في حوار مطول وخاص مع عكاظ : هربت من الرئاسة بجلدي لأطفئ حرائق الأمـة

 

حوار: بدر الغانمي 

لم أتوقع أن يخرج حديثي مع الشيخ عبد الله بن بيه (وزير العدل الموريتاني الأسبق) استثنائيا في ظل حالة التردد والرفض التي فرضها على نفسه، وتصريحاته منذ طلاقه السياسي بعد الانقلاب العسكري الناجح الذي أسقط حزب الشعب الحاكم والذي قاده الشيخ كأمين عام وصاغ فكره السياسي، وأطاح بأول رئيس موريتاني بعد الاستقلال الراحل مختار ولد دادة.. 

حاولت، على مدى يومين، أن أبتعد عن قضايا المسلمين في الغرب، التي أشبعها -معاليه- طرحا في مختلف وسائل الإعلام؛ بحثا عن تفاصيل الوزير، الذي تسبب إعلانه شخصيا عن تطبيق الشريعة في موريتانيا، في بدء حقبة الانقلابات العسكرية المتتالية على السلطة في بلاده، والذي خرج من زاوية والده الدينية، الرجل الذي قتل قائد الحملة الفرنسية على موريتانيا. 

اعترف بتهميش الجيش وعدم أخذ رأيهم في قرار تطبيق الشريعة الذي تسبب في انقلابهم على حكومة الرئيس ولد دادة، وأوضح أن انقلابهم كان متوقعا بعد حربهم ضد جبهة (البوليساريو)، وقال إن تفرد حزب الشعب بالسلطة ورفضه للتعددية السياسية في السبعينيات كانت مبررة، وإن محاكمته حاليا من بعض خصومه غير عادلة..

بن بية الذي أنضجته السياسة وأنضجها بمواقفه، أبدى قلقه المتزايد من تصاعد الجدل وعنصرية الطرح الدائرة حاليا بين عرب الشمال وأفارقة جنوبي البلاد، وحذر إيران من مغبة التدخل في أفريقيا كدولة رسالية. الشيخ الذي اعتاد ألا يحمل نقودا ولا يلبس ساعة منذ طفولته، يروي لنا مراحل النشأة وخروجه للحياة في ظل وجود المستعمر الفرنسي وامتداد مخالب الفرانكفونية على ثقافة الشعب :


نشأت في بيئة دينية وعلمية، كانت نتاجا للتقسيم التاريخي منذ خمسة قرون بين العائلات التي تحمل العلم والأخرى التي تحمل السلاح. فتكون السيادة في البلاد إما للقلم والعلم أو للقوة والسيف في ظل عرف اجتماعي وتصالح جعل الاثنين يسيران معا.. فأسرتنا جزء من الجانب العلمي، ووالدي -رحمه الله- كان يرأس مؤتمر العلماء الموريتانيين الذي اجتمع بعد الاستقلال والذي كان قد طالب بمقاطعة عملية للمستعمرين، وقرر ألا يدرس أولاده -وأنا واحد منهم- في المدارس الفرنسية. أزعجت شدته في الحق، عندما كان يتولى القضاء، الفرنسيين؛ لأن أحكامه كانت نافذة في ظل المستعمر، وكان أشبه بالوالي أخذا بما قاله العز بن عبد السلام وغيره من أنه «إذا احتل قطر من أقطار المسلمين فإن عليهم أن يولوا قاضيا منهم يحكم بالشريعة»، فكانت أحكامه تنفذ بقدر ما تيسر في المعاملات والأحكام الشخصية؛ لأن المستعمر كان يحتكر القوانين العامة كقانون العقوبات والأمن وغيره. ولأن الإنسان حصيلة من التأثرات فقد تأثرت بالوالد (رحمه الله) كثيرا، كما كان هناك شيخي وشيخ والدي في اللغة العربية، الذي أعتبره (سيبويه زمانه) الشيخ أحمد بن سالم الشيخ، وزد على ذلك تأثير العالم الذي انفتح علينا فجأة حين كنا في حالة انعزال في الصحراء خصوصا بعد الاستقلال.

