الثقافة العربية والمستقبل

 

الثقافة العربية والمستقبل 

      

  

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه 

 

عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيـّـه  

وزير المصادر البشرية ووزير العدل والشئون الإسلامية والتعليم بموريتانيا 

والأمين الدائم لحزب الشعب – سابقاً- 

أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز – جدة 

نائب رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين 

عضو المجلس الأوربي للإفتاء بدبلن – خبير بالمجمع الفقهي العالمي 

  


إنه موضوع من أهم المواضيع الفكرية التي تطرح على الأمة وبخاصة على المثقفين أسئلتها، وهو موضوع واسع الأرجاء مترامي الأطراف، جلي وغامض واضح ومشكل، حيث أن الصورة العامة لهذه الثقافة مدركة بالحس، وإن كانت معطيات هذه الصورة بعيدة الأغوار مظلمة الجوانب، ولهذا سيكون تعريف بعض المفردات خطوة أولى في تشرفنا لاكتناه حقيقة. 

إن الثقافة بالمعني الحديث الذي يترجم كلمة culture     فإنه مصطلح قد عرف كما يقول ((كوبر وكلايكون)) بمائة وخمسين تعريفًا لعل أبرزها: 

تعريف لاروس الفرنسي حيث يقول: 

((إن الثقافة هي مجموع النظم الاجتماعية والمظاهر الفنية والدينية والفكرية التي تتميز بها وتحدد بها مجموعة أو مجتمع بالنسبة للآخر)). 

تعريف موسوعة دار الشروق حيث جاء فيه: 

((إن مفهوم الثقافة يشير إلى كل ما يصدر عن الإنسان من إبداع أو إنجاز فكري أو أدبي أو فيني أو علمي)). 

تعريف الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري في كتابه ((التنيمة الثقافية من منظور إسلامي)) حيث قال: 

((إنها مجمل النشاط الإنساني في حقول الإبداع الفكري والأدبي والفني)). 

ويري البعض: 

((أنها حصيلة النشاط الاجتماعي في مجتمع وأساليب الحياة والسلوك وأنماط القيم السائدة فيه)). 

لكن التعريف الانثروبولوجي الواسع الباحث عن المعتقدات واللغة والمؤسسات العوائد التقاليد لكل مجتمع، وعلاقات الكائنات البشرية بعضها ببضع هو التعريف الأولى في نظري. إلاّ أن المهم هنا أن نعرف أن مصطلح الثقافة مصطلح مراوغ أو يزعم الاستئثار بمدلوله، إلا أنه من المؤكد دخول الدين، والتقاليد، واللغة في أفراد هذه المصطلح. 

وسأبدأ بافتراض مسلّمات: 

الأولى: افتراض أن الدين الإسلامي، واللغة العربي، والتقاليد العربية، والعادات، هي الثقافة العربية. فهذا الثلاثي هو الذي يشكل المتخيل العربي وخلفية السلوك ومعيار القيم لدي العربي. 

هنا اتفق مع اليوت عندما يقول: 

((إن الثقافة نتيجة الدين، والدين نتيجة الثقافة حسب الزاوية التي ينظر منها الناظر)). 

أتفق مع الفقرة الأولى وأعدّل الفقرة الثانية لتكون ((التدين نتيجة الثقافة)). 

وإذا كان هذا الدين هو الدين الإسلامي، وهذه الثقافة هي الثقافة العربية، فهما صنوان متلازمان ملازمة اللازم للملزوم والعرض للجرم. 

 

فإلاّ يكنها أو تكنه فإنه 
 
 

      

أخو أرضعته  أمّه بلبانها
 
 

 

فالإسلام إذن كان ولا يزال هو الآمر الناهي في حياة العربي بوعي أو بدون وعي. 

المسلّمة الثانية: أنه توجد سمات مشتركة بين جميع العرب من معتقدات، وشعائر دينية، ولغة تواصل، وعادات وتقاليد، وحاضر مشترك، وطموح إلى نوع مشترك من المستقبل، وهي سمات تسمح بالحكم بوجود ثقافة عربية واحدة، بالرغم من تفاوت العلاقة بالموروث قربًا وبعدًا، واختلاف شيات وأطياف التفكير والممارسة بين مكونات الأمة، هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من العنوان. 

