من ضوابط الإعجاز العلمي
معالي الشيخ عبد الله بن محفوظ بن بيه
وزير العدل الموريتاني ـ سابقا ـ
أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز ـ جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من لا برهان له على رب سواه: (ومن يدع مع الله إلهاً ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه)، وشهادة من قامت أمامه وفي نفسه البراهين على ألوهيته خلقاً بديعاً متضامناً مجاله الكون وشواهده السمع والبصر والإدراك وعلامات وآيات مع رسله يدركها الشهود والعقل والوجدان. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم الأنبياء صاحب معراج السماء الدال على البارئ. جل وعلا، بحاله ومقاله.
وأشهد أنك يا رب إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وخطيئة وضلال مبين. إياك نعبد بمنِّك وإياك نستعين بفضلك؛ لتحقق هذه الشهادة المباركة في عالم العقل والوجدان والحس. فحققنا بها وثبتنا عليها حتى نلقاك بها، وندعوك بلسان الضراعة الذي لا يعبر عنه إلا ضعفنا وعجزنا وقدرتك وإحاطتك بكل شيء أن تحققنا بمقتضيات لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً وإحساناً واستسلاماً لأمرك ونهيك ومقاماً على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
أما بعد،
فإن الإعجاز العلمي اصطلاح حديث قصد به ما تكشفه العلوم الحديثة من حقائق في هذا العصر بالذات لم يكن في مقدور البشرية من قبل أن تصل إليها، وتأتي هذه الحقائق مطابقة لخبر وارد في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة.
أيها الأخوة:
سنتذاكر اليوم حول آيات ربنا المكتوبة وآياته المبثوثة في هذا الكون المدركة للإنسان بالحواس أو العقل أو عن طريق الاثنين معاً. عن طريق العلم.
لا يخفى على كريم علمكم أن هذا الدين المبارك الذي ختم البارئ. جل وعلى. به الديانات واجه كثيراً من التحديات فتغلب على صعابها وبين باطلها من صوابها. واجه هذا الدين تحدي إبادة أهله واستئصال شأفتهم وهو ناشئ عن تحدي الاستفزاز من الأرض قال تعالى: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً ) الإسراء 76
نعم كان ذلك في مكة، لم يلبث خلافه الذين استفزوه من أرض مكة إلا خمسة عشر شهراً خرجوا بعدها في أثره فهلكوا ببدر، يقول في التحرير والتنوير: (وفي الآية إيماء إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم. سيخرج من مكة وأن مخرجيه أي المتسببين في خروجه لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلاُ)
لكن محاولة محو هذا الدين من الأرض كانت تراود نفوس أعدائه إلا أن الله سبحانه وتعالى قيّض لهذا الدين أتباعاً أمدّهم بعونه وقوته حتى هيأوا في أقل من قرن حيزاً جغرافياً من جدار الصين إلى جبال البرني يكفل وإلى الأبد بقاء هذا الدين .
التحدي الثاني: كان تحدي الديانات السماوية وغير السماوية فجادلها هذا الدين بالحسنى وبالحجة البالغة والبرهان الساطع توحيداً لا شرك فيه، وتشريعاً لا حيف فيه ومساواة كاملة بين أبنائه فانحسر التثليث أمام دليل الوحدانية، وكذب الأحبار أمام نور النبوة وعدالة الوحي. بعد أن أسلم منهم من هداه الله تعالى في عصر النبوة وما بعده ظلت أجيال منهم تصارع بالسلاح تارة وباللسان أخرى فانتدب للرد عليهم علماء وأعلام من أمثال ابن حزم وابن تيمية والشهرستاني.