 

• الغريب أنك تعلمت الفرنسية دون مدرسة؟

ــ لم أذهب إلى المدارس الفرنسية نزولا عند رغبة الوالد في مقاطعة المستعمر، وتعلمتها عندما كانت بلادنا على وشك الاستقلال وبحاجة ماسة إلى نخبة من الشباب الذين يتولون المحاكم بعد ذهاب المستعمر، فاستدعيت مع مجموعة من العلماء بعد إجراء الاختبارات اللازمة، فكنت من أوائل الطلاب، وذهبنا إلى تونس لدراسة القانون في كلية الحقوق والتدريب في المحاكم التونسية، وعندما عدنا من تونس وتوليت القضاء في محكمة الاستئناف، بعد أن مررت في الوزارة كرئيس لمصلحة الشريعة الإسلامية، وكان الفرنسيون موجودين في هذه الفترة معنا في المحاكم، لم تكن هناك وسيلة لتدارس القانون والتعامل مع القوم والإدارة إلا باللغة الإدارية؛ وهي الفرنسية، فلم أجد عناء كبيرا في تعلمها بجهود ذاتية من خلال المطالعة بشيء من الاهتمام والتركيز. وعندما دخلت الحكومة لم يكن عندي إشكال في اللغة الفرنسية والحمد لله.


• وهذا يفسر الصراع الدائر -آنذاك- بين دعاة العربية والمتفرنسين من الفرانكفونيين؟

ــ من المؤسف، أن الشعب كله يتكلم العربية والحسانية لكن لم يكن لها رواج آنذاك. وكانت العربية هي لغة النخب المثقفة، وفي المقابل كانت هناك نخب فرانكفونية لا تتكلم العربية، وفي كل الدوائر لم يكن هناك شيء باللغة العربية. 

 

• ما التأثير الذي تركه عليكم حقيقة أن أحد تلاميذكم (الشريف ولد مولاي الزين) هو من قتل قائد القوات الفرنسية المحتلة؟

 

ــ كان عملا وطنيا كبيرا، والرجل من زاوية ينتمي إليها والدي، وكان تلميذا للشيخ محمد أحمد الخلف الموجود في منطقة أدرار، فأتاه وهو في طريقه لتنفيذ عملية قتل (كوبرلاند) القائد الفرنسي الأول الذي احتل البلاد، فقتله في مدينته الجون وكان معه مجموعة من الناس على الجمال وتحركوا في هذه البلاد الصحراوية الشاسعة حتى وصلوا إلى المدينة، فوجدوا الحراس على الطعام فقتلوه فورا.

 

• مع أن الموريتانيين لم يتعرضوا لنار الاستعمار الفرنسي، كما تعرض له الجزائريون والمغاربة؟

ــ علينا أن نعود إلى التاريخ لنفهم أسباب استعمالهم سياسة الأرض المحروقة في الجزائر، بينما لم يحدث ذلك في موريتانيا؛ لأنهم كانوا يريدون أن تكون بلادنا تأمينا لمعبر من أفريقيا السوداء إلى أفريقيا الشمالية، ولهذا تأخر احتلالهم لبلادنا كثيرا، وتم توقيع الاتفاق مع الفرنسيين عام 1912م في السنة التي وقع فيها المغرب أيضا اتفاق الحماية معهم. 


• يقال إن معارك الموريتانيين العسكرية انتهت مع خروج الفرنسيين، وبدأت أنت بحمل السلاح الفكري ضد الشيوعيين، ودخلت معهم في مواجهات طاحنة؟

ــ إشكاليات موريتانيا في تلك الفترة تمحورت أولا في التعريب، وتفاقمت في هذه الأيام مع الأسف الشديد، وكانت النخب الوطنية تريد التعريب وأنا منهم، وتشرفت بإلقاء أول خطاب في يوم المحاكم باللغة العربية، وعندما توليت القيادة السياسية في حزب الشعب الحاكم غيرت الأسلوب، فكان أول خطاباتنا باللغة العربية لدرجة ان أحد الصحافيين جاءني يطلب الأصل بالفرنسية، فأخبرته أن الأصل باللغة العربية، والإشكال الثاني مع الحركة اليسارية الشيوعية وكانت مواجهاتنا معها عندما دخلت الحكومة مواجهة فكرية وليست أمنية، فأحدثنا برنامجا أسميناه (المناضل المسلم) ومجلة أسميناها (البرهان)، وكان معي أخ جزائري من شباب الصحوة ويعمل كشعلة نشاط، وللأسف أنه ذهب مع تيار آخر. وفي تلك الفترة كانت علاقاتي مع الجزائر قوية جدا، خصوصا مع وزير الشؤون الإسلامية مولود قاسم (رحمه الله) وقدنا شبه صحوة فكرية وطنية لمواجهة تغريب المجتمع، وأظن مع الجهود التي قمت بها مع غيري استطعنا أن نبطئ من حركة اليسار بشكل مؤثر عندما واجهنا فكرهم بالإسلام الذي يمكن أن يقدم الحل من عام 1971م إلى أن تركنا الحكم عام 1978م بعد الانقلاب، وكان الرئيس مختار ولد دادة (رحمه الله) على استعداد لأن يقوم بالخطوات الضرورية، لدرجة أن الشباب اليساريين أنفسهم انضموا إلينا في النهاية في حركة وطنية واحدة، كما ساهمت جهود الملك فيصل (رحمه الله) ورابطة العالم الإسلامي التي عقدت أول مؤتمر لها في أفريقيا في ذلك الوقت في نواكشوط، وكان لي شرف ترؤس هذا المؤتمر، بدورها في ذلك، وجاءنا عدد من المحاضرين كالشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) والشيخ المبارك وأحمد محمد جمال وآخرين، فرفدونا فكريا ودعويا.