أما الجزء الثاني من العنوان وهو المتعلق بمستقبل الثقافة العربي، فإن المستقبل وإن كان ما يجري فيه مجهولاً لا يعمله إلا من لا يجري عليه الزمان جّل شأنه، وهو يجري الزمان، ويمكن للإنسان أن يتعامل معه طبقًا للسنن الجارية التي تجعل الحاضر مقدمة للمستقبل؛ ذلك أن حاضر هو نتيجة ماضينا، كما يقول الكاتب وليام فولكنر من جنوب أمريكا. 

إن الحاضر بدأ منذ عشرة آلاف سنة، فإن حاضر ثقافتنا بدا منذ حوالي أربعة آلاف سنة، منذ أن رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ومنذ تزوّج إسماعيل من قبيلة جرهم القحطانية وتكلّم العربية، حيث أصبح للعرب بيت عبادة محجوًج استوجب احترام الأمم أخرى وأثر في بعض الأحيان غيرتها، فجالت في جزيرتهم وصالت، التي لا يحسن اجتياب مفاوزها واصطياد مهاها وظبائها سواهم، فأنشأوا الحواضر في أطرافها جيرانًا لأمم الفرس والروم، واحتفظوا بأرومتهم البدوية في قلبها حيث صقلهم شظف العيش وخشونة الصحراء، فامتطوا صهوات الجياد وذللوا النجائب وناحوا على الرسول والأطلال: 

 

ما بكاء الكبير بالأطلال 
 
 

      

وسؤالي وما ترد سؤالي 
 

 

فأنشدوا أجمل القصائد، وحبروا أبدع الخطب في عكاظ ومجنة وذي المجاز.

لكن خصائص العروبة قد تأكدت، وقيادتها وريادتها قد تأدبت وتأيدت، حينانتشر الضياء من جبال فاران من مكة المكرمة، من الأرض عربة على الدنيا بمبعث سيدنا محمد  بالرسالة الخاتمة من الباري جلّ شأنه إلى الناس كافة، حيث حمل القرآن إلى العالم قيم الخير ومبادئ العدل والإحسان وأحسن عادات قيس وعبس وذبيان وتغلب وشيبان، فتفتقت لغة الضاد بأروع بيان، فاهتز وجدان الأمة وتشكل كيانها، ومدت أجنحتها على الشرق والغرب في صحوة دينية وخلقية وفكرية وإنسانية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فقطفوا ثمار علوم من سبقهم من الأمم من غير خجل ولا وهن، فحققوا ونقدوا واستوعبوا وأضافوا وشادوا وأفادوا، وبذلوا خلاصة ما توصلت إليه الإنسانية في أدق العلوم من فلك ورياضيات وصناعات إلى الإنسانية جمعاء، فأخذ الغرب منها سجلاً كان أساس علومه وتقنياته عن طريق معابر البحر الأبيض المتوسط والأندلس.

وبعد قرون عدة تحولت الحركة إلى رتابة والإبداع إلى تقليد وابتاع، فامتدت يد الزمان إليها، فاستطال الأعداء عليها؛ فأظلم صبحها وفزع سرحها؛ لأسباب معروفة قد يطول شرحها. ذلك هو ماضينا نحمله على كواهلنا بانتصاراته وهزائمه، بأعراس ومآتمه، بكل تراكماته في حاضرنا.

 


وإن اختيار هذا العنوان ((الثقافة العربية والمستقبل)) لندوتنا هذه، ولمهرجان الجنادرية هذه السنة يشير إلى الاهتمام الكبير بهذه القضية التي تعتبر أساسًا للتنمية الاقتصادية، والتطور الاجتماعي، والعلاقات الإنسانية.

وإنه لقلق وإشفاق في محله، وإن الأمر ليس حركًا علينا، فهذه فرنسا يرفع رئيسها عقيرته جاهرًا بالشكوى أمام مؤتمر هانوي الفرنكفوني قائلاً:

((يجب ألاّ يستسقي من نبع ثقافي وحيد، وينبغي أن تحترم الخصائص الثقافية لكل أمة)).

وحتى إن البعض يتخوف من الغزو الثقافي الإسلامي، فيكتب البرتو في جريدة ((بريد المساء)) الإيطالية قبل أشهر ليقول: ((ماذا لو أصبح نصف إيطاليا فقط مسيحًا والنصف الآخر مسلمًا؟)).

