النص الكامل لكلمة العلامة عبدالله بن بيه في الأمم المتحدة 14\07\2017
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِّ على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى إخوانه من المرسلين.
السيد الأمين العام للأمم المتحدة،
السيد آداما ديانغ،
السيد فيصل بن معمر،
أيها السيدات والسادة،
إن هذا الموضوع الذي اجتمعنا اليوم للتذاكر فيه مهم في حياة الأمم منذ وضع بنو آدم أقدامهم على هذه الأرض في رحلة الاستخلاف، فمنذ قصّة ابْنَي آدم قابيل وهابيل لم تزل قضية العنف الشغل الشاغل للأنبياء والمصلحين والفلاسفة ورجال السياسة والقانونيين.
ومع ذلك لا يزال العنف بمحرضاته الباطنة والظاهرة والداخلة والخارجة يشكِّل أهمَّ داء لا يوجد له دواء وأهم خلل بل أهمّ فشل للحضارة الإنسانية المعاصرة التي وضعت لأول مرة مصير البشرية بين يدي مخترع إنساني يتمثل في أسلحة الدمار الشامل التي تتحكم بها نزعات الانسان ونزواته، تلك نتيجة تغييب، سؤال الأخلاق: لماذا!
وإنّكم أيها السادة تجتمعون اليوم لمعالجة أحد جذوره الراسخة وتقارعون أحد حصونه الشامخة ألا وهو التحريض على العنف. فالتحريض هو الدعوة المباشرة أو غير المباشرة إلى إعمال القوة بغير وجه حقّ ضد شخص أو مجموعة، لدينها أو لونها أو عرقها أو مستواها الاجتماعي أو أي شيء من ما يميزها.
ورغم تعدّد المقاربات التي تم تناول هذا المفهوم منها – قانونيا وأخلاقيا وفلسفيا– لا يزال مفهوما غائما يثير من الإشكالات ما يستوجب من أهل الاختصاص أن يعيدوا فيه النظر لبيان حدوده وضبط متعلقاته وجلاء الغموض الذي يشوبه باعتبار المعيارية الأخلاقية من جهة والقانونية من جهة أخرى.
انطلاقا من دور رجال الدين، سأتكلم هنا عن المقاربة اللاهوتية الثيولوجية التي تبنى على فلسفة الدين العميقة ومقاصده السامية لتقدّم للإنسانية خطابا يبحث عن مسوغات السلم والعافية بدلا من مبررات الفتن والحروب، ويعمل على تحييد محرضات العنف والكراهية وعوامل الاستفزاز والتوتر.
خصص منتدى تعزيز السلم منذ تأسيسه في مطلع سنة 2014، جهوده للقيام بعملية حفر معرفي في الأصول الإسلامية والإنسانية للكشف عن نصوص السلم المنسية ومقاصده المعطلة والتذكير بقيمه المضمرة وفقهه المطمور، ولتفكيك خطاب العنف قضية قضية ومفهوما مفهوما ببيان عواره والكشف عن أخلاله المنهجية والتصدي لعملية التحويل التي أخضعت لها المفاهيم خارج الضبط العلمي بتفكيك مركبها وإعادة بناءها، فاستطاع بهذا أن يسهم في نزع اللبوس الأخلاقي الذي يستقوي به الخطاب التحريضي ويسلبه الشرعية الدينية التي تلبّس بها.
ومن أهمّ المبادرات التي قام بها المنتدى المندرجة في هذا المسعى إصداره مطلع سنة 2016 إعلان مراكش التاريخي لحقوق الأقليات في الديار الإسلامية الذي يعتمد على صحيفة المدينة النبوية، لذا نرجو أن يشكل إعلان مراكش إضاءة في الثقافة العربية والإسلامية وأن يسهم في التأسيس لمرحلة جديدة من محاولات الفهم العميق للتراث الديني لبناء تعايش في الحاضر والمستقبل، فإعلان مراكش كان وقفة مع النص الديني ومع التراث بأدوات الاستنباط المنضبطة،، في تجلياته في التسامح والوئام والتعايش، وقد جسد دور رجل الدين تجاه تراثه ونصوصه الدينية وتجربته التاريخية بالبحث عن الأسس السليمة للتعايش ونبذ العنف والكراهية.