• توجهك السياسي، هل انطلق تضامنا مع الرئيس ولد دادة وانتهى معه، أم ماذا؟

ــ الموريتانيون يحبون السياسة، وهم سياسيون بطبيعتهم، وأنا كنت في حراك سياسي حتى قبل استقلال بلادنا عام 1960م؛ فقد تعاطفنا مع ما يجري في الجزائر ثم استقلال المغرب، وفي عام 1958م ذهبت مع أربعة آخرين تم اختيارهم من كل المناطق إلى الخارج، فأوقفنا الفرنسيون في داكار ورفضوا السماح لنا، فالحس السياسي لدي بدأ مبكرا، ثم جاءت تجربة حزب الشعب وكنت في موقع قيادة وصياغة للفكر وعلاقتي مع ولد دادة حميمة جدا، والتقينا لأول مرة عام 1958م واستمرت علاقتنا لتقارب الأفكار بيننا في الكثير من الأمور وحظيت بثقته لتولي القيادة المركزية للحزب عندما تولى رئاسة البلاد، إضافة إلى عدد من المناصب الوزارية.


• لكنكم رفضتم التعددية السياسية، وظللتم تحكمون كحزب أوحد في البلاد؟

ــ هذه الفترة لها ظروفها الخاصة في ظل انقسام العالم إلى شطرين؛ غربي وشرقي، فالدول العربية والأفريقية المستقلة مالت في التنظيم إلى الجانب الشرقي الذي لا يفتح كثيرا مجالات التعددية، ثم إنها دول حديثة العهد، فلو سمحت بالتعددية في وجود إثنيات وتيارات مختلفة لانفجرت، وهذا من أسباب ألا يكون في الجزائر -في ذلك الوقت- إلا حزب التحرير وفي موريتانيا حزب الشعب وفي السنغال الحزب التقدمي الذي سمح بوجود حزب آخر فكانت السنغال سباقة في هذا المجال، وعلى الناس أن يفهموا الأشياء في محيطها؛ لأن هناك من يريد أن يحاكم تلك الفترة، بل يوجد في موريتانيا من يتخاصم معها إلى الآن، والتاريخ في ذلك الوقت خلاف لتاريخ هذا الوقت.


• ما الذي دعاكم إلى اقتراح إنشاء وزارة للشؤون الإسلامية في تلك الفترة التي كان فيها التحسس عاليا وصداميا من كل ما هو ديني؟