إلا أن قلقنا على مستقبل ثقافتنا مبرر بأكثر من سبب، فهناك عوامل داخلية، أي من داخل ثقافتنا، وعوامل خارجية ترجع إلى تأثير ثقافة الغير في ثقافتنا، لعل أبرز هذه الأسباب:

أولاً: وجود ثقافة عالمية عاتية عيل صبرها من رؤية التعدد الثقافي والحضاري تحاول تجاوز المراحل، واختزال الزمان والمكان؛ لتجعل من العالم قبيلة واحدة تتكلم لغة واحدة، تحاول أن تصهر القيم والأعراف في بوتقة واحدة، يكون القدح المعلي فيها لآندي صوتًا والأكثر عدة وعتادًا وعددًا. إنها عالمية تملك الإدارة والتخطيط والوسائل، وتتقمص الشرعية الإنسانية، ومن يراوده أدنى شك فليراجع وثائق مؤتمر السكان في القاهرة، ومؤتمر المرأة في بكين، وهي عولمة حملت المجلة الفرنسية revue litturair الصادرة في نوفمبر على المطالبة بضرورة تضافر الجهود بين فرنسا وألمانيا لتثبيت الثقافة الأوربية في مواجهة العولمة.

ثانيًا: العجز عن اقتراح مشروع ثقافي حضاري شامل يتسلم زمام المبادرة التارخية، يجوز إجماع العرب ويوحد قواهم أمام تحديات القرن القادم، وهذا لا يعني عدم وجود مشروعات حضارية أصيلة وواعدة لدي جهات سوية راشدة من هذه الأمة.

ثالثًا: ردود فعل متباينة ومتضاربة عبّر عنها جسم الأمة تجاه الحالتين السابقين العالمية من خارج الأمة العجز المحلي، ونعني بجسم الأمة تلك الفعاليات المنتجة للمادة الثقافية أو المعيدة لإنتاجها، وهذه الردود قد تكون دوافعها حسنة، هدفها خارجة عن نطاق السيطرة، إذ نزع فيها مقود الحافلة وقفز الركاب جميعًا إلى مقعد السائق كل واحد يريد أن يكون  هو قائد الحافلة، فكانت النتيجة أن انقلبت الحافلة..، كما يقول مانسفلد واصفًا الديمقراطية في الدول النامية في صورتها النمطية والظواهر المتزامنة مع التحول، لقد غابت روح التسامح وأعلنت حرب داحس والغبراء في بعض الفضاءات العربي.

رابعًا: عقم الجامعات والمراكز العلمية: فلا إنتاج ولا إسهام في اختراع، كما تؤكده دراسة أعدها بعض الخبراء، يقول فيها:

((إنه في كل سنة يعد حوالي مليوني بحث علمي، وتُطبع مائة ألف مطبوعة علمية، نسبة إسهام المسلمين جميعًا فيها 3%، فكم ستكون نسبة إسهام العرب في تلك النسبة؟)).

خامسًا: ضحالة الإنتاج الفكري في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية، وهي ضحالة لم تستشن الآداب شعرًا ونثرًا والفنون والعمارة.

سادسًا: قصور واضح في الدراسات الإسلامية لاستجلاء الشريعة نصًا وروحًا، وتقدم المنهج الوسطي الذي يحتوي على ثقافة الوئام وإفشاء السلام على من عرفت ومن تعرف، وعن تكوني جبل قوي يفهم أمور دينه ودنياه، مما نتج عنه انفصام بين التعليمين الديني والدنيوي.

سابعًا: انكماش الاجتهاد الفقهي، مما نتج عنه عجز الفقهاء عن مواكبة مستجدات العصر في المعاملات وحتى في العبادات.

ثامنًا: فقر مدقع في أكثر البلاد العربية في وسائل الثقافة.

تاسعًا: أضف إلى ذلك التخلف التنموي الذي يجر موكب الفقر والبطالة وانسداد الأفق بالنسبة لملايين الشباب.

وقد نشأت عن هذه السمات أنساق اجتماعية واقتصادية وتربوية غير قادرة على إشباع حاجات الإنسان العربي وإحلال الأمة بمجموعها في مكانتها لتشكل فضاء محترمًا له مميزاته وخصائصه، منفتحًا ومتواصلاً مع الفضاءات الثقافية الأخرى، مما يشير إلى وجود خللٍ ما في التمثل السلوكي للتراث في الظرف الراهن في التواصل مع مزيج القيم الذي تقترحه المعاصرة على الذات القابلة.

