أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة

   

أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الحى القيوم، العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعلى آله وصحبه أهل العلم الصحيح والمنهج القويم والذوق السليم . وبعد؛ فهذا بحث في نقود الكاغد محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، يحتوي – إن شاء الله – على بعض الفوائد، لا يدعي اقتناص الشوارد، ولا تقيد الأوابد، في مجال لم يترك الرواد فيه وشلا لوارد، صغته في شكل مسائل، وسلكت فيه سبيل أهل الفتوى في النوازل، لا أقول فيه كما قال الشاعر :
كَمْ تَرَكَ الْأَوْلُ لِلْآخِر
بل اكتفى على قدر الجهد بالاتباع، واغتني بنصيف المد عن تطفيف الصاع .
فضيلة الشيخ عبد الله ولد بيه
أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز
كلية الآداب
جدة في 20/1/1407هـ
__________

(2/2020)

————–

التعريف :
النقود جمع نقد ، وهو في الأصل مصدر لنقد إذا ميز الدراهم الجياد من الزايفة، أو إذا أعطاها معجلة، إلا أنه مصدر وُصف به ، فقيل : درهم نقد : أي جيد، وأصبح فيما بعد اسما لواسطة التبادل ، وتنوسي أصل المصدرية كما تنوسي أصل الوصفية، فأصبح مرادفًا للدرهم والدينار وما في معناهما، وذلك ليس بمستبعد من الناحية اللغوية .
فالوصف إذا كثر استعماله يقوم مقام الموصوف ، فلا يحتاج إلى تقدير موصوف ، كقولهم : هبت الجنوب والشمال، بدون حاجة إلى ذكر الريح، وكالهجان أصلها صفة للأبل البيض الكرام ، يستوي فيها الفرد والجمع ، والمذكر والمؤنث ، يقال : جمل هجان وإبل هجان قال جرير :
سيكفيك العواذل أرحبي   هجان اللون كالفرد اللياح

ويجمع على الهجن والهجائن، وأصبحت الهجن وصفًا قائما ًمقام الإبل مهما كان لونها ، فيقولون : سباق الهجن، وله أصل في اللغة العربية قال الشماخ :
أعائش ما لقومك لا أراهم   يضيعون الهجان مع المضيع

يريد به الإبل، وكانت زوجته عائشة تلومه على عدم إتلاف ماله فردّ عليها بأن قومها لا يتلفون مالهم، (ذلك رأى سيبويه الذي حكم بأصالة (لا) في البيت) .
__________

(2/2021)

————–

ونعتقد أن هذا التفسير سائغ لدى النقاد ، فلا نحتاج إلى ذكر النقاد، وتتبع مادة نقد كما فعل القس الكرملي الذي جعله من النقاد لجنس من الغنم وهو بعيد ، بل أصله وصف أخذ محل الموصوف بسبب كثرة الاستعمال ، فأصبح يوصف كما قال مرتضى في التاج : ونقود جياد . وكذلك الزمخشري في أساس البلاغة فوصف النقود بأنها جياد، يعنى أنها أصبحت اسما يوصف بدلاً من أن تكون وصفًا يصف .
التعريف الاصطلاحى :
كلمة (النقود) قد مرت بمراحل وتطورات فقهية جعلت من الصعب تعريفها تعريفًا ثابتًا لا علاقة له بالزمن، ولا يعرف المخاطبين . إذن فالتعريف يمكن أن يكون عرفيا، ومن المعلوم أن الحقيقة العرفية لا يُلجأ إليها إلا بعد عزل الحقيقة اللغوية ؛ لعدم أدائها للمعنى المطلوب وانعدام الحقيقة الشرعية، فهذه الكلمة بعد أن رأينا أنها كانت يعنى بها الدرهم الجيد الكامل – لغةً – نجدها تطلق على النقود : الذهب والفضية، ونجدها بعد ذلك تختص بالمضروب منها دنانير ودراهم .
قوله : ” نقد ” يوهم قصر الربا على المسكوك ؛ لأن النقد خاص به ، فتكون مرادفة للعين . قال الخطابي : التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع ، والعين المضروب دنانير ودراهم . القرطبي .
وانتشر التعبير بالنقد في كل ما استعمل ثمنًا للأشياء وغيرها مما يكون واسطة للتبادل، ويشعر إمام الحرمين بالحرج لذلك فيقول : “قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة : فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا جرت نقود” إلى آخر كلامه الذي قد نتعرض له في مناقشة الربوية (1) .
__________
(1) البرهان : 2/1082-1083 .

