نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في اللقاء التشاوري لعلماء الساحل الإفريقي
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
كلمة في
الملتقى التشاوري الأول لعلماء دول الساحل
(دعوة للحوارات والمصالحات الوطنية)
الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي
أصحاب المعالي
أصحاب السعادة،
أصحاب السماحة والفضيلة
أيها الحضور الكريم
كل باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بادئ ذي بدء يشرفني بين يدي هذه الكلمة الموجزة أن أتوجّه بأسْمى عبارات الشُّكر والامتنان إلى الحكومة الموريتانية على استضافتها لهذا الملتقى التشاوري الأول لعلماء بلدان الساحل الإفريقي، كما أرحب بضيوفنا من علماء المنطقة.
إننا نجتمع اليوم لنتابع قرارات مؤتمرنا السّابق، مؤتمر “دور الإسلام في إفريقيا: التسامح والاعتدال ضد التطرف والاقتتال”، ولنتذاكر ونتحاور حول آليات تفعيل إعلان نواكشوط وتجسيده.
وفي هذا السياق يطيب لي أن أهنئكم جميعا على ما حظي به إعلانكم إعلان نواكشوط من قبول واستحسان وما ناله من إشادة وتنويه، على المستويين الإقليمي والدّولي.
فكل ذلك يبرهن على وجاهة المبادرة وراهنية الموضوع، كما يعكس الآمال الجسام التي تنيطها مجتمعانا الإفريقية بقادتها الدينيين، ليضطلعوا بدورهم كاملا غير منقوص إلى جانب سائر فعاليات المجتمع والدولة في وقف نزيف الدماء المعصومة والحرمات المصونة.
وكل ذلك يستوجب منا البدار وعدم التّواني في تفعيل مبادئ إعلان نواكشوط وتجسيد مقرّراته، لكي لا تظل حبرا على ورق، وكلمات لا روح فيها.
ولئن كانت القارة كلها مفتقرة إلى هذا التفعيل، فإن لمنطقتنا منطقة الساحل خصوصيةً، فهي للأسف قد غدت وجهة التطرف العنيف الجديدة، فإن المتأمل في تمدّده الجغرافي، يرى أن موجة الإرهاب والعنف تتجه في كل فترة إلى منطقة من مناطق العالم، تأرز إليها فتطحنها بكلكله وتلقي عليها بجرانها، وإن منطقتنا مرشحة لتكون هي الوجهة المقبلة لنار الإرهاب المحتدمة إذا نحن لم نحسن التصدي لها، بإطفاء ما اشتعل من نائرات الفتنة بروح الإطفائي الذي لا يعنيه من أشعل النار بل همه كيف يطفئها.
كما يأتي هذا الاجتماع في سياق رئاسة موريتانيا الدورية لمجموعة دول الساحل الخمس، ممّا يشحذ الهمّة ويجدّد الأمل في أن يجد إعلان نواكشوط طريقه إلى التطبيق، لما عهد في قيادة الجمهورية الإسلامية الموريتانية برئاسة فخامة السيد محمد ولد الشيخ الغزواني من العزيمة الصادقة والبصيرة النافذة والرؤية المتزنة.
أيها السادة والسيدات، أيها الحضور الكريم،
إننا ننطلق من القناعة الراسخة بأولوية السّلم شرعا وعقلا وأوّليّته تاريخا وثقافة، فلقد عاشت إفريقيا الإسلامَ، منذ أشرقت به ربوعُها، رحمةً ونعمة، عاشته محبة وسلاما وأخوة ووئاما. وذلك ما أكّده وبيّنه إعلان نواكشوط.
لقد حدّد إعلان نواكشوط بمنطلقاته الجلية ومبادئه الكلية إطارا توافقيا مستمدا من رحم الشريعة الإسلامية، كما رشّح جملة من الوسائل المستوحاة من التجربة الإنسانية، فجاء بتوفيق الله ومنّه إعلانا تاريخيا قويا، وضع في اعتقادنا الأسس المتينة لمقاربة تشاركية جديدة.
