نظام مفهومي موحد للبشر(5)
استكمالا للحديث حول حدود الحرية في التعبير، وفلسفة الحرية، واثر هذه الحرية في دعم أو عدم دعم مسألة الحوار بين الحضارات، والتي أشرنا الى طرف منها اثناء نقاشنا لفكرة وجود نظام عام للحريات بين البشر، نقول: إن مجموعَ الحريات لا يمكنُ أن تكونَ مطلقة، فلو كانتْ كذلكَ لأدَّت إلى فوضَى منْ كلِّ نوع. ومن هنا تبرزُ فكرةُ «النظام العام».
ووظيفةَ النظامِ تنحصرُ في ثلاثة أمور: أداة لتحديدِ الحرياتِ ـ هذه هي وظيفتها ـ ومعيار لأهليةِ السلطات للتدخل، ووَسيلة لرقابةِ المجلسِ الدستوري.
ولهذا فالنظامُ العام يختلفُ بحسبِ الحضاراتِ والمصالحِ والأخلاقياتِ لكلِّ قوم، فمِن الطبيعيِّ أنْ يختلفَ بين الإسلام وبين الحضارة الغربية.
ولأزيد الأمر وضوحاً أقدِّم مثالاً هو منعُ الحكومةِ البريطانيةِ عرضَ فيلمٍ يمسُّ شخصيةَ المسيحِ عليه السلام في بريطانيا بحجةِ أنَّه يسيءُ إلى النظامِ العامِ؛ حمايةً لمشاعرِ المسيحيينَ منَ الإساءة. وعندما رَفعتْ بعضُ الجهات المهتمة بحقوق الإنسان دعوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ضد قرارِ الحكومةِ البريطانيةِ باعتبارِ هذا الحظرِ منافيًا لحقِّ الإنسان في التعبير عن رأيِه ونشر رأيه…إلى آخر الحقوق المكفولة؛ أصدرت المحكمةُ قرارَها في القضيةِ المعروفة «وفقروف والمملكة المتحدة» أيدت المحكمة موقف الحكومة البريطانية، وذلكَ في 25 نوفمبر 1996 لاشتمالِ الفيلمِ على الشتمِ والوقاحة. ومحكمةُ حقوقِ الإنسانِ الأوروبية أيدتْ قرارَ السلطاتِ التركيةِ الذي يحظرُ حزبَ الرفاهِ الإسلامي، وذكرتْ في حيثياتِها أنَّه يدعو إلى تطبيقِ الشريعةِ الإسلاميةِ، وذلكَ ما لا يتفقُ ومنظومةَ القيمِ الأوروبية، وبمعنى آخر «النظام العام الغربي».
والمحكمة في كلتا الحالتين تحترمُ منظومةَ القيم الغربية التي تعتبر المسيحَ مقدسًا، وبالتالِي فإنَّ التضييقَ على حريةِ التعبيرِ مشروعٌ إذا كانَ يمسُّ تلك القدسية، انطلاقًا من مبدأِ النظامِ العام، بينما تُعتبر شريعةُ الإسلامِ غيرَ مقدسةٍ طبقًا لنفسِ القيم الغربية، فيجبُ تضييقُ نطاقِ حريةِ التعبيرِ على منْ يطالب بها.
وما موقفُ كثير من قادة الرأي في الغرب من الرسومِ السيئةِ السمعةِ ببعيدٍ.
ذلك هو منطق النظام العام الغربي، ولا يعنينا هنا أن نناقش الغربيين أو نبرز تناقض موقفهم نتيجةَ التعصُّب والاستعلاءِ، بلْ نعتبرُ أنَّ موقفهم ينسجمُ مع نظرتهم الخاصة؛ ولكن عليهم أنْ يحترموا الآخرَ، وإذا كانوا قد مارسوا حقَّهم في التعامل مع مبدأِ نظامِهم العامِّ، فلا أقلَّ من أنْ يعترفوا لغيرهم بحقه في ممارسة نفس المبدأِ، وأن يعترفوا في النهاية بالنسبية في مبدأِ النظام العام، فلكلِّ أمةٍ نظامُها العام ومنظومتها القيمية.
