العلاَّمَة طه جَابر العَلواني كما يَراه العلاَّمَة عَبد الله بن بيّه – بقلم د.إيهاب السامرائي
الحمدُ لله ربّ العَالمينَ والصَّلاَة والسَّلاَمُ علَى سيّد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
إنَّ المتابع للعلامة ابن بيّه فسيَجدُه قليلَ الكلاَّم جداً ، يبتعد كثيراً عن الحديث عن الناس ومواقفهم ، يتخذ من صلاح نفسه منهجاً مقدماً على أن يحكم علَى الآخرين ، وإذا تكلَّم فيَعْرضُ ولا يُصرّح ، ويَتخذُ منْ محور الأفْكَار مُنطلقاً لميدان بحثه وليس لعالم الأشياء مجال ونصيب في منهجه وقلمه .
ولم نر العلاَّمة ابن بيّه يتصدر للحديث عن العلواني بالسيَّاق الأصْلي ؛ إذْ لم يَقُم بالحديث عَنه وعن مَنْهجه الفكْري بدَافع شَخْصي أو لنُصْرة فكْرَته التي تُخالف فكرةَ العلواني ؛ بل كان حديثه علمياً وسطياً مما جعل العَلواني يثبتُ نظرةَ العلامة ابن بيّه في كتابه .
وبرغم أن النُّصوصَ التي تحدث فيها العلامة ابن بيّه عن زميله العلواني قليلةٌ جداً ، إلا أننَّا نَجدها تَحتوي على حمُولة كَبيرة من المعاني والمجَالات الفكرية التي تسلط الأضْواء عليها ، وقدم صورة متكاملة تعطي للنَاظر مدخلاً مفيداً لزيادة الاطلاع على هذه القامة العلمية ؛ وهكذا يرسخ منهجاً وسطياً للتعامل مع المخالف واتْخَاذ المنْهَج العلميّ الإسْلامي السَّليم في الحكم عَلى المخالفين .
ونحنُ إذ نُشير إلى رؤية العلامة ابن بيّه لزميله العلواني فنَحن لا نحاول الاقتصار على هذا فقط ، وإنّما نَهدفُ كَذلكَ لتقديم منْهجيَّة العلاَّمة ابنُ بيَّه في نقده للمُخَالفين لَه ، متمثلة فيه أرقى وأسمى أخلاقيات أدب الاخْتلاَف والحُكم عَلَى الآخَرين .
وقبل الدُّخول لرؤية العلامة ابن بيّه أود الإشَّارة لترجمة سَريعة للعلاَّمة العلواني :
د . طه جابر العلواني
ولد في العراق عام (1935) ، وتوفي عام (2016)
رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية .
آثاره :
نحو التجديد والاجتهاد
الجمع بين القراءتين
الأزمة الفكرية ومناهج التعيير
التعليم الديني بين التجديد والتجميد .
ويمكن توزيع رؤية العلامة ابن بيّه للعلواني على جملة من المحطات :
المحطة الأولى : رؤيته على المستوى الشخصي :
كما أشرت سابقاً بأن القصد من الحديث عن العلامة العلواني وقع بالسّيَاق التَّبَعي وذَلكَ بطَلَب منْهُ بعَرض كتَابه ” إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى يومنا هذا ” على العلاَّمة ابن بيّه ليَقُومَ بالنّظَر فيه ونقَاشه في ما تضمنه كتابه من آراء واجتهادات ، فجاء رد العلامة ابن بيّه ايجابياً فقام بالاطّلاَع عَلى الكتاب وسجَّلَ مُلاَحَظاته ، وقَد أشار لبعض الملامح من نظرته للعلواني وفكره الاجْتهَادي بنُصوص قَليلة تَحمل قَدْراً كَبيراً من الاشَّارات الكَبيرة التي توحي للمطالع بعمق المعرفة بالرجل وبفكره ، وبرسم منهج فريد يُحتذى به في الاختلاف .
