الإيجار الذي ينتهي بالتمليك – بقلم العلامة عبدالله بن بيه
الإيجار الذي ينتهي بالتمليك ( الإجارة مع وعد التمليك)
الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، يتصرف في خلقه بغالبات الأقدار بدون وزير ولا معين ولا مستشار، ألزم بشريعته تنفيذاً لحكمته في الابتلاء والاختيار.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المختار، وعلى آله وصحبه الأخيار.
وبعد:
فهذا بحث يتعلق بإيجار البيع وبيع الإيجار، مسألة عمَّت بها البلوى في الأقطار، فراجعت هذه المسألة على اشتغال وركوب أسفار، إلا أني سلكت في البحث عنها الأنجاد والأغوار؛ قصد إخراجها عن قاعدة الغرر والخطار، ونفي الضرر والضِرار عن طريق إجارة مع بيع بخيار، أو وعد لاحق ببيع أو هبة بعد تمام عقد الإيجار، على صعوبة في الإيراد، ووعورة في الإصدار، آثرت في بحثي هذا الاختصار ومحاولة القرب من أقوال ذوي الاستبصار، معترف بالقصور عن شأو الاجتهاد والاختيار.
سائلاً الله جل وعلا -وهو الكريم الغفار- أن يوفقنا فيما أردنا ويسلمنا من العثار، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه وأزواجه أجمعين.
وبعد:
استجابة لطلب الأمين العام لمجمع الفقه أردت أن أقدم بحثاً مختصراً حول ما يسمى بـ(الإيجار الذي ينتهي بالتمليك)، وهو العنوان الذي اقترحه فضيلته لهذا البحث، وهذا الموضوع -كما يستشف من العنوان- هو موضوع جديد وعقد حديث، نشأ وترعرع في ظل القانون الوضعي، ومن المعلوم أن سنَّة التطور في هذا الزمان قد جرت، بأن أقطارنا الإسلامية أصبحت تستورد السلع المصنوعة من العالم الآخر، وقد تستورد معها التكنولوجيا؛ لتصنيع هذه السلع محلياً، وهو أمر مرغوب فيه، إلا أنها قد تستورد مع هذه السلع أحياناً كثيرة الأنظمة وطرق التعامل والتبادل، ووسائل التقاضي والتراضي، حيث تكون إرادة الطرفين قانوناً للعقد ورضاؤهما أساس الحكم الذي تصدر عنه القوانين، والذي يرجع إليه القضاة دون نظر إلى أصول خُلُقِية، وقواعد ضابطة لا يمكن الخروج عنها، فحادوا بذلك عن الصراط المستقيم، واختلَّت لديهم موازين العدل التي لا تقوم إلا على الأنظمة الإلهية التي لا يطمع في الاستلهام بمنهجها والاقتباس من نورها إلا من سلك سبيل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ من الكتاب والسنة بقسط وافر، وأقام ميزاناً على هديهما عن طريق القياس الصحيح طبقاً لأصوله ومقاييسه التي وضعها وتواضع عليها سلف هذه الأمة، وهناك شرط آخر يغفله الكثيرون؛ ألا وهو أن يكون القائس عاملاً بما علم، متبعاً للسنة النبوية، إذ لا يقوم على هذا الميزان من حاد عن السبل، وجارت به الطرق، وارتضى ديناً غير دين الإسلام، وقانوناً يخالف شريعة سيد الأنام، فعميت عليه الأنباء، ولعبت بعقله الأهواء؛ لهذا فإن مسألتنا من هذه المسائل الموجودة في غير بيئة هذا الميزان، وليس معنى هذا أن نرفضها سلفاً، ونصدف عن جوهرها، ونتخذه صدفاً قبل أن نعرضه على ميزان الصدق الذي أشرنا إليه آنفاً، وعليه فسنفصل البحث فيها أولاً إلى مقدمة في تعريف هذا العقد، تعريفاً يشمل الجنس والفصل والخاصة، وتكييفه من الناحية القانونية، معتمدين في هذا على نقل أهل هذا الفن، تاركين لهم الكلمة في تعريفه وتكييفه وتصنيفه، ثم نصنف بحثناً في مسائل تنبني على الفروض المختلفة تبين وجهة النظر الفقهية باختصار، غير متوسعين في غرض القضية، ثم نختم بخاتمة نقترح فيها ما يمكن أن يكون بديلاً، أو أن يكون صيغة مقبولة من الناحية الشرعية.
مقدمة في تكييف العقد:
(الإيجار الذي ينتهي بالتمليك):
أحد الأسماء الذي أطلقه المترجمون والقانونيون العرب على العقد المعروف في القانون الفرنسي باسم (Vente Location)، ومعناها الحرفي -كما هو واضح-: إيجار بيعي؛ لأنه اسم مركب من كلمتين، وقد تطور هذا العقد وتعددت الأسماء طبقاً لهذا التطور، فقد كان أولاً يعرف باسم البيع بالتقسيط، والاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن (Vente Atem? Cement)، ثم تطور إلى إيجار ساتر للبيع، ثم تطور إلى ما سموه بالإيجار المقترن بوعد بالبيع، وهذه الأسماء التي كان موضوعها في الأصل متحد، إلا أنها ليست اعتباطي، وليست من باب المترادفات التي لا تخدم أي غرض، بل تعدد الأسماء -كما يشير إليه القانوني السنهوري في شرحه للقانون المدني- ناشئ عن تدرج نظرة المشرع لهذا العقد؛ في محاولة لترجمة الهدف الذي يرمي إليه، والمصلحة التي يحرص على حمايتها، وهي مصلحة البائع كما هو واضح، فهو يرمي إلى الاستيثاق من أن المشتري سيفي بالثمن كاملاً في الوقت المحدد.