فما هي الجوانب الأكثر إلحاحا في سياق منطقتنا هذه لنتدارسها والوسائل الأكثر نجاعة لنمارسها، ذلك هو السؤال الذي نقترحه على قرائحكم ونعرضه على أنظاركم، لنستفيد من تصوراتكم ونسترشد بمقترحاتكم.
في اعتقادي أن أهم نقطة ينبغي أن نبرزها في هذا الملتقى هي الدعوة إلى إعادة الفاعلية لمبدإ الحوار والمصالحة، انطلاقا من قناعتنا الراسخة التي غدت كثير من الجهات الدولية تشاركنا فيها، بأن الحلول العسكرية والأمنية وحدها غير كافية، وأنه آن الأوان لنستعيد التراث الإفريقي الأصيل في التسامح وفي حل المشكلات بالحوار والوساطات والمصالحات.
إن جلسات الحكمة تحت ظلّ شجر الدّوم الباوْباب الإفريقية، لتدبير الاختلاف جسّدت بحقّ نموذجا حضاريا ناجحا لتحكيم العقل ومنطق المصلحة والإخوة على منطق المغالبة والقوة. وهي تفعيل ثقافي ملموس لمبدإ الصلح الإسلامي الذي وضع له الإسلام فقها كاملا ومتكاملا لحلّ النزاعات بالوسائل السلمية العاقلة.
إن التنازلات من صميم الشرع ومنطق العقل، هكذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم من خلال صلح الحديبية، ولا يعتبر هذا النوع من التنزيل للقيم تنازلا عن حقيقة أو تخلّ عن حق، بل هو بحث عن أنجع السبل لإحقاق الحق ورد الظلم، وحتى لا ينقلب المظلوم ظالما.
والحوار يقدم كما يقول أفلاطون البدائل عن العنف؛ لأنه بالحوار يُبحث عن المشترك وعن الحل الوسط الذي يضمن مصالح الطرفين، وعن تأجيل الحسم العنيف، وعن الملائمات والمواءمات، التي هي من طبيعة الوجود، ولهذا أقرها الإسلام، وأتاح الحلول التوفيقية التي تراعي السياقات، وفق موازين لمصالح والمفاسد المعتبرة.
إن اعتماد وسيلة الحوار لحل المشكلات القائمة يوصل إلى إدراك أن الكثير منها وهمي لا تنبني عليه مصالح حقيقية، وبهذه الحلول التوفيقية التي يثمرها الحوار، تفقد كثير من القطائع والمفاصلات والأسئلة الحدّية مغزاها.
في شريعتنا الإسلامية الحكيمة فتح الله بابا عظيما للإنسان هو باب التوبة الذي لا يسد حتى تطلع الشمس من مغربها، والذي يكاد يشمل أثره كل شيء، حتى أشد الجنايات خطرا كالحرابة، بل ذهب بعض أهل العلم إلى أن التوبة تسقط الحدّ الشرعي في كل الجنايات.
إن مفهوم التوبة أصبح مفهوما ضامرا في مقارباتنا الجديدة، التي صارت تنحو أحيانا منحى استئصاليا غيرَ واقعي، لأنها تحد من فاعلية مبدإ الحوار بدعوى الجناية التي لا تغتفر، وتسدّ باب التوبة والمراجعة، وتستنكف عن التنازلات والموائمات، وهو ما يفتح بابا عظيما من حروب الثارات والذحول والترات.
إن التعميم الذي لا يُقيمُ وزنا لتحقيق المناط في الأشخاص والأحوال، لا يمكن أن يفضي إلا إلى الأخطاء الفادحة والفتن التي لا منتهى لها، فلكل حالة دواؤها وعلاجها بحسب أسبابها وأوضاعها.
إن إحياء دور المصالحة الإفريقية الإسلامية الأصيلة على يد حكماء العلماء وعقلاء الزعماء قد يكون له الأثر المحمود في التخفيف من حدة الصراع وعزل العناصر السلبية منه.
