قراءة في لقاء التلفزة الموريتانية مع العلامة ابن بيه

 

علي الحمدان- نبراسكا

قليلة هي تلك اللحظات التي نندمج فيها مع قنواتنا الإعلامية, حيث تعيش العقول النيرة في عزلة عنها بعد أن فقدت الثقة في قدرتها على البناء و تحمل المسؤولية في عصر تعيش فيه الأمة أزمة شاملة على كافة المستويات الحضارية. فغالب برامج الإعلام لا تعكس خططا نهضوية يمكن أن تعطي بصيصا من الأمل للخروج من الحالة الراهنة للأسف. بل على العكس, نجد أن الخطاب المعاصر ساهم في انقسام الوعي و تسطيحه إلى درجة جعلت من أبناء أمتنا كغثاء السيل.


لكن التلفزيون الموريتاني بإمكاناته المحدودة أعلن عن لقاء خاص مع شخصية عالمية هي العلامة عبد الله بن بيه حفظه الله, فكان هذا استثناء ثقافيا في الخطاب الإعلامي أجبر كل مهتم بالعلم و الفكر على عقد هدنة تلتزم صلحا مؤقتا يكفل التودد بينهم و بين الشاشة الفضية.


و كان الحوار قد أخذ ساعة من زمن فتناول محاور عديدة خاض فيها الشيخ بعباراته الدقيقة ذات الدلالات العميقة. فحاولت جهدي أن أجمع بعض تلك الفقرات في هذه المقالة التي تعبر عن فهمي المتواضع حتى يستفيد منها كل مهتم بالشؤون الثقافية و الحضارية. و من يدري, فلعل الله يمن علينا بفرص يتكرر فيها ظهور الشيخ على الشاشة في ظل حاجة ملحة إلى أمثاله من العلماء الربانيين لقيادة الخطاب الإعلامي الثقافي, و الله على كل شيء قدير.


صناعة الفتوى وفقه الأقليات :


وقد كانت بداية الحلقة ساخنة, و ذلك حين ارتكز الحديث في المحور الأول عن كتاب ” صناعة الفتوى وفقه الأقليات” ؛ فنجد أن الشيخ قد تعمد أن يجعل العنوان مثيرا ليدلل على أهمية الفتوى وعظم شأنها؛ فهي في حقيقتها صناعة مركبة ودقيقة لا يحسنها كثير من الناس ؛ بل تحتاج إلى متخصص يحيط بالأركان الثلاثة التي يقوم عليها بناء الفتوى و هي : إدراك الواقع بكافة تضاريسه , الإحاطة بالأدلة التفصيلية , و استيعاب الأدلة الكلية أو المقاصد.

و هذه العناصر بالرغم من تركيبها, عبارة عن مواد أولية تحتاج إلى صانع حاذق يحسن استغلالها؛ و هنا يبرز دور المجتهد الذي حقق شروط الاجتهاد فأصبح جديرا بالتوقيع عن رب العالمين. و هو دور مهم و خطير جعل النبي عليه الصلاة والسلام يحذر من التهاون في أمر هذه الصناعة حين قال: ” أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار” .


و مما ينبغي الإشارة إليه, أن الشيخ لم يكن أول من أطلق لفظ الصناعة على هذا الأمر؛ فقد سبقه بها الإمام ابن رشد و غيره من الأئمة. كما أن بعض الفقهاء استخدموا تعابير شبيهة لها نفس المضمون؛ فنجد أن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي قد استخدم كلمة “الاستثمار”, و مفهومها قريب جدا من الصناعة؛ فالقاسم المشترك بينهما هو العناية بالأجزاء و التراكيب الدقيقة للوصول إلى النتيجة المطلوبة.


و قد كانت هذه المقدمة عن صناعة الفتوى مدخلا هاما للحديث عما يعرف ب ” فقه الأقليات”؛ والذي أخذ مساحة من الجدل بين الفقهاء. فقد رأى بعضهم أن المجلس الأوروبي للإفتاء حين روج لهذا المصطلح أكثر من أي مجمع آخر قد أحدث فقها جديدا خارجا عن إطار الفقه العام و ما يتضمنه من أحكام شرعية خالدة.


لكن “فقه الأقليات” هو من باب الضروريات و الحاجيات الموجبة للترخصات و التيسير, و من ذلك ندرك أن أصول الفقه العام هي أصول هذا الفقه, و مقاصد الشريعة هي ذاتها معتبرة أثناء التعامل مع فقه الأقليات. فكان متعينا على كل معترض على المصطلح المستحدث أن ينظر إلى الصورة كاملة و ليس إلى زاوية محصورة في اجتهادات في أحكام فرعية.