وفي مقابل ذلك يشترط البائع أن تبقى ملكيته قائمة بشكل ما حتى وفاء المشتري بالتزامه، بحيث يكون له الحق أولاً: في منع المشتري من تفويت الذات موضع العقد.
ثانياً: أن يكون له الحق في استرجاع الذات عند عدم الوفاء في الوقت المحدد.
ثالثاً: أن يكون له الحق في الحصول على مقابل انتفاع المشتري بالذات في حالة عدم البيع، ونقتطف المقتطفات التالية بنصها من كتاب السنهوري (الوسيط: ص173، 182).
البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن، أو الإيجار الساتر للبيع، النصوص القانونية:
تنص المادة (430) من التقنين المدني على ما يأتي:
1- إذا كان البيع مؤجل الثمن؛ جاز للبائع أن يشترط أن يكون نقل الملكية إلى المشتري موقوف على استيفاء الثمن كله، ولو تمَّ تسليم المبيع.
2- فإذا كان الثمن يُدفع أقساطاً؛ جاز للمتعاقدين أن يتفقا على أن يستبقي البائع جزءاً منه تعويضاً له عن فسخ البيع إذا لم توفَّ جميع الأقساط، ومع ذلك يجوز للقاضي -تبعاً للظروف- أن يخفض التعويض المتفق عليه وفقاً للفقرة الثانية من المادة (224).
3- فإذا ما وفيت الأقساط جميعاً؛ فإن انتقال الملكية إلى المشتري يعتبر مستنداً إلى وقت البيع.
4- وتسري أحكام الفقرات الثلاث السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً.
وأول صورة لهذا البيع كانت هي البيع بالتقسيط، ثم تدرَّج التعامل من هذه الصورة إلى صورة الإيجار الساتر للبيع، وهو الآن في سبيله إلى التدرج نحو صورة ثالثة في الإيجار المقترن بوعد بالبيع.
ونستعرض هذه الصور الثلاث التي وقف منها التقنين المدني الجديد عند الصورتين الأوليين؛ لأنهما هما الصورتان الأكثر انتشاراً.
البيع بالتقسيط:
عرضت الفقرات الثلاث الأولى من المادة (430) مدني -كما رأينا- لحالة البيع بالتقسيط، فإذا باع تاجر عين سيارة أو آلة كاتبة أو راديو أو غير ذلك بثمن مؤجل واجب الدفع في ميعاد معين، أو بثمن مقسط أقساط متساوية على النحو الذي قدمناه، واشترط البائع على المشتري أن يكون البيع معلقاً على شرط واقف هو وفاء المشتري بالثمن المؤجل في الميعاد المحدد، أو وفاؤه بالأقساط جميعاً في المواعيد المتفق عليها؛ فإن البيع بهذا الشرط يكون صحيحاً، ويجب إعمال الشرط حتى لو سَلَّم البائع المبيع للمشتري قبل استيفاء الثمن، أو قبل استيفاء أي قسط من أقساطه.
في هذه الحالة تنتقل ملكية المبيع معلقة على شرط واقف إلى المشتري، ويستبقي البائع ملكية المبيع معلقة على شرط فاسخ.
وكل من الشرط الواقف والشرط الفاسخ هنا حادث واحد، هو أن يوفي المشتري بالثمن أو بأقساطه في الميعاد المحدد، فإذا فعل؛ تحقق الشرط الواقف، وانتقلت الملكية باتة بأثر رجعي إلى المشتري، وتحقق في الوقت ذاته الشرط الفاسخ، وزالت الملكية عن البائع بأثر رجعي أيضاً، ومن ذلك نرى أن البيع بالتقسيط هو صورة معكوسة لبيع الوفاء، إذ في بيع الوفاء يكون البائع هو المالك تحت شرط واقف، والمشتري مالك تحت شرط فاسخ.
وقبل تحقق الشرط يكون المشتري -كما قدمنا- مالكاً للمبيع تحت شرط واقف، ولا يمنع من وقف ملكيته أن يكون قد تسلَّم المبيع، فالذي انتقل إليه بالتسليم هو حيازة المبيع، أما الملكية فانتقلت إليه بالبيع موقوفة، ولكن ذلك لا يمنع المشتري من أن يتصرف في هذه الملكية الموقوفة، ويكون تصرفه هو أيضاً معلقاً على شرط واقف، وإذا كان المبيع منقولاً -كما هو الغالب- وتصرف فيه المشتري تصرفا باتّاً، لمشتر حسن النية لا يعلم أن ملكية المشتري معلقة على شرط واقف؛ فقد تملكه المشتري من المشترى تملكاً باتّاً بموجب الحيازة، ولا يعتبر المشتري في هذه الحالة مبدداً، فالتبديد يقتضي قيام عقد معين بالإيجار أو العارية أو الوديعة أو الرهن – وليس البيع بالتقسيط من بين هذه العقود.
ولو أفلس المشتري، والشرط لا يزال معلقاً؛ كان الباقي من الثمن دين في التفليسة، ولا يستطيع البائع من جهة أخرى أن يستردَّ المبيع من التفليسة.
