كلمة في ملتقى “إنسانية واحدة ضد الجوع” – العلامة عبدالله بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كلمة في ملتقى “إنسانية واحدة ضد الجوع”
الكويت 26 نوفمبر 2018
معالي الشيخ عبد الله بن بيه
رئيس منتدى تعزيز السلم
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي
معالي المستشار الدكتور فهد محمد محسن العفاسي وزير العدل وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
معالي الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، مستشار صاحب السمو أمير الكويت،
معالي الدكتور عبد اللطيف بن راشد الزياني، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربي،
أصحاب المعالي والفضيلة والاحترام،
أيها الحضور، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
في مستهلّ مؤتمرنا هذا الذي يشرف برعاية كريمة من صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية، أتوجّه بالشكر لمعالي الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، لاضطلاعه بأعباء هذه المبادرة واحتفائه بها وبذله الجهود المضنية في سبيل إنجاحها والحشد لها. فله جميل الثناء وصادق الدعاء.
لقد كناّ معا في واشنطن بداية شهر فبراير الماضي، في تجمُّع كبير ضمّ قياديين من رجال العائلة الإبراهيمية في الولايات المتحدة، وبمشاركة كثير من محبي الخير من أبناء العائلة الإنسانية الكبرى، من سياسيين وأكادميين وفاعلين مجتمعيين.
سعينا في مؤتمر واشنطن لإيقاظ النفوس واستصغاء القلوب إلى دعوة السلام والتعاون في سبيل صياغة تحالف إنساني، يستلهم من حلف الفضول، ويقوم على تفعيل القيم المتشركة، قيم العدل والرحمة والتآسي في المعيشة، التي أدَّى تجاهلها وإذكاء الخصوصيات عوضها إلى ما هو مشاهد من الحروب والاقتتال.
لقد رام حلف الفضول الجديد أن يستلهم القيم التي قام عليها حلف الفضول التاريخي، وهو حلف استمد فرادته من كونه لم يؤسس على ما هو معهود في ذلك العصر من المشترك الديني أو الانتماء القبلي أو العرقي، بل تأسس على القيم والفضيلة، ومنا هنا زكاه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أُحِبُّ أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)، وذلك أن الإسلام يزكي الفضيلة أيا كان مصدرها ومهما كان مصدرها، وأيا كان منشئها أو منشؤها.
استلهاما لهذه الروح، روح حلف الفضول، حرصنا أن يكون من مخرجات مؤتمر واشنطن الدعوة إلى إطعام مليار جائع، من المعوزين من بني الإنسان، بلا ميز بينهم بالدين أو العرق أو الوطن ، وخاصة ضمن المجتمعات التي تعاني من أثر الحروب والصراعات الدموية.
لقد أطلقناها معا دعوة عامة عليها يجتمع الجميع، وفي سبيلها يتعاون كافة الأطراف من الجهات الحكومية والهيئات الدينية ومنظمات المجتمع المدني.
أيها الحضور،
لا تزال تقارير الأمم المتحدة وهيئات الإغاثة الدولية والمنظمات الناشطة في العمل الإنساني تدقّ أجراس الخطر وتصدع بحقيقة مؤلمة يكاد لا يصدقها العقل، حول أعداد البشر الذين يموتون سنويا من جراء المجاعة وسوء التغذية، ويكفي أن نعلم أنه في كلّ خمس ثوان يموت طفل من الجوع، فضلا عن مئات الملايين مِن مَن لا يجدون ما يسدُّ رَمَقَهم أو يروي عطشهم.
إن هذا الواقع المرير ناشئ عن اختلالات بنيوية في منظومة الإنتاج والتوزيع في الاقتصاد العالمي، لما أصاب هذه المنظومة من انفصام حادّ بين فلسفة الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إليهة أو إنسانية نبيلة، وغدا الإنسان مخلوقا جسديا ، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، فلا نبل ولا كرم ولا إيثار ولا تضامن ولا نظر في المآلات إلا مآلات الربح بلا روح والثروة بلا رائحة حيث استولى الشح على النفوس وهيمن الجشع على الأثرياء.
ذلك هو ما يُلقي على عاتق رجال الدين مسؤوليةَ السعي من مواقعهم وانطلافا من دوائر تأثيرهم واهتمامهم ليسهموا في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يُعيد الفاعليةَ لقيم الرّحمة والغوث ويُرسي معاني التعاون والإحسان وفعل الخير، من خلال مبادرات، تتصف بالديمومة والتجدُّد، تجمع ولا تفرِّق، تنفع ولا تضر، تتّسق مع روح الأديان وتستجيب لحاجات الإنسان.
منذ تأسيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة سنة 2014 في أبو ظبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة، لم نزل نعتبر أن من أهم عناصر الارتكاز في رؤية المنتدى التأكيدَ على مِحورية المَدخل القِيميّ في تجديد الخطاب الديني واستعادة البعد الإنساني لهذا الخطاب، باسْتثمار ما تتيحه النصوص القطعية والمقاصد الكلية، من الأرضية الروحية الصلبة لإطلاق مبادرات ميدانية تعيد للدين طاقته الإيجابية، ليغدُوَ بلسما لجراح الإنسانية ودواء لمآسيها وسكينة تنزل على القلوب وحُبّا يَسْكُن في النُّفوس.
إن المنتدى، في هذه الرؤية، ينطلق من قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، فمقاصد السلم والإصلاح بين الناس والرحمة والمحبة هي مرتكزات الرواية الصحيحة للإسلام التي يسعى المنتدى في جميع المحافل للتأصيل لها وتوصيلها.
وها نحن اليوم نجتمع في إطار هذه الرواية والرؤية لندعوَ إلى أفضل الصدقة، إطعامِ الجائع، مواساة المحتاج ومَدِّ يد العون للفقير، ونحن نستحضر حديثا من أوّل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة حين دعا الناس قائلا : “يأيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصَلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام”. وقد روى البخاري موقوفا على عمار بن ياسر رضي عنهما وهو في حكم المرفوع، ورُويَ مرفوعا، أنه قال : ( ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من أقتار).
في الرُؤية التي يتبناها المنتدى، انطلاقا من هذه النصوص، لا انفكاك بين مقصد السلم ومقصد الأمن الغذائي، وهو ما نفهمه من قوله تعالى ” الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”؛ و قد أيدت الدراسات المتخصصة والتقارير الدولية هذا التلازم، حيث بَرَز أن من أهم أسباب المجاعة في العالم -بالإضافة إلى العوامل المناخية المتربطة بالاختلالات البيئية، عامل الحروب الأهلية والصراعات الدموية التي تدمر النسيج الاقتصادي للمجتمعات وتكسر دائرة الإنتاج والتوزيع وتعيق الوصول السلس إلى الأسواق.
إن هذه الدّعوة من صميم رسالة كافة الديانات السماوية والفلسفات الإنسانية، فكل النصوص المقدسة جاءت بدعوة الإنسان إلى الإنفاق والتصدّق والبذل ولو من إقتار وقيمة الإيثار.
وأخيرا أقول لمعالي الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، لقد وَفَيْتَ بوعدك في واشنطن، فلمعاليكم الشُّكر وللهيئة الخيرية الإسلامية العالمية ولدولة الكويت، أميرا وحكومة وشعبا كريما مِعْطاءً، فجزاكم الله خيرا، وتقبّل الله منّا ومنكم.