ويُصرّح العلاَّمة ابن بيّه بهذَا الأَمْر بشَكْل وَاضح لعَلاَقته بالرَّجل ، ويُضيف إليها المشاعر الودية نحوه ، ولإيمانه بإخلاصه في الدفاع عن الشريعة دفعه للكتابة فيقول : ( فضيلةَ الدكتورِ طلبَ مني مراجعتَه لإبداءِ الرأيِ وأنه يعزُّ عليَّ أن أُعرضَ عن طلبه لما أشعر به نحوه من الود ولما ألمسه من الإخلاص)
المحطة الثانية : رؤيته للجانب الاجتهادي :
وأما رؤيته لسيرة الرجل على المستوى الاجتهادي فإننا نجده يتحدث عن قامة علمية سامقة لها جذور كبيرة ، وإعداد علمي متين ، واستعداد معرفي مكين ، يتخذ من أصول الشريعة مستنداً ومعتمداً ومنطلقاً ورجوعاً تأصيلاً وتوصيلاً .
وتتمحور رؤيته للجانب الاجتهادي للعلامة العلواني بثلاثة زوايا :
الزاوية الأولى : التمكن العلمي :
ينظر العلامة ابن بيّه للعلواني باعتباره يمثل (عقلية اجتهادية فذة) ، تتخذ الرؤية الشاملة للشريعة الإسلامية في معالجة القضايا الكبرى ، وأحد أعمدة (التوجهات المقاصدية الكلية ) في الوقت المعاصر ، وترسم مؤلفاته سلكاً منتظماً قوياً تندرج تحت رؤية (لمشروع كبير ) لإصلاح الأمة بتقديم جملة من الاجتهادات الفكرية على المستويين النظري والعملي ، ويترجم هذا الأمر قوله صراحة (أعتبره عقلية اجتهادية فذة ذا رؤية شرعية شمولية وتوجهات مقاصدية كلية وهو صاحب مشروع كبير )
الزاوية الثانية : المعيار الاجتهادي :
إن الجانب الاجتهادي لدى العلامة العلواني الذي أشاد به العلامة ابن بيّه لم يكن يصرح به من فراغ ؛ وذلك لأن الرؤية الاجتهادية الكلية والجزئية كي تنال القبول من لدن المتخصصين لا بد أن تلتزم بالمعايير العلمية المقبولة ، والتي تتخذ من أصول الشريعة منطلقاً رئيساً في التأصيل والتوصيل .
ويصرح العلامة ابن بيّه بذلك بقوله : (هو عالمٌ أصوليٌّ ضليعٌ يتعاملُ مع موضوعاتِه بواسطةِ الأدواتِ المتعارفةِ تعضيداً وتفنيداً وجرحاً وتعديلاً وتفريعاً وتأصيلاً.(
وبهذا النص القصير يوضح العلامة ابن بيّه جانبين مهمين :
الأول : الانطلاق من الأدوات المعرفية الأصولية : وذلك باعتبارها تمثل معياراً حاكماً تلقته الأمة بالقبول ، ومثل خلال القرون السابقة خير برنامج عملي لمواجهة التحديات التي يفرضها الواقع ، وهذه المنهجية نحاكم من خلالها أي دعوى اجتهادية .
الثاني : الانطلاق في المجالات الاجتهادية : يوضح هذا النص المجالات التي تتيحها الأدوات المعرفية الاسلامية للإجابة عن تحديات العصر ، وتقديم البرهان على سعة الشريعة وشمولها ، وهي :
1. التعضيد
2. والتفنيد
3. والجرح
4. والتعديل
5. والتفريع
6. والتأصيل
وهذه شهادة من العلامة ابن بيّه لزميله العلواني بأن مشروعه الاجتهادي كان ملتزماً بقواعد الشريعة تأصيلاً ، وقد استثمر أدواتها تشغيلاً لجوانبها الستة في مواجهة التحديات .
