التسامح وأسسه المنهجية في الإسلام

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

التسامح وأسسه المنهجية في الإسلام

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان

سعادة الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي

أصحاب الفضيلة والسعادة،

أيها السادة والسيدات،

كل باسمه وجميل وسمه،

أود في هذه الكلمة المقتضبة أن أتحدث عن مفهوم التسامح وأسسِه المنهجية في الإسلام، وأن أختم كلمتي بإطلاعكم على بعض جهود منتدى تعزيز السلم في نشر وترسيخ ثقافة التسامح وقيَّمه بوصفها جهودا تندرج ضمن الرؤية العامة للدولة.

ولكن بادئ ذي بدء دعوني أتقدم مجدّدا بالتهنئة والمباركة إلى القيادة الرشيدة بمناسبة اختيار موضوع التسامح عنوانا لهذا العام، وهو اختيار حكيم يأتي انسجاما مع رؤية دولتنا القائمة على قيم السماحة والتسامح التي جسدها مؤسس هذه البلاد، المغفور له زايد بن سلطان آل نهيان.

لقد كان عامُ زايد الخير مناسبةً متجددة للتنويه بقيم السماحة، قيم الجود والبذل والعمل الإنساني، وستكون السنة الجديدة مناسبة أخرى للتنويه بقيم التسامح، وقبول الآخر والتعايش السعيد والأخوة الإنسانية.

والتسامحُ والسماحة صِنوان في الشخصية الإماراتية، سجيتان غير متكلفتين وطبعان غير مبتدَعيْن.

 كما أتوجّه بالشكر الجزيل إلى القائمين على هذا المركز على توجيههم لي الدعوة للمشاركة في هذه الندوة المهمة حول هذا الموضوع المهم.

وأوّل ما أفتتح به القول في التسامح أن أذكّر بجذوره اللغوية وسياقاته الحضارية المختلفة.

التسامح في اللغة والنصوص الإسلامية:

التسامح مصطلح أصيل في اللغة العربية وإن كان استعماله المعاصر ترجمة موفّقة لمصطلح أوروبي مستحدث، فالتسامح في العربية هو الجود والكرم والسخاء ومن معانيه أيضا المساهلة  والسعة.

وقد وُصفت الشريعة بأنها حنيفية سمحة، كما قال عليه الصلاة والسلام ” بعثت بالحنيفية السمحة”، أي السهلة الميسّرة، حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، مما يدل على رفع الإصر والحرج فيها والبعد عن التشدُّد.

وقد يعبّر عن التسامح في القرآن الكريم بأربعة مصطلحات: العفو والصفح والغفران والإحسان. فالتسامح معنى فوق العدل، الذي هو  إعطاء كل ذي حق حقه، أما التسامح فهو بذل الخير لا في مقابل، فهو من قبيل الإحسان الذي يمثل قمة البر وذروة سنام الفضائل.

إن التسامح هو التسامي عن السفاسف، إنه عفة اللسان عن الأعراض، وسكون اليد عن الأذى. إنه التجاوز عن الزلات والتجافي عن الهفوات. التسامح هو (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).  التسامح هو أن تعطي من منعك وتصل من قطعك.

التسامح في السياق الغربي:

أما لدى الغربيين فيقابل كلمة التسامح في اللغتين الإنجليزية والفرنسية (Tolérance) والتي تعني احترام حرية الآخر وطريقة تفكيره وتصرفاته وآرائه السياسية والدينية.

وقد ظهر هذا المصطلح في أوربا خلال نهاية القرون الوسيطة وبداية الأزمنة الحديثة،  في مرحلة تميزت بالصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية؛ حيث ظهرت أصوات كثيرة تطالب بالتسامح المتبادل والاعتراف بحق المخالفين في حرية التعبير عن قناعاتهم المغايرة، وممارستهم لشعائرهم الدينية.

