الشيخ عبد الله بن بيه ومشروع تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة
إذا كان انتماء الأفراد إلى الجماعة يعد عاملا قويا في تهذيب أخلاقهم، والتخفيف من عنفوان غرائزهم وأنانيتهم؛ فإن ذوبانهم في “جماعة ضيقة”، وشدة تعصبهم لها، على حساب انتمائهم الانساني العام؛ قد يحولهم إلى أدوات للقتل والعنف
في يد هذه الجماعة بسبب انصهارهم في نظامها الاجتماعي الصارم، وما لديها من تاريخ وأنساق وتصورات، واعتقادهم أن جماعتهم هي الافضل بين الجماعات؛ وأن نظامها الاجتماعي هو معيار الحق الذي يتعين على البشرية أن تتبعه، وأن أفضليتها المتخيلة تبيح لها السيطرة على المجموعات الأخر ى المختلفة عنها دينا او لغة أو انتماء أو تفكيرا . وهو من شأنه أن يفقدهم ضميرهم الانساني أو وجودهم الخلقي، ولعل هذا ما تنبه إليه الفيلسوف “إيمانويل كانت” في كتابه “مشروع للسلام الدائم” عندما دعا إلى إلغاء الجيوش الدائمة إلغاء تاما، وخلص إلى :”أن استئجار الناس لكي يقاتلوا أو يقتلوا معناه فيما يبدو اننا نعاملهم معاملة الآلات المحضة أو الأدوات في يد غيرهم”.
وقد نتج عن هذا التعصب الأعمى للجماعة الضيقة على حساب غيرها من الجماعات الأخرى تاريخ طويل من الصراع والحروب؛ وانتج تراثا هائلا من ثقافة الموت والحقد والكراهية؛ التي تتنافى مع الرحمة والعدل والسلم والأخوة الإنسانية الجامعة، وهو ما يتجلى في أدب “الملاحم” واعتبار الموت في معمعان الحرب شرفا، والمبالغة في سفك الدماء بطولة، والجنوح إلى السلم مذلة، فلما جاء الإسلام أحدث قطيعة حضارية شاملة مع هذه الثقافة التي كانت مترسخة في الاذهان، وقيمها المتمثلة في “الشجاعة” وعشق القتال والحرب؛ وهو ما يعد ثورة ثقافية كبرى في ذلك المجتمع القبلي الجاهلي الذي كان يتباهى بالشجاعة و”الفتكة البكر”؛ قال تعالى: { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم }، فكان الإسلام – بذلك – مجددا لرسالات الأنبياء من قبله، ومصدقا لها، كما ورد في الانجيل على لسان عيسى -عليه السلام – :” أحبوا اعداءكم باركوا لاعنيكم احسنوا الى مبغضيكم و صلوا لأجل الذين يسيئون اليكم و يطردونكم”.
لقد صاغ الإسلام عقائده وعباداته وشرائعه وأخلاقه وفق رؤية حضارية تنشد السلم في أسمى معانيه، باعتباره هو الأصل الذي يجب أن يحكم علاقة البشر ابتداء،. والهدف الذي يتعين عليهم التحرك لتحقيقه. { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا}
وإذا كانت ضرورات الاجتماع البشري قد فرضت على المسلمين إقامة دولة في المدينة المنورة لتسيير شؤون الجماعة المسلمة بعد تشعبها واتساعها، فإن الاسلام إنما أذن لهم – على سبيل الاستثناء – في دفع الظلم والعدوان فقط، وحرم عليهم تجاوز ذلك حتى لا يتوسعوا في الحرب؛ بل إنه أمر هم بالإحسان إلى الأسرى، والبر بالمخالفين الذين لم يقاتلوهم في الدين؛ وهو ما يتنافى مع ثقافة الثأر والانتقام التي كانت سائدة.
لكن الحروب التي اشتعلت بين المسلمين وبين أعدائهم – عبر التاريخ – والتي توجت بالاستعمار الاوربي، وجهاد حركات التحرر في العالم الإسلامي، ستنتج أراء واجتهادات يمكن – إذا ما نزعت من سياقها التاريخي وملابساتها السياسية والاجتماعية – أن تكون “حاضنة ثقافية للعنف” كما هو الحال بالنسبة إلى بعض الأقوال المبعثرة في كتب التراث القديمة التي لم يتحرر مؤلفوها من ضغط اللحظة الآنية التي عاشوها، وثقل التاريخ الذي تنوء به كواهلهم، ولم يكلفوا أنفسهم عناء التنظير لفقه السلم والتعايش بين الناس: ( ما ينبغي ان يكون) انطلاقا من قواعد الشرع العامة المجردة : ( وحدة الأصل الإنساني، ووجوب إقامة العدل، ونشر الرحمة، وحفظ السلم، و مراعاة الأخوة الإنسانية، وتحريم الاعتداء)؛ بسبب تأثرهم بواقع الصراعات اليومية فغرقوا في التنظير للجهاد والفتح والدفاع عن الجماعة، انطلاقا من ذلك الواقع التاريخي، الذي ساد فيه:
– انعدام الثقة بين شعوب المعمورة نتيجة غياب التواصل الثقافي والاجتماعي، ووجود المصالح المشتركة، والاحساس بوحدة المصير : “غياب التعارف”.