الزاوية الثالثة : التراث والمعاصرة :
ويشير العلامة ابن بيّه لجانب آخر يمثل الجانب التكاملي الذي يفرضه واقع العصر من المزاوجة بين الأدوات المعرفية الاسلامية ومعارف العصر .
وفي المقابل يشير إلى أن زميله العلواني كان يناقش القضايا المعاصرة انطلاقاً من الأدوات المعرفية الإسلامية ، ولا يحاكمها بأدوات معرفية من خارج البيت الإسلامي ، فهو ابن بار للتراث الاسلامي وإن كان يرفع لواء التجديد ، فرفع شعار التجديد مع إحكامه للأدوات المعرفيَّة ليس مدعاة لرفضه أو قبوله ؛ وإنمّا يُقَاس قبُوله ورَفضه بمدَى التزامه بالأدَوَات المعرفيَّة الإسلامية المضبوطة .
ويصرح بهذا بقوله : ( الشيخَ طه ليس من نوعية المفكرين أو المثقفين الذين يعالجون قضايا الإسلام والشريعة من خلال منظوماتٍ فكريةٍ خارجةٍ عن المناهج المعتمدة عند علماء المسلمين )
المحطة الثالثة : الدفاع عن فكره :
وهذه المسألة امتداد لسابقاتها ، فيحاول العلامة ابن بيّه أن يرفع الارتياب ويوضح الأمْرَ على مَنْ لم يَفْهَم جَلياً منْهَجَ العلاَّمَة العلواني إذا رأى اجتهادات غريبةً نسبياً ؛ كي يتأنى بالحكم ويتريث قبل أن يحكم على الرجل ويصفه بأمر هو منه براء . فيقول : ( إنَّ الدكتورَ طه ليسَ علمانياً يبحث عن هدم الدين بمعاول التشكيك والتفكيك ، بل هو رجلٌ مدافعٌ عن هذا الدين قولاً وعملاً منذ نعومة أظفاره، وقد ابتُليَ في هذه السبيل ضاعف الله أجره وما صدَّه ذلكَ عنِ الدعوةِ وإقامةِ الحجَّة ( .
المحطة الرابعة : رؤيته المنهجية في الحكم على المخالفين له :
يضرب العلامة ابن بيّه أروع الأمثلة في أدب الاختلاف بين أهل العلم ، بغية إحياء هذه السنة الميتة ، والتي تطاول عليها الزمن ، وأصبحت الذرائع متعددة لانتهاك حرمة العلماء بمجرد مخالفته بالرأي .
إذ المنهج الوسطي المحمود أن تكون حرمة العلماء من القذف بالألسن مصونة كدمائهم ؛ فمن تجرأ باللسان فقد فسح المجال للسيوف أن تأخذ دورها .
ويضع العلامة ابن بيّه المعيار المنضبط للتعامل مع المخالف بالرأي وذلك بسلوك اتجاهين :
الأول : احترام أهل العلم وتقديرهم والاختلاف معهم ، وعدم رفعهم إلى مقام العصمة ، .
الثاني : الالتزام بالمنهج العلمي بالخلاف وعدم المخاصمة والوصول الى الفجور .
ويتمثل هذا الأمر بقوله : ( والشيخُ عالمٌ من علماءِ الشريعةِ، وكونُه عالماً من علماء الشريعة يقتضي حقَّ الحرمة ولا يقضى باستحقاق العصمة).
وأخيراً : فقد اطلعنا على منهج فريد تطبيقي لأدب الاختلاف والانصاف في الحكم عند العلامة ابن بيّه لمنهج العلامة العلواني ؛ إذ لم تكن هذه النصوص جاءت في سياق مدح ولا هجاء ، وإنما فرضتها داعية البحث العلمي المجرد .
رحم الله العلواني وأطال بقاء ابن بيّه
الدكتور إيهاب اللمعي السامرائي