ويعتبر كارل بوبر أنه ما من أحد يضاهي فولتير في روعة التعبير عن التسامح؛ حين ربط بين التسامح وبين الوعي بالضعف الملازم لكينونة الإنسان، الذي يعرفه كل واحد من نفسه فيجعله قادرا على تفهم خطأ الآخر وضعفه.

 ورغم هذا التصور الإيجابي،  لم يكن دعاة التسامح أنفسُهم يعتبرون الحق في التسامح  حقا مطلقا، وإنما ربطوه – على غرار ما فعل جون لوك وفولتير- بمقصِد السلم من خلال مفهوم النظام العام للمجتمع، فإن حدود التسامح تقف حيث يصبح الفعل أو الفكر يُقْلِق راحة المجتمع ويهدد سِلمَه الأهلي.

وهكذا نشأ مفهوم التسامح بوصفه مفهوما وظيفيا يقصد تحييد التأثير السلبي للاختلاف في المعتقد والاختلاف الجِبِليِّ أيضا في الآراء والرؤى. ولذلك يرى بعض الفلاسفة أن مفهوم التسامح في بعده الإجرائي لا يمكن أن يقصر على  عناصره الأخلاقيِّة بل لن يؤتي أُكله مكتملا إلا حينما ينظر إليه بوصفه مفهوما سياسيا قانونيا.

ولعل هذا هو ما تَــغَــيَّـاهُ إعلان المبادئ حول التسامح الصادر عن اليونسكو في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1995م حيث ربط بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم، وارتقى بالتسامح إلى صورة قانونية تتطلب الحماية من قبل الدول والمجمتع الدولي بأسره.

ولا يفوتني هنا وفي سياق المفهوم القانوني للتسامح أن أشيد بالرؤية الرشيدة لقيادتنا في ترسيخ ثقافة السلم والتعايش، وبنائها على أسس متينة من الحقوق والواجبات المتبادلة، وهي رؤية تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي وفي وضوح الهدف، وذلك من خلال سَنِّ القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2015 لمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان، الذي يعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف، وأنشات لهذا الغرض أيضا وزارة التسامح.

 

الأسس المنهجية للتسامح في الإسلام:

إن التسامح في الإسلام يشكل ثقافة متكاملة لها قيمها ومظاهرها ومجالاتها، كما له أسس منهجية عليها ينبني ومن خلالها يتجذّر، وسنستعرض بعضها: الرؤية الإسلامية للآخر، وموقف الإسلام من الاختلاف والتعددية، ومكانة الحوار في الإسلام.

أولا: الرؤية الإسلامية للآخر:

 إن الإسلام يعتبر البشر جميعا إخوةً، فيسد الباب أمام الحروب الكثيرة التي عرفها التاريخ الإنساني بسبب الاختلاف العرقي.

إن الآخر في رؤية الإسلام ليس عدوا ولا خصما بل هو على حد عبارة الإمام عليّ رضي الله عنه: ” أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْقِ”، فالآخر هو كما تقول العرب الأخُ بزيادة راء الرحمة والرأفة والرفق، إنه الأخ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.

ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامة الإنسانية بوصفها أولَ مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرّمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(سورة الإسراء الآية 70). ولهذا فإن الكرامة الإنسانية سابقة في التصوّر والوجود على الكرامة الإيمانية .

وهذا التصور الإيجابي للعلاقة بين الذات والآخر أساس متين للتسامح.

ثانيا: الإسلام والاختلاف والتعددية

 إنّ التعدد هو سنة كونية، وكذلك هو فطرة بشرية، فالناس من فطرتهم أن تخلتف رؤاهم وتصوراتهم ومعتقداتهم ومصالحهم.  ولم يكن الإسلام في يوم من الأيام إلا معترفا بهذا المبدأ ومعلنا بضرورة احترامه.

وإن اعتراف الإسلام بالتعددية الدينية ليس مجرد اعتراف بل هو احترام وحماية:

ولَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ

فقد جعل الله عز وجلّ البِيَعَ والكنائس محمية لا يمكن أن تمتد إليها يد الاعتداء، والتاريخ يثبت أنه لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه هدموا كنيسة ولا بَيْعةً ولا بيت نار، وتلك هي الديانات التي كانت موجودة في المجال الحضاري للإسلام يومئذ.