وهو خلل يشترك فيه عاملان: داخلي وخارجي، تداخل فيه الأثر والتأثر والفعل والانفعال مع ما يعنيه من شطط وغلو واستنجاد بشتى السلبيات، إنه خلل في العوالم الثلاثة كما سماها مالك بن نبي: عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء وفي علاقة هذه العوالم فيما بينها.

إن ثقافة هذا حاضرها وذلك ماضيها ماذا سيكون مستقبلها؟ إن الحديث عن مستقبلها إما أن يكون على أساس استشراف المستقبل من خلال مؤشرات الحاضر وتفاعلات العناصر المؤثرة إيجابًا وسلبًا، وإما يكون تمنيًا واقتراحًا على المستقبل، وهذا ما أثرناه في هذه المداخلة بحثًا عن الحل للأزمة الثقافية.

فما هو الحل؟ وما هي معالمة وخطابة وأسسه ووسائله؟

لقد سمعنا عن وصفات كثير للحل، ولسان حال المستهدفين بها يقول:

 

بكلٍ تداوينا فلم يشفِ ما بنا
 

 

على أنَّ قرب الدار خير من البعد
 

على أنّ قرب الدار ليس بنافعٍ
 

 

إذا كان من تهواه ليس بذي وُدِ
 

 

لقد افترضت أكثر الحلول راديكالية وجذرية وتطرفًا، فمن داع إلى القطعية مع التراث وما تصرف من مادة ((ورث)) ولسان حالةً يقول مع امرؤ القيس:

 

أبيني لنا إن الصريمة راحة
 

 

من الشك ذي المخلوجة المتلبس 
 

 

فأدار ظهره للتاريخ وقلب له ظهر المجن وانبهر بكل حديث، ولم ير في الثقافة الأصلية إلاّ عيوب التخلف الاقتصادي والظلم الاجتماعي، فغني وشدا بديمقراطية الغرب وتقدمه التكنولوجي وضمانه الاجتماعي.. إلخ. لقد جرّبت ذلك إحدى الأمم فلم تكن تجربتها قمة في النجاح.

ومن داعٍ إلى التمسك بالماضي القريب وذكرياته، ولم ير أصحاب هذا الحل في الغرب إلاّ الانحلال الخلقي والتفكك الأسري وملاجئ الكبار والمسنين آباء وأجدادًا، والتبرّم بالحياة الذي يصل إلى حد محاولة الهروب منها بالقتل، فقد أّكدت الإحصائيات في فرنسا أنه في كل سنة تسجل 165 ألف محاولة انتحار تصل منها اثنتا عشر ألف إلى انتهاء الحياة.

إن في كلا الموقفين شططًا وغلوًا، إن القطعية مع التراث خطيئة والتقوقع فيه خطأ. إن الذي أقترحه هو مقاربة للحل أو تذرع للحل وليس وهو الحل النهائي الأبدي كما يحلو للكثيرين منا أن يصفوا حلولهم لمثل هذه القضايا، وإن الحل الذي أقترحه يرفع شعارًا واحدًا هو شعار التجدد.

ومصطلح التجديد ليس غربيًا على ثقافتنا، فقد ورد في الحديث:

((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها))([1]).

وقد يكون هذا المجدد عالمًا مجتهدًا، كالشافعي مخترع علم أصول الفقه وآليات التعامل مع نصوص الشريعة، وقد يكون ملكًا عادلاً كعمر بن عبد العزيز، وهذا بنص العلماء الأوائل.

وإن مصطلح التجديد كان معروفًا للجاهلية. قال زهير بن أبي سلمي:

 

هم جدوا أحكام كل مضلة
 

 

من العقم لا يلفي لأمثالها فصل 
 

 

قال الأعلم الشنتمري: يريد بالتجديد أنهم بينوا أمور الحرب، فتجديد تقاليد الحرب والشجاعة هو تجديد الجاهلية.

ومعالم هذا التجديد تتمثل في معادلة: التراث والمعاصرة:

فما هي معالمة إذن؟

إنه تعامل جديد مع التراث بالتعمق فيه، والاستنجاد بإيجابياته، وتحريره وتأصيله، والتنقيب في أعماقه، وتجليته بكل إمكانيات الإشراق حتى يصبح حيًا، فإن الثقافية الميتة لا يمكن أن تكون إيجابية، ولا يمكن أن تتعامل مع الثقافات الأخرى إلاّ بخنوع وتبعية.

