الرسالة تنفرد بأول حوار مع العلامة عبد الله بن بيه حول كتابه الجديد “مشاهد من المقاصد”

 

 ومن وحي الكتاب و مشكلات العصر وعلاقاتها بفقه المقاصد

كان هذا الحوار مع الشيخ بن بيه حول بعض الإشكاليات المتعلقة بالمقاصد.


·شيخنا لوحظ أن آخر كتابين لك صدرا مؤخراً تتعلق بالمقاصد. هل هناك فعلاً حاجة ماسة للكتابة في المقاصد، وهل هضم حقها مقارنة بسائر العلوم الشرعية؟

o كما تفضلت آخر كتابين لي عن المقاصد أحدهما عن المقاصد في المعاملات إثر الأزمة المالية العالمية والآخر عن “مشاهد من المقاصد” ذكرت فيه جملة من الموضوعات التي تفتقر إلى رؤية مقاصدية في الوقت الحاضر، ولا أقول إن المقاصد هضم حقها لكن الأحداث في العصر الحديث طرحت موضوعات، وقدمت إشكالات تحتاج إلى رؤية مقاصدية، فهذا هو السبب في تأليف هذه الكتب.


·يلاحظ توقف الاجتهاد والتجديد في باب أصول الفقه والمقاصد. هل يمكن أن تتجدد الأصول والمقاصد؟

o المقاصد تجدد أصول الفقه بعلاقة تفاعلية بينهما، والمقاصد هي روح الأصول.


·وهل يمكن أ ن تتجدد المقاصد؟

o المقاصد على نوعين: مقاصد الشارع في وضع التشريع جملة وفي وضعه تفصيلاً وهذه ثابتة يتجدد الاكتشاف لها، ومقاصد المكلفين وهذه بالطبع متغيرة، ومن خلال العلاقة بين المنظومتين تتجلى مظاهر التجديد.


·القياس والإجماع يعتبران من أصول الاستدلال لدى بعض المذاهب الفقهية، هل يمكن أن تكون المقاصد كذلك من أصول الاستدلال؟

o المقاصد ليست شيئاً مستقلاً عن القياس والإجماع هما من الأدلة التي تدخل فيها المقاصد أي أنهما دليلان يكشفان عن المقصد أحياناً وأحياناً يكشفهما المقصد، وبخاصة في مجال القياس لأن القياس هو مفردة من مفردات المقاصد.


· لكن كأداة لاستنباط الأحكام الشرعية؟

o بطبيعة الحال لو نظرنا إلي المقاصد الشرعية بنوعيها الجزئية والكلية، فالقياس والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان،… كل هذه الأبواب من جملة الأبواب التي تستثمر المقاصد، فهي روح أصول الفقه. ومحاولة عزل المقاصد عن أصول الفقه لا تبدو لي صحيحة بل هي ستخل بالمقاصد وتجعلها غير منضبطة. وأنا أختلف مع بعض الأساتذة الكرام والطاهر بن عاشور كان هو أصل هذه الفكرة والأمر عند التدقيق عن كثب وكما أوضحته في كتبي وبخاصة في كتاب “مشاهد من المقاصد” هي كالروح في الجسد وكالمعدود في العدد.


· بعض العلماء يرد أسباب عدم التوسع في النظر إلى المقاصد إلى القياس والإجماع.

o المقاصد لا تهدم الإجماع المطبق خاصة ما كان عليه الصحابة بل هو الذي يبين المقصد ويكشفه، أما إذا كان إجماعاً ضعيفا كإجماع السكوت الذي اختلف فيه العلماء فالمقاصد هنا لها قول ومكانة في الترجيح. أما القياس فإن الشيء لا يهدم نفسه فالمقاصد هي الآلية للقياس. 


. البعض عزا ضعف النظر إلى المقاصد بسبب التمسك بظاهر الأحكام والنصوص.

o نعم هذا صحيح، ونحن أمام مدرستين مدرسة ضيقت النظر إلى المقاصد وعملت بظاهر النصوص، وهي مدرسة قديمة: المدرسة الظاهرية، ومازالت موجودة مع تفاوت في ضيق الأفق واتساعه، ومدرسة يمكن أن نقول أنها انفلتت وقالت بالمقاصد في كل شيء، وبالتالي أهملت النصوص أو تعاملت معها تعامل غير سليم؛ فأولت ما لا يصلح للتأويل، وعللت ما لا مجال فيه للتعليل، وهذا النوع ينتسب إليه بعض العلمانيين الذين قالوا باعتبار المقصد الأعلى وهو المصلحة وبالتالي لا يقيمون وزناً للنص ولو كان متواتراً ولو كان أيضاً قطعي الدلالة، هذا أيضاً من وجوه الاجتهاد الفاسد. وهناك مدرسة متوسطة قالت بالمقاصد وفي نفس الوقت راعت النصوص والقواعد وهذه المدرسة يمكن أن نعتبرها مدرسة المذاهب الأربعة مع تفاوت بينها؛ فهناك من هو أقرب للحرفية وهناك من توسع في المقاصد كأبي حنيفة الذي علل عدداً من العبادات.