ــ هذا الأمر تم في ظل ظروف داخلية ودولية، عندما بدأت تظهر معالم منظمة المؤتمر الإسلامي، وكنت في الوفد الذي مثل موريتانيا عام 1969م لأول اجتماع لوزراء خارجية الدول الإسلامية، وكان السيد عمر السقاف (رحمه الله) وزيرا للدولة للشؤون الخارجية في المملكة، فعندما غادر وزير الخارجية الموريتاني ترأست أنا وفد بلادي ولم أكن قد دخلت الحكومة بعد. فاقترحت أمورا عدة واتفقت مع وزارة الخارجية السعودية فيها عندما اقترحت لبنان وتركيا أن يكونا (دولا مشاركة) لا (دولا أعضاء)، وفي ذلك الوقت فعلا كان هناك نوع من الحذر والقلق من شيء اسمه (الدين) فقلت: إن هذا الأمر ليس مقبولا، ووافقني السيد عمر السقاف (رحمه الله) على ما قلته، لا بصفته رئيسا للمؤتمر إنما بصفته رئيسا للوفد السعودي. وأنشئت بعد ذلك الأدوات المساعدة للمنظمة؛ كالبنك الإسلامي للتنمية، فجاءت الدول للانضمام تباعا بعد ذلك، والحمد لله. في هذه الأجواء كنت نائبا لرئيس المحكمة العليا في موريتانيا التي كان يرأسها فرنسي في ذلك الوقت، فاستدعيت لمفوضية الشؤون الدينية برئاسة الجمهورية، وكانت عبارة عن مكتب واحد فقط، حيث لم تكن هناك وزارة للشؤون الدينية، وكانت أمور الدين منوطة بيد الفرنسيين في وزارة الداخلية، ففكرت في الموضوع وكانت علاقتي جيدة مع الرئيس ولد دادة (رحمه الله) ودعاني لأحضر معه أول اجتماع لرؤساء الدول الإسلامية في الرباط ولم أكن في الحكومة وقتها، وبدا وكأننا نتأهب لشيء، فجمعت الأفكار التي كانت عندي وعرضتها على الرئيس، فوافق عليها فورا وتم إنشاء الوزارة، وكنت أكتب لأمين عام رئاسة الجمهورية طريقة تنظيم الوزارة مع أن المعتاد أن تنظم رئاسة الجمهورية هذه الوزارات، فبدأت بالتعليم الأساسي والشؤون الإسلامية، ثم انتقلت بعد ذلك لوزارة العدل ثم وزارة الدولة للتوجيه الوطني ثم طبقنا نظام القطاعات فانتقلت لوزارات التعليم والشباب والرياضة.


• ماسر علاقتك المتميزة بالملك فيصل (رحمه الله)؟

ــ علاقتي بالملك فيصل (رحمه الله) بدأت عندما رافقته في زيارته لموريتانيا عام 1972م، وأفتخر بمنحي وسام الملك عبد العزيز من قبله، هو شخصية فوق مستوى الكثير من رؤساء الدول في عهده؛ قليل الكلام وإذا تكلم أنصت له الناس. في إحدى القمم في المغرب دار حديث عن طموحات لإنشاء صندوق استثمار في الدول العربية الفقيرة، وكانت اليمن الجنوبي -في ذلك العهد- دولة مستقلة، فتحدث الرؤساء عن تقديم مساعدة لها، فأشار الملك فيصل إلى خطورة الانحراف الفكري الموجود في اليمن الجنوبي آنذاك، وأنه لا يريد المساعدة لتكريس هذا الأمر، ورغم دفاع رئيس اليمن الجنوبي في المؤتمر، إلا أن الرؤساء اقتنعوا بأهمية ما قاله الفيصل للالتزام بالقيم والدين، وتأثرنا بكلمته في موريتانيا، وقد أعطاه الله مهابة ومحبة ومكانة بين الناس خصوصا في أفريقيا، وأتذكر عند قدومه إلى داكار أن بعض السنغاليين لبسوا ملابس الإحرام وكانوا يلبون في المطار من شدة إعجابهم بمواقفه الإسلامية معهم، وكانت جولته على القارة الأفريقية جولة مباركة وتركت أثرا تجديديا للإسلام في كل بلد، إضافة إلى المساعدات الكبيرة التي قدمها لكل الدول المسلمة في القارة السوداء. 


• توليتم عددا كبيرا من الوزارات حتى بلغتم مرتبة نائب رئيس الدولة، لكن يلاحظ أنك متمسك في أغلب توقيعاتك بمنصب وزير العدل الموريتاني الأسبق، لماذا؟

ــ لأنني قبل أن أكون وزيرا كنت قاضيا ومن قطاع العدل، ووالدي كان قاضيا ومشرفا على القضاء أيضا، وانتمائي كبير وممتد بهذا القطاع. 


• ألا يعني أن يكون ابن رئيس مؤتمر العلماء الموريتانيين وزيرا للشؤون الإسلامية، سيطرة لأسرة واحدة على الشأن الديني في البلد؟

ــ لم يكن الأمر بهذه الصورة، ففي ذلك الوقت كنت قاضيا ونائبا لرئيس المحكمة العليا، وكنت في تلك الفترة أتفق مع الرئيس ولد دادة في فهم بعض الأطروحات المعاصرة فهذه ناحية، إضافة الى العلاقة الجيدة التي كانت تجمع الرئيس ولدادة بالوالد أيضا. 