أيها الحضور الكريم،
إننا نجتمع في وقت يكتسح العالم فيه وباء الكورونا الجديد، ويستنفر فيه العالم جهوده للتصدّي له، وأرى أن لقاءنا هذا مناسبة لنؤكّد التصور الإسلامي السليم لمثل هذه الأمور، فإن إيماننا بأن هذه الأوبئة مقادير من عند الله، لا ينافي السعي إلى معالجتها والبحث عن التدابير الدنيوية من نتائج العقول وتجارب البشرية، فمكافحة الأوبئة هي من جنس مكافحة كل ما يؤذي الإنسان كالسباع الضّارية والهوامّ السامة التي يشترك فيها المؤمنون وغير المؤمنين.
فالكفاح من قدر الله، كما قال الخليفة الراشد “نفر من قدر الله إلى قدر الله” فهذا هو المنطق الصحيح في الإسلام فالتوكل لا ينافي العمل ، فترك العمل هو إساءة للأدب مع الله كما يقول أهل التزكية، وهو مخالف للسنّة الكونية وللسنة التشريعية لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح “تداووا يا عباد الله”.
هذا ما يجب أن يفهمه الجميع وأن يتصرفوا طبقا له، فأفضل المتوكلين على الله صلى الله عليه وسلّم كان يتعالج ويعالج، فكل جهد للوقاية والعلاج مطلوب ومرغوب، فهي تدابير أظهرت نجاعتها التجربة العلمية وتزكيها النصوص الشرعية، وهي مقتضى مقاصد الشريعة وقواعدها.
وبناء على هذا التصور فنحن نشيد بالتدابير الاحترازية والوقائية التي اتخذتها حكومات البلدان وخاصة حكومة المملكة العربية السعودية انطلاقا من مسؤوليتها السيادية والشرعية في رعاية المواطنين والمقيمين والمعتمرين والزوار.
وندعوا جميع المسلمين للابتهال والتضرع إلى الله تعالى بالدعاء ليرفع البلاء وننصح بكثرة الاستغفار فإن الاستغفار يرفع البلاء ويزيد القوة ومنها المناعة، كما في قوله تعالى حكاية عن هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (ويا قومي استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) (سورة هود ، آية 52)، وننصح بالحسبلة ، فإن الله عز وجل قال” وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء”.
وفي الختام، وبشكل عملي أقترح استحداث هيئات للحوار ومجالس للواسطة والمصالحة، من الحكماء والوجهاء والعلماء، في كل دولة من دول الساحل، تعنى بالوساطات والمصالحات لفض النزاعات ذات الأشكال والأنماط المختلفة، سواء كان مردها إلى ضغائن وإحن تاريخية أو عصبيات عرقية وقبلية أو مردها إلى التنافس الطبيعي بين التجمعات السكنية أو إلى الفكر المتطرف.
كما تعنى هذه الهيئات بالتواصل مع نظيراتها في الدول الأخرى بحيث يتوصل إلى برنامج موحّد في خطوطه العريضة سواء في ما يتعلق بالبرهنة الفكرية على أولوية السلم وضرورة المصالحة أو في ما يتعلق بالأعمال الميدانية.
ومن وظائف هذه الهيئة المقترحة التكوين والتدريب على ثقافة الحوار وآلياته ومبادئه وإشكالاته، بحيث يتسنى للمرشدين والمربين وجميع الفاعلين القدرة على ممارسة الحوار في تفاصيل حياتهم اليومية وعلى كل المستويات في علاقتهم بمجتمعاتهم من خلال إبداع وسائل مبتكرة للتواصل والتفاعل.
كما نقترح تكوين وتسيير قوافل للسلم، مكونة من بعض الأئمة والوجهاء من مختلف العرقيات والقبائل في المناطق التي تعاني من الحروب الأهلية والصراعات الدموية.
لقد كنا جرّبنا قوافل السّلام في بيئات أخرى، وأثبتت نجاعتها وقدرتها على العمل الميداني المؤثّر في نشر قيم التسامح والأخوة، ممّا يجعلنا نقترح تطبيقها بشيء يسير من التطوير في منطقة الساحل، حيث قد يسهم تسييرها في التخفيف من غلواء الاختلاف ومكافحة الصور النمطية السّلبية وتعزيز أواصر المحبة والأخوة داخل المجتمعات.
وختاما أتمنى لأعمال ملتقانا هذا النّجاح والتوفيق ولضيوفنا مقاما سعيدا وأوبا حميدا.
والسلام عليكم ورحمة الله.