– سيطرة نشوة النصر والشعور بالاستعلاء على بعض المؤلفين وهو ما نجد صداه في القول بان آية السيف “نسخت كل موادعة في القرآن أو مهادنة و”كل شيء من العفو والصلح والصفح”، ووجوب جهاد الطلب على المسلمين كل سنة.
– هيمنة عقدة الشعور بعدوانية الآخر والاعتقاد بحتمية استمرار الصراع الأزلي بين سكان المعمورة.
ولما اضمحلت قوة “الخلافة الإسلامية” في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتى اختفت نهائيا، وتغيرت معطيات الواقع، وطبيعة الدول وموازين القوة، وانتقل المسلمون من أمة “فاتحة” منتصرة إلى أمة “مغزوة” ؛ ثم تجدد أمل البشرية في “إرساء سلام عالمي” على أساس الاحترام المتبادل، وجد علماء المسلمين أنفسهم أمام واقع جديد مما أدى إلى انقسامهم إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: ارتأى أن يراجع الاجتهادات الفقهية التي شكلت الأساس الفكري الذي قام عليه تصور المسلمين للعلاقة مع الآخر عبر الحقب التاريخية الماضية إعمالا للقواعد الشرعية المحكمة، واستجابة لهذه التحولات الثقافية والسياسية والاقتصادية، فعملوا على إحداث قطيعة معرفية مع كثير من مقولات “الفقه السلطاني” الموروث، ومن هؤلاء العلامة المجدد الشيح عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بأبو طبي .
الاتجاه الثاني : واصل تشبثه بجميع مقولات الفقه السلطاني الموروث، بسبب الخلط الحاصل لديه بين مقولات السلف الاجتهادية ومواقفهم التاريخية، وبين المنهج المعرفي الذي اعتمده علماء السلف في التعامل مع النصوص فهما واستنباطا وتنزيلا على الواقع.
لكن الحاضنة الثقافية للتطرف العنيف ستزداد شراسة؛ بسبب إصرار الاتجاه الأخير على التمسك بأرائه، واصداره لمؤلفات فقهية تدافع عن رأيه في السلم والحرب والعلاقة مع الآخر، فضلا عن الكتب الحركية الكثيرة – التي ألفت في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين- في أجواء المحن والسجون، مما جعل مؤلفيها ينظرون للمفاصلة والصراع والتكفير ، وعملوا على توظيف التراث الاسلامي بشكل انتقائي خدمة لأيديولوجيتهم، بل إنهم أعادوا تأويل النصوص الشرعية كلها حسب مصالح “التنظيم”، وصراعاته السياسية، بعد أن أحلوا “التنظيم السري” ومصالحه الضيقة، محل الأمة الإسلامية ومصالحها العامة، حتى إنهم قاموا بأدلجة جميع الفقهاء المجددين، والعلماء المصلحين عبر التاريخ الإسلامي ليكونوا ناطقين باسم أيديولوجيتهم الغريبة على التراث الاسلامي، وعملوا على تكوين الشاب المسلم الحركي ، وهو شخص يميل إلى( العزلة ، والتعصب والاستعلاء والاستبداد في الرأي، والمثالية ، والطاعة للتنظيم )
إن تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة – والسلم كما قال الشيح عبد الله بن بيه : ” حالة تسود فيها الطمأنينة النفسية والروحية والسكينة بين أفراد المجتمع لتنعكس على العلاقات بين الأفراد والجماعات…وتتمظهر في التضامن والتعاون لإيصال النفع إلى الجميع ودرء الضر عن الجميع وتتجلى في اللغة والسلوك والمعاملة، فلا عنف في اللغة ولا اعتداء في السلوك ولا ظلم في المعاملة” – يقتضي عملا مزدوجا يتجه إلى :