التحدي الثالث: الفلسفات وبخاصة اليونانية التي سبق أن أفسدت النصرانية بثنائيتها وإلحادها فواجهها علماء هذا الدين بالعقل المؤيد بالوحي فكشفوا زيفها ونقضوا كيفها فبرز علماء أيضاً كأبي حامد الغزالي وابن تيمية وابن رشد على اختلاف فيما بينهم إلا أنهم جميعاً استضاءوا بنور الوحي فوقفوا سداً منيعاً دون الأخطاء القاتلة للفلسفة وأدمجوا عناصرها الإيجابية وأخذوا وأعطوا، ولذا فإن الفلاسفة المتنورين في الغرب قد أفادوا من فلاسفة الإسلام وظهر دين الحق على كل من ناوأه بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان على حد عبارة أبي بكر بن العربي الأندلسي.
وفي هذا القرن المنصرم واجهت الديانات وبخاصة الإسلام. وما زالت تحدي العلم الذي أصبح معبود الأجيال الصاعدة التي شكت في العقل مرة أخرى واطّرحت الأخلاق وانتبذت منها مكاناً قصياً فكيف تعود إلى عقلها وتعاود الأخلاق الفاضلة التي هي صمام أمان إنسانية الإنسان الذي لا نشك في أنه إذا تجرد من إنسانيته مع ما لديه من سلاح علم وتكنولوجيا سيصبح حيواناً خطراً يقضي على نفسه.
لقد كانت آيات الله تعالى بالمرصاد لكل تحدٍ بمختلف أوجهها ومجالاتها في التشريع والتوجيه والأخلاق لكن الآيات خرجت من عباءة العلم شواهد نطق بها العلم أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء بتصديق الوحي والشهادة له فانقلب السحر على الساحر.
وهكذا تضاعف غم الذين كانوا يعولون على العلم كأداة هدم لا تقهر لقلعة الدين عندما شاهدوه يتحول إلى قلعة من قلاع الدين لا تغلب حينما اكتشف العلم نفسه في نصوص الكتاب والسنة.
وتتابعت اعترافات بعض قمم العلم في هذا العصر بأن النصوص الدينية الإسلامية ليست كغيرها من النصوص الدينية التي تدخل فيها يد الإنسان بالتحريف والتبديل فعارضت العلم واعترض عليها لكنه لم يستطع أن يفند أي حرف من القرآن الكريم كما يجزم به الطبيب الفرنسي موريس بوكاي بعبارة قريبة من هذا، بينما أظهر في كتابه تعارض العلم والكتب السماوية الأخرى. ونعتقد أن ذلك نتيجة التحريف والتبديل لأن القرآن وحده وحي الله المحفوظ الشاهد لنفسه والبرهان على صدق رسوله الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. العلم يقوم اليوم شاهداً بالمعجزة وعلامة على صدق الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنحاول أن نقول كلمة عن تأصيل الإعجاز العلمي وقبل ذلك ينبغي أن نتحدث عن الألفاظ والمصطلحات ذات العلاقة بالإعجاز: المعجزة، والدليل، والعلامة، والآية.
فالمعجزة مشتقة من العجز وهو عجز الخصم أمام البرهان ليقر بالقضية الدعوى ( وسميت معجزة لعجز من يقع عندهم ذلك على معارضتها ) تلك عبارة ابن حجر.
وقد عرّفها بعضهم بأنها: ( أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم من المعارضة )
أما الدليل: فقد استعمل جمعه دلائل وهو جمع على غير قياس كرهين ورصيد، وقد استعمله البعض كأبي نعيم والبيهقي في دلائل النبوة.
أما الآية: فهو اللفظ القرآني وهو يرادف العلامة لغة واستعمالاً لأنه علامة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه قال تعالى عن سيدنا موسى. صلى الله عليه وسلم. ( في تسع ءاياتٍ إلى فرعون وقومه ). ( فلما جاءتهم ءاياتنا مبصرة ) وقال تعالى عن البيت الحرام: ( فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ) وهي علامات تدل على اصطفاء هذا المكان للعبادة مقام إبراهيم وبئر زمزم الذي لا يزال ماؤه جارياً. ووصف القرآن الكريم بأنه آيات: ( الر* تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين )
أما العلامة فقد أطلقها بعضهم كالإمام البخاري في صحيحه: ( باب علامات النبوة في الإسلام ) ( الفتح، ج6، ص 580 ) وعلق عليه الحافظ ابن حجر بأن العلامة أعم من المعجزة والكرامة ص 581. وقد بين فيما بعد العلامات: منها ( ما وقع التحدي به ومنها ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحدٍ ) ص 582 فيفهم من هذا أن العلامة أعم إذ كل معجزة علامة وليس كل علامة معجزة.
