نحو ترشيد الفتاوى على الإنترنت 1 ـ 2
في هذا الأسبوع فرضت مرجعية الفتوى نفسها على برنامجي أولا برنامج حواري في قناة «المجد» مساء الأحد، وثانيا في الكويت يوم الاثنين مع مستخدمي شبكة الانترنت حيث اشتركت اهم المواقع الخاصة الى جانب مواقع القنوات بالإضافة الى مواقع بعض الوزارات الاسلامية وكان الهم المشترك هو ترشيد المواقع من خلال تحديد مرجعية، حتى ولو كانت فضفاضة، لكنها ضرورية لعزل المواقع «الطفيلية» التي لا تلتزم بمنهجية المذاهب الفقهية المعتمدة بدعوى الاجتهاد واللامذهبية التي اتخذت جسرا يعبر عليه من يريد ان يفتي بما شاء متعلقا بظاهر آية او حديث ضاربا عرض الحائط بأقوال العلماء العارفين وتأويل الفقهاء الراسخين ومرجعيات الإفتاء المعتبرة.
ولهذا فيجب، لإرساء عملية الترشيد على أسس صحيحة، أن تترسخ لدى الجمهور والخاصة ايضا ثلاثة أمور:
اولا ـ التشديد على ان الفتوى وظيفة خطيرة دينا ودنيا حتى تستقر في النفوس هيبتها وفي القلوب رهبتها.
ثانيا ـ صفات المفتي المجتهد، لأن من يريد أن يتجاوز أقوال علماء سلف الأمة ليفتي برأي يخصه عليه ان يكون متصفا بتلك الصفات.
ثالثا ـ ان الفتوى صناعة، فمن لا يحسن هذه الصناعة لا يمكن أن يتعاطاها.
وسنشير هنا بشيء من الإيجاز الى كل واحد من هذه الامور الثلاثة.
اولا ـ خطر الفتوى ومسؤولية المفتي: حكم الفتوى الوجوب كفائياً فهي فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن البعض الآخر شأن فروض الكفاية ولكنها تجب عيناً إذا كان الفقيه مؤهلا ولم يوجد مفت غيره.
قال السيوطي في كتاب آداب الفتيا: باب وجوب الفتيا على من يتأهل لذلك وتحريم أخذ العوض عنه، أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة وإنه لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت ؟إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاّعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم?. فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم ولهذا ورد الوعيد.
ففي حديث رواه «الدارمي» عن عبيد الله بن جعفر مرسلاً: «أجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ».
وأخرج الدارمي ايضا والحاكم عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيا مِنْ غَيرِ تَثَبُتِ فَإِنَمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ».
وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوأْ بَيْتاً فِي جَهَنَم ومَنْ أَفْتَى بِغَيَّرِ عِلْمِ كَانَ إِثْمُه عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ومَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ» سنن البيهقي الكبرى.
وأخرج الشيخان عن ابن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ الله لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمُ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيرِ علْمِ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا».
وأخرج سعيد بن منصور في سننه و الدارمي و البيهقي في المدخل عن ابن عباس قال: «مَنْ أفْتَى بِفُتْيا وهُو يٌعْمِي فيها كان إِثْمُها عَلَيه».
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَشَدُ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيامَةِ رَجُلُ قَتلَ نَبِياً أو قَتَلَهُ نَبِيُّ أو رَجُلُ يُضِلُ النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ أو مُصَورُ يُصَورُ التَّمَاثِيلَ».
وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره «مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ لَعَنَتْهُ مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ومَلائِكَةُ الأَرْضِ».
وكان المفتون الصالحون يخافون الفتوى فيستخيرون ويدعون قبل أن يفتوا. ذكر ابن بشكوال في كتابه الصلة في تاريخ أئمة الأندلس أن عبد الله بن عتاب كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها في الآخرة ويقول:
من يحسدني فيها جعله الله مفتياً، وإذ رُغِب في ثوابها وغبط بالأجر عليها يقول: وددت أني أنجو منها كفافاً لا علي ولا لي ويتمثل بقول الشاعر:
تُمَنُونِيَّ الأَجْرَ الجَزِيلَ ولَيْتَنِي نَجَوْتُ كَفَافاً لا عَلَيَّ ولا لِيَا
وقال أحمد بابا التنبكتي عن نفسه إنه في فترة مقامه بمراكش بعد محنته: .. وأفتيت بها لفظاً وكتباً بحيث لا تتوجه الفتوى فيها غالباً إلا إليَّ وعينت إلي مراراً فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني. وكان ثابت البناني يقول إذا أفتى: قد جعلت رقبتي جسراً للناس. ثم ترك الفتوى. ذكر ذلك الزمخشري في ربيع الأبرار.
أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن ابن مسعود قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون. وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون.
قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله عن المفتين الجهلة: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مُداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
قال ابن القيم: الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً.
وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟
ولهذا قال العلامة ابن نجيم ما نصه: ومن هنا يعلم كما قال ابن الغرس رحمه الله تعالى إن فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين:
أحدهما: أن اطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع وإنما يسكتون عنها اعتماداً على صحة فهم الطالب.
والثاني: أن هذه المسائل اجتهادية معقولة المعنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة المعنى ومن أهمل ما ذكرناه حار في الخطأ والغلط.
وقال في البحر من كتاب القضاء عن التتارخانية: وكره بعضهم الإفتاء والصحيح عدم الكراهة للأهل ولا ينبغي الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء وعرف من أين قالوا فإن كان في المسألة خلاف لا يختار قولاً يجيب به حتى يعرف حجته وينبغي السؤال من أفقه أهل زمانه فإن اختلفوا تحرى.
*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 12 جمـادى الاولـى 1427 هـ 8 يونيو 2006 العدد 10054)