– “تجديد الخطاب الاسلامي؛ طالما كان ذلك بغاية السمو بدين الرحمة والإنسانية والخوض في غمار المنهجية العلمية والعملية ” كما يقول الشيخ عبد الله بن بيه؛ لأن مكمن الخطر يوجد في “المنهج المعرفي” وطريقة التعامل مع النصوص، وإهمال مقاصد الشريعة، وجهل “صناعة الفتوى”؛ ولن يتم ذلك ما لم يكم هناك تجديد للمنهج المعرفي، وتغيير لطريقة التفكير أو الاجتهاد، وهو ما يستلزم التخلي عن الرؤية التجزيئية التي تعول على الفهم الجزئي للشريعة وتركز على “الدليل المنفصل”، بعيدا عن القواعد الشرعية الحاكمة، والمقاصد الكلية الناظمة، والقيم الاسلامية الموجهة، والسياق التاريخي المحدد، وطبيعة النظام الاجتماعي الذي كان سائدا وقت ورود الدليل الجزئي، والنظام الاجتماعي الذي يراد تنزيل هذا الدليل عليه مرة أخرى، لأن هذه المنهج هو نفسه الذي أنتج فكر هذه الجماعات المتطرفة بالأمس، ولا يمكن أن يصبح منقذا من تطرفها أو علاجا لانحرافها اليوم. وهذا ما نبه عليه الشيخ عبد الله بن بيه بقوله إن قسما ممن تصدى للفكر المتطرف : “رام مقارعة الأدلة الجزئية بمثلها، فتبنى منهجهم الاجتزائي، ورد بجزئي على جزئي، وبظاهر على ظاهر، فلم يصنع شيئا”
– تفكيك خطاب العنف والتطرف؛ وهو ما يستدعي “ضرورة إماطة اللثام عن زيف التوكؤ على الإسلام من خلال استشهادات مجتزأة خارج السياق الزماني والمكاني والإنساني، ومعزولة عن بقية النصوص التي تفسر غموضها وتقيد إطلاقها، وتخصص عمومها، وترد جزئيها إلى كليّها” كما ورد في كلمة الشيخ العلامة عبد الله بن بيه في الملتقى الثاني لتعزيز السلم ـ
– تعزيز التنمية في المجتمعات المسلمة وتحقيق العدل، والقضاء على الظلم والبطالة والتهميش والحرمان.
نستخلص من هذا أن خطاب التطرف العنيف وجد في “التراث الفقهي ” الذي لم تتم “غربلته” ثغرتين استطاع أن يوظفهما في بناء أيديولوجيته الدينية المتطرفة وهما:
– منهج اجتزائي يقيم الدليل الجزئي مقام استقراء النصوص، والاحتكام إلى قواعد الأصول، ومقاصد الشرع، وحكمة الشارع. ومصالح الخلق، وقيم الإسلام، وتعقيدات الواقع.
– فتاوى فقهية ظرفية كان لها سياقها التاريخي وملابساتها السياسية والاجتماعية التي أنتجتها، ولا يجوز تعميمها في كل زمان ومكان.
وبما أن “فكر التطرف العنيف” في صراع سياسي وفكري فإنه لا يبحث إلا عن “أقوال” تساعده في تحقيق أهدافه الدينية والسياسية؛ وكسب هذا الصراع؛ وهذا ما جعله يستغل هاتين الثغرتين بعناية، ثم أضاف إليهما مصادرة مواقف الصحابة وعلماء السلف لجعلهم مبشرين بالتطرف العنيف وداعيين إليه، يقول الدكتور سيد امام الشريف أحد أبرز المنظرين للفكر المتطرف: ” والخلاصـة أن الحكم بكفر أنصار الطواغيت الممتنعين على التعيين قد ثبت بإجماع الصحابة إجماعا قطعيا ليس فيه منازع، ومثل هذا الإجماع يكفر مخالفُهُ، فمن خالف في هذا الحكم فقد كَفَر واتبع غير سبيل المؤمنين وفارق جماعتهم” (كتاب طلب العلم الشريف 2/ 676 )، وكأن الصحابة الذين عاشوا قبل الف وأربعمائة سنة في مجتمع بدوي قبلي، وكيان اجتماعي وسياسي موحد، يعيشون بين أظهرنا الان في هذا المجتمعات الصناعية المعقدة، والكيانات الاسلامية المتعددة.
إن الرد على هذا الفكر يجب أن ينطلق – كما قال الشيخ عبد الله بن بيه – من ضرورة “الخوض في غمار المنهجية العلمية العميقة، التي من شأنها أن تفكك بنى الإرهابيين وتنقض عرى ما عقدوه”. وهو ما يحتاج – كما يقول الدكتور طه جابر العلواني – إلى ” مراجعات شاملة للأصول والفروع والمنهج، بحيث يترتب عليها تصحيح مناهج النظر في الأصول والقواعد والمنطلقات “.
الدكتور / محمد المهدي ولد محمد البشير