إنه تعامل جديد كذلك مع التراث يهدف إلى استكشاف فضاءات الالتقاء الالتقاء ومجالات التماس والتقاطع، وتوسيع قنوات التواصل والاندفاع بقوة إلى المعاصرة فكرًا وعلمًا بندية وكفاءة، وذلك باحتكام إلى ثلاث قيم أساسية: ((العقلانية –العلم- التسامح)).

بناءً على هذه الجدلية بين ثقافة أصيلة حية وثقافة عالمية دينامية فإن النتيجة ستكون تنسيب المواقف من بعض القيم، ومن بعض الأشياء، ومن بعض الأفكار، وتجسير العلاقة بين الأفكار والأشخاص، فبدلاً من واقع قيم تهاجم وقيم تقاوم، سيكون التعاون والتعاضد والتآزر، ولهذا فإن التجديد لن يكون هدمًا للتراث الأصيل بل سيكون عملاً من خلاله، ولن يكون ترميمًا وتلفيقًا بل سيكون دمجًا وأخذًا وعطاءً، فالنهر يتجه إلى مصبّه ويظل أمينًا لمنبعه، كما يقول فيلسوف غربي.

إنه إحياء لثقافتنا عبر منطلقات جديدة بآليات العصر ووسائله، إن التراث سيكون إطار المرجعية، وإن التجديد هو توسيع وعاء الثوابت لتستوعب الحديث، وقولبة الحديث ليستوعب، إنه انطلاق من عقال الحيرة، وتزحزح عن مفترق الطرق، لسلوك الجادة ولوج الفضاء الرحب في انسجام بين الضمير الجمعي ومتطلبات العصر، إنه مزج الأصالة في أجلي الضمير الجمعي ومتطلبات العصر، إنه مزج الأصالة في أجلي صورها بالمعاصرة في أنجح وسائلها وصيغتها. إن الخيار لاستراتيجي للتجديد هو التحرك من خلال التراث إلى المعاصرة ليكون التفاعل بين الاثنين أساس الصيرورة الثقافية.

خطاب التجديد:

خطاب التجديد موجّه إلى الجميع، إلى كل من يبحث عن صالح هذه الأمة انطلاقًا من قناعة أن مستقبل الأمة هو ما سيصنعه الجميع.

خطاب التجديد خطاب متأنٍ مُتّئد حينما يتعلق الأمر بالمقولات والمفاهيم الإنسانية والاجتماعية التي تقترحها المعاصرة، بل إنه يتعامل بشيء من البطء والتروي إلى حد الانتفاء في الوقت الذي يبذل فيه كل جهد لاستيعاب الجانب العلمي والتكنولوجي بأكبر قدر من السرعة المحكمة، مندفعًا للمنافسة في هذا الجانب بكل قوة.

خطاب التجديد خطاب حضاري واعٍ لا يوجهّ اللوم إلى أحد، إذ يعتبر الجميع بفضائلهم ونقائصهم ومزاياهم ورزاياهم ثمرة ثقافة هذه الحقبة التي نعيشها.

إنه دعوة إلى بناء إنسان جديد فخور بأصالته، متفاعل مع عصره، وهو يهدف إلى تنشئة جيل عربي فاعل وليس مفعولاً به، يستطيع بكفاءته الروحية والخلقية والنفسية والعلمية المنافسة في ميدان الحياة ومواجهة القرن القادم بتحدياته ومجهولاته.

خطاب التجديد يوجّه تحذيرًا واحدًا: هو أن الإشاحة بوجوهنا، الإشاحة بوجوهنا، الصدوف والعزوف عن التجديد من منطلق استنطاق ثقافتنا ومنطق اليأس منها، وكذلك الانكفاء على الذات ومنطق اليأس من خير المعاصرة سيخلفان ويخلدان المتمزق والضياع.

وبالعكس فإن أي خطوة جادة نحو فكر التجديد وممارسته ستنعكس إيجابيًا على الإنسانية ومردود الإدارة والإنتاج وقيمة الوقت والعلاقات الإنسانية والأمن البشري، وسيكون المردود إيجابيًا على العالم كله حيث سنوفر معبرًا إلى رحاب التنوع الثقافي لما لعالمنا من صلات تاريخية بنفس التواصل، ولما لموقعنا الجغرافي بين العالم الأصفر والأبيض وتشابك علاقتنا الثقافية مع هذه العوالم.