فهذان أمران يجريان على غير ما يشتهي البائع: عدم اعتبار المشتري مبدداً إذا تصرف في المبيع.
وعدم استطاعة البائع استرداد المبيع عيناً من التفليسة.
وإذا تحقق الشرط، ووفى المشتري بالثمن؛ فقد صار مالكاً للمبيع هو وثمراته منذ البداية، وزال عن البائع ملكيته للمبيع بأثر رجعي.
أما إذا تخلف الشرط، وتأخر المشتري عن دفع الثمن؛ فإن ملكية المشتري التي كانت معلقة على شرط واقف تزول بأثر رجعي؛ لعدم تحقق الشرط، وتعود الملكية باتة إلى البائع منذ البداية، إذ أن البيع يعتبر كأن لم يكن، ولا يحتاج البائع في ذلك إلى حكم بزوال البيع، فإن تخلُّف الشرط الواقف وحده كاف في ذلك وفقاً للقواعد المقررة في الشرط، وللبائع في هذه الحالة أن يطالب المشتري بتعويض، ويغلب أن يكون قد اشترط في عقد البيع أن يكون التعويض هو احتفاظه بكل أو بعض الأقساط التي يكون قد استوفاها، ويعتبر هذا الشرط شرطاً جزائيّاً تسري عليه أحكام الشرط الجزائي، وأهم هذه الأحكام -وهو ما تشير إليه الفقرة الثانية من المادة (430) مدني- أنه يجوز للقاضي تخفيضه إذا كان مبالغاً فيه، ويكون مبالغاً فيه إذا كان المشتري قد وفى عدداً كبيراً من الأقساط، بحيث يكون احتفاظ البائع بها يزيد كثيراً على الضرر الذي لحقه من جرَّاء عدم استيفائه الباقي من الثمن.
ففي هذه الحالة يحكم القاضي بإرجاع بعض هذه الأقساط إلى المشتري، ويحتفظ البائع من الأقساط التي استوفاها بما يكفي لتعويضه.
الإيجار الساتر للبيع:
وحتى يتجنب البائع المحظورين اللذين أشرنا إليهما -عدم اعتبار المشتري مبدداً إذا تصرف في المبيع قبل الوفاء بالثمن، وعدم استطاعة البائع استرداد العين من تفليسة المشتري- يعمد في كثير من الأحيان أن يخفي البيع بالتقسيط تحت ستار عقد الإيجار، فيسمى البيع إيجاراً، وغرضه من ذلك ألا تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري بمجرد العقد؛ حتى هذه الملكية المعلقة على شرط واقف، والتي كانت هي المانعة من اعتبار المشتري مبدداً، ومن استرداد البائع للمبيع من التفليسة، فيصف المتعاقدان العقد بأنه إيجار، ويصفان أقساط الثمن بأنها هي الأجرة مقسطة، ثم يتفقان على أنه إذا وفَّى المشتري بهذه الأقساط؛ انقلب الإيجار بيعاً، وانتقلت ملكية البيع باتة إلى المشتري، وحتى يحكما ستر البائع يتفقان في بعض الحالات على أن يزيد الثمن قليلاً على مجموع الأقساط؛ فتكون الأقساط التي يدفعها المشتري هي أقساط الأجرة لا أقساط الثمن، فإذا وفَّاها جميعاً، ووفى فوق ذلك مبلغاً إضافيّاً يمثل الثمن؛ انقلب الإيجار بيعاً باتّاً.
ويحسب البائع بذلك أنه قد حصن نفسه؛ فهو أولاً وصف البيع بأنه إيجار، وسلَّم العين للمشتري على اعتبار أنه مستأجر، فإذا تصرف المشتري فيها وهو لا يزال مستأجراً، أي: قبل الوفاء بالثمن؛ فقد ارتكب جريمة التبديد، ومن ضمن عقودها الإيجار.
وهو ثانياً قد أمِن شر إفلاس المشتري، إذ لو أفلس وهو لا يزال مستأجراً؛ فإن البائع لا يزال مالكاً للمبيع ملكية باتة، فيستطيع أن يسترده من تفليسة المشتري.
ولكن بالرغم من تذرع المتعاقدين بعقد الإيجار يستران به البيع، فإن الغرض الذي يرميان إلى تحقيقه واضح، فقد قصدا أن يكون الإيجار عقداً صوريّاً يستر العقد الحقيقي وهو البيع بالتقسيط، والمبلغ الإضافي الذي جعله المتعاقدان ثمناً ليس إلا ثمناً رمزياً، والثمن الحقيقي إنما هو هذه الأقساط التي يسميانها أجرة.
ومن ثم قضت الفقرة الرابعة من المادة (430) مدني، بأن أحكام البيع بالتقسيط تسري على العقد، ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً، ويترتب على ذلك أن الإيجار الساتر للبيع يعتبر بيعاً محضاً، وتسري عليه أحكام البيع بالتقسيط التي تقدم ذكرها، وأهمها أن تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري معلقة على شرط إلى آخره.
وبعد أن رأينا تكييف المسألة من الناحية القانونية والفروض التي افترضها القانونيون، والعروض التي أرسوها عليها؛ يجدر بنا أن نُفَصِّل الموضوع إلى عدة مسائل طبقاً للمقدمة التي كرسناها للتكييف القانوني لهذا العقد.