• من المواقف التاريخية، إعلانكم شخصيا تطبيق الشريعة الإسلامية في موريتانيا الذي جاء على إثره الإنقلاب العسكري، كيف حدث ذلك؟ 

ــ تطبيق الشريعة حكم شرعي، وبالتالي شعرنا -في ذلك الوقت- أن الظروف مواتية لاتخاذ مثل هذا القرار، خصوصا أن دستور البلاد ينص على أن الإسلام هو الدين وكل ما يستتبع ذلك من تطبيق الإسلام في حياة الناس، بالإضافة إلى أن الموريتانيين بطبيعتهم وحكم تاريخهم الاجتماعي، بعيدون عما أفرزته الحضارة المعاصرة من الخمور وغيرها، فالأرضية موجودة والمجتمع مهيأ والرغبة موجودة لدى الناس كافة، ومن أجل ذلك أعلنت شخصيا هذا الأمر وأسأل الله أن يكون ذلك خاصا لوجه الله تعالى. 


• هل شاورتم في الأمر قبل إعلانه؟

ــ شاورنا مختلف القطاعات، خصوصا الشباب والنساء، وهذا يعني أنه لم يكن قرارا مرتجلا ولا متعصبا، بل هو الشريعة في سماحتها ويسرها وسعتها، حتى إننا قلنا في ذلك الوقت إننا نريد أن يتسع قانوننا لكل المذاهب الإسلامية، فلم نكن متعصبين وتمسكنا بالشريعة قلبا وقالبا.


• لماذا لم تأخذوا رأي الجيش والقوات المسلحة في الأمر كذلك؟

ــ الجيش كان يحضر مراقبا في الحزب مع القضاء لا منتسبا له.


• ألم تشعروا بإمكانية انقلابهم عليكم في أية لحظة؟

ــ مسألة الانقلاب ظلت مطروحة إلى حد ما بسبب الحرب ضد جبهة (البوليساريو) التي كانت مدعومة من بعض الجيران. والجيش في الدول المتخلفة إذا دخل حربا يكون خطرا من جهتين؛ فإن كان منتصرا قال أريد أن آخذ نتائج انتصاري، وإن كان منهزما فإنه يريد أن يعوض عن الهزيمة بنصر داخلي عبر الاستيلاء على الحكم ليقول إنه لم ينهزم، إنما كانت القيادة إلى آخره. وأنا لا أتهم جيشنا لا بهزيمة ولا بنصر، لكن كانت الظروف من هذا القبيل.


• هل لمستم وجود عدم ارتياح لقرار تطبيق الشريعة من دول خارجية؟

ــ الحقيقة لم نكن أنا والرئيس مختار ولد دادة (رحمه الله) نقدر نفور بعض الجهات في الخارج من مثل هذا التوجه، ولم تظهر في ذلك الوقت تمايزات شديدة في قضية تطبيق الشريعة.


• أين كنت عندما حصل الانقلاب عليكم؟ 

ــ كنت موجودا في مهمة رسمية في ليبيا، فطلب مني أن أقيم في فيلا على البحر، لكنني رفضت وأصررت على العودة أيا كانت النتائج، وتم اعتقالي بعد عودتي ولم أمكث في المعتقل كثيرا ولكن بقيت مدة في الإقامة العادية وليس الجبرية لعدم وجود جواز سفر، ثم سمح لي بعد ذلك، فقررت أن آتي إلى المملكة وبقيت فيها إلى الآن.


• تعرضتم للتعذيب؟

ــ ليس من عادة الموريتانيين أن يفعلوا ذلك فلم نتعرض لأي تعذيب.


• ألم تصلكم أية رسائل إنذار مسبقة عن الانقلاب؟

ــ وصلتنا معلومات من فرنسيين وجهات مختلفة بشيء من هذا القبيل، وأشياء لا أريد أن أذكرها كاملة.

 

• الغريب أن الانقلابيين اتهموا الرئيس المختار ولد دادة بأنه كان دكتاتورا وعميلا للفرنسيين، وأنه أثرى من خلال وجوده في الحكم؟

ــ أما الإثراء فهي مسألة يكذبها الواقع وكل شيء، ودائما البيان الأول كما يقول المثل الفرنسي «من يريد أن يقتل حيوانه يتهمه بالكلب» فلا بد من مبررات تساق، لكن ظهر أن ليس هناك شيء، حتى هم أنفسهم لو سألت شباب ذلك الوقت الآن لقالوا لك إنه لم يكن هناك شيء، عدا أن بعضهم كان يشكو من عدم كفاية الإمكانيات المادية في مواجهة حرب عصابات في ذلك الوقت وشيء من هذا القبيل.