ثم لفت الشيخ إلى مفهوم غائب عن بعض مدارك المتصدين للفتوى و يتعلق بفقه الأقليات , فالمقصد الأساسي من بلورته هو توطين الإسلام في بلاد أكثريتها ليست من المسلمين , فقد قال الله تعالى ” ونريد أن نمن على الذين اُستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ” . و لذلك فإن صياغة فقه للأقليات هي محاولة لنقل الفقه من الوضع الفردي إلى الوضع الجماعي في البلاد غير الإسلامية.


والفقيه المعني بالفتوى للأقلية الإسلامية , سيستحضر دائماً جملة من القواعد الموجودة أصلا في كتب التراث , لكنها أكثر لصوقاً بقضايا الأقليات المسلمة مثل : الضرورات تبيح المحظورات , الحاجات تنزل منزلة الضرورات , قاعدة التيسير , تقوم الجماعة مقام الإمام , اعتبار المآلات وغيرها من القواعد التي تنطبق في كثير من القضايا التي تنزل بالأقليات.


ثم بين العلامة ابن بيه أن فقه الأقليات يقوم على ثلاث أنواع من الاجتهادات :

1- اجتهاد مطلق غير مقيد , وهو اجتهاد إنشائي في قضايا غير منصوصة , كالدخول في الانتخابات وغيرها من المشاركات العامة مع غير المسلمين .

2- اجتهاد انتقائي : و هو الاختيار من أقوال العلماء ما يناسب الأقليات , وهذا له استخدام واسع .

3- تحقيق المناط : وهو تطبيق القواعد على واقع جديد بعد بروز انتمائه إلى قاعدة معينة .

فهذه الأنواع الثلاثة من الاجتهاد في جدلية مع النصوص الجزئية والمقاصد الكلية والواقع تنشأ عنها الفتوى ; وهو ما يجعلها صناعة دقيقة .


الإرهاب : التشخيص والحلول :


ثم تطرق الحوار الشيق إلى محور آخر ارتكز على بحث العلامة ابن بيه ” الإرهاب : التشخيص والحلول ” . فقد ذكر شيخنا أن مصطلح الإرهاب يعاني من أزمة معرفية عرقلت تعريفه. و هذا التأزيم يرتكز على حيلة تستغلها الدول الكبرى لضرب مصالح غيرها للأسف , حتى أن الأمم المتحدة على لسان أمينها العام اشتكت من عدم قدرتها على تعريف مصطلح الإرهاب.

وبصفة عامة إذا رجعنا إلى الأصول الغربية , فقد أُطلق مصلح الإرهاب لأول مره في نهاية القرن الثامن عشر على حكومة الثروة الفرنسية , و كان محصورا على العمل الحكومي أول الأمر , ثم انتقل ليصف كل عمل منظم مرتبط بمقصد سياسي يهدف لتحريك الوضع و إثارة الفوضى .


لكن الشيخ نظر إلى الموضوع من زوايا أخرى لصيقة بالتراث الإسلامي فوجد في جريمة البغي , وجريمة الفساد في الأرض , وجريمة الحرابة ما يغطي كافة المساحات الضرورية لتعريف المصطلح القضية إذا تعاملنا معها بالعدل والقسطاس المستقيم . و هذا سيساهم في تلافي التعامل مع مفهوم عائم يسمح بتجريم الأبرياء تحت دعوى بلا سند حقيقي .

و لعل اكبر أزمات المصطلح العائم بوضعه الراهن أنه يجرم كثيراً من الأفكار أو الأشخاص حتى وإن لم يساهموا بالشروع في عمل خطير , أي دون اكتمال أركان الجريمة.

ثم ذكر الشيخ أنه طرح عشر نقاط للحوار الذي لو تم سيجد حلولا عملية. و هذه الحلول تستند إلى مفاهيم مشتركة بين الحضارات والثقافات هي: المنطق والعقل والأخلاق , ومن خلالها فقط يتم تعريف المصطلح و تحديد مضمونه ليحظى بإجماع عالمي . ومن أهم النقاط العشر هي : إزالة المظالم , و إعادة النظر في بعض المحفزات الفكرية للتطرف مثل التفسيرات الحرفية للنصوص الدينية. 


حساسية مفرطة من تزايد عدد المسلمين في أوربا :


ثم تطرق الحوار إلى المؤتمر الذي أقامته الحكومة البريطانية في اسطنبول مؤخراً . وحضره عدد كبير من الرموز الإسلامية , وكان الهدف منه استكشاف الساحة الفكرية الإسلامية؛ حتى يبحث عما يمكن تقديمه للمسلمين في أوروبا لمعالجة أوضاعهم و إخماد نار متربصة تنذر بانفجار قريب و صدام محتدم.