وقد علم الإسلام المؤمنين أن الإيمان المطلق بالدين لا يعني عدم قبول الاختلاف، فالمسلم يؤمن بدينه ويتقبل الاختلاف والتنوع، ولا يمكن أن يكون هذا الاختلاف مبررا للتدابر والتقاطع.

ولقد مثلت صحيفة المدينة المنورة إطارا ناظما لترسيخ ثقافة التسامح من خلال التأسيس للتعددية الاختيارية، وبناء عقد اجتماعي على أساسها، يقدم مصالح التضامن والتعاون في شكل حقوق وواجبات. فكانت هذه الصحيفة بحق وثيقةً مؤسسة للمفهوم القانوني للمواطنة المحققة والضامنة للتسامح.

ومن أهم ملامح حقوق الإنسان المؤسسة للتسامح في الصحيفة الاعتراف للجميع بحقهم في ممارسة دينهم، فسدّ الإسلام بذلك الباب أمام الحروب الدينية التي كاد التاريخ البشري أن يكون مجرد سجل لها.

ثالثاً: تعزيز ثقافة الحوار

إن الحوار واجب ديني  وضرورة إنسانية، وليس أمرا موسميا؛ ولذا أمر به الباري عز وجل فقال “وجادلهم بالتي هي أحسن” وبالحوار يتحقَّق التعارف والتعريف، وهو مفتاح لحل مشاكل العالم؛ حيث يقدم كما يقول أفلاطون البدائل عن العنف؛ لأنه بالحوار يُبحث عن المشترك وعن الحل الوسط الذي يضمن مصالح الطرفين، وعن تأجيل الحسم العنيف، وعن الملائمات والمواءمات، التي هي من طبيعة الوجود، ولهذا أقرها الإسلام، وأتاح الحلول التوفيقية التي تراعي السياقات، وفق موازين المصالح والمفاسد المعتبرة.

إن اعتماد وسيلة الحوار لحل المشكلات القائمة يوصل إلى إدراك أن الكثير منها وهمي لا تنبني عليه مصالح حقيقية، وبهذه الحلول التوفيقية التي يثمرها الحوار، تَفقد كثير من القطائع والمفاصلات والأسئلة الحدّية مغزاها، وتتعزز ثقافة التسامح وقبول الآخر في النفوس.

جهود منتدى تعزيز السلم في نشر التسامح:

 إن دولة الإمارات العربية المتحدة بلدُ زايد ومعدنُ المجد تقدم المقاربات الحية والمبادرات القوية على مختلف الصُّعُد وفي المحافل الدولية والإقليمية بجسارة وكفاءة. ولعل آخر هذه المبادرات ـــ ولن يكون الأخير بإذن الله ـــــ ما بلادنا بصدده في الأيام المقبلة من استقبال البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهي زيارة تندرج في الإطار الحضاري للرؤية الإماراتية المرتكزة على مبادئ تعزيز السلم في العالم وغرس ثقافة التسامح وترسيخ معاني الأخوة الإنسانية في العالم.

إننا في مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي نعمل داخل هذا الإطار ووفق هذه الرؤية؛ حيث إن من أهدافنا ضبط الفتوى لما لها من دور أساسي في ترشيد التدين وبث الوعي الديني الصحيح وترسيخ التسامح في النفوس، وذلك من خلال إنشاء جيل من المفتين الراسخين في دينهم وثوابته، الواعين بعصرهم ومتغيراته.

ونحن بصدد تنظيم دورات تدريبية للمفتين والأئمة في الدولة وخارجها على ثقافة التسامح ووسائل تجسيدها في فتاويهم وخطابهم التوجيهي.