المسألة الأولى: بيع بالتقسيط لا تنتقل فيه الملكية إلا بعد الوفاء بالأقساط:
هذه المسألة مسألة مختلف فيها لوجود شرط غير ملائم للعقد؛ لأن الأصل في البيع أن يكون باتّاً، فتعليق البيع على هذا الشرط لا يوافق عليه أكثر العلماء؛ لأنه منافٍ لتمام الملكية التي ينبني عليها البيع، وفيه جهالة بالمال، وهو يتخرج على الخلاف في الشروط؛ فيكون فيه ثلاثة أقوال:
قول ببطلان البيع والشرط.
وقول بصحة البيع وبطلان الشرط.
وقول بصحة البيع وصحة الشرط، وهذه القوال -كما هو معروف- مبنية على اختلاف مواقف العلماء من أحاديث الشروط المعروفة، وهي:
أولاً: حديث جابر المتفق عليه وفيه ” اشترى مني النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً واشترط ظهره إلى المدينة ” وهو حديث صحيح ادُعِي فيه الاضطراب، وهو غير مؤثر هنا؛ لأنه يُشترط لتأثير الاضطراب تكافؤ سندي الطرق المختلفة، أما إذا لم تتكافأ؛ فيسار إلى الترجيح كما حققه العلامة ابن دقيق العيد.
ثانياً: حديث بريرة وهو متفق عليه أيضاً: ” كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط ” .
ثالثاً: حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه، قال: ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة، قال أحدهما –أي: الراويين- بيع السنين هو المعاومة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا ” .
رابعاً: حديث أبي داود عن أبي هريرة -بعد سنده- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا ” .
خامساً: الحديث الذي أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي والحاكم وابن خزيمة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك ” .
سادساً: الحديث الذي رواه أبو حنيفة في مسنده بالسند السابق: ” نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط ” ، أخرجه الطبراني في الأوسط بصيغة: ” نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، البيع باطل والشرط باطل ” .
ولاختلاف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث نشأ الخلاف في مسألة الشروط؛ فمنهم من أخذ ببعضها، ومنهم من أوَّلَ الجمع بينها:
فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى بطلان البيع والشرط.
وأجاز ابن شبرمة البيع والشرط جميعاً.
وأجاز ابن أبي ليلى البيع والشرط.
وأجاز أحمد الشرط الواحد.
هذه مذاهبهم باختصار شديد، أما مالك ففصل تفصيلاً وحاول الجمع بين الأخبار، ذكرها ابن رشد في البيان والتحصيل، وذكر بعضها حفيده في بداية المجتهد، مؤداه: أن الشرط الذي لا يناقض المقصود من العقد.. لا يبطله، إلا أنه مرة يكون مكروهاً، ومرة يكون جائزاً، والشرط الذي يناقض المقصود تارة يلغيه دون العقد، وتارة يلغي العقد والشرط، وذلك بحسب مناقضة الشرط للعقد، فمرة يناقض أصل العقد مناقضة تامة، وتارة يناقض حكماً من أحكام العقد أو شرطاً من شروطه لا يدخل في ماهيته، فلا يكون مبطلاً للعقد.
وتفاصيل ذلك معروفة سترى بعضها في كلامنا على هذه المسألة، وهي المعروفة عند المالكية بمسألة البيع على أنه إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع، والمشهور في مذهب مالك إلغاء الشرط وصحة العقد، قال خليل في مختصره في سرد نظائر يصح فيها العقد ويبطل الشرط: (كمشترط زكاة ما لم يطب وإن لا عهدة ولا مواضعة، أو لا جائحة أو إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع)، ففي هذه المسائل يصح العقد ويبطل الشرط، إلا أن مسألتنا هي المسألة الأخيرة، أي: إن لم يأت بالثمن لكذا؛ فلا بيع فيها ثلاثة أقوال عن مالك متخرجة على قاعدة الشروط السالفة الذكر، نقلها خليل في توضيحه عن ابن لبابة قائلاً: ذكر ابن لبابة عن مالك في هذه المسألة ثلاثة أقوال: صحة البيع وبطلان الشرط، وصحتهما، وفسخ البيع، ولكن المدونة التي اتبعها المصنف في المختصر اقتصرت على الأول؛ وهو بطلان الشرط وصحة البيع، ونصها في آخر البيوع الفاسدة: (ومن اشترى سلعة على أنه إن لم ينقد ثمنها إلى ثلاثة أيام -وفي موضع آخر: إلى عشرة أيام- فلا بيع بينهما، لا يعجبني أن يعقد على هذا، فإن نزل ذلك صح البيع وبطل الشرط وغرم الثمن). انتهى. [1]
وذكر الحطاب في التزاماته في هذه المسألة سبعة أقوال، حصلها من كلام المدونة وشروحها، كشرح الشيخ أبي إسحاق التونسي، وابن يونس، واللخمي، والرجراجي، وفي كلام ابن بشير، وصاحب التوضيح، وابن عرفة، وغيرهم، أعرضنا عن هذه النقول لطولها، واقتصرنا على الأقوال الثلاثة السالفة الذكر؛ لانبنائها على قاعدة الشروط. [2]
إلا أن خليل في باب النكاح مشى على شطر آخر من قاعدة الشروط، فحكم بفسخ العقد قبل الدخول، فقال في سرد النظائر التي يكون الشرط فيها موجباً لفسخ النكاح قبل الدخول: (وقبل الدخول وجوباً في ألا تأتيه إلا نهاراً أو بخيار لأحدهما أو غيره، على إن لم يأت بالصداق لكذا فلا نكاح وجاء به، وما فسد لصداقه أو على شرط يناقض كأن لا يقسم لها أو يؤثر عليها أو ألغى)، ذكرنا نص خليل على طوله؛ لأنه يشير إلى نوعين من الشروط:
شروط لا تلائم العقد؛ لأن الحكم يوجب خلافها، وهي المشار إليها في الفقرات الأولى.