).
جعل ابن خلدون المعجزة مركبة من الخارق والتحدي إذ يقول في مقدمة تاريخ العبر: ( ومن علاماتهم ( الأنبياء ) أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثله فسميت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد وإنما تقع في غير محل قدرتهم .. إلى أن يقول: فالمعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي وبذلك كان التحدي جزءاً منها ).
ووصف الله تعالى إتيان النبي الأمي – عليه صلوات الله وسلامه – بالقرآن بأنه آية ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون * بل هو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ).
ووصف اعتراف أهل الكتاب بالقرآن الكريم بناء على م وجدوه في كتبهم من وصفه بكونه آية ( أولم يكن لهم ءايةً أن تعلمه علماؤا بني إسراءيل * ولو نزلناه على بعض الأعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنون ) الشعراء 197-199.
وهكذا فإن القرآن آيات بينات والقرآن الكريم هو معجزة النبي –عليه الصلاة والسلام – الكبرى الباقية ما بقي الزمان شاهداً لأهل كل زمان يشهدون منها ما يدفعهم إلى الإيمان حسب ما سبق في علمه –جل وعلى- من هدايتهم على حد قوله –صلى الله عليه وسلم -: ( ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم .
وكان الحديث يشير إلى الديمومة الزمنية للوحي التي تستقطب الأتباع وهي التي تميز القرآن الكريم عن سائر معجزات الأنبياء، وكذلك عن معجزاته –صلى الله عليه وسلم – الكثيرة الأخرى، إذ إن تلك المعجزات ثابتة بالمشاهدة لمن شهد وقوع الحدث في عصر النبوة وبالسماع فقط لمن سواهم، فطريق معرفتنا لشق الصدر لسيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وشق القمر له هو الخبر الوارد في الكتاب أو السنة فهي معجزات انقضت مشاهدتها بلحظة وقوعها، قال البوصيري: ( فشق من صدره وشق له البدر ومن شرط كل شرط جزء).
أما القرآن الكريم فإنه يحمل شهادة الله – جل وعلى – التي لا تغيب، وبيانه الذي لا يستعجم لكل الأقوام، فهو بلاغ للناس ( هذا بلاغ للناس) أي كل الناس في كل زمان يبلغ إليه هذا الكتاب ( وأوحي إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ ) فكان القرآن رسالة وشهيداً، مقدمة ونتيجة، ودعوى وبرهاناً تكفل البارئ بحفظه برهاناً على صدقه، فالدلائل والعلامات والآيات والمعجزات ألفاظ متقاربة توصف بها الخصائص المميزة لشجرة النبوة التي لا تشبهها شجرات البشرية .
لقد شبه الناظرون وهم يشاهدون تلك الدوحة الناضرة السامقة الأثيثة الفروع، الجنية الثمار، الدانية القطوف، فطفقوا يصفون سناها وسناءها ونورها ونورها كل على قدر علمه وجده وحظه رأى من جوانب هذه الشجرة ؛ فآمن بعضهم بمجرد مشهد شخص صاحب النبوة فكفاه المظهر عن المخبر، ففي حديث عبد الله بن سلام: (لما رأيت وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – قلت: ما هذا بوجه كذاب، فأسلمت) وفي حديث الربيع بنت معوذ-رضي الله عنهما: (إذا رأيته قلت الشمس طالعة) ومنهم من جاوز المنظر إلى التأمل كحديث سلمان -رضي الله عنه – وبعضهم طالب صاحب النبوة –عليه الصلاة والسلام- بالمعجزات المادية كطلب قريش بانشقاق القمر فانشق نصفين ظهر بينهما جبل حراء كما ورد في الصحيح، ومنهم من طالب بإحياء حيوان ميت ليشهد له كصاحب سليم في حديث صاحب الضب فأحياه الله على يديه فشهد شهادة الحق .