إن نفس الرؤية هي التي تندرج جهودنا ضمنها في منتدى تعزيز السلم كذلك، حيث لم نزل نعمل منذ حظينا بكريم الرعاية وجميل العناية من قيادتنا الرشيدة على تقديم الرواية الصحيحة للإسلام والرؤية السليمة للسلم، من خلال معالجة ثقافية شاملة، وتجديد فكري كامل، مرتكز على محورية قيم السلم والتسامح.

وكما مرّ معنا آنفا ليس السلم والتسامح إلا وجهين لمفهوم واحد، فلا سلام إن لم تتجذر قيم التسامح في النفوس، كما لا تسامح عندما يستعاض عن السلام بالاحتراب والاقتتال. فكل واحد منهما لازم عن الآخر.

إننا ننطلق في المنتدى من الإيمان بأن التأويل المقارب الذي يجيده العلماء الراسخون هو السبيل الصحيحة والإطار الأمثل الذي يعيد للدين طاقته الإيجابية، ليغدُوَ بلسما لجراح الإنسانية، ودواء لمآسيها، وسكينة تنزل على القلوب، وحُبّا يَسْكُن في النُّفوس.

ولم نزل منذ محطاتنا التأسيسية الأولى نعمل على صناعة جبهة موحّدة وتحالف بين محبّي الخير في إطار الدوائر المختلفة : دائرة البيت الإسلامي الخاص، وفي دائرة الديانات الإبراهيمية، وبشكل عام في دائرة الأفق الإنساني الأرحب .

  وفي هذا الصدد، جاء إعلان مراكش التاريخي في يناير 2016 ليضع الأسس المعرفية لهذا المسعى من خلال الكشف عن المبادئ الكلية للخطاب الإنساني في الإسلام.

وتأسيسا على هذا الإعلان؛ قامت قيادات دينية أمريكية تمثل العائلة الإبراهيمية الكبرى في الولايات المتحدة، بوضع ملامحِ مبادرةٍ تتصف بالديمومة للتعاون الإيجابي بين أتباع الديانات الكبرى، من أجل التّخفيف من النبرة العدمية، وإبعاد شبح الكراهية والعنصرية، وتعزيز روح التسامح والتعارف.

وتتويجا لهذا المسار واستكمالا لحلقاته، عقد منتدى تعزيز السلم في العاصمة الأمريكية واشنطن في مطلع فبراير 2018، مؤتمرا دوليا بعنوان “حلف الفضول من أجل الصالح العام”، وقد مثّل هذا اللقاء التاريخي محطة بارزة في مسيرة العمل الديني المشترك من حيث شكله وأبعاده؛ إذ هذه هي أول مرة يلتئم فيها شمل العائلة الإبراهيمية بكل فروعها على أسس جديدة لحوارٍ دينيّ يتجاوز منطق الجدل الديني والتبشير بالحقيقة الخاصة لكلّ دين إلى منطق التعارف والتعاون انطلاقا من القيم والفضائل المشتركة.

وتأسيسا على الآمال التي نشأت لدى الكثيرين في مؤتمر واشنطن خصصنا الملتقى الخامس الذي انعقد في أبوظبي ديسمبر 2018 للدعوة لحلف فضول جديد بين الأديان يقوم على مبدإ التعارف وآلية الحوار، وهو حلف يضمُّ أديان العائلة الإبراهيمية باعتبارها تتشارك في الرواية الأصيلة للقيم والفضيلة وأصول الأخلاق التي تؤسس للسلام والتعايش بين مختلف الشعوب، ومن ثم فهي تؤمن بقيم المحبة والرحمة والإحسان على الإنسان، وهي قيم ترتقي بالتسامح إلى مرتبة الإخاء وبالمساواة في المواطنة لتكون تضامنا بين المواطنين. وإننا نعتزم بإذن الله تخصيص الملتقى السادس للتسامح ودور الأديان في تعزيز قيمه في العالم.

وفي الختام أجدد شكري وعرفاني للمنظمين،

ونسأل الله عز وجل أن يسبغ على الإمارات نعمه ظاهرة وباطنة وأن يديم عليها روح التسامح والسماحة، في ازدهار واستقرار دائمين إلى يوم الدين.

Comments are closed.