وشروط تناقض العقد، وهي المشار إليها في الفقرة الأخيرة؛ ليتضح الأمر لا بد من الإشارة إلى القاعدة التي أصلوها، والتي تفرق بين الشرط الذي يوجب الحكم خلافه، إلا أنه لا يناقض العقد، مشيرة إلى الخلاف في هذا النوع من الشروط بخلاف ما يناقض العقد أن يهدم ركناً من ماهيته، فإنه إما أن يبطل العقد، أو يلغى دونه، وإلى هذه القاعدة أشار الزقاق في المنهج بقوله:
هل شرط ما لا يقتضي الفساد إن خالف الحكم اعتباراً فادا
كرجعة نفي رجوع واعتصار ونفيه ضمان رهن ومعار
ونفيه وشهروا لا في الذي خالف سنة العقود فاحتذي
كمودع ضمن واكتراء وشبه دين وابن زرب رائي
خلا تبرع بعيد العقد وألزم القراض بعد القيد
به ولابن بشر التزامه تلميذه نصره حسامه
وغيره أنكره ومنعاً ولكلا الرأيين مبناً سمعاً
أشار المنهج إلى جملة من المسائل، وذكر قول ابن زرب في أن لِقيد اللاحق بالعقد لا يبطله كتطوع عامل القراض بضمانه، وكذلك ابن بشر شيخ ابن عتاب، وصحح تلميذه في مال القاصر يدفعه الوصي قراضاً بجزء من الربح، ويتطوع العامل بضمان المال وغرمه إذا تلف قائلاً أن ذلك شرط جائز، وخالفه غيره لمخالفة ذلك لسنة هذه العقود. [3]
إلا أن مسألتنا هذه لا تقتصر على كونها بيع لا يتم نقل الملكية فيه إلا باستيفاء الثمن، ليكون داخلاً في الخلاف المشار إليه، فهو زيادة على ذلك بيع يتضمن غرر ويخالف سنة العقد في كل وجه؛ لأن المشتري إذا دفع الأقساط ولم يأتِ بآخر قسط منها؛ ضاع عليه ما أدَّى، وضاعت عليه السلعة محل البيع، ومعلوم أن البيع الفاسد يفوز فيه المشتري بالغلة في مقابل ضمان، فلو فسخ العقد كان للبائع أن يستزيد بالأقساط التي حصل عليها في مقابل الاستغلال؛ لأن الغلة في مقابل الضمان كما ورد في الحديث الذي أصبح بعد قاعدة: (الخرج بالضمان)، فقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد.
قال في المنهج: الخرج لضمان أصل قد ورد في مستحق شفعة بيع فسد.. إلخ.
فهذه المسألة الأولى أو الفرض الأول لا يمكن أن تصحَّ بوجه من الوجوه، والأهداف التي يحددها القانون لا يوصل إليها، ومنها استرداد السلعة عند فلس المشتري، ألا يخالفه للحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني، ورواه مالك عن الزهري، وهو: ” أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئاً؛ فهي له، وإن كان قد قبض من ثمنها شيئاً؛ فهو أسوة الغرماء ” .
المسألة الثانية:
أما المسألة الثانية، وهي عقد إيجار ساتر للبيع، وهذه الصورة كما تبدو إنما هي بيع سمي إيجاراً؛ لئلا تترتب عليه آثار البيع، فمن جهة البائع هو يحتفظ بملكيته، ومن جهة المشتري فهو لا يستطيع التصرف، فكأنه إيجار بهذا المعنى لتلبية مطلب البائع، إلا أنه بيع من حيث أن الأقساط إذا وفَّى بها؛ نشأت عن الوفاء بها نقل الملكية بأثر رجعي، وهو من آثار البيع، وليس من آثار الإجارة نقل ملكية الذات، فهذا العقد بهذه الخصائص هو عقد غرر ومجازفة؛ لأن المشتري قد يعسر في آخر قسط، وقد دفع أقساط لا تناسب الإجارة؛ لأنها تتجاوز قيمة المنافع، وهي في الأصل قيمة للرقبة، فقد خسر الثمن والمثمون اللذين ربحهما البائع، ويكون بذلك البائع قد حصل على العوض والمعوض خلافاً للقاعدة الشرعية المشهورة التي ذكرها المقري وغيره، فقال القاضي أبو عبد الله المقري: (قاعدة الأصل ألا يجتمع العوضان لشخص واحد؛ لأنه بمعنى العبث وأكل أموال الناس بالباطل)، قال في المنهج في سرد نظائر من القواعد التي تعتبر أصول:
والإذن للعداء وألا يجمعا الشخص بين عوضين فاسمعا
وليس كل عقد يتردد صاحبه في نتيجته ممنوع، بل هناك من العقود ما تحصل مصلحته عاجلاً: كالبيع والإجارة والهبة، كما يقول المقري، وهناك ما لا تحصل مصلحته عاجلاً: كالقراض؛ لأن المقصود الربح، وقد لا يحصل فيضيع تعب العامل، بل قد يضيع رأس المال، وهذا جائز نفي للضرر عن المتعاقدين. [4]
ومن المسائل التي أجازوا فيها الغرر مع التردد في مآل الأمر:
مسألة بيع كتابة المكاتب، والمشتري لا يدري هل يفي المكاتب بما عليه فيحصل على دراهم، أو لا يحصل عليها فيحصل على عبد، ولكن لما كان البائع قد أحلَّ المشتري محله، فهو –أي: البائع- مهما كانت النتيجة لا يحصل على أكثر من الثمن الذي دفعه له المشتري سلفاً، أجازوا هذه المعاملة استحساناً مخالفة للقياس.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل (18/83)، قال: (حدثني ابن القاسم، عن مالك، عن ربيعة بن عبد الرحمن: أنه كره أن تباع كتابة المكاتب، ويقول هو خطار أن عجز كان عبداً له، وإن أدى أربعة آلاف درهم)، قال محمد بن رشد: (الغرر في هذا بين كما قال، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، إلا أن مالكاً وأصحابه أجازوا ذلك استحساناً واتباعاً على غير قياس، وله وجه، وهو أن المشتري للكتابة يحل فيها محل سيده، والذي كاتبه في الغرر؛ لأنه إذا كاتبه لا يدرى هل يؤدي ما كاتبه عليه، أو يعجز فيرجع رقيقاً له؟ وذلك جائز بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } [سورة النور:33] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من مكاتبته ” ،
هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، وهو في سنن أبي داود والترمذي، ولكن قضيتنا هذه لا يدري المشتري فيها هل يعجز؛ فيكون قد دفع أكثر الثمن وخسر المثمن، أما البائع فهو دائماً بأفضل الخيارين، فهذا خطار وغرر شديد يجعل هذه المسألة أيضاً تدخل في العقود الممنوعة.
قال الحطاب في التزاماته: (ما يؤول إلى الإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع)، كشرط ما يؤدي إلى جهل وغرر في العقد، في الثمن أو في المثمن، أو إلى الوقوع في ربا الفضل، أو في ربا النساء، كشرط مشورة شخص بعيد، أو شرط الخيار إلى مدة مجهولة، أو إلى مدة زائدة عما قرره الشرع في السلعة المبيعة، أو شرط تأجيل الثمن إلى أجل مجهول، أو شرط زيادة شيء مجهول في الثمن، أو في المثمون؛ فهذا النوع يوجب فسخ البيع على كل حال، فاتت السلعة أو لم تفت، ولا خيار لأحد المتبايعين في إمضائه، فإن كانت السلعة المبيعة قائمة؛ ردت بعينها، وإن فاتت؛ ردت قيمتها بالغة ما بلغت، ويستثنى من هذا النوع مسألة، وهي البيع بشرط أن يسلف المشتري البائع أو العكس، فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى الجهل بالثمن، فإن وقع ذلك فالمشهور أنه يفسخ ما دام مشترط السلف متمسكاً به، فإن أسقط مشترط السلف شرطه صح البيع، وسواء أخذ مشترط السلف سلفه وغاب عليه أم لا على المشهور.
وقال سحنون: (إنما يصح إسقاط مشترط إذا لم يأخذ مشترط السلف ما اشترطه)، وأما إن أخذه وغاب عليه فلا بد من فسخ ذلك ورد السلعة؛ لأنه قد تم ما أراده من السلف، وهذا إذا كانت السلعة قائمة بيد المشتري، فأما إن فاتت فلا يفيد الإسقاط؛ لأن القيمة قد وجبت عليه حينئذ، فلا بد من فسخه، فإن كان السلف من البائع فله الأقل من الثمن أو القيمة يوم القبض ورد عليه السلف، هذا مذهب المدونة وهو المشهور، وقاله المازري، وظاهر إطلاق ابن الحاجب وغيره؛ لأنه لا فرق بين أن يكون الإقساط قبل فوات السلعة أو بعد فواته.
المسألة الثالثة:
أما المسألة الثالثة، وهي الإجارة مع وعد بالتمليك بهبة أو بيع، فهي مسألة يجب أن ينظر إليها من عدة وجوه:
أولها: هل هذه الإجارة إجارة جادة، بمعنى أن الأقساط المدفوعة تناسب قدر الإيجار؛ فتكون إجارة حقيقية مصحوبة بوعد؟
ثانياً: وهل الوعد حصل في صلب العقد بحيث يؤثر على الثمن، أو كان تطوعاً بعد العقد؟ وهل كان وعداً بالهبة أو وعداً بالبيع؟
كل هذه الأوجه تترتب عليها أحكام تخص كلّاً منها، فلنبدأ بأقرب هذه الأوجه للصحة والقبول؛ وهو أن يكون الطرفان قد عقدا بينهما إجارة، وبعد العقد وعد البائع المشتري بأن يهبه تلك العين إذا هو وفّى بأقساط الإيجار في وقته المحدد برغبته في الوفاء، فهذه الصورة تعتبر وعداً بهبة، وهو وعد ملزم على أصل مالك في الوعد المعلق على سبب على ما استظهره بعض الشيوخ من الخلاف في مسألة الإلزام بالوعد، فمعلوم أن مذهب مالك فيه أربعة أقوال فيما يتعلق بالإلزام بالوعد:
القول الأول: أن الوعد لا يلزم به شيء، وأن الوفاء به إنما هو من مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، وهذا موافق للمذاهب الأخرى. [5]
والقول الثاني عن مالك -هو معلوم-: هو لزوم الوعد الواقع مطلقاً، وهو كما رأيت مخالف للمذاهب الأخرى.