(2/2022)

————–

فإمام الحرمين لا ينفي إطلاقا إطلاق الاسم على الفلوس ؛ لأنه مرادف للوساطة في التبادل أي الثمنية، وإنما ينفي النتائج المترتبة على ذلك .
وقد انتشر هذا التعريف للنقد في أوساط الفقهاء، وهنا يلتقي الفقهاء مع تعريف الاقتصاديين الذي يتمثل باختصار في كون النقد كل شيء يلقى قبولاً ورواجًا كوسيط للتبادل ، مهما كان ذلك الشيء، وعلى أي حال يكون . ولا نطيل عليكم بذكر التعريفات المختلفة .
وهذا التعريف للنقد لا نجد حرجًا من قبوله كمصطلح اقتصادي ، فقد رأينا أن الفقهاء وصلوا إليه في النهاية، وخصوصًا المدرسة المعللة بالثمنية المتعدية ، فقد بالغت في ذلك حتى إن ابن العربي ضرب مثلاً بالخبز في بغداد ، وقد شاهده كوسيلة تبادل حتى إن الحمام يُدخل به .
فهذا هو غاية تطور كلمة النقد عند الفقهاء، ولا نطيل عليكم بتطور النقود في أوربا من سندات إلى أوراق معتمدة لها غطاء وبدون غطاء ، فهذه أمور معروفة لديكم .
__________

(2/2023)

————–

أحكام النقود الورقية في مسائل
المسألة الأولى
حكم طبع النقود الورقية هو الجواز إذا خضع لضوابط تمنع إنزال الضرر بالناس لحديث (( لا ضرر ولا ضرار )) . أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً وأحمد وأبو داود ، وقال السيوطي : إنه صحيح .
ولهذا فيمنع إحداث نقود تؤدي إلى الفوضى والتضخم ، فلا يجوز للأفراد ولا للسلطة أن تحدث ذلك للقاعدة الشرعية .
فالعفو هو الأصل، وإن كانت السكة في ذلك الوقت تعني الدنانير الهرقلية والدراهم البغلية الفارسية التي كانت ترد على العرب، وأقرب في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلفاء الراشدين ، حتى زمن دولة بنى أمية ، حيث ضرب عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين السكة (1) .
وقد ظهرت الفلوس في صدر الإسلام بجانب الدناير والدراهم ، كما تدل عليه فتاوى الأئمة الكبار في ذلك الوقت؛ قال السيوطي في الحاوي : التعامل بالفلوس قديم . وبعد ذكره التعريف اللغوي قال : “قال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا محمد بن أبان عن حماد عن إبراهيم قال : لا بأس بالسلف في الفلوس” . أخرجه الشافعي في الأم، والبيهقي في سننه دليلاً على أنه لا ربا في الفلوس . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد “لا بأس بالفلس بالفلسين يدا بيد” .
وأخرج عن حماد مثله، وأخرج عن الزهري أنه سئل عن الرجل يشتري الفلوس بالدراهم ، قال : “هو صرف فلا تفارق حتى تستوفيه” .
وذكر الصولي في كتاب الأوراق أنه سنة إحدى وسبعين ومائتين ولي هارون بن إبراهيم الهاشمي حسبة بغداد في زمن الخليفة المعتمد ، فأمر أهل بغداد أن يتعاملوا بالفلوس ، فتعاملوا بها على كره ثم تركوها” .
__________
(1) البلاذري في فتوح البلدان .

