وراء الخير والشر..

من المهم، ونحن نتحدث عن حدود ومعنى ودور العقل، أن نشير الى مسألة كبيرة من المسائل التي شغلت هم الدين والعقل منذ القدم. ألا وهي مسألة المشيئة الإلهية والخير والشر والطبيعة الإلهية، ونتتاول هذه المسائل تباعا، ابتداء من هذا المقال، فنقول: 

إن هذه القضية من القضايا الفلسفية التي لا يمكن أن تقاس بقياس كمي من كيل أو وزن أو قياس أو مساحة، فهي قضية ما ورائية غيبية، وإن المؤمن بالوحي والنبوة يختلف بالتأكيد عن غيره في زاوية الرؤية بالنسبة لها، وإن كل المؤمنين بالرسالات السماوية يؤمنون بفضاء فوق سقف المقولات العقلية لكنها تقر به وتراه ضرورة انطلاقا من واقع الوجود، ذلك هو واجب الوجود الذي يفتقر كل شيء إليه ولا يفتقر إلى شيء، ذلك هو «الصمد» عندنا معشر المسلمين لا يحاكم على قوانين المخلوقات الحوادث لأنها لا تصلح أساسا للمقايسة لانتفاء المشابهة، بله المماثلة، وذلك هو معنى «ولم يكن له كفواً أحد». فدائرة حكم العقل هنا تنحصر في طرفي: الاستحالة والوجوب، يستحيل قيام الكون بدونه – يَجُبُّ وجوده. 

لأن الموجودات كانت معدومة فتحول المعدوم إلى موجود يستدعي بالضرورة العقلية موجدا، بالإضافة إلى أن ترتيب تلك الموجودات بحكمة بالغة يستدعي حكيما قادرا وعليما، ذلك ما يقر به العقلاء الذين يدركون أن العدم لا ينتج الوجود وأن الفوضى لا تخلق النظام وأن الصدفة لا تثمر الحكمة «أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون». وفيما يتعلق بصفاته فهي صفات كمال ترجع إلى دائرة الوجوب وأضدادها، إلى دائرة الاستحالة، لكن الوحي يتدخل هنا لتأكيد ما أثبته العقل أو نفي ما نفاه العقل. 

ولهذا لا يتصور وجود تناقض لأن العقل لا يمكن أن يتعارض مع الوحي حسب العبارة التالية للإمام الصيرفي، من كبار علماء الشافعية: ولا يجوز أن يأتي الكتاب أو السنة أو الإجماع بما يدفعه العقل، وإذا استحال ذلك فكل عبادة جاء بها القرآن أو السنة فعلى ضربين: أحدهما: مؤكد لما في العقل إيجابه، أو حظره، كتحريم الشرك، وإيجاب شكر المنعم. والثاني: ما في العقل جواز مجيئه ومجيء خلافه كالصلاة، والزكاة. فالسمع يرقيها من حيز الجواز إلى الوجوب. قال: ولا يأتي الخبر بخلاف ذلك. قال: والدليل على أن العقل حاكم على ما يرد به السمع أنه المميز بين الأشياء الواردة عليه وقد أسلفنا الكلام عليه. ولهذا فإنه لا خلاف بين العلماء لا عقلا ولا شرعا في إثبات صفات الكمال كلها لله تعالى الواحد الأحد فكل أفعاله وأوامره خير وحسن وجمال، كما يقول الآمدي: واتفقوا على أن فعل الله حسن بكل حال. وأضدادها منتفية عنه وهي الشر وهو يقابل الخير والسيء وهو يقابل الحسن والقبح ويقابل الجمال. 

ولكن ما هو مفهوم الخير والشر؟ وما هي متعلقات الخيرية والشرية؟ الخير والشر من كلمات الإثارة وليست من الكلمات المحددة. 

فالخير هو ما يطابق فكرة مثالية أو أخلاقية أو فضيلة أو عدالة أو مصلحة. والشر على العكس من ذلك. 

فهل يمكن أن ينسب لظاهرة كونية أنها خير أو شر بأي اعتبار؟ وبالنسبة لماذا؟ هنا تختلط الأشياء وتعمى على الذين لا يعقلون الأنباء ونحن نحاول تقريب أمر الخيرية والشرية في فعل واحد ولكن لكل وجه منه خصوصية. فعلى سبيل المثال: الفلاح في حقله يحرق الأعشاب الطفيلية أو يعقر الحيوانات المصابة بالمرض. 

بماذا تصف هذا الفعل؟ بالمقابل مخرب يحرق بساتين الناس ويعقر حيواناتهم «ويهلك الحرث والنسل» على حد التعبير القرآني. فبم تصف فعله؟ إن الفعل واحد ولكن يختلف باعتبار الغاية والنية والفاعل. 

ومثال آخر طبيب يولم المريض بعملية جراحية لإنقاذ حياته، ومجرم يصيب شخصا بجرح عميق، أو قاض يحكم على مجرم بالسجن وربما بالقتل لوقاية المجتمع من شره، وطاغية يقتل البشر بطائراته وصواريخه، إن الأمر يختلف بالنسبة لدافع القتل وسببه وغايته لكنه يختلف أيضا بالنسبة للفكرة التي نتصورها للخير والشر. وللحديث بقية حول معيارية الخير والشر لدى علماء الإسلام وغيرهم. 

 

*بالتعاون مع جريدة الشرق الأوسط ( الخميـس 10 ذو القعـدة 1427 هـ 30 نوفمبر 2006 العدد 10229 )

 

Comments are closed.