مقابلة العلامة ابن بيّـه مع مجلة الجسور

 

 

حاوره: د.عادل با ناعمة

                    

العلامة ابن بيّـه للجسور: أرفض النظرة العدائية المطلقة للغرب



* في سورة آل عمران قوّم الله مسيرة النصر والهزيمةِ على ملأٍ فلم ترفض الصحوةُ أن تقوّم مسيرتُها علناً؟


قال بعض السلفِ: إنّما العلمُ الرّخصةُ من ثقةٍ، أمّا التشديدُ فكلّ أحدٍ يحسنُهُ.. طالما تمثّلتُ هذه العبارةَ وأنا أصغي إلى الشيخ الجليل العلامة معالي الدكتور عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه. هذا الرجلُ الفريدُ الذي جمعَ في إهابِهِ نسك العابدِ، واستيعابَ الحافظ، وعقليّة الفقيه، وخبرةَ السياسيّ، وروحَ المربّي، وإشراقةَ الربّانيّ.. كذلك أحسبه والله حسيبُهُ.

ولقد امتاز الشيخ ابن بيّه بأنّه جمع بين العمقِ الشرعيّ الذي يجعله في مصافّ كبار علماء العصر، وبين الممارسة العمليّة للسياسةِ إذْ تولى خمس وزاراتٍ في بلده موريتانيا، وبين الاحتكاك المباشرِ بواقع الأقليات المسلمة ولا سيّما في أوروبا وأمريكا.. ومن كل هذا المزيج خريج الشيخ بنكهةٍ مختلفةٍ، وشخصيّة علميّة تربويّة سياسيّة متفرّدة.

في هذه القراءة لفكر الشيخِ تطرّقنا معه إلى مشكلة الأقليّات المسلمة، ولا سيّما من حيث التكييف الفقهيّ لقضاياها ونوازلها، حيث بيّن الشيخ أسباب اهتمامه بالأقليات واعتنائه بقضاياها، وأوضح بجلاءٍ أنّ للأقليّات فقهاً خاصاً بهم، لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وأنّ هذا الفقه ينبغي أن يبنى على التيسير والرخص التي ثبتت عن الأئمة، وقد أفاض الشيخ في بيان رؤيته لهذا التيسير وضوابطِهِ لئلا يتحوّل إلى اتباع للهوى.

 

كما تحدث فضيلتُه عنا الموقف من الآخر الغربيّ، وصرح بأنه يرى الغرب مناخاً مناسباً جدّاً للاستثمار الدعويّ، وأنّ النظرة العدائية المطلقة للغربِ مذهبٌ مرفوضٌ؛ لأنه يفوت فرصاً كبيرة لتوطين الإسلام هناك. وقال الشيخ: علينا أن نقدّم أنفسنا للغرب وللعالم كدعاة سلام وإسلامٍ لا كغزاةٍ‍. وأشار ابن بيّه إلى أنّ الحوار مع الغرب مطلوبٌ، وأنّ هذا الحوار إنما هو حوار تعايش وتحاور، ونعى على أولئك الذين يتصوّرون أنّ مجرّد الجلوس مع النصارى على مائدة الحوار معناه التنازلُ عن الثوابتِ أو المبادئ. وقد حاول معاليه أنْ يبيّن الأسس الكبرى التي تنبني عليها لغة خطابنا مع الآخر.

كما نبّه الشيخ إلى نقطة مهمّة جداً وهي إمكانيّة استثمار أحكام العصر المكيّ واستدعائها إلى واقعنا، واقع الضعف والذلّة، ونقل قول شيخ الإسلام بأنّ أحكام العصر المكيّ ليست منسوخة، وإنما كل شيء مرتهنٌ بوقتِهِ.

وعلى كلٍّ فقد جلنا مع الشيخ في نقاط كثيرةٍ مهمّة وساخنة كتقنين الفقه، واستضافة المطبوعات الإسلاميّة لرموز علمانيّة، ونقد الصحوةِ علناً عبر وسائل الإعلام من أجل تقويم مسيرتها، والنزاع بين مدرسة الفقه ومدرسة الحديث.

ويقيني قارئي العزيز أنك ستجد في هذا الحوارِ كثيراً من المتعةِ والعمقِ وحسن الفهم والتحليل، فإلى إجابات الشيخ حفظه الله.

 

* عرف عن معاليكم كثرة اهتمامكم بشؤون الأقليات المسلمة و لكم من الجهود في هذا الباب الشيء الكثير. ما سرُّ هذا الاهتمام؟ 