وقول بالتفصيل عن مالك بين الوعد الواقع على سبب فيلزم.
وقول رابع هو المشهور: أنه إذا أدخل الموعود به في ورطة فإنه يلزم، وقد أجمل صاحب المنهج هذه الأقوال الأربعة بقوله:
هل يلزم الوفاء بالوعد نعم أو لا نعم لسبب وإن لزم
فالمسألة هنا تدخل في قاعدة أن من التزم شيئاً بسبب عمل الملتزم له الإتيان بما يلزمه إذا كان الملتزِم -بكسر الزاي- يعلم بوجوب ذلك العمل على الملتزَم له بدون مقابل، وأسسوا على ذلك، كما قال الحطاب في التزاماته: (ص 189)، نقلاً عن ابن رشد في البيان والتحصيل، بعد أن نقل عدم لزوم الوعد على الواجب على الملتزَم له -بفتح الزا- قائلاً ما نصه: (قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في رواية ابن جعفر الدمياطي عنه: وذلك إذا لم تعلم –أي: زوجته- أنه كان يلزمه أن يأذن لها –أي: في الحج- وأما إذا علمت، فذلك لازم لها؛ لأنها أعطته مالها طيبة بذلك نفسها، وقوله هذا مفسر لهذه الرواية، وأطال الكلام في هذه المسألة إلى أن قال الحطاب:
تنبيه: فعلى ما قاله ابن رشد إذا كان الملتزِم يعلم أن ذلك الفعل يجب على الملتزَم له، ثم علق الالتزام عليه؛ فإنه يلزمه ويحمل على أنه أراد ترغيبه في الإتيان بذلك الفعل، كقوله: إن صليت الظهر اليوم فلك عندي كذا وكذا.
والله أعلم.
وذكر كثيراً من المسائل، من هذا النوع: من أعطى لزوجته داراً على أن تسلِم.
ومن ذلك أيضاً: من يقول لعبده: إن تركت شرب الخمر أو الزنا؛ فأنت حر، فهذا لازم.
أما الوعد بالهبة في صلب العقد إذا كان من شأنه أن يؤثر على الثمن؛ فهذا لا يجوز، وهو من باب الجعل، والجعل لا يجوز جمعه مع الإجارة، فكأنه قال له: إن فعلت كذا فلك كذا، قال خليل في الإجارة: (وفسدت إن انتفى عرف تعجيل معين كمع جعل).
قال الزرقاني لتنافي الأحكام فيهما: فهذا الوعد بالهبة -كما ترى- فهو جهة جعل لا يجوز جمعه مع الإجارة، ومن جهة أخرى قد يؤثر في الثمن، أي: في قدر الإيجار، فلا يدري ما أعطى مقابل الوعد بالهبة، أي: هي هبة ثواب، وما أعطى مقابل الإيجار حقيقة.
والوعد بالهبة في صلب العقد بالإجارة أو بالمساقاة أو غيرهما لا يوجد فيه نص صريح ما عرف عن مالك وابن القاسم وسحنون من وجوب الوفاء بالوعد إذا أدخل الموعود في ورطة، إلا أنهم إنما افترضوا هذه المسألة في عقود أخرى كالخلع، قال خليل: (وبالوعد أن ورطها).
أما في عقد البيع مثلاً، فظاهر كلام مالك يدل على المنع إذا كان الأمر معلقاً على شيء لا يدري هل يقع أم لا؟
قال الحطاب في التزاماته: (قال في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من جامع البيوع: سمعت مالكاً يقول: لا أحب البيع على أنه إذا وجد ثمناً قضاه، وإن هلك ولا شيء عنده لا شيء عليه.
قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات؛ لزم المشتري قيمتها يوم قبضها.
قال محمد بن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع؛ لأنه غرر، فالحكم فيه الفسخ مع قيام السلعة شاءً أو أبيّاً، ويصبح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو ظاهر قول ابن القاسم وتفسير لقول مالك، إذ قد يقول كثيراً فيما يجب فيه الفسخ لا أحب هذا، أو أكرهه أو شبهه من الألفاظ، فيكتفي بذلك من قوله.
ونقله في النوادر وزاد فيه: قال ابن القاسم: هذا حرام، ويُرَدُّ، فإن فات فعليه قيمتها يوم قبضها.
أما الوعد بالبيع فهو مؤثر على الثمن ومخل بهن، وسبب للجهالة، وأكثر افتراضات نصوص المذهب وشروحه إنما هي في إيجاب الوفاء بالوعد في مسائل التبرعات، كالهبة؛ لأنها تملك بالقول عند مالك، وهذا من أسرار مذهب مالك في مسألة الوعد، وكذلك الصدقة والعتق والطلاق.
أما البيع فإنه لا ينعقد إلا بالصيغ المشار إليها بقول خليل: ينعقد البيع بما يدل على الرضا.. إلى آخره، فالتزامه بالوعد إلزام بالبيع، والنظر في العقود غالب إلى المآل كما أشار إليه الزرقاني في مسائل الثنيا.