ومن هذا القبيل شهادة الأشجار والأحجار وحنين الجذع بمحضر الملأ من الصحابة، وتكثير القليل من الطعام والماء كما ورد في أحاديث بلغت حد التواتر، ومنهم من رأى المعجزة في الإخبار عن الغيوب في زمانه وبعده، وهي أنباء تترى لا تبليها الأيام ولا يكذبها الزمان ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
ومن أهل الكتاب من آمن بسبب البشارات السابقة في الرسالات القديمة إذ لم يخل كتاب من وصفه بالإشارة أو بصريح حتى إن كتب الهندوس والبوذيين تنص على اسمه الكريم .
ومنهم من رأى المعجزة فيما أخبر عنه من تزكية النفوس التي يصل إليها المرء بالذوق عندما يستجيب لله والرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن هؤلاء أبو حامد الغزالي بعد أن تحدث عن معرفة النبي – صلى الله عليه وسلم -. بالمشاهدة والتواتر والتسامع، قائلاً: (فإنك إذا عرفت الطلب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم وإن لم تشاهدهم .. ) فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضروري بكونه – صلى الله عليه وسلم – على أعلى درجات النبوة، وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب وكيف صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، في قوله: ( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) إلى غير ذلك من الآيات البينات والمعجزات. إلا أنه لا يختلف في أن معجزته الباقية وآيته الخالدة هي هذا الكتاب العزيز والذكر الحكيم والقرآن المجيد فهو المعجزة التي تخاطب أجيال البشرية المتعاقبة لتهديها إلى البارئ – جل وعلى – وإلى سبيل النجاة والخلود في دار المقامة والكرامة ولتعريف الإنسان على حكمة خلقه .
وانطلاقاً من ذلك فإن كل جيل سيجد في كتاب الله من البينات ما يقيم عليه الحجة (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) ومعنى ذلك أن باب التفسير سيظل مفتوحاً أمام الأجيال في نطاق احترام ثوابت التفسير وهي :
1- المأثور عن النبي –صلى الله عليه وسلم.
2- المأثور عن أصحابه – عليهم رضوان الله.
3- مقتضيات اللغة العربية. التي سنشير إليها فيما بعد.
فإذا احترمت هذه الثوابت فلا حرج – إن شاء الله – على المفسر ولعله لا يدخل تحت طائلة الوعيد في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي عنه – عليه الصلاة والسلام: ( من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ) .
وقول الصديق – رضي الله عنه – وقد سئل عن الأب فقال: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأي ؟)
فكل الأدلة تشير إلى أن شخصاً قد يفتح له بفهم في كتاب الله لم يكن معروفاً لغيره وهذا ما يشير إليه دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – لابن عباس: ( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل )، واتفق العلماء على أنه تأويل القرآن، وقول أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه وأرضاه – لما قال له أبو حنيفة: هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله ؟ فقال: ( لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ).
فهذا الفهم هو الذي نعتمد عليه في تعاملنا مع القرآن بالعلوم، وقد قال الفخر الرازي: ( إن المتقدمين إذا ذكروا وجهاً في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استنباط وجه آخر في تفسيرها ) هذا في التفسير بما لم يؤثر عن السلف بصفة خاصة، أما فيما يتعلق بالتفسير العلمي فقد اختلفت أنظار العلماء، ولعل أقرب ذلك إلى الصواب وأولاه بالإتباع ما قاله في التحرير والتنوير حيث يقول ابن عاشور: ( .. وإن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقاً بتفسير أي قرآن ….. وكذا قوله تعالى: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها وعللها بما هو مبين علم الهيئة كان قد زاد للمقصد خدمة.