 

• كيف هي علاقتك الآن بمن انقلبوا عليك في تلك الأيام؟ 

ــ الموريتانيون -بحمد الله- أرواحهم طيبة وعلاقتي طيبة معهم وهم إخواننا، حتى أنني عندما عقدت مؤتمرا في السنة الماضية هناك حضره العقيد مصطفى الرئيس الذي استولى على الحكم في الانقلاب علينا وهو صديقي. وفي موريتانيا تزول مثل هذه الأمور بعد فترة وتذوب، خصوصا أنها لم تكن دموية عندما حدثت.


• وهل كان هذا سببا لرفضك الترشح للرئاسة بعد ذلك الانقلاب بسنوات، رغم وجود مناصرين لك؟

ــ اتصل بي بعض الإخوة ليطلبوا مني خوض انتخابات الرئاسة أيام حكومة ولد الطايع فاعتذرت لهم.

 

• لماذا يا شيخ؟

ــ لأن كل ميسر لما خلق له، وأنا أجد أن مجالات العلم والإصلاح أهم بكثير من السياسة التي بقيت فيها فترة كبيرة؛ لأن السياسة في العالم الثالث كأفريقيا والعالم العربي غير المستقر تظل مجالا محدود التأثير على المدى البعيد وهذا لا يعني أنها لا تؤثر، خصوصا إذا جاء لها أناس صالحون، لكن يظل تأثيرهم مؤقتا، وأحمد الله أن أنقذني من السياسة ونفذت منها بجلدي ويسر لي طريق العلم في هذه الديار المباركة، وأنا أحاول أن أمحو هذه الذكريات من رؤوس الأبناء، وللأسف لم أنجح لأن ابني الأكبر التحق بها فأصبح وزيرا، والآن سفيرا في الرياض.


• أين تقف من تكرار الانقلابات العسكرية على حكم البلاد، التي جعلت من موريتانيا (دولة الانقلابات)؟

ــ عدم الاستقرار يؤدي إلى حدوث شيء من الطموح الذي يمتزج فيه الشخصي مع المثالية.

 

• هل للبداوة والقبلية دور في هذه التطورات؟

ــ الجغرافيا -كما يقولون- عنيدة، ونحن بين أفريقيا الشمالية وغربي أفريقيا نتأثر -بالتالي- بالرياح الصحراوية الكثيرة، مما يجعل الاستقرار الدائم صعبا.


• بمعنى أن البلاد تدار من الخارج؟

ــ لا، ليس لهذه الدرجة ولكن التأثير موجود، وهناك جدال الآن وحوار حول مراجعة مسألة التعليم من جديد، وأتمنى أن توفق النخب المثقفة في تبريد هذا الحوار حتى على مستوى الإشكال العام الذي بدأ يثار ويثير النزعات بين الجنوب الأفريقي والشمال العربي، بحيث نتضامن جميعا؛ فنحن مسلمون واللغة العربية لغة القرآن الكريم ولا تمثل عنصرية، وهذا الأمر يقلقني أكثر من القضايا الاقتصادية في البلاد. 


• وكيف ترى الأوضاع السياسية في موريتانيا حاليا؟

ــ الحمد لله أن هذه السنة أفضل من التي قبلها بعد أن تم الاعتراف بشرعية النظام محليا ودوليا أيضا، لكن يظل التخلف الاقتصادي مؤثرا في البلاد رغم وجود الثروات، وكما تعرف أن النمو يتركب من التنظيم ورأس المال والأرض والبشر ونحن نحتاج لتضامن كل هذه العوامل لتنمو البلاد وتخرج من تخلفها، وأعتقد أن أهل البلاد جميعا؛ سواء من كان في الحكومة أو المعارضة، في أذهانهم هذه الخطة وبدأت الآن خطط جيدة لمساعدة الضعفاء وإزالة قرى الصفيح، وهناك جهد نسأل الله أن يوفق فيه الجميع.