بيد أنه بالمقارنة مع السّياق الذي نشأ فيه التكييف القانوني لجريمة التحريض على العنف في القرن التاسع عشر في فرنسا، أصبح هذا التحريض أكثر تركيبا وتعقيدا، مما يجعلنا ندعو إلى ربط مبدأ حرية التعبير الذي أصبح مبدأ مقدسا في الحضارة السائدة بمبدإ المسؤولية عن نتائج التعبير. فرغم ما قد يكون له من إيجابية في بعض البيئات المختلفة، فنحن نعتقد أن من أهم محرضات العنف ومؤججات الكراهية ما تمارسه بعض وسائل الإعلام الحديث حيث تتفنّن في عرض النزاعات، فما ينشب نزاع حتى تصنف أطرافه، لتدفع لكل منهم لقباً، يدافع عنه، وتبثّ ليلا ونهارا على جمهور لم يكن محصّنا ولم يكتسب مناعة تجعله يمتنع عن التفاعل مع دعوة الحروب والتدمير الذاتي، وقديماً قيل: إنّ الحربَ أوّلها كلامُ.
ولهذا فقد يكون من المجدي أن يراجع العقلاء والحكماء والساسة والقانونيون مبدأ حرية التعبير بشكل براغماتي نفعي ينظر إلى التأثير الميداني له وخاصة في دول العالم الثالث حيث يموت مئات الآلاف ضحايا للتضليل الإعلامي، يبحثون عن حرية لم ينالوها وعن سعادة لم يدركوها، فآل الأمر إلى تدمير شاملٍ للدول والشعوب، بالإضافة إلى العوامل الأخرى الطائفية والدينية والعرقية التي لا ينكر تأثيرها ولا يستبعد حضورها وتحضيرها.
فلهذا أنا أدعو رجال الدين من كل الديانات أن يقوموا بخطوات حاسمة لعزل العناصر المحرّضة وإبعاد التأويل المحرّض عن مجال الممارسة الدينية، وذلك ما قام به المنتدى في ضبطه للمبدأ الإسلامي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالضوابط الشرعية.
على أصحاب الديانات أن يعتبروا كل تحريض أو هجوم على واحدة منها هجوما موجها للجميع، ويمكن أن نأخذ الإسلامفوبيا كمثال على ذلك.
إن التصالح بين الديانات الذي لا يتحقق السلام بدونه حسب هانز كوينج، لا يكفي بل لا بد من تحقيق التضامن.
وإن إنشاء المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال) في الرياض سيمثل رافدا كبيرا لمواجهة خطاب الكراهية.
ومن الملائم العمل على أن تكون القوانين ناشئة لمعالجة البيئة التي تراد لها، بعيدا عن القوانين المستنسخة التي تلغي الخصوصيات والتفاوت بين المجتمعات وتغفل التراكمات التاريخية والمجتمعية. ولهذا فإن الدعوة إلى حرية تدنيس المقدَّس وشتم رموز الإنسانية الذين نؤمن بأن معنى الوجود وصل إلينا من خلالهم، هي من هذا الصنف من حرية التعبير المحرّضة على العنف والكراهية والمؤذنة بخراب النظام العام للمجتمعات. وفي هذا الصدد فإني أنوّه بتجربة بعض الدول العربية والإسلامية في وضع الأطر القانونية والتشريعية لحماية التعايش ومكافحة خطابات الكراهية والعنف، وبخاصة القانون الذي سنته دولة الإمارات العربية المتحدة لمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان، لأنّه يتسم بالواقعية ووضوح الهدف، فهو من جهة ينظر إلى واقع المجتمع الذي سيطبّق فيه، ومن جهة أخرى فهو يهدف إلى حماية المجتمع وتحصينه ضد خطابات الكراهية والتحريض على العنف.
وفي الختام أتمنى للقائكم هذا النجاح وأدعو له بالتوفيق.