فما هي أسس التجديد في مكونات الثقافية الثلاث في تعاملها مع بعد المعاصرة؟

إنه ستكون في الشريعة تجلية قيمها وفضائلها، قيم التسامح والعدل والشورى والتعايش والتواصل والروحانية والوحدة والتعدد في إطار الثوابتن وهو تعدد تجلية مرونة الفقه وسمعة أفقه وتنوع دلالته وتوسع نطاق أدلته الإجمالية في ضوء الزمان؛ لتحقيق مقولة هي بالتأكيد حق: إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ وذلك بتسلط الاجتهاد على الربط المتواصل بين الزمان وبين الشريعة نصوصًا ومقاصد وأصولاً وقواعد، انطلاقًا من مبدأين: العقل المصلحة. وترجمة لثلاثة مقاصد: الضروري الحاجي- والتحسيني وتطبيقًا لخمس قواعد:


 


([1]) رواه أبو داود، والبيهقي، والحاكم.

 


1-   
إلغاء الشك لليقين.

2-   تحكيم أعراف الزمان.

3-   إزالة الضرر وضرورة الإنسان.

4-   رفع المشقات وإحلال اليسر في التكليف محل العسر.

5-   الجريان في التكليف على المقاصد لا على الصور.

بالإضافة إلى الأدلة التي تستند إلى معقول الشرع كالقياس والاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة، أضف إلى ذلك التعامل مع سلم الضرورات والحاجات العامة التي تغير مقتضي الأوامر والنواهي في الشريعة طبقًا لما يسمي بالرخص بأنواعها.

في اللغة: في إحيائها وتعميمها وتفجير معين قواعدها الذي لا ينضب، وغرس شجرتها التي لا تذوي، انطلاقًا من غناها وثرائها في غناها وثرائها في المفرادات والتغير والاشتقاق والأوزان الجموع. فلنا في لغتنا العربية ثلاثون جمعًا يقابلها جمعان في اللغة العبرية التي تعلمت نحوها وضاعت نفسها وأحدثت الشكل والنقط اقتباسًا من العربية في القرن الثامن الميلادي بالأندلس. فهل يغلب جمعان ثلاثين جمعًا؟

في الآداب: بإحيائها نثرًا وشعرًا بمختلف بحوره في أجمل صورة وفي شتي مقاصده، يجب أن تصدح النوادي والبيوت بجماله وفنونه، وتشدو طير الخمائل من جديد على أزهارها المونقة في رياضة المورقة بأنغامه ولحونه.

في العادات والتقاليد: بإحياء الصناعات والتقليد والفنون الجميلة، وباتخاذ كل الطرق التربوية لاستمرار التماسك الأسري، وحب الأدنى، وبر الوالدين، والشهامة والكرم، وإسعاف الآخرين، والوفاء، والبر، والسماحة، كما قال امرؤ القيس:

 

وتعرف فيه من أبيه شمائلاً
 

 

من خاله ومن يزيد ومن حجر 
 

سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا
 

 

ونائل ذا إذا ((بدا وإذا حضر))
 

 

يجب أن نقدم هذه العادات والتقاليد في مقابل الإنسان الأخير، وهو صورة لإنسان الغرب المستقبلي عند فوكوياما اقتباسًا من الفيلسوف نيتشه، حيث يري أن إنسان الديمقراطية الليبرالية سيكون حرًا بأخلاق العبيد، نذلاً لا قيم له ولا خلق ولا غيرة أناني لا يهتم إلاّ بمصلحته الشخصية وشهوته المنحطة، سيخلع إنسانيته! إنه ((الهلباحة))([1]).

إننا بهذه التقاليد النبيلة التي هي قيم ديننا وتراثنا سنسهم في تقديم أنموذج بشري سوي. إن هذه المكونات الثلاث متجددة في نفسها، باحثة في أعماقها، ستعيد صياغة ذاتها متفاعلة مع بعد المعاصرة في حيويته ومقولاته الإنسانية وبخاصة في علومه وتقنياته التي تقترح آفاقًا جديدة يجب أن تغزي، وتكشف أغوارًا عميقة يجب أن تسبر.

