكدا أن السلم في هذه المنطقة سينعكس على العالم كله .. وقال نريد أن نرفع شعارا واحدا هو “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة “.
وأضاف ان السلم يوجد بيئة الحب والسعادة والانتماء إلى الأمة والوطن والانخراط في مصالحه وهو قبل كل شيء مصالحة مع الذات قبل أن يكون مصالحة مع الغير إنه قيم ونعم لا يدركها إلا من ذاق طعم الحرب.
وأوضح أن الإسلام ألغى قضايا الثأر الجاهلي ومبادرة الأفراد والجماعات للثأر وجعل ذلك للحاكم فقط وجعل القتال الخارجي “الجهاد” لا يقوم به إلا الحاكم لأنه لو قام به الأفراد لنشبت الفتن واضطرب السلام فهو تدبير حكومي ومن ذلك ما فرضه الإسلام من الآداب الشرعية في العلاقة بين الوالد والولد من البر والاحسان بالوالدين وحسن التربية للأولاد وبين الحاكم والمحكوم من الطاعة للأول والعدل للآخر كل تلك الآداب لا تعتبر خنوعا ولا مذلة ولكنها سلوك واع وأدب رفيع يسهم في تماسك المجتمع والسلم الاجتماعي.
وأشار الى ان الإسلام وضع فقها متكاملا لحل النزاعات بالوسائل السلمية العاقلة تتمثل مفردات هذا الفقه في كتاب الصلح وهو باب عظيم في كل كتب الفقه الإسلامي فالصلح يكون في كل النزاعات والخلافات ويكون مع كل الناس سواء كانوا دولا أو أفرادا ويكون في الخلافات الزوجية كما يكون في الحروب الدولية أو الثورات الداخلية وقد ذكر العلماء خمسة أنواع من الصلح حسب الطرف المشارك.
وإستعرض فضيلة الشيخ بن بيه في كلمته مفاهيم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق الشريعة والولاء والبراء والطاعة والديمقراطية والحداثة ومواقع الخلل في توظيف هذه المفاهيم.
وقال ان قيم الصراع والنزاع ليست قيما إسلامية ولو حاول البعض أن يكسوها لباس التقوى إنها قيم غربية للمفكر هيجل الذي كان يرى أن التدمير هو أساس التعمير وأن المجتمع لا يقوم إلا على صراع العبد والسيد أما قيمنا فتقول إن بناء الثقة في النفوس والمحبة في القلوب هو الأصل فقد ترك الرسول عليه الصلاة والسلام الكعبة ولم يهدمها لكي يبنيها على قواعد إبراهيم كما كان يود تأليف قريش ولما أراد الخليفة العباسي هدمها وبناءها على مقام إبراهيم نهاه مالك رحمه الله قائلا ” لا تجعل هذا البيت لعبة للأمراء ولم يهدم ولا خلفاؤه كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار ..
فالتدمير ليس قيمة إسلامية وإنما هي قيمة ناشئة عن جهل وتعصب غير محمود“.
وأشار بن بيه إلى عاملين من عوامل التحريض على الفتنة هما التكفير وفوضى الفتوى موضحا أن التكفير هو إصدار حكم شرعي على شخص أو جماعة بالكفر سواء كان أصليا أو حادثا وقد حذر منه سبحانه وتعالى أما الفتوى فلها شأن عظيم في الإسلام فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم.
ونوه بن بيه في كلمته الى النزاعات ذات الطبيعة الدينية أو التي قد تستنجد بالدين ترجع إلى عوامل متعددة ومتغيرة قد تكون ثقافية أو سياسية أو اقتصادية وحتى في داخل الدين بين الطوائف المختلفة وحتى بين الطائفة العقدية الواحدة بناء على اختلاف الحساسيات الفكرية والمواقف من التحديث.. وقال أن الدين يمثل أحيانا وقودا لهذه النزاعات التي قد تكون في أصلها دنيوية وسياسية.. مشيرا الى ان الأمة تضيع بين دعويين دعوى حداثية بعض أدعيائها لا يعرفون من الحداثة إلا القشور ولا من التطور إلا التنكر للأخلاق والصدود عن المأثور ودعوى دينية ظاهرية قل علمها وضاق فهمها فكفرت العامة بدعوى المحافظة على الدين فأعلنوا جهادا في غير مجاهد وتطبيقا للحدود بغير ضوابط فكان التدمير الذاتي.
وأكد أهمية أن نصل إلى نتائج تعزز السلم المجتمعي باعتبار أن أنموذج الصراع الدائم والمغالبة ليس مناسبا للمجتمعات الإسلامية وأن مقاربات أخرى أكثر إنسانية وأقل تكلفة بشرية ومجتمعية هي الأنسب.
وقال ” علينا أن نعترف بأن مجتمعا لا توجد لديه أرضية مشتركة تحوز قناعة جماعية في الحدود الدنيا للعيش المشترك لا يمكن أن يحتكم إلى الديمقراطية العددية دون البحث عن مقاربات وتنازلات متبادلة تحوز رضا الجميع وأن محاولة الإلغاء المتبادل تحت أية ذريعة معناها ومآلها إلغاء الوطن كله وتعريض سكانه إلى البغضاء والشحناء ومن ثم إلى الدخول في حرب شعواء لا نهاية لها تفسد الدين والدنيا وفي ذلك من المفاسد ما لا يقبله شرع ولا عقل “.
وشدد على أن الوضع الكارثي لأمتنا ليس من المقبول ولا من المعقول أن يظل على حاله لأن التوجهات التي يؤمها والمنزلقات التي ينحدر إليها لا يعلمها إلا الله .. موضحا أن ديننا كما تدل عليه النصوص والكثير من الممارسات التاريخية دين سلم ومحبة وان الحرب الأهلية غير مقبولة في الإسلام مهما كانت دوافعها وحوافزها سواء كانت دينية أو دنيوية.. وقال ان ديننا وتراثنا يملك من أدوات حل الخلاف وتسوية النزاع الكثير مما يستبعد اللجوء إلى الاحتراب والانشطار.
وقدم فضيلة الشيخ بن بيه عددا من المقترحات في ختام كلمته من أبرزها
.. تأصيل ثقافة السلم من خلال جمع النصوص الحاثة على السلم واستنباط فقه السلم وقواعده ومقاصده وإشاعة ثقافة السلم اخلاقه وآدابه وأدبياته وسلوكه وتوضيح مفاهيمه وقيمه فوائده ومقاصده وإدراجه في المناهج التربوية باعتباره مادة تواصلية.
ودعا الى تشجيع أساليب الوساطات والتحكيم وتفعيل أدوات الصلح وتقديم دراسات مقارنة عن السلم في الإسلام وفلسفة الغربيين وبخاصة عند “كانت” و “راسل” وتشجيع الحوارات بين الشباب وبين العلماء والحكماء وتنظيم محاضرات وندوات ومناقشات في الجامعات والنوادي الفكرية حول قضايا السلم وزيارات ميدانية لمناطق التوتر الطائفي أو الإيديولوجي وإقامة دورات لمجموعات من الشباب يهيئون للمناشط السلمية باسم “جوالة السلام” وعقد لقاءات مع الشباب من مختلف الطوائف والتوجهات الفكرية لاستطلاع آرائهم حول الحلول الممكنة وآليات فض النزاعات.
كما دعا الى إنشاء مجلس للحكماء من أجل تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة وإنشاء قناة للحكمة يتبرع لها أهل الخير تكون تابعة لمجلس الحكماء وإصلاح منظومة الأفكار لوضع تصورات صحيحة شرعا وعقلا ومصلحة وحكمة تجلب السلام والوئام.