(2/2024)

————–

وكانت خاصة باشتراء المحقرات كما يقول المقريزي في كتابه : “إغاثة الأمة بكشف الغمة” : “إن سبب ضرب الفلوس أيام الكامل من الدولة الايوبية ، هو شكوى امرأة إلى خطيب الجامع بمصر أبي الطاهر المحلي مسألة من مسائل الصرف الربوي تصعب السلامة منها ؛ لأنها تشتري الماء من السقاء بنصف درهم ، فتعطي درهما ويرد السقاء نصف درهم ورقا، فكأنها اشترت الماء ونصف درهم، فأنكر أبو الطاهر ذلك وكلم السلطان ، فضرب الفلوس ، واستمر الناس في ذلك حتى أصبحت هي الرائجة في مصر، وحلت محل الذهب والفضة ، وخصوصًا أيام السلطان برقوق إلى أيام المقريزي في القرن التاسع .
ولعله يشير بهذه الحكاية إلى المسألة المشهورة عند الشافعية بمد عجوة ودرهم ؛ وهي : أن يبيع أحد ربويين بمثله ومع أحد العوضين جنس آخر، فالبيع باطل عند الشافعية والمالكية ، إلا أن هؤلاء يتسامحون في المحقرات .
أما النقود الورقية فإنها ظهرت في الصين لأول مرة كما يذكر ابن بطوطة : ثم ظهرت في الغرب فكان بنك استكهولم بالسويد أول حلقة سنة 1608م في سلسلة تطور النقود الورقية الذي استمر إلى عصرنا الحالى من سندات إلى أوراق مغطاة بالذهب ، إلى أوراق غير مغطاة .
ولا أرى ضرورة للتوقف عند ذلك، المهم أنه لا اعتراض للفقهاء على توسيط أي شيء في التبادل ما لم يكن محرم العين أو مغشوشًا بشكل لا يمكن تحديد نسبته ولم يتواضع عليه، علمًا بأن بعض العلماء كالمقريزي في كتابه “إغاثة الأمة” أنكر إنكارًا شديدًا التعامل بالفلوس واستبعاد الذهب والفضة من دورة التعامل قائلاً بعد أن ذكر أن الفلوس أصبحت عوضًا عن المبيعات كلها ، من أصناف المأكولات والمشروبات، وسائر أنواع المبيعات : ويأخذونها في خراج الأرضيين ، وعشور أموال التجارة ، وعامة مجابي السلطان ، ويصيرونها فيها في الأعمال جليلها وحقيرها، ولا نقد لهم سواها، ولا مال إلا إياها ، بدعة أحدثوها، وبلية ابتدأوها ، لا أصل لها في سنة نبوية، ولا مستند لفعلها من طريقة شرعية، ولا شبهة لمبتدعها في الاقتداء بفعل أحد ممن غبر . إلى آخر كلامه ، حيث أبرز ما حل بالبلاد من الدمار والاضمحلال بسبب التعامل بالفلوس .
وقال : إن النقود المعتبرة شرعًا وعقلاً وعادة ، إنما هي الذهب والفضة فقط ، وما عداهما لا يصح أن يكون نقدًا .
__________

(2/2025)

————–

إلا أن ضابط الجواز هو ما ذكرناه سابقا من عدم إلحاق الضرب الناس في ممتلكاتهم، ومعاملاتهم وعدم بخس أشيائهم وتعريض اقتصادهم للفوضى والاضمحلال، فالأصل الجواز فيما سلم من ذلك ، خصوصًا إذا عري عن سبب يجعل شبهة التحريم قائمة ، كنيابة النقود الورقية عن العين الغائبة، مما يؤدي إلى الصرف المؤجل ، ومع ذلك فنحن نشاهد فوضى نقدية تتلاعب بأموال الناس ، وتحيل أرصدتهم إلى أوراق من الكاغد لا قيمة لها ، مما يجعل جوازها خاضعًا للقاعدة الشرعية المتمثلة في أن الحاجي ينزل منزلة الضروري كالإجارة ، حيث خالفت القياس لورود العقد على منافع معدومة . فالحاصل أنها إذا لم تترتب عليها أضرار اقتصادية فهي جائزة .
المسألة الثانية
هل بيع هذه النقود بعضها ببعض يدخله الربا؟
إذا كان بيع هذه النقود بعضها ببعض أو بالذهب والفضة يدخلهما الربا كما يدخل في الذهب والفضة ، أولا يدخل فيها الربا إلا ما يدخل في العروض ، فما هو الحكم في هذه المسألة؟
__________