ربما يكون سبب هذا الاهتمام هو معرفتي الشخصية بأوضاع هذه الجاليات فهي بحكم وضعها تفتقر إلى كثير من العناية التي قد لا يفتقر إليها المسلمون في ديار الأغلبية المسلمة أو في ديار الإسلام، فالمسلمون هناك مهددون في هويتهم و في ثقافتهم و في أصالتهم وفي دينهم و عقيدتهم. وثمتَ سببٌ ثالث للاهتمام بالأقليات هو أنّ وجودهم هناك يعتبر كسباً عظيماً للإسلام، إذ لم يكن أحدٌ يتصور قبل قرن من الزّمن أن توجد أقلية مسلمة كبيرة في ديار الغرب؛ لأن الغرب كان منغلقا على نفسه منشغلا بالحروب التي كانت بين الكاثوليك و البروتستانت حتى إن إعلان حقوق الإنسان في الثورة الفرنسية كان عبارة عن مصالحة بين البروتستانت و الكاثوليك حتى يستطيعوا التعايش، و كثير من البروتستانت هربوا إلى أمريكا خوفاً من إخوانهم الكاثوليك ، في تلك الأجواء المتوترة بدأ في القرن الثامن عشر البحث عن التعايش هذا البحث عن التعايش اتّسع شيئاً فشيئاً حتى شمل اليهود ثم هو يتّسع ليشمل المسلمين، و من هنا نشأت أقليات مسلمة لها تأثيرها في قلب الغرب النصراني، و على قادة الفكر في العالم الإسلامي أن يهتموا بهذه الظاهرة -ظاهرة التعايش- في الغرب و أن ينموها و أن يرسخوها ، و أن يوطنوا الإسلام في ديار الغرب فإن هذا كسب كبير. لقد كان الأجداد يذهبون بخيلهم و رجلهم و أسلحتهم إلى البلاد البعيدة تارة ليكفّوا الغارات و تارةً ليُسمعوا الناس كلمة الله، و نحن اليوم بحمد الله نستطيع بالكلمة الطيبة و بالمنطق و بالعمل الصالح من خلال هذه الأقليات أن نسمع كلمة الله تعالى في ديار الغرب. 

لهذه الأسباب مجتمعة و لعوامل أخرى نفسية و شخصية أرى أنه يجب علي أن أعتني شخصيا و يعتني الإخوان بالمسلمين في ديار الغرب.


* و لكننا نلاحظ أن تركيزكم منصب على الأقليات المسلمة في أوروبا و أمريكا.

نعم؛ لأن هذه المناطق يسكنها كثير من مواطنينا من شمال أفريقيا و العلاقة بها قديمة جداً، ثم إنّ اللغة بيننا مشتركة فنحن كنا مستعمرة فرنسية، وقد نشأت على تقاليد وأعراف ولغة مشتركة مع هذه المناطق.


الغربُ ليس عدوّاً كله


* ظاهر كلامكم يا فضيلة الشيخ أنكم ترفضون النظرة العدائية المطلقة للغرب، تلك النظرة التي ترى أنّ كل ما في الغرب عبارة عن مظاهر مختلفة للعداء مع المسلمين لا تتيح للمسلم أن يتحدث أو ينشر دينه.

نعم أنا لا أرى ذلك، أنا أرى أن في الغرب مناخا يجب أن نغتنمه و نتعامل معه ونستفيد منه كما استفاد غيرنا. لا شك أنّ الطّريق ليست مفروشة بالزهور و الرياحين ككل طريقٍ للعمل، و أنّ بعض الشرائح في الغرب ما تزال تحكمها العقلية الصليبية، وأنّ ثمت عقول أخرى يحكمها الجهل و من جهل شيئا عاداه، لكن بصفة عامة هناك جوٌّ يمكن الاستفادة منه في أوروبا و أمريكا. ويمكننا في إطار هذا الجوّ أن نقدم الكثير.

وأعتقد أننا في هذا المجال ـ أي مجال التعريف بديننا و بيان قيمنا للغرب ـ لم نبذل جهودا كافية مع أن الأبواب هناك شبه مفتوحة .


* عفواً شيخي .. ألا ترى أن الغرب يرى نفسه أستاذ القيم الإنسانية، ومعلم البشرية في هذا المجال، فكيف لنا أن نعرض رؤيتنا وقيمنا؟ أعني بأي منطق وأي طريقة؟ وكيف لنا أن نقنعه أن قيمنا خيرٌ من قيمه التي يتشدق بها؟

يمكننا حقيقة أن نتقدم برؤيتنا ، وأن نؤصل حق الاختلاف و حق التنوع الحضاري و أن ما تمتاز به حضارتنا المسلمة و حقوق الإنسان فيها هو على مستوى المصدر و الموضوع والقيم، فمن حيث المصدر نحن لنا مصدر إلهي و مصادر غيرنا بشرية، و من حيث الموضوع و هو الإنسان لنا رؤيتنا و هي أن الله خلق الإنسان بيده، و نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وكرّمه بالنطق و العقل، أما الغرب فقد جرى طويلاً وراء نظرية دارون الذي يقول: إنّ الإنسان الأول كان حيواناً يمشي على أربع في الغابة ثم تطور حتى صار إلى ما عليه الإنسان اليوم! 

ومن حيث القيم نجد أننا نشترك معهم في قيم الحرية والمساواة، و لكن هذه القيم عندنا مقيدة بالعدالة: حرّية مع العدل، ومساواة مع العدل، فقيمة العدل تقوم دائما بتقييد القيم.

مثلا : الإنسان له حق في الحياة لكنه إذا اعتدى على أحد فقتله فالعدالة تقول له: لا حقّ له في الحياة و هكذا.

أقول مرة أخرى: إن تأصيل حقوق الإنسان، واختلاف القيم، يؤمّن قاعدة جيّدة للحوار حول هذه القيم، ومن ثم الوصول إلى نظرة مشتركة للعدالة. 