وأما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع، وأما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى: ( ويوم نسير الجبال ) أن فناء الأرض بالزلازل، ومن قوله تعالى: ( إذا الشمس كورت ) .. الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم ) واستطرد ابن عاشور حيث نقل عن ابن رشد الحفيد في فصل المقال قوله: ( أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشارع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم في التصديق.
هذا عن التفسير العلمي، وإنما مرادنا هو نوع خاص منه هو التقاء الحقيقة القرآنية وهو ما أشار إليه ابن عاشور في الفقرة الثانية من الكلام المذكور آنفاً من التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم أما الإعجاز العلمي: فهو إعجاز خبري بدون شك ولكن وسيلة كشفه هي العلوم المعاصرة ومعنى ذلك أن مستقر النبأ يجئ عن طريق العلوم العصرية ( لكل نبأٍ مستقر ) مستقره يوم اكتشافه وهو أمر لا ينافي نصوص الشريعة ولا مقاصدها.
والإعجاز العلمي مركب من لفظين أولهما: الإعجاز وهو السبق والفوت، وهو أيضاً جعل الآخر عاجزاً، وثانيهما: العلم وهو كما يقول الأصفهاني: ( إدراك الشيء على حقيقته وذلك ضربان، أحدهما: إدراك ذات الشيء والثاني: الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود به، أو نفي شيء هو منفي عنه ). والعلم هنا المراد به ما كشفته العلوم التجريبية من حقائق كونية بحقائق مقررة في القرآن الكريم أو السنة النبوية، ووجه الإعجاز يتركب من ثلاثة عناصر:
عنصر الزمان، والرسول الأمي – صلى الله عليه وسلم – والكشف العلمي المتأخر، وذلك أنه يستحيل عادة في ذلك الزمان أي زمان الوحي إدراك هذه الحقيقة بالوسائل البشرية المتاحة، ويستحيل في كل زمان أن يدركها رجل أمي – صلى الله عليه وسلم – لم يتعاط وسائل العلوم ومقدماتها الضرورية في كل زمان للوصول إلى نتائج معينة. أما العنصر الثالث فهو الاكتشاف المتأخر لهذه الحقيقة.
ولكن يجب أن يضبط ذلك بضوابط من شأنها أن تحدد الإطار الشرعي للتعامل مع هذا الموضوع حتى لا تتفرق السبل ويتنكب عن الجادة ويصبح موضوع الإعجاز فوضى لا توصف بالخطأ الاجتهادي، بل يجب أن توصم بالخطر الذي يصل إلى الافتراء والقول في كتاب الله بلا علم والوقوع تحت طائلة الوعيد: ( من قال في كتاب الله بغير علم فهو مخطئ ولو كان مصيباً )
–الضابط الأول: أن يكون معنى اللفظ الوارد في الكتاب والسنة والذي يقصد مطابقته للحقيقة العلمية مفسراً بتفسير نبوي عنه – عليه الصلاة والسلام – أو مفسراً من قبل صحابي كتفسير ابن عباس – رضي الله عنه – ( للرتق ) في قوله تعالى: ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ) بكونها ملتصقتين فقد قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيئاً واحداً ملتزقتين ) القرطبي.
-والكيفية التي كان عليها الجسم المرتوق قبل الفتق غير معروفة على سبيل التأكيد، إلا أن بعض قصص التراث تروي شيئاً قد لا يكون بعيداُ عما تصوره القائلون بنظرية الانفجار الكبير التي ترى أن جسيما متناهيا في الصغر من الطاقة الخالصة ذا كثافة وحرارة هائلة انفجرت فتناثرت أجزاؤه في شتى الاتجاهات في شكل سحب ) وقد عاد العلماء إلى هذه النظرية استناداً إلى معلومات القمر الصناعي أمريكي في أبريل 1992 م، أما القصة التي ذكرها العلامة الشيخ سيدي المختار الكنتي الشنقيطي من علماء القرن 12 الهجري في شرحه لمقصود وممدود ابن مالك، فنقول: إن أول شيء خلقه الله تعالى الذرة فجعلت تسيح ألف ألف عام حيث لا أرض ولا سماء .. فلما أراد ظهور الأكوان نظر إليها بعين الجلال فتصدعت فانبجست منها العناصر الخمسة وهي الماء والريح والنور والظلمة والنار ).