(2/2026)

————–

إن هذه المسألة مطروحة منذ ظهرت الفلوس، وأفتى فيها الأئمة ، ولم يخل مذهب من خلاف في داخله حول هذه القضية ، حتى وصلت إلى عصرنا هذا .
ولا يزال النقاش مفتوحًا لصعوبة إقناع أيٍّ من الفريقين الآخرَ في غيبة نص صريح أو أثر للخلاف رافع ، أو إجماع قاطع، أو قياس جلي ناصع .
ويمكن أن نقسم اختلاف الفقهاء إلى موقفين : موقف يعتمد النص الحرفي أو دلالته القريبة، ويتمثل في مذهب أهل الظاهر ، وهو رأي كثير من علماء المذاهب الأخرى . وموقف يبتعد عن النص إلى حد ما عن طريق التعليل واستكناه مغزى النصوص ومراميها، ويجد سندا في بعض المذاهب الأخرى .
ولكثرة ما كتب في الموضوع فسأتحدث بإيجاز عن كلا الموقفين ، ثم أذكر مختاري في المسألة .
الموقف الأول : يتمثل في انتفاء الربوية ، وقد يختلف معتنقوه في التعبير عنه بسبب اختلاف مشاربهم ومذاهبهم بين مانع القياس مكتفيا بالنص كأساس في سائر الأصناف ، وبين من لا يتخذ هذا الموقف المبدئي فهو يجيز القياس ، إلا أنه ينفي وجود علة في هذا المكان بالذات ، أو يعترف بوجود علة فيه ، غير أنه يدعي فيها القصور .
واقتصارا للبحث فإننا نجعل تحت هذا الموقف من يعتبرها كالفلوس وهو ينفي الربوية عن الفلوس، ومن يجعلها كالعروض لأنه يثبت للفلوس نوعًا من الربوية لا يخضع لعلة الثمنية .
أما الظاهرية فإن موقفهم ينسجم مع مذهبهم الذي يرفض القياس ويرى من النصوص كفاية للقضايا المتجددة، وقد دافع ابن حزم عن موقفهم، ورد عليه ابن القيم وغيره بضراوة لا تقل قوة . فموقف الظاهرية معروف له ما له وعليه ما عليه . وقد نحى منحى الظاهرية في هذه المسألة جملة من العلماء، فمن السلف طاوس وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان .
__________

(2/2027)

————–

كما حذا حذوهم ابن عقيل من الحنابلة، وأبو بكر الباقلاني من المالكية ، والأخير عن ابن رشد في البداية، واللخمي أيضًا من المالكية عن أحمد بن علي المنجور ، في شرحه القواعد في مخطوطة ابن التلاميذ الشنقيطي ص60 .
ونصف في نفس الاتجاه من يعلل علة لا تتناول النقود الورقية ، كالوزن عند أبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه، ولا داعي لنقل كلام هؤلاء لوضوح كلامهم واشتهاره ، كما نصف في نفس الاتجاه أيضًا من يعلل بالثمنية أو الثمنية الغالبة ، وهو يصرح بأن هذه العلة قاصرة وليست صالحة للتعدية إلى غير محلها، وهؤلاء يجدر بنا أن نتعرض لبعض أقوالهم وآرائهم نظرًا للالتباس الذي يوحي به التعليل بالثمنية .
ونقف وقفة قبل أن نسترسل معهم لنشير إلى أن بعض العلماء ممن يعترف بمبدأ القياس يقترب في تحليل فقهه من الظاهرية، وكمثال على ذلك نذكر ما نقله إمام الحرمين عن القاضي أبي بكر الباقلاني المالكي – وقد رأينا أنه غير معلل في هذه المسألة – حيث قال القاضي : الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والإجماع ملحق بهما، والقياس المستند إلى الإجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه .
__________

(2/2028)