وعليه فهذه الصيغة تعتبر تلفيقية في غاية الضعف.
أما الوعد بالبيع بعد عقد الإجارة فيخرج على المسألة المشهورة عند المالكية، وهي إذا قال البائع للمشتري بعد عقد البيع: إذا أنا أتيتك بالثمن رددت إلى المبيع، فقبل المشتري بذلك؛ فإن ذلك يلزمه.
قال الحطاب في التزاماته: مسألة:
قال في معين الحكام، ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا فالمبيع له، ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل، أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك؛ نقض أن أراده البائع ورُدَّ إليه، وإن لم يأتِ بالثمن إلا بعد انقضاء الأجل؛ فلا سبيل له إليه، وإن لم يضربا لذلك أجلاً فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمان أو بعده ما لم يفوته المبتاع، فإن فوته فلا سبيل له إليه، فإن قام عليه حين أراده التفويت فله منعه بالسلطان إذا كان ماله حاضراً، فإن باعه بعد منع السلطان له رُدَّ البيع، وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه.
ويتخرج أيضاً قاعدة الشروط اللاحقة لا يبطل بها العقد، كما نقلناه عن ابن زرب من المالكية وابن بشر وتلميذه ابن عتاب.
خلاصة القول:
إن هذا العقد المسمى بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك في شكله القانوني والعرفي الحالي لا يشبه العقود الجائزة، ولا يمكن أن يكون جائزاً على بعض أقوال العلماء إلا إذا أخذ إحدى الصيغ الخمسة التالية:
أولاً: أن يكون إيجاراً حقيقيّاً، ومعه بيع خيار عند من يجيز الخيار المؤجل إلى أجل طويل؛ كالإمام أحمد، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف، وابن المنذر، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي ثور يشترط أن تكون المدة معلومة محدودة، واجتماع البيع مع الإجارة جائز في عقد واحد بشرط أن يكون لكل منهما موضوع خاص به في رأي كثير من العلماء، كالشافعية والحنابلة والمالكية، قال خليل عاطفاً عطف مغايرة: (كمع جعل لا بيع)، قال الزرقاني بعقد واحد، فلا يفسد كاشترائه ثوباً بدراهم معلومة على أن يخيطه البائع.
وإننا فرقنا بين هذا وبين الوعد المؤثر بالثمن بالجهالة؛ لأنه هنا إجارة حقيقية وبيع بالخيار، بشرط أن يعقدا على ثمن خاص للبيع يشبه مثله.
ثانياً: وعد ببيع لاحق بعد الإيجار، وقد علمت تخريجه على مسألة الإقالة السابقة، وهذه الصيغة ضعيفة لا تجد سنداً إلا في أصل وجوب الوفاء بالوعد، وهو في البيوع غير مفرَّع عليه في المذهب كما أسلفنا، إلا أنها لما كانت بعد العقد كانت أخف من شرط البيع الواقع في العقد؛ فأمكن تخريجه على الوعد الواقع على سبب وقد تقدم ما فيه.
ثالثاً: وهو أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن، وهذه ليست من باب البيع؛ فيكون البيع معلقاً على دفع آخر الثمن، وحسبما يفيده الزرقاني عن ابن الحسن على المدونة، هذه الصيغة جائزة معمول بها وسلمه البناني مع كلمة (ألا يمضي) بدل من كلمة (أن لا ينعقد)؛ فتكون الذات كالمحبوسة للثمن أو للإشهاد، كما أشار إليه خليل بقوله: (وضمن بالقبض إلا المحبوسة للثمن أو للإشهاد فكالرهن).
فالبيع منعقد غير نافذ، فإذا دفع بعض الثمن وأراد البائع استرجاع السلعة؛ يُرَدُّ ما أخذ من الثمن.
وصورة رابعة: وهي أن يبيعه بيعاً باتّاً على أن لا يتصرف له في المبيع حتى يفي بالثمن، فيلزمه الوفاء بذلك، وتصير كالمرهونة، فلا يتصرف فيها، وهي مستثناة من قول خليل: (وكبيع وشرط يناقض المقصود، قال الدردير: (كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع أولا يجلب أو لا يتخذها أم ولد).
ونقل عليش في شرحه ما يلي: في سماع عن ابن زياد، سئل مالك رضي الله عنه عمن باع عبداً أو غيره وشرطه على المبتاع أن لا يبيعهن ولا يهبه، ولا يعتقه حتى يعطيه ثمنه، فلا بأس بهذا؛ لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن لأجل مسمى.
خامساً: وعد بهبة لاحق بعقد الإيجار جار على سبب، وهذا أجدر هذه الأوجه بالجواز، وأولاها بالصواب، وهذا ما نراه في هذه المسألة باختصار.
نسأل الله السلامة من العثار، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[1] راجع: (الدسوقي في حاشيته على الدردير الجزء الثالث: ص175، 176).
[2] راجع: (ص366) من تحريم الكلام في مسائل الالتزام.
[3] انظر: المنثور في شرحه على الزقاق: (ص87، و88) مخطوطات الشنقيطي.
[4] (انظر المنثور: ص135 و 136).
[5] راجع المغني لابن قدامة في مسألة تعليق الهبة: (5/658).