ولأجل هذا ومن خلال مجلّتكم نرى أنه لا مناص من إنشاء مراكز في الغرب، وأنا مستعدّ لأن أنشئ مركزاً و اختياري قد يقع على فرنسا للدفاع عن قيم الإسلام و الحوار حول القيم، نحن نريد أن نكون عنصرا فعالا في هذه البشرية.

أهم شيء بالنسبة لي –كما أسلفت- هو قضية حقوق الإنسان وحق المسلمين في التنوع الحضاري، وهذا أمر أهتم به كثيراً لما رأيت من تحامل في بعض الأحيان من الغرب على الإسلام والحدود والقيم الإسلامية؛ لذلك كانت محاضرتي في كاليفورنيا عن حقوق الإسلام مشهودة، وقد حضرها بعض أعضاء جماعات حقوق الإنسان، وقدموا إلي أنفسهم بعد المحاضرة حتى إنّ امرأة منهم صارت تحضر بعد ذلك محاضراتي الشرعية والفقهية و الأصولية.


لابأس بحوار النصارى


* لعل هذا الحوار الذي تدعون إليه حوار التعايش و ليس هو حوار التقارب الذي يصطدم مع قوله تعالى : {و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم }؟

نعم، هو حوار تعايش، ولكنّه أيضا حوار تعارف فهم لا يعرفون عنا الكثير و لا سيما الشعب الأمريكي فهو شعب مشغول بنفسه وليس له ماض استعماري في ديار الإسلام فلا يعرف عنه الكثير، و لذلك إذا عرفوا أسلموا. 

نحن لا نيأس ، ونحن نقدم أنفسنا للغرب كدعاة يريدون إنقاذه حتى من نفسه، ونحن نساعد هذه الحضارة على أن تكون عادلة و إنسانية و نعطيها قيم الإسلام.

وحتى أزيد الأمر وضوحاً ـ لكثرة من يشغب على قضية الحوار وأهلها ـ أذكر هذه القصة، مرة كنت في فرنسا وأجروا معي مقابلةً في التلفاز، فأظهرت مرونةً في التعايش مع غير المسلمين، حتى طمع المذيع وقال: لم لاتقول: إنهم على حق، والمسلمون على حق؟ فقلت: أما هذا فلا، فأنا أعتقد أني على الحقّ الوحيد، لكن أقبلُ أن أتعايشَ معهم بالعدل والحسنى. وبعض الناس يختلط عليه الأمر فلا يفرق بين التعايش وبين القبول، ومن هذا الباب الحوارات التي تقع مع النصارى وقد اشتركت فيها في روما ومدريد وباريس ولم يكن من المطروح مطلقاً أن نتنازل عن شيء من ديننا ولا حتى عن مندوب أو مكروه، وإنما كان الحوار حوار تعايشٍ وعرض للدين الحق، وفي الحديبية كان الحوار مع قريش حول هذه القضايا، قضايا التعايش وكف اليد والهدنة وغيرها مما يحقق الصالح العام.


* ولكننا يا شيخنا الجليل لا نجد في القرآن شيئاً عن ( محاورة ) الكافرين، وإنما نجدُ (المجادلة) كما في قوله تعالى: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)).

يا أخي .. ما الحوار في اللغة؟ هو أن يدور كلام بينك وبين شخص.

وما الجدال في اللغة؟ هو كذلك أن يدور حديث بينك وبين شخص.

فحقيقتهما إذن واحدة.

وحسبي أن أذكرك بأن الله تعالى سمى الجدال تحاوراً .. ألم يقل سبحانه : (( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ))، فسمى حديثها مع النبي جدالاً، ثم قال سبحانه: ((والله يسمع تحاوركما)) فسمّاه تحاوراً ؟ وقال تعالى ( قال له صاحبه وهو يحاوره..) سورة الكهف 

إذن .. الجدال هو الحوار أو صورة من صوره على الأقل، وقد أذن الله لنا بجدال أهل الكتاب كما في الآية التي أسلفتَها، وكما في قوله تعالى: ((فإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون)).وأمرنا به في قوله تعالى ( وجالهم بالتي هي أحسن) سورة النحل 

وفوق ذلك كله علينا أن نتذكر أن الإقبال على الإسلام اليوم شائعٌ، وأنّ الدعاية المضادّة تريد أن تستغل نماذج بعينها لترويجها، وتنفير الناس من الإسلام قبل أن يسمعوه، ولا بد لنا أن نسلك كل طريق ممكن لإسماع أولئك كلام الله ((وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله))، وأحسب أن الحوار بضوابطه الشرعيّة سبيل حسنٌ لإسماع أولئك كلام الله.


* ألا يشكل على ما تذكرون من دعوة للحوار ما امتلأت به كتب العقائد من نصوص تحذر من الجلوس إلى المبتدع والاستماع إليه بحجة أنه يلبس الحق بالباطل، ويتخذ لكل بدعة عنده شبهة قد تجوز على محاوره؟ وكتاب ابن بطة و غيره مليء بمثل هذه التحذيرات. كيف نوفق بين هذا و بين ما تدعون إليه من ضرورة الحوار مع الآخر الكافر؟

ما ذكرته صحيح، ولكن قال علماؤنا بعد ذلك: إن ذلك كان و راية الإسلام عالية، وصوته نديّ، و ساحته بريئة، أما اليوم و قد أصبح مخالفونا على المنابر فيجب أن نخاطبهم؛ لأننا إذا لم نفعل ذلك فسوف ننعزل. نحن الآن ننظر إلى أنفسنا كأكثرية في ديارنا لكننا أقلية بالنسبة لهذه القرية الكونية. 