·هل يمكن أن نعتبر الموقف من الفلسفة والعقل أثر على المقاصد؟

o الفلسفة هي البحث عن الحقيقة، والأدوات الفلسفية والمنطقية هي أدوات للاستكشاف، ويمكن أن تستكشف بها المقاصد لأن المقاصد تستكشف وتستثمر.


· لكن في الثقافة الإسلامية هناك موقف سلبي من الفلسفة والعقل هل أثر ذلك على إثراء المقاصد؟

o بعض المدارس ربما عممت حكماً على الفلسفة لأنها رأت بعض الباطل أو ما اشتبه عليه فيها، أما المسلمون من القرن الثالث وحتى في أواخر القرن الثاني استعملوا الأدوات الفلسفية، وعلماء المسلمين استخدموا الفلسفة والمنطق وإن شئت اقرأ كتباً لأبي حامد الغزالي وغيره لتعرف أن الفلسفة ليست منبوذة بالكلية، وإن كانت الفلسفة اليونانية في بعض التطبيقات ليست صحيحة دينياً ولكن مع ذلك هي أدوات وكل الأدوات هي محايدة؛ فالقياس التمثيلي أو القياس الشمولي أو الاستقراء هذه أدوات يستعملها العالم من الذرة إلى المجرة، وهي أدوات تصلح للفقه كما تصلح للتجريب والعلوم؛ لذلك هذه الأمور يجب أن نقترب منها عن كثب حتى نفهمها ولا نرمي الأمور جزافاً هكذا بدون أن نراجع أنفسنا في مثل هذه القضايا.


·شيخنا أطلقت مصطلحاً جديداً أسميته “المقاصد القدرية الكونية” كالاختلاف والرحمة. هل يمكن أن يكون الاختلاف مقصداً بذاته؟

o في الحقيقة هذا سؤال جيد، نعم الاختلاف مقصد كوني لقوله تعالى “ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” إذا أخذنا بقول من قال “ولذلك” أي للاختلاف وبعضهم قال للرحمة، ويمكن أن ننظر إليه على أنه مقصد شرعي إذا نظرنا إليه من باب التوسعة والتيسير كان أحدهم يؤلف في اختلاف العلماء فقال له الإمام أحمد بن حنبل اجعله (كتاب التوسعة) أي جعله توسعة ورحمة، ويمكن من هذا الوجه أن نعتبره من المقاصد الشرعية. والمقاصد الكونية يمكن أن يطلق عليها المقاصد الخلقية أي أن الله خلق الخلق عليها.


·هناك مقاصد كبرى مثل الاستخلاف وعمارة الأرض وكرامة الإنسان وحريته، برأيك لماذا غابت هذه المقاصد عن الأطروحات الفقهية؟

o لكل عصر مشكلاته وأولوياته لذلك يجب أن لانحاكم العصور الماضية بقضايا العصور الحالية، لكن بصفة عامة أصولها موجودة فمثلاً في كرامة الإنسان يقول تعالى:”ولقد كرمنا بني آدم”، وعلينا أن نحاول استكشافها على ضوء أسئلة العصر، وهو عصر فريد من نوعه لم يسبق في التاريخ أن كانت البشرية على هذا النحو سواءً من ناحية العلوم الكونية أو من ناحية الأوضاع الاجتماعية والعلاقات البشرية والاتصال والتواصل، كل هذه أمور جديدة لها أسئلتها فعلينا أن نحاول الإجابة عليها من خلال النصوص والقواعد ومن خلال الكليات والمقاصد.


·غياب المقاصد والتخلف هل من علاقة بينهما؟

o هذا سؤال في محله، تخلف الأمة في الحقيقة يرجع إلى كثير من العوامل؛ عوامل دنيوية، عوامل في التزام الناس بدينهم، عوامل في الأولويات وتركيبها، عوامل في العقل، كل هذا يوجب على الأمة أن تدرك المقاصد وتفهمها وتتحلى بها سلوكاً في ميادين العمل، وأن تفهم المقاصد الكلية والجزئية، والجماعية والفردية، وهذا يحتاج إلى عقول كبيرة ونهضة شاملة.


·نختم شيخنا بسؤال: كيف يمكن أن تكون المقاصد التي يزخر بها ديننا أن تكون ثقافة لدى النخب والعامة وممارسة سلوكية وعملية؟

o هذا يقتضي العمل باتجاهات متعددة منها الاتجاه التأصيلي بمعنى أن نستكشف المقاصد أولاً ونقيم منها قوانين كلية ومفاهيم عامة، وقد تحدثت عن الشورى والديمقراطية والاستخلاف في الأموال وإن كان حديثي عنها كمقدمات لفتح الشهية لبحوث ودراسات أخرى، كما كتب بعض الإخوة عنها كالشيخ الريسوني وغيره ممن كتب في المقاصد؛ لذا علينا أن نستكشفها ونوضحها ونؤصلها، وكما نقوم بالتأصيل علينا أن نقوم بالتوصيل؛ نوصلها للنخب والعامة لتكون ثقافة، وتتحول إلى سلوك. ثم علينا أن ننظر في المقاصد على ضوء الفلسفات والمستجدات المعاصرة وما يجري في العالم من سنن الله وحكمه علينا أن نتعامل معها أيضاً، وليس معنى ذلك أن نتخلى عن ديننا وإنما أن نتحلى بديننا.


     

Comments are closed.