————–

أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة ، وليس يدل لعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها ، فانتقاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به، وقال أيضًا : المعاني إذا حصرتها الأصول ضبطتها النصوص ، كانت منحصرة في ضبط الشارع .
وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى الأصول لم ينضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتنفاء حكمة الحكماء . فيصير ذوو الأحلام بمنزلة الأنبياء ، إلى أن قال : ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق ، وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون (1) .
ولعل كلام القاضي ، وإن كان إمام الحرمين اعترضه ، إلا أنه ليس بعيدًا من تفكير الشافعية، فهم وإن كانوا يقولون بالثمنية أو غلبة الثمنية لعلة ، إلا أنهم يقولون بأنها علة قاصرة، والعلة القاصرة عند من يقول بها هي التي لا تتعدى معلولها؛ لكونها محل الحكم أو جزء علة أو وصفًا لازمًا .
وقد ناقش علماء الأصول العلة القاصرة لإثبات وجودها ، ثم بعد ذلك لتحديد وظيفتها وعلاقتها بهذه المسألة ، ومن هؤلاء إمام الحرمين في البرهان (2) .
مسألة : إذا استنبط القائس علة في محل النص ، وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه ، فالعلة صحيحة عند الامام الشافعي رضي الله عنه .
ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية ، وهي خاصة بالنقدين لا تتعداهما، وقد أطال النفس وناقش نفاة العلة القاصرة كالأحناف . وفي هذه المناقشة عرج على مسألة الفلوس أكثر من مرة ، فقال : ولقد اضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى ، ونحن نذكر المختار من طرفهم ، ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه ، ثم نص على ما نراه .
قال قائلون ممن لا يصحح العلة القاصرة : فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا جرت نقودا ، وهو خرق من قائله، وضبط على الفرع والأصل ، فإن المذهب أن الربا لا يجري في الفلوس إن استعملت نقودا، فإن النقدية الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين، والفلوس في حكم العروض ، وإن غلب استعمالها ، ثم إن صح المذهب قيل لصاحبه : إن كانت الفلوس داخلة تحت اسم الدراهم فالنص متناول لها، والطلبة بالفائدة قائمة، وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذًا، والمسألة مفروضة في العلة القاصرة .
__________
(1) البرهان : 1115 قطر .
(2) البرهان : 1080 .

(2/2029)

————–

كلام إمام الحرمين واضح في أن النقدية قاصرة على النقدين، وافتراضه الجدلي ظاهر في صعوبة منحاه ، حيث يجعل النقدية وهي الثمنية علة ، ثم يمنع طردها .
ثم قال بعد ذلك : فإن قيل : ما ذكرتموه تصريح باطل إلى التعليل بالنقدية قلنا : لم نر أحدًا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده . والصحيح عندنا أن مسائل الربا شبهية ، ومن طلب فيها إخالة اجترأ على العرب ، كما قررناه في مجموعاتنا .
ثم الشُّبَهُ على وجوه ، فمنها التعلق بالمقصود ، وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة الطعم، ومن النقدين النقدية، وهي مقتصرة لا محالة وليست علة ، إذ لا شبهة فيها ولا إخالة فيها . . . إلى آخر كلامه .
وقال بعد ذلك في التعارض بين العلة القاصرة والمتعدية وما قررناه لا يجري في النقدين، فإن العلة التي عداها الخصم فيهما باطلة من وجوه سوى المعارضة .
وقال أيضًا فإن قيل : قد علل أبو حنيفة رحمه الله في باب النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون، وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين . وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك؟
قلنا : الوزن علة باطلة عند الشافعية ، والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضي صحتها لو انفردت (1) .
وقد أوضح النووي في المجموع مذهب الشافعي فقال : وأما الذهب والفضة فالعلة عند الشافعية فيهما كونهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه عنده علة قاصرة عليهما ؛ إذ لا توجد في غيرهما . وبعد ذلك يوضح المسألة فيقول : إذا راجت الفلوس رواج النقود لم يحرم الربا فيها، هذا هو الصحيح المنصوص وبه قطع المصنف والجمهور (2) .
وقد أطال جلال الدين المحلي في شرحه لجمع الجوامع للسبكي حيث قال ممزوجا بالنص ” والعلة القاصرة وهي التي لا تتعدى محل النص منعها قوم أن يعلل بها مطلقًا” ، والحنفية منعوها إن لم تكن ثابتة بنص أو اجماع، قالوا جميعا : لعدم فائدتها، وحكاية القاضي أبي بكر الباقلاني الاتفاق على جواز الثابتة بالنص معترضة بحكاية القاضي عبد الوهاب .
__________
(1) البرهان : 1269 .
(2) المجموع مطبعة العاصمة : 9/444-447 .