العصر المكي ليس بعيدا منا، والنبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى عتبة و هو يتحدث ويقترح بعض المقترحات السخيفة بالنسبة للنبيصلى الله عليه وسلم ، لكنه مع ذلك قال: هل فرغت يا أبا الوليد فقال: نعم، فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن. 

وينبغي أن نعلم أنهم هم الذين يضرّ بنحلتهم سماع ما عندنا، ((و قالوا قلوبنا في أكنة و في آذاننا وَقْرٌ ومن بيننا و بينك حجاب))، لا يريدون أن يسمعوا لأن لدينا الحجة البالغة، فلماذا نتهرب من تقديم الحجة البالغة للناس؟ هذا لا يصح، و إذا سلكنا هذا السلوك فإنه سيقضي علينا في ديارنا.

 

لغة الخطاب مع الآخر


* لفت نظري استشهادكم بالعصر المكّيّ وهذا موضع سؤالٍ سأعرض له لاحقاً .. ولكني أودّ الآن سؤالكم عن حصيلةِ زياراتكم الكثيرة و حواراتكم المتعددة مع الغرب، ترى هل توصلتم إلى لغة خطاب مثلى مع الآخر الغربيّ؟ وما معالم هذه اللغة؟

معالم هذه اللغة تتحدد في كل بيئة من خلال جملة من المعادلات يستطيع الإنسان الذي له بصيرة و بصر واستبصار أن يرى من خلالها كيف يتكلم مع من يقابله، أنا أعتقد أن هناك جملة من الجوانب تنبغي مراعاتها:

أولا: علينا أن نقدم أنفسنا ونقدم هذا الدين على أنه منحة ربانية، ونقدم أنفسنا كدعاة إسلام و سلام لا كغزاة، و لا كمن يريد فرض نفسه على الآخرين ((ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)). 

ثانيا: علينا أن نتعرف على الآخر، ونعرف ما هي المبادئ التي يؤمن بها، وما هي القيم التي يحترمها، وما هي القاعدة التي تحكمه؟ إذا عرفنا هذه المبادئ استطعنا من خلالها أن نتكلم. 

قد نجد قيما مشتركة كما في قوله تعال : ((قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والأسباط.. )( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم و إلهنا وإلهكم واحد))، هذه قيم مشتركة بيننا و بينكم لماذا ننطلق إلى التفريعات؟ 

وأنا أقول: إننا نشترك مع الغرب حتى في لغتهم ! فاللغة الغربية فيها مفردات الصلاة والنبي والصوم فإذا قدمت له نفسك و مصطلحاتك فسيفهم هذه اللغة. و ليتضح الأمر أكثر أذكر أنّ أحد الغربين في القرن التاسع عشر كان يقول: إنّ الشيطان هو الذي علّم اليابانيين هذه اللغة حتى لا يدخلها الإنجيل! لأن لغة اليابانيين ليست فيها المفردات الدينية!


* نعود ياشيخنا إلى واجب المسلمين تجاه الأقليات .. ما صفات الداعية الذي يصلح للقيام بواجب البلاغ والإرشاد بين المسلمين هنا ك؟ و هل يمكن لكل داعية أن يقوم بهذا العبء؟

أنا أظنّ أن هذا الدور لا يستطيع أن يقوم به كل داعية و طالب علم لا بد أن يكون لهذا الداعية خلفية عن الواقع، و أن تكون له سعة أفق و اتساع نظرة، و أن يعرف أنّ الإسلام له عباءة واسعة يمكن أن تضم كثيراً من الأعراف و الأعراق و العوائد التي لا تنافي جوهر الإسلام و المتغيرات التي لا تنافي ثوابت الإسلام، و لهذا أنا أظنّ أنّ الداعية الذي يذهب إلى الغرب ينبغي أن تكون له مواصفات معينة، و أن يتلقى تكويناً معيّناً و أن يتكلم بلغة الغرب، و لست أعني باللغة لغة المفردات فقط، و إنما أعني أيضا لغة المنطق و لغة العقل التي يتحدث الناس بها في الغرب، أما الداعية الذي لا يتصف بهذه الصفات فإنه في كثير من الأحيان يضر أكثر مما ينفع.

و أحب أن أشير إلى قضية مهمة و هي أننا بحاجة إلى نوعين من الدعاة: من يعلّم الناس أمر دينها من صلاة و صيام و زكاة و ما إلى ذلك؛ لأن المسلمين في ديار الغرب يحتاجون إلى أن يتعلموا أحكام دينهم و أن يعمروا أوقاتهم بعبادة الله تعالى، لأنّ أكثرهم عمال يغدون صباحاً و يروحون مساءً فهم بحاجة إلى من يصرف معهم و يصرفون معه بعض الوقت ليتعلموا أمور دينهم. أما النوع الثاني من الدعاة فهم دعاة تثبيت العقيدة و الفكر والرؤية الاجتماعية و التعايش في ديار الغرب و هؤلاء يحتاجون إلى فقه كثير، و سمات خاصة تميزهم.