ويأتي هذا تزامناً مع الحساسية المفرطة عند بعض شرائح المجتمع الأوربي تجاه تواجد المسلمين كأقليات متزايدة. وقد بدأت انعكاسات هذه الحساسية تأخذ صوراً متطرفة مثلما حدث في فرنسا و الدانمارك و غيرهما من الدول.

وقد اعترف رجل دين فرنسي أن الإشكال يكن إجماله باختصار في ” تغير المشهد”, فالأوربيون رأوا أن الإسلام بدأ ينتشر بشكل كبير و هو ما حرّك شياطين العنصرية.

و ما ذكره رجل الدين الفرنسي للشيخ بن بيه قريب جدا مما ذكره بوزار في أحد كتبه, فالأوربيين عندهم “عقدة الأقارب”؛ فحضارتهم بينها كثير من العلاقات والقرابة بالإسلام , وتجد فيها كثيراُ من القيم المشتركة؛ كما أنها تعاني أيضا بما يعرف ب “عقدة المصالح”.

وذكر الشيخ انه قام بزيارات كثيرة إلى أوربا ليستجلي الساحة جيدا حتى تتم بلورة الحلول و تحقيق التقارب بمفهومه الإيجابي, لكن الإشكال أن زوايا النظر ما زالت مختلفة بين الثقافتين. وقد قال الشاعر :

تأمله الخلي فقال غنى ومثله الشجي فقال ناح 

فلا عجب أن نجد من المسئولين الكبارهناك من يعتبر ما يجري في غزة هو غناء بينما هو نواح بالنسبة لنا , حتى أصبح منقطهم بالنسبة لنا منطقاً أعوج.

و لا يعني هذا تبرئة كافة العناصر الإسلامية من التطرف و الانحراف في الفهم, فهناك فئات ارتكبت أخطاء مميتة و لم تفهم حقيقة دينها فأساءت إليه, وهذا ما جعل بعض الأطراف تستغل صورتها السيئة لتعمها على بقية المسلمين . وهو ما يحفزنا إلى مكافحة كل ثقافة ضيقة أو حرجة و إصلاح داخل البيت أولا.


حوار الأديان :


ثم تطرق الحوار إلى محور حساس يتعلق بحوار الأديان وشرعية مشاركة الشيخ فيه؛ حيث يتحفظ كثير من العلماء على هذه المؤتمرات الحوارية لما فيها من محظورات شرعية , ومن ذلك ما جاء في البيان المشترك لحوار مدريد من أن إلهنا واحد , فاعترض البعض على هذا اعتراضا شديدا. لكن الشيخ ذكر أن الله قال في كتابه ” قولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد ونحن له مسلمون ” .

فالحوار واجب شرعي ” وجادلهم بالتي هي أحسن ” ” ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ” ؛ و الجدال هو الحوار ” قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله “. وكل هذا في النهاية دعوة إلى الحوار والسلام ودرء المفاسد , وهي من مقاصد الشريعة الهامة .


بين السلفية والصوفية :


ومن المحاور الجميلة ما استند إلى ما قد ذكره العلامة يوسف القرضاوي في ثنائه على العلامة بن بيه من أنه يجمع بين “السلفية و الصوفية”. فالمفهومان كما يراهما الكثيرون لا يوجد بينهما أرضية مشتركة كافية للترويج بمبدأ الجمع الذي ذكره القرضاوي.

لكن الشيخ ذكر أنها حرب مصطلحات تغفل كثيراً عن ما يدخل فيها من المضامين . فالصوفية قد استعملها العلماء في الصدر الأول , ولم تكن تتضمن شحنة من شأنها أن تنفر الآخرين , بل كانت تدل على الزهد وعلى الإقبال على الآخرة والسمو في الأخلاق , وهذا كله من صميم الإسلام . والله سبحانه وتعالى يقول ” وذروا ظاهر الإثم وباطنه “, فإن كانت الصوفية تبحث عن باطن الإثم لإزالته و تروج لمرتبة الإحسان فهذا من المطالب الشرعية , أما إن كانت كما يريدها البعض خرافات و خزعبلات وخروجا عن الدين , فهي مفهوم خاطئ لم يلتزمه كثير من الصالحين والعلماء الزاهدين الذين ينشئون الأجيال على الرحمة بالخلق وعبادة الحق.

والسلفية أيضا نحاكمها بناء على المضمون, فإن كانت عبارة عن فهم السلف أو ما كان عليه السلف, ومثل هذه الالتزامات الشرعية السامية, فلا شك أنها مقبولة . فالقاعدة انه لا مشاحة في الاصطلاح, والأصل هو المضمون الصحيح الذي يستسقي من الكتب و السنة.