وهكذا فإنَّ المادةَ «27» من الإعلانِ العالمِيِّ لحقوقِ الإنسانِ عندما تنصُّ على تقييدِ الحرياتِ المنصوصِ عليها في الإعلانِ، عندما تتعارضُ مع «النظام العام» وهو يختلفُ من بيئةٍ إلى بيئةٍ وثقافةٍ إلى ثقافةٍ؛ قد يعتبرُ ذلكَ اعترافًا ضمنيًّا بتأثير التنوع الثقافي في حقوق الإنسان.
وهناكَ اختلافاتٌ في قوانينِ الأسرةِ، وفي البيوع والمعاملات، وتجريم بعض السلوكيات؛ ترجع إلى اختلاف القيم.
إنَّ الاعترافَ بالاختلافِ يشعرُ الفرقاءَ بجديِّة الحوارِ، وأنَّه ليسَ استحواذاً يُنكرُ فيهِ الآخرُ على مقابِله حقَّه الطبيعيَّ في الاختلافِ، ويطلبُ منه أنْ يتماهَى معهُ وكأنَّه يشترطُ ذلكَ مسبقاً لقبولِ التواصلِ معَه.
إنَّ شعارَ التواصلِ هو أنْ يقبلَ الفرقاءُ كلُّ واحدٍ منهما الآخرَ كما هو، لا كما يتمناه.
ولعلنا نختم بهذه الفقرات لفيلسوف غربي، فأفضلُ ما يعبِّرُ عن النسبيةِ واعتمادِ القيم على البيئةِ هذه الفقراتُ لوايتهيد في كتابه «مغامرات الأفكارِ» حيثُ يقولُ: «وتفاصيلُ هذه المقاييسِ الخلقية تتعلقُ بالظروفِ الاجتماعيةِ الخاصَّةِ بالمحيطِ المرافقِ للحياةِ في زمنِ معيَّن على الجانبِ الخصبِ منَ الصحراءِ العربيةِ، والحياةِ على المنحدراتِ السُّفلَى منْ جبالِ الهملايا، والحياةِ في سهولِ الصينِ أوْ سهولِ الهندِ، والحياةِ في دلتا أي نهر عظيم.
كما أن معنى المقاييس متغيرٌ وغامضٌ، فهناكَ مثلاً مفاهيمُ الملكيةِ والعائلةِ والزواجِ والعقل والله سبحانه وتعالى، فالسلوكُ الذي ينتجُ في محيطٍ ما وفي مرحلةٍ ما مقياسُه المناسبُ من الإشباعِ المتوافقِ، قد يكونُ في محيطٍ آخرَ وفي مرحلةٍ أخرَى منحطًّا انحطاطًا مدمِّرًا، ولكلِّ مجتمعٍ نمطُه الخاصُّ من الكمال، وهو يحتملُ صعوبات معينة حتمية في مرحلته.
وهكذا، فإنَّ المفهومَ القائلَ بوجودِ مفاهيمَ تنظيميةٍ معينةٍ مضبوطةٍ ضبطًا كافيًا لإيضاح تفاصيلِ السلوكِ لكلِّ الكائناتِ العاقلةِ على الأرض، وفي كلِّ كوكبٍ آخر، وفي كلِّ مجموعةٍ شمسية، هوَ مفهومٌ يستحقُّ الإهمالَ، فذلكَ هوَ مفهومُ نمطٍ واحدٍ منَ الكمالِ يهدفُ إليهِ الكونُ كلُّه»( مغامرات الأفكار: وايتهيد، ترجمة أنيس زكي حسن، ص439). وللحديث صلة.
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميس 15 ربيـع الاول 1427 هـ 13 ابريل 2006 العدد 9998)