فقه الأقليّات


* سيدي .. مفاد حديثكم أنّ للقوم هناك فقهاً غير الفقه المألوف في ديار الإسلام، وفي حوار أجريناه في الجسور مع العلامة ابن جبرين قال عن فقه الأقليات: ” لا أصل له، فإنّ الأحكام متفقة والشريعة كاملة، وهؤلاء الأقلون يغلب عليهم التفرد بالأقوال الغريبة ومخالفة نصوص العلماء الموثوق بهم قديما وحديثاً”، وقال أيضاً: ” ولايجوز تكييف الفقه بحسب الزمان أو المكان أو ظرف العمل، وليس للإنسان أن يشكل مذهباً فقهيا، ولكن إذا جدّت مسألة يجتهد فيها”. هل توافقون على هذه الرؤية؟

أنا أرى أن الأقليات تعيش أوضاع الضرورة، أو الحاجة التي تلامس الضرورة، ولهذا فهي تحتاج إلى فقه فتوىً خاص، صحيح أن الفقه لا يتغير ولكن الفتوى تراعى فيها الضروريات والحاجات واختلاف الأحوال. فالأقليات في أوضاع تلامس الضرورة وبالتالي فإنّ هذه الأوضاع هي أوضاع رخصة وينبغي التيسير فيها.


* ولكن ما رؤيتكم لهذا التيسير؟ وماضابطه؟

أنا أرى أن الفقه يشتمل على أقوال كثيرةٍ، وينبغي أن نسلك بالأقليات السبيل الأسهل في نطاق الأدلّة، وقد وجدتُ أن ضبط المالكيّة للعمل بالقول الضعيف يصلح للأقليات، وبهذه الضوابط نحن لا ننفلت ولا نتتبع الرخص تتبعا مفرطاً ولكن نبقى في حدود المقبول عند العلماء. قال المالكيّة: إنّ الأصل في القول الضعيف ألا يعمل به إلا بشروط ثلاثة:

1ـ ألا يكون ضعيفا جداً.

2ـ أن يثبت عزوه لقائله.

3ـ أن تدعو الضرورة إلى العمل به.

بهذه الشروط يمكن أن نقلّد أبا حنيفة في بعض أقوالِهِ في دار الكفر، ونقلد الإمام أحمد في الجمع بين الصلاتين، وكذلك أشهب من أصحاب مالكٍ في جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاءِ، وبهذه الشروط يمكن أن نؤخر الجمعة إلى العصر لتصلّى في وقتٍ متأخر كمذهب مالك، أو نقدّمها كما هو مذهب أحمد، يجب أن نتفقّه ولا نفتي للأقليات بدون فقهٍ، ولكن نرخص لهم في حدود ما هو متعارف عليه عند العلماء، وبذلك يمكن أن نريح الناس.

وينبغي أن نتذكر أن هذه الأقليات تعيش في أوضاعٍ اليد العليا فيه للطرف الآخر، ولذا يجب عليها القيام بمجهود كبير حتى تتعايش مع الآخرين، وبعض من لا يدرك هذا كان يقترح أن تَدْرُسَ الأقلياتُ كتاب (أحكام أهل الذمة)! وهذه مشكلة، إذ أهل الذمّة لنا عليهم اليد العليا، والوضع الآن هناك مختلف تماماً، ولهذا فأنا أرى ألا يفتي أولئك إلا من جمع الفقه الشرعيّ العميق والإدراك الصحيح لواقع القوم هناك، ولا يكفي العلم الشرعيّ دون إدراك الواقع، وقد أشار ابن القيّم مراتٍ إلى أنّ من لا يعرف الواقع يجني على الشرعِ.

ومما أراه أيضاً في شأن الأقلياتِ أنه يجب علينا أن نقدّم لها ملخصات من الفقه تكون في متناول أيديهم بعيداً عن اضطراب الأقوالِ واختلاف الآراءِ؛ لأن الناس هناك يبحثون عن حلولٍ إسلاميّةٍ، وقد خرجت مرة من أمريكا بعد عشرة أيام ولم أستطع الإجابة على كل الأسئلة لكثرتها.


استثمار أحكام العصر المكي


* أشرتم من قبل إلى قضية مهمة و هي استثمار أحكام العصر المكي في جوانب من واقعنا المعاصر، ما نظرتكم إلى هذه المسألة ؟ وهل يسوغ لنا أن نستفيد من جوانب أخرى من أحكام هذا العصر؟ بمعنى هل يمكننا أن نستدعي ذلك العصر بأحكامه الخاصّة في زمان ضعفنا وعجزنا هذا؟

سؤال كبير جداً، و أعتقد أنّ السؤال في ديار الغرب قد يكون مطروحاً، لأنّ الأحكام السلطانية ليست مطلوبة من الأقليات الإسلامية، ويجب على الأقليات أن تفهم هذا، المناداة بتطبيق الحدود في الغرب ليست أمراً صحيحاً و ليست قضية مسلمةً، و المسلمون في أرض الحبشة لم ينادوا بتطبيق الأحكام، و لهذا فالعهد المكي هنا له أهميته، وشيخ الإسلام ابن تيمية قال: إن ّأحكام العهد المكي ليست منسوخة و كل شيء مرتهن بوقته.