(2/2030)

————–

كما أشار إلى ذلك المصنف بحكاية الخلاف .
والصحيح جوازها مطلقًا، وفائدتها معرفة المناسبة بين الحكم ومحله ، فيكون أدعى للقبول ومنع الإلحاق بمحل معلولها ، حيث يشتمل على وصف متعد لمعارضتها له ما لم يثبت استغلالها بالعلة ، إلى أن قال : ومن صورها ما ضبطه بقوله : “ولا تعدي لها” أي العلة عند كونها محل الحكم ، أو جزءه الخاص بأن لا يوجد في غيره، أو وصفه اللازم بأن لا يتصف به غيره لاستحالة التعدي حينئذ .
مثال الأول : تعليل حرمة الربا في الذهب بكونه ذهبًا، وفي الفضة كذلك .
ومثال الثاني : تعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج .
ومثال الثالث : تعليل حرمة الربا في النقدين بكونهما قيم الأشياء .
وبمراجعة كلام السبكي وشارحه جلال الدين يتضح أن الثمنية لا تعني التعدي ، وأنها ثمنية تختص بمحل الحكم لكونها وصفه اللازم .
وقد نظم سيدي عبد الله الشنقيطي المالكي في “مراقي السعود” كلام السبكي فقال :
وَعَلَّلُوا بِمَا خَلَتْ مِنْ تَعْدِيَهْ   لِيُعْلَمَ امْتِنَاعُهُ وَالتَّقْوِيَهْ
مِنْهَا مَحَلُّ الْحُكْمِ أَوْ جُزْء وَزَدْ   وَصْفًا إِذَا كُلٌّ لُزُومِيًّا يَرِدْ

قال في شرحه “نشر البنود” : يعنى أن المالكية والشافعية والحنابلة جوزوا التعليل بالعلة القاصرة ، إلى أن قال : فتعدية العلة شرط في صحة القياس ا اتفاقًا، والجمهور على أنها ليست شرطا في صحة التعليل بالوصف كتعليل طهورية الماء بالرقة والنظافة دون الإزالة . وتعليل الربا في النقدين بالنقدية أو بالثمنية أو بغلية الثمنية . . . إلى أن قال : يعني أن من صور العلل القاصرة أن تكون العلة محل الحكم أو جزءه الخاص به أو وصفه اللازم له، والمحل ما وضع اللفظ له كالخمرية، إلى أن قال : والمراد بالوصف اللازم هنا هو ما لا يتصف غير المحل به ، كالنقدية في الذهب والفضة ، أي كونهما أثمان الأشياء ، فإنهما وصف لازم لهما في أكثر البلاد (1) .
ونلاحظ حرصهم على التمثيل للعلة القاصرة بالنقدية أو الثمنية أو غلبة الثمنية، أو كونهما قيمة للأشياء ، كل هذا يدل على أن المعللين بالثمنية أو غلبتها ويقولون بقصور العلة ، يرون أنها ثمنية من نوع خاص، وهذا كقول البهوتي الحنبلي في زكاة الذهب والفضة في كتابه”كشاف القناع” : وهما الأثمان فلا تدخل فيها الفلوس ولو كانت رائجة .
إن النقدية الشرعية – كما سماها إمام الحرمين – تعني فيما يبدو كون النقدين أثمانًا بالخلقة ، حين تعتبر ثمنية غيرها ثمنية عارضة .
ونرى أن علماء الفروع بنى كثير منهم على هذه النظرية فقال الشيخ زكريا الشافعي : إنما يحرم الربا في نقدين ذهب وفضة ، ولو غير مضروبين كحلي تبر ، بخلاف العروض ، كفلوس وإن راجت .
وفي الدر المختار للشيخ محمد علاء الدين قوله : يحل بيع فلس بفلسين أو أكثر . وفي حاشية ابن عابدين جوازه عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف : ليست أثمان خلقة فهي كالعروض .
__________
(1) المنجور : 60 .