• في الستينيات والسبعينيات عصفت بالعالم العربي أفكار ثورية كالناصرية والشيوعية ومن ثم جاءت ثورة الخميني، هل كان لهذه الأفكار أثر في موريتانيا؟ وكيف تعاطيت معها شخصيا؟

ــ بالــتـأكـيـد أنـها أثرت، فالحــركـــة اليسارية كانت نشطة في موريتانيا وتغلغل هذا التيار حتى في الحكومة، خصوصا في فترة ما نسميها بإصلاحات الحركة الوطنية -إذا صح التعبير- من تأميم للشركات وسك العملة والخروج عن الفرنك الفرنسي ودول غرب أفريقيا، لكن هذه التوجهات اليسارية خمدت بعد ذلك وأصبحت تتناهى مع غيرها.

أما الثورة الخمينية فتم النظر إليها عندما بدأت على أنها ضد توجهات الاستعمار، لكنني أراها تتمدد الآن بشكل أخطر من خلال الأشكال الجديدة التي بدأت تظهر للتموقع الشيعي في غربي أفريقيا، وأرى أن هذا ليس في مصلحة إيران؛ لأنه سينشئ أوضاعا تؤدي إلى خلل أمني وفكري في هذه البلاد وبالتالي ســـيـجـلــب لــهم عداوات، فالسنة من المســتـحيل أن تزال ولا يمكن القــضـاء عـلـيـها في هذه المنــاطق، لكن هذا التموقع الذي تقوده دولة رسالية -إذا صح التعبير- يمكن أن يجلب أشخاصا من نيجــيـريا والسنغال وقبل فترة قيـــل من موريتانيا، وهو أمر سنستوضحه، وفي المغرب أيضا، وهذا الأمر فيه خطورة مؤسسية لما نســمـيه الفترة النجادية؛ لأنه أصبح نوعا من الوصاية غير المرحب بها، وهو أمر ليس في مصلحة إيران ولا مصلحة أحد أيضا.


• كيف ترون المصلحة مع إيران من جهتكم؟

ــ أن تقوم علاقات ودية وطيبة مع الجميع دون أن يكون لها شكل دعوي أو مذهبي. 


• ماسر توجهكم نحو حل قضايا الأمة السياسية كعلماء في الفترة الأخيرة، خصوصا قضية الحوثيين مع الحكومة اليمنية وقضية الصومال؟

ــ أنا جزء من الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين الذي يترأسه الدكتور يوسف القرضاوي، والعلماء يجب أن يكونوا مسكونين بهم الأمة ولست بدعا في هذا الاتجاه، وعندي قناعة بأن الأمة تعاني من إشكال ثقافي وفكري، ومن منطلق التجديد والترشيد علينا أن نهتم كعلماء أن نكون إطفائيين لحرائق الأمة وألا يكتفي العالم بمجرد الكلام، بل عليه أن يبذل جهدا مع ذلك. وعلى العلماء أن يكونوا ردءا وعونا للحكام وهذه القطيعة معهم يجب أن تنتهي. 


• ما طبيعة نشاطك السياسي غير المعلن مع الاتحاد الأوروبي تحديدا؟

ــ هو نشاط فكري ويشتمل على شيء من السياسة بالمعنى النبيل لهذه الكلمة وليس سياسة السياسيين، وكنا قد أنشأنا مركزا في بريطانيا أسميناه المركز العالمي للتجديد والترشيد مع الرجل الفاضل النير الدكتور عبد الله نصيف عندما حضرنا اجتماعا في ويلتون بارك؛ وهو مركز للتفكير وجهت لنا الدعوة للحضور فيه مع مجموعة من المسلمين من قبل ألمانيا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي للنقاش معهم ومع رجال كبار في الغرب، وأكثر من نعتمد عليهم شباب وشيوخ من الغرب. والتقيت مع توني بلير أكثر من مرة ومع وزيرة الخارجية البريطانية وكثير من زعماء الغرب، ونحن نظن أن كلمة المسلمين إذا اتفقت يمكن أن تؤثر في النخبة الغربية تأثيرا كثيرا والترشيد الذي ندعوا إليه في اتجاه داخل المسلمين وفي الاتجاه الآخر أيضا.

 

• ما قصة نقضك لفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية بشأن الولاء والبراء؟

ــ فتوى ابن تيمية التي قالها في مدينة ماردين التركية قبل 700 عام واشتهرت بها، حرّفت في المطبعة، 

خاصة في الجزء الأخير منها عندما قال ابنُ تيمية: «.. بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه»، فأنا أعتقد أنها (يُعامل الخارج..) وليس يُقاتل.