وسائل هذا التجديد: حيث إن خطاب التجديد مسالم، بل متعاطف مع كل فعاليات الأمة، فعلي الجميع حكومات وأفرادًا وجمعيات أن تجد الوسائل الكفيلة بتنفيذه، فالصيغ التنظيمة لا قيمة لها في حد ذاتها إلاّ بقدر ما تؤديه من وظيفة نافعة، إلاّ أن العملاء والمفكرين يتحملون عُظم مسؤوليته، فهم الذين سيقع عليهم عبء ترجمته من سماء النظريات والرؤى الفكرية إلى أرضية التطبيق ليصبح برنامجًا عليمًا يصلح للتنفيذ في ظروف الأمة الزمانية والمكانية، وفي ظروف كل جزء منها على حده.

لهذا فإن الكليات التي أشرنا إليها في الشريعة لملامسة جوانب اسعة من جهة، وضبط المسار بثوابت شرعية ليست وظيفتها رفع الحرج عن ضمير الفرد والجماعة حتى يصبح أكثر انسجامًا مع ما تتطلبه مقتضيات العصر فحسب، ولكن ليكون العمل أكثر إيجابية ولصوقًا بالواقع، يصبح وضع الخطط العلمية ضرورة لقيام ورشة أو ورشات عمل لدراسة تلك المبادئ والأصول والقوعد والكليات في ضوء مقترحات المعاصرة، وعلى خلفية تطوير الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ولا يكتفي أن نستنبط من هذه المبادئ بل علينا تكوين عقليات اجتهادية جبارة كأبي حنيفة وأضرابه، وهذه الخطوة وسيلتها المجامع الفقيهة والجامعات والمراكز الحكومية والخاصة، كما يجوز لأي كان أن يسهم في وضع مفرادتها وتفصيلاتها.

كما أن دارسة التاريخ والسير لن تسمح بتجلية العبقريات فقط، ولكن بمحاولة الإفادة من كيفية تعامل هذه العبقريات السياسية والقيادية مع ظروفها التاريخية.

كما أنه يجب إدماج الدراسات الإنسانية بالدراسات الإسلامية، بخاصة علم النفس الحديث؛ لتكوين الشباب المؤهل نفسيًا لمواجهة التجديد.

وفي اللغة ستكون المجامع للغوية خير وسيلة، وكذلك النوادي، وكل الهيئات والجماعات ذات الصلة.

وإن الصحافة والجامعات والمراكز العلمية يجب أن تكون أكثر نشاطًا وحيوية، ويجب التركيز على البحوث العلمية المتكيفة مع البيئة المحلية.

أيها الإخوة:

إنني في النهاية لست متشائمًا، فإن مستقبل ثقافتنا هو ما سنكون، ومستقبلنا هو ما ستكون، وهو ما نريد جميعًا –بإذن الله- إذا تم الاتفاق وإذا اتفقت حكوماتنا على خطوط محددة في بناء الجسور الثقافية وتحديد معالم استراتيجية ثقافية، ووضع خطط زمنية لتنفيذ مراحلها، طال الزمن أم قصر، فإن من شأن ذلك أن يشكل منعطفًا تاريخيًا في غاية الأهمية، وقد تكون أهمية مساوية لأهمية اتفاق السوق الاقتصادية الذي برزت تباشيره بإعفاء جزئي لبعض السلع، وإنشاء بعض المناطق الحرة للتبادل التجاري.

إن الثقافة العربية قوية البناء الداخلي، راسخة الجذور، خبرت أزمات التاريخ فحولت جبابرة المغول والأتراك إلى أتباع وخدام أوفياء. إن أحزمة أمنها منتشرة في العالم الإسلامية.

وفي الختام:

فإن التجديد الذي نريده سيكون انطلاقًا من القوى المعنوية والتاريخية عبر معادلات ومرتكزات جديدة تنشئ فكرًا خلاقًا مستوعبًا ومضيفًا متجاوزًا الاستجابة والتكيف إلى الاحتراق والإبداع، والأخذ والعطاء، والشراكة الحضارية والندية.

إنه تطور نابع من عبقرية الأمة وحاجتها، شامل لكل ميدان على مستوى التحديد التاريخي، مبلورًا المشروع الحضاري الواعد الواعي، مدمجًا القيم والتاريخ في بوتقة الحاضر والمستقبل، وفي تناغم وتناسق، في خطاب قديم في مضامينه، جديد في طروحاته، أصيل في مقارباته، ولهذا فهو الجديد بالنوع، القديم بالجنس الذي يجعل من التراث حافزًا، ولا يقيم منه حاجزًا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والله ولي التوفيق.


 


([1]) تراجع مقدمة فوكويا، نهاية التاريخ، الترجمة الفرنسية.

 

 

 

Comments are closed.