(2/2031)

————–

وقد أسقط جل المالكية الزكاة في الفلوس ، إلا أن موقفهم ظل من الربوية مترجحًا بين الحكم بها وعدمه، فهي إذًا ثمنية من نوع خاص ؛ لأنها وحدها الغالبة ، ولأنها : “أصل الأثمان عند الشافعي ” (1) ، ولأنها النقد الشرعي ، كل هذه العبارات تدل على تهرب المعللين بالعلة القاصرة من شمولها للفلوس وما جرى مجراها .
أما وجهة النظر الأخرى التي تقول بالثمنية المتعدية – سواء عبر عنها بغلبة الثمنية، أي غلبة الاستعمال في التبادل ، أو مطلق الثمنية – ويمثلها المالكية ؛ لأن مالكًا رحمه الله كره ذلك .
قال ابن القاسم : سألت مالكًا عن الفلوس تباع بالدنانير والدراهم نظرة – أي تأخيرا – ويباع الفلس بالفلسين؟ قال مالك : إني أكره ذلك ، وما أراه مثل الذهب والورق في الكراهة .
وفي المدونة نصوص تدل على كراهة مالك لبيع الفلوس بالذهب والفضة نظرة، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود ، وكانت لها عين وسكة فإن مالكًا يكره بيعها بالذهب والفضة نظرة .
وانطلاقا من نص الامام فإن علماء المالكية وضعوا قاعدة الثمنية أوغلبيتها ، أي هل تعتبر مطلق الثمنية كافيا لتلحق الفلوس بالنقدين، أو لا بد من أن يكون استعمالها غالبا ؟ وكلا العلتين متعدية عند أكثر المتأخرين من أصحاب مالك ، إلا أنهم بسبب الترجح بين العلتين، أي بين علة واقعة وهي الثمنية القائمة في الفلوس فعلا، وبين علة لم تقع زمانهم وهي غلبة الثمنية ، وعلى أصل مالك في التوسط بين الدليلين وهو ما يسمى بالبينية، أي وجود حكم بين دليلين، وهو إعمال كل من الدليلين من وجه يناسب أعماله .
__________
(1) المنجور : 60 .

(2/2032)

————–

قال الزقاق في المنهج المنتخب :
وَبَيْع ذِمِّيٍّ وَعِتْق هَلْ وَرَدْ   الْحُكْم بَيْنَ كَوْنِهِ اعْتَقدْ
كَالْبَيْعِ منْ شَرط يَصِحّ وَبَطلْ   وَحُكْمُ زِنْدِيقٍ وَشُبهة نقلْ

قال المنجور في شرحه (مخطوطة) ابن التلاميذ الشنقيطي ص57 : اختلف هل ورد الحكم بين بين، أي حكم بين حكمين ، فأثبته المالكية وهو من أصولهم، ونفاه الشافعية، ويعمل به عند من أثبته في بعض صور تعارض الأدلة ولا ترجيح، كما أذا اشبه الفرع أصلين ولم يترجح أحد الشبهين، ونقل أمثلة منها البيع بشرط عدم القيام بالجائحة ، فإن البيع يصح والشرط يبطل، وساق الأدلة المتعلقة بالشروط ، إلى أن قال : قال أبو عبد الله المقري : قاعدة : قال ابن العربي : القضاء بالترجيح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية، بل يجب العطل عليه بحسب مرتبته ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (( الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة )) .
وهذا مستند مالك فيما كره أكله ، فإنه حكم بالتحليل لظهور الدليل وأعطى المعارض أثره، فتبين مسائله تجدها على ما رسمت لك .
وقد نقل قبل ذلك انتقاد تقي الدين ابن دقيق العيد حيث قال عنه : “جعل بعض المالكية الحديث دليلا لقاعدة من قواعد مذهبهم ، هي أن الفرع إذا أشبه أصلين ودار بينهما يعطى