وبالتالي، فإنه كان لا بد من النظر إلى هذا الرأي في سياقه التاريخي حين كان المغول يغِيرون على أراضي المسلمين، وكان لا بد لنا من تجاوز الرأي القديم الذي يقسم العالم الإسلامي إلى دارين؛ (دار إيمان ودار كفر) وإعادة تفسير الإسلام في ضوء الظروف السياسية المتغيرة.


• هل مورست عليكم ضغوط لإعادة النظر في فتاوى الجهاد في ظل الحرب الحالية على ما يسمى بالإرهاب؟

ــ العالم ينبغي ألا يؤمر بل عليه أن يتحرك بنفسه، وأولياء الأمور يشتكون أحيانا من أن العلماء لم يقوموا بدورهم، ونحن وجدنا أن فتوى (ماردين) انبنى عليها قضايا تتعلق بالجهاد والولاء والبراء فقلنا علينا أن نجعلها منطلقا.


• هل معنى هذا أنكم ستعيدون النظر في كل فتاوى القتال والجهاد والولاء والبراء من الكفار؟

ــ علينا أن نعيد النظر في تراث الأئمة المقتدى بهم؛ مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ الغزالي، خصوصا في النصوص المجتزأة التي يأخذ بها الشباب.


• هناك من قال بأنك جاملت الصوفية عندما حضرت مؤتمرهم في المغرب؟

ــ هذه قناعتي وليست مجاملة، فأنا أرى أن التصوف من المجالات التي يجب أن نراجعها لتصحيحها وتوضيحها، وشيخ الإسلام ابن تيمية تكلم عن التصوف وقال الصوفية المحققون وكان يثني عليهم كثيرا، وكان مجددا في هذا المجال والشيخ ابن القيم في مدارج السالكين. فأنا أعتقد أن هذه القطيعة لا ضرورة لها، فالناس تتحاكم للمصادر نفسها، وكنت قد قلت للشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) عندما كنا نجتمع في رابطة العالم الاسلامي: إن كل من يتحاكم على كتب السنة فهو من أهل السنة، وإن اختلف تأويلا أو تعليلا أو تنزيلا فنرده إلى الطريق السوي. وقد قدمت لهم عشر مسائل في اجتماع مراكش وطلبت منهم الوسطية في أمورهم ولم أكن مجاملا لهم. 


• لماذا تخفي شعرك الجيد يا شيخ؟

ــ لا أشتغل به كثيرا في هذه السن لانشغالي بالبحث في المشكلات المعاصرة، خاصة في مجال الاقتصاد المعاصر والحوار مع الآخر، فانصرفت عن مجال الخيال الشعري الذي لا يخلو من كذب وتزويق وأصبحت فيه مطالبات الجسم للهدوء والراحة كثيرة.


• لكنك تشدد على نفسك؛ فلا تلبس ساعة ولا تحمل نقودا ولا تستعمل الجوال؟

ــ اعتدت منذ طفولتي ألا أحمل نقودا في جيبي ولا أدري هل هو ذم أم مدح، فقد كنت مع الوالد في التدريس والعلم وشيء من التربية الروحية، وحتى لا أتهم بالصوفية فقد كان التلاميذ يتولون هذه الاشياء فاعتدت على ذلك وظل أولادي من صغرهم يضحكون ويتندرون إذا رأوا معي نقودا وكأنها ظاهرة جديدة، لكن مع ذلك فأنا أحب النقود مثل كل الناس ولا يفهم أحد أنني غير عادي.


• إلى أي مدى تأثرت بوفاة أم أبنائك وبقائك وحيدا دون زواج بعدها؟

ــ لا شك أن الإنسان إذا عاش مع شخص فترة طويلة من حياته ثم مات فإنه يتأثر لفراقه، فكيف والحال بأم أولادي ورفيقة عمري، فقد أشعرني وفاتها بأن علي أن أتهيأ لفراق نفسي مع أن شؤون الحياة لا تتركني، وقد قلت في قصيدتي السنة الماضية:

حنانيك فارحل قبل يوم الترحل
    

 

ومن قبر ضيف مقبل غير مؤتل

 

مقر يحث الخطو يدني لبرزخ
     

 

كيوم حساب بالعجائب مثقل

 

أحاديث أحداث ثقيل سماعها
  
 

 

فكيف بها إذا أناخت بكلكل

 

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل
 
   

 

وسرت إلى محبوب أول منزل

 

ونادتني الأشواق أهلا فهذه
  
 

 

منازل من تهواه عندك فأنزل

Comments are closed.