ففي ديار الإسلام و في ديار الأكثيرية المسلمة في أوطانها التي تسمح لها القوانين بأن تتعامل مع دينها تُطبّق أحكام الله و حدوده، ولعلها أن تكون قدوة لغيرها حتى تطبق هذه الحدود، والمسلمون متمسكون بالحدود وبكل أحكام الله تعالى، وكلما لاحت لائحة الحرية ينادي الناس بتطبيق الحدود، و انظر إلى نيجيريا مثلاً كيف دعت منذ سنواتٍ قلائل إلى تطبيق الحدود.


* حديثكم هذا يقودنا إلى مسألة اختلاف الفتوى باختلاف الزمان و المكان والأحوال، هل نظفر منكم بكلمة شافية حول هذه القضية الشائكة؟

** أسئلتكم يا شيخ عادل طويلة الذيل كثيرة النيل! هذه المسألة مسألة كبيرة جداً، نحن نعرف أنّ كثيرا من العلماء أكّد على هذا و بخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم الذي أكد على الاهتمام بالعرف و بالبيئة التي تطبق فيها هذه الأحكام. الفتوى لا شك أنها تتغير و الشاطبي يقول: تتغير الفتوى في النازلة الواحدة باختلاف الشخص. هذا أصل لا نشك فيه لكنه أصل له حدوده. هناك ما نسيمه جدار الإجماع إذا وقف أمامي جدار الإجماع الذي يستند إلى نصّ و هو ما يسمى بالإجماع القطعي و النطقي هنا أتوقف. و كذا إذا كان أمامي النصّ الذي لم يكن مبنياً على عرفٍ معيّن؛ لأن النص المبني على عرف معين اختلف العلماء في دوارنه مع العرف ذكره السيوطي و غيره، أي أنّه نصّ بالمعنى الدقيق عند الجمهور وهو ما لا يحتمل تأويلاً إذا وقف أمامي دون معارض فأقول سمعنا وأطعنا و هذا دأب المؤمن. لكن إذا كانت ظواهر ولهذه الظواهر أعراض، و إذا كان وجد خلاف بين العلماء في مسألة معينة فهنا لا بأس بالترجيح، و أرى أن يكون الترجيح في جانب التيسير، و هنا تختلف الفتوى من بلد إلى بلدٍ و من مكان إلى مكان، وهنا يدخل فقه الأقليات، ويدخل التعامل مع الحاجات بمعناها الفقهيّ الدقيق، إذ بين الحاجة و الضرورة فرق و لكل منهما مساحة لا يتخطاها، فالضرورة هي الشيءُ الذي إذا لم يرتكبّه المكلف المضطر هلك أو قارب الهلاك، أما الحاجة فهي ما يشق على المكلف عدم فعله، وهنا تدخل الحاجة العامّة التي تنزل منزلة الضرورة فيما ليس بقطعي. وفي هذا الباب كلام طيب لابن القيم لم أجده لغيره وهو قوله: “إنّ الحاجة تبيح محرم الوسائل ولا تبيح محرّم المقاصد”، و قد كرر ذلك ثلاث مرات في إعلام الموقعين و في زاد المعاد. 

وفي هذا السياق وبهذه الاعتبارات تباحُ كثيرٌ من محرمات الوسائل بسبب الحاجة، ويُعدَلُ في كثير من مسائل الاختلاف إلى الشق الذي كان ضعيفاً،كمسألة شراء البيوت بالربا في ديار الكفر و قد أفتينا بجوازه.


* عفوا ، هل لكم أن تبينوا لنا الفرق بين محرم الوسائل و محرم المقاصد ؟

محرم الوسائل: ما حُرّم لكونه وسيلة إلى محرم، و الفعل في نفسه كان مباحاً، كما في قوله تعال : ((و لا يضربْنَ بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)) فالضرب بالرجل جائز أصلاً، ومنه ما في قوله تعالى: ((لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدْواً بغير علم))، وابن القيّم يقولُ عن ربا الفضل: إنّه من باب ربا الوسائل؛ لأنّ ربا المقاصد هو ربا النسيئة. وعندك كثير من المسائل في ديار الغرب كغيبة البَدَلَيْنِ في البورصات، و كثير من المسائل التي تحتاج إلى نبش في الفقه لإخراج مسائل الخلاف فيها، و تعضيدِ جانبٍ من جوانب الخلاف على حساب جانب آخر بناء على قاعدة التيسير، وبناء على اختلاف الزّمان و المكان، ولا ينكر تغيّر الأحكام بتغير الزمان و المكان.