الضابط الثاني: في غياب تفسير نبوي أو تفسير صحابي ؛ فالضابط أن يكون التفسير بمقتضيات اللغة العربية بأن يكون إطلاق اللفظ على المعنى من قبيل الحقيقة ( وهي استعمال اللفظ فيما وضعت له العرب وضعاً ) ويتصور ذلك في مرتبتين:
مرتبة ( المفسر ) عند الأحناف وهو النص عند الجمهور لأنه لفظ لا يدل على معنى واحد لا يقبل التأويل.
مرتبة الظاهر: لفظ احتمل أكثر من معنى إلا أنه أظهر في أحد معانيه أن يكون اللفظ حقيقة عرفية أو شرعية.
إذا لم يكن اللفظ نصاً ولا ظاهراً حقيقة بأي معنى من المعاني فإن عدل عن الحقيقة إلى المجاز وعن الظاهر إلى المعنى المرجوح فإن الأمر سيكون من قبيل التأويل الذي يجب أن ينضبط بضوابط التأويل التي تقتضي وجود قرينة من نص آخر أو قياس مع احتمال اللفظ للمعنى المرجوح احتمالاً لغوياً لا غبار عليه، وقد تكون الحقيقة العلمية إذا كانت أكيدة فـ (خضراً ) في قوله تعالى: ( فأخرجنا منه خضراً ) هو الشيء الأخضر هذا ظاهره إلا أنه حمله على اليخضور بالمصطلح العلمي أمر سهل لاحتمال اللفظ احتمالاً لا غبار عليه وتأكيد الحقيقة العلمية.
إلا أن الشيء الذي يجب الانتباه إليه أن التفسير العلمي قد يكون موافقاً للحقيقة الوضعية لكنه يقابل مجازاً درج المفسرون عليه مما يقتضي من الباحث التقصي عن عدم وجود تفسير نبوي ولا صحابي، فإن اطمأن إلى ذلك أمكن حمل اللفظ على حقيقته والوضعية وبالتالي الالتقاء بين الحقيقة العلمية والحقيقة القرآنية كما في آية: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) إذا صحت الحقيقة التي وصل العالمان الأمريكيان فولر وزميله في الحديد. فيكون الإنزال على حقيقته يوضح ذلك حديث: (إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح) عن القرطبي في تفسيره .
وقد فسر أكثر المفسرين (الإنزال) بأنه استعارة لخلق معدن الحديد كما هي عبارة صاحب التحرير والتنوير.
هذه هي الضوابط التي يجب على كل باحث أن يضعها في حسابه وهو يحاول أن يتعامل مع الإعجاز العلمي في القرآن.
ومع هذا فلا حجر في التعامل مع الإشارات القرآنية والحديثية بشرط عدم الإخلال بالنص وعدم الخروج عليه فمن القواعد المقررة عند الأصوليين أن الإشارة لا يعتد بها إذا خالفت النص، والحقيقة أن مخالفتها للنص دليل على عدم وجود إشارة.
كما يمكن للباحثين أن يجعلوا بحوثهم تدور حول بعض القضايا العامة في خلق الكون كقانون الزوجية الذي تكرر التصريح به في أكثر من آية في الإنسان والأنعام: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة الشورى –11- كذلك فإن الزوجية وردت في النبات: ( وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) سورة ق – 7 .
إلا أن الزوجية جاءت في صيغة العموم والشمول في خلق الكون: (والسماء بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون*والأرض فرشناها فنعم الماهدون* ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون*ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين*ولا تجعلوا مع الله إلهاً ءاخر إني لكم منه نذير مبين) الذاريات 47 –50
إن الزوجية من خصائص المخلوقات ودليل الاحتياج والافتقار، والوحدانية والفردانية من خصوصيات الخالق وذلك ما يشير إليه التقابل في سورة الشورى والذاريات.