المحظرة الموريتانية و عناصر التميز:


و لعل الفضل الأول في موسوعية الشيخ بعد الله تعالى يرجع إلى المحظرة, و قد أصبحت كلمة مألوفة يعرفها الناس بعد أن غزا كبار العلماء الشناقطة بلاد المسلمين كافة, فأظهروا تميزا استثنائيا في الحفظ و عزو الأقوال إلى مراجعها.

ففي المحظرة, يتحرر طلبة العلم من كل مغريات الحياة و همومها, مهادهم الأرض و سقفهم السماء الزرقاء, لا يحتاج الطالب فيها إلا إلى الهمة و الإخلاص في العمل.

ومن عناصر التميز التي سمت بقيمة المحظرة هي طبيعة العلاقة بين المعلم و طلابه؛ حيث يعيش المعلم بينهم ليأخذوا منه العلم و العمل معا. فالعلاقة على هذه الصفة أصبحت غائبة في أغلب المؤسسات و المدارس الشرعية الرسمية المتناثرة في أنحاء العالم الإسلامي, وهو ما أثر سلبا على مستوى الطالب و المعلم في تلك البلاد.

و ذكر الشيخ أن الرجل إذا ابتدأ في دراسة الفقه صعب عليه أن يكون أديبا. لكن هذه القاعدة لها شواذ كثيرة في بلاد الأندلس و موريتانيا خصوصا. و هي ميزة نادرة يجب استثمارها؛ فالفقيه إذا كان أديبا فبإمكانه أن يصبح أصوليا بارعا نظرا للارتباط الوثيق بين الفقه و الأصول و اللغة العربية. فكان لزاما على طلبة العلم الموريتانيين الاستفادة من تميزهم في جمع هذه العلوم الثلاثة حتى تنتفع بهم الأمة أكثر في ظل حاجة ملحة إلى عدد كبير من الأصوليين المتمكنين.


أبرز الإشكاليات الفقهية المعاصرة:


و نبه الشيخ في آخر محاور الحلقة إلى بعض الإشكاليات الفقهية المعاصرة, و هي أكثر من أن تحصر. فالغرب –مثلا- حين صدر إلينا السلع جاءت معها وسائل التبادل و التعاون, كما لازمتها بعض القوانين التي تحكمها و تنظم سيرها و تروجها مثل الإيجار المنتهي بالتمليك, و البيع مع غيبة البدلين, و قضايا التضخم …..إلخ. و كل واحدة منها كانت بحاجة إلى بحث دقيق لتنظيم عملها وفق الضوابط الشرعية. و من المستجدات أيضا ما يتعلق بالقضايا أو المسائل الطبية مثل: زرع الأعضاء, نقل الأعضاء من شخص إلى آخر و غيرها.

و المجلس الأوروبي للإفتاء أكثر من يتعامل الإشكاليات الفقهية في الأحكام و المعاملات. و من أشهر القضايا قضية إسلام المرأة و زوجها نصراني. فالمذاهب الأربعة تقول بالإبانة فورا أو بعد انقضاء العدة. لكن المجلس وجد أن المرأة قد تفتن في دينها حينما تجبر على ترك زوجها, فتخسر الجالية المسلمة عناصر مهمة و حيوية من وراء هذا؛ فدفع هذا بعض الفقهاء إلى البحث عن اجتهادات أخرى.

فكان من حسن الحظ أن ابن القيم و غيره قد نقلوا أقوالا صحيحة عن عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و مجموعة من التابعيين تقول بجواز بقائها مع زوجها بعد إسلامها, فاستغل المجلس الأوروبي هذه الاجتهادات القوية ليحقق مقصدا شرعيا هاما و هو حفظ الدين. و يبقى هذا الاجتهاد غير ملزم, فمن شاء أخذ به و من شاء تركه , و هو يستند إلى شبهة, و الشبهة تنزل منزل الكراهة عند المالكيين.

و من المستجدات الفقهية قضية إثبات النسب عن طريق اليصمات الوراثية, و قد رأى بعض العلماء أن المرأة يجوز لها أن تطلب إثبات النسب عن طريق البصمة الوراثية. لكن الشيخ لم يوافقهم على اجتهادهم, فاللعان منصوص في القرآن, ثم إن الشريعة كما أنها تظهر الحقيقة فإنها تهدف إلى الستر. و هذا ما يميزها عن القانون الوضعي الذي يحصر عمله في إظهار الحقيقة دون غيره من المقاصد المهمة.

 


 

Comments are closed.