 

تقنين الفقه


* شيخ عبد الله .. سأخرج عن إطار فقه الأقليات وإن كنت لن أخرج عن أبعاد الفقه والفتيا، ما رأيكم فيما يدعو إليه بعض الداعين اليوم من تقنين الفقه؟

في الحقيقة المسألة كما تعلم فيها أخذ و رد، من العلماء من يعارضها خيفة أن تكون وسيلة لتبديلِ الأحكام و تغييرها من منطلق بشريّ بحت، و منهم من لا يرى مانعاً من جعل هذه الأحكام في مدونة ـ ولنقل تدوين الفقه ـ يكون فيها مشهور المذهب الذي يحكم به، فنحن هنا في المملكة العربية السعوديّة نحكم بمشهور مذهب الإمام أحمد، و هذا هو الذي تجري عليه المحاكم، ومن أراد أن يعدل عنه فعليه أن يخبر لمحاكم العليا و مجلس القضاء الأعلى بنيّته تلك، ويقدم الحيثيات التي على أساسها خرج عن المذهب. 

ومعنى هذا أنّ هناك فعليّاً نوعاً من التقنين للفقه في هذه المحاكم.

وبعض الكتب كالمقنع و غيره هي محاولات لتلخيص مشهور المذهب، فتدوين مشهور المذهب قد لا يكون أمرا إدّاً، وعليه فأنا أقترح أن نبتعد عن مصطلح (تقنين الفقه) ونستبدل به مصطلح (تدوين الفقه) أو تدوين المشهور من المذهب.

في هذا الإطار ليس ثمت مانع من أن يدوّن مشهور المذهب ويوضع بين يدي الفقهاء بشكل واضح بناء على أنهم في الغالب ليسوا مجتهدين، والحق أنّ المحاكم في هذا الزمان تحتاج إلى تدوين الفقه حتى لا يميل القاضي، و حتى نتمكّن في المحاكمات الدوليّة وعند الاتصال بمحامين دوليين أنْ نقول: راجع في مدونتنا الصفحة الفلانية و اقرأها بتمعن. 

وينبغي أن تتضمَّنَ هذه المدونة فصولاً حول كيفية تقديم المرافعات إلى القاضي، وكيفية نظر القاضي في الدعاوى بحيث يفهم المحامي كيف يقدم الدعوى، ومارد الفعل الذي سيكون من القاضي، و يعرف أن الدعوى إذا كانت لها حيثيات مقبولة شرعاً فإن القفاضي سيقبلها، و يأمر الكاتب بتسجيلها، و سيوجه المدعي لتقديم البينات، وسيستجلب المدَّعَى عليه، ثم نَصِلُ إِلى مرحلة القرائن والأدلة و الأيمان ثم تصل إلى مرحلة البت و تدوين الحكم، هذا طيب جداً.


* إذن أنتم تؤيّدون (تقنين الفقه) على أن يسمّى (تدويناً) خروجاً من المحاذير.

نعم، أنا مع تغيير المصطلح، ومع تغيير المفهوم أيضاً؛ لأنه في الحقيقة تدوين كما فعل فقهاؤنا الأوائل عندما قاموا بتدوين المشهور من مذهب الإمام أحمد، وأحصوا الروايات والوجوه عارية عن الدليل.


* ألا تقودُ هذه التدوينات المذهبية إلى نزعةٍ إقليمية؟

لا أتصوّر هذا، لأن المسألة لا تعدو نوعاً من التقنين والتهذيب لما هو موجود أصلاً، فالمحاكم الشرعية في كل بلدٍ تحكم بمذهب من المذاهب، ولن يختلف شيءٌ إذا قلنا: اصنعوا مدوّنة قضائيّة لهذا المذهب أو ذاك.

ودعني أضيف لك بعداً جديداً من فوائد هذه المدوّنات، عندما تعلن بلادٌ ما رغبتها في تطبيق الشريعة فستكون هذه المدوّنات خير معين لها.

وقد أشرفت يوم كنت وزيراً للعدل على مدوناتٍ كتبت في موريتانيا في الأحوال الشخصية.

نحن نفهم الخشية التي عند العلماء من تحول الفقه إلى أمر تعمل فيه المراسيم و النظم، ولكننا نفهم أيضا أهمية أن تكون لدى المحاكم في هذا الزمان مدوّنات حاصرة نظراً لاتساع نظرها، وكثرة أعمالها، وقلة إحاطةِ بعضٍ من قضاتها بالفروع.


مدرسة الحديث ومدرسة الفقه


* حديثكم عن المدوّناتِ وما قد تحدثه من اتفاق الكلمة القضائيّة يذكّرني بما تشهده الساحة الفقهيّة من تشرذمٍ وتنابزٍ بسبب اختلاف الآراء، ولاسيما بين مدرستي: الحديث والرأي. أو بين المحدّثين والفقهاء، هل تؤمنون بهذه الانفصاليّة بين الجانبين؟ وهل الخلاف بينهما أمرٌ حتميّ؟

هذ الشقاق مشكلة كبيرة، ونرجو أن يتجاوزها الإخوة جيمعاً بالروح التي تجاوزها بها الأوّلون. كان أحمد محدثاً وفقيهاً، و لا يرى بأساً بالتقائه بابن معين و غيرِهِ من المحدثين، وكان الشافعيّ فقيهاً ويجالس المحدّثين. المحدّث يحتاج إلى الفقه، والفقيه يحتاج إلى الحديث، وهناك تكامل بين المدرستين لا بدّ منه. المحدّث إذا لم يكن فقيها لا يمكن الاعتماد عليه، والفقيه أيضاً إذا لم يكن له بصرٌ في الحديث وأصول الدّليل من كتاب وسنة فإنّه فقيهٌ ناقص، فلابد من التصالح والتضامن والتفاعل بين المدرستين حتى نستطيع مواجهة المشاكل الواسعة العريضة التي تواجهنا في هذا الزّمان والتي لا يمكن أن نتغلّب عليها إلا بصفٍّ مرصوصٍ، وفكر ثاقب، وفهمٍ واسع، والعباءة الإسلامية تسع الجميع.


* من المسائل التي دار فيها خلافٌ وجدلٌ بين الإسلاميين مسألة استضافةِ الوسائل الإعلامية الإسلاميّة لبعض من يصنّف في خانة العداء للإسلاميين، ما رأيكم في هذه القضية؟

الإنسان عليه دائماً أن يكون له ضمير حيّ. التمييعُ وهو ألا نعرف معروفاً، ولا ننكر منكراً هذا ليس صحيحاً. عندنا ثوابت دائمة، والحقّ حقّ وسيظلّ حقّاً، والباطل باطلٌ وسيظل باطلاً. نعم، قد يكون التعايش مع هذا الباطل ضرورة من باب ارتكاب أخف الضررين بتفويت أكبرهما، و اقتراف أهون الشرين لتفويت أعظمهما، أو من باب تفويت أصغر المصلحتين لتحصيل الكبرى. الإسلام مبنيٌّ على تحصيل المصالح و تكثيرها، وعلى درء المفاسد و تقليلها. 

هذه المعادلة من خلالها يجب أن ننظر إلى هذه اللقاءات.. إذا كان فيها مصالح يمكن تحصيلها أو مفاسد يمكن درؤها، كأن نتجاوز بعض النزاعات التي قد تكون دامية فلا بأس بها. أما أن تكون لقاءات لغرض اللقاء فحسب، ولبهرجة الباطل، وخلط الأوراق فهذا ليس صحيحاً أبداً، والأمر دقيق.


* قد يكون من أهداف هذه اللقاءاتِ التأكيدُ على أنّ حملةَ الإسلام وورّاث الرسالة ليسوا منغلقين ولا خائفين من أحدٍ، وأنهم أوسع الناس صدراً للحوار ثقةً منهم بما عندهم.

نعم، نحن لسنا منغلقين، يمكن إشعار الآخر أننا نملك الحجة البالغة و البرهان و بالتالي لا نخشى شيئاً. هذه قاعدتنا.


* يلحق بهذه القضية قضية أخرى، وهي إتاحة بعض الوسائل الإعلامية الفرصة لنقدِ الصحوةِ ومسيرتِها ورموزِها نقداً يرى أصحابُهُ أنه لتقويم المسيرة، ويرى آخرون أنّه ضربٌ من معاونةِ شانئي الصحوة ومبغضيها. هل من تعليق؟

تقويم المسيرة شيء طيّب، و في سورة آل عمران قُوّمَتْ مسيرةُ ما بعد بدرٍ وأحدٍ، ومن ذلك قوله تعالى: ((ولقد صدقكم الله وعده إذْ تَحُسُّونهم بإذنِهِ حتى إذا فشلتم وتنازعتُم في الأمرِ وعصيتُم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدنيا ومنكم مَنْ يريدُ الآخرةَ ثمّ صرفكم عنهم ليبتليَكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنينَ (152) إذ تُصْعِدون ولا تَلْوون على أحدٍ والرسولُ يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمّاً بغمٍّ لكي لا تحزنوا على مافاتكم ولا ما أصابكم والله خبيرٌ بما تعملون))، فها نحن نرى كيف قومت مسيرة المسلمين بعد الانتصار و بعد الهزيمة و على ملأ من خلال الوحي. فتقويم المسيرة شيء حسن .

لكن لابد من التنبيه على أنّ التقويم يختلف عن التجريح، ويختلف عن الشماتة ، نقوّم المسيرة أي نصحِّحُها، نلغي العنف من الحياة ونضع مكانه الدعوة الصحيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الواضحة. 

وأنا أشدّد على هذا المعنى لأنّ التجريح والشماتةَ باسمِ التقويم قد يفضيانِ إلى فتنة وفرقةٍ واختلافٍ وربما إلى تهارجٍ واقتتالٍ، والرسول  حذّر من ذلك تحذيراً شديداً ((لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، و قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ في شأن الطوائف التي تقتتل: ((إن بهرك السيف فاجعل الثوب على وجهك)). وهذا تحذير شديدٌ لا يفهمه إلا من رأى الاقتتال الداخليّ فعَرَفَ ضرورةَ تفويت أكبر الشرين بارتكاب أخفهما. 

أنا أعتقد أن مسيرة عشرين أو ثلاثين سنة رفعت فيها الصحوة أعلاماً، وتحرّكت في اتجاهات متعددة هي مسيرة لها أهميّتها، ولكنّها تحتاج إلى تقويم و إلى تقويم [الأولى بمعنى بيان القيمة، والثانية بمعنى تعديل العِوَج]، والأمر يحتاج إلى كلام طويل، والمهمّ ألا أفهم خطأً أنا أدعو إلى التقويم ولو علناً لكنّ التقويم عندي شيءٌ يختلف بالكليّة عن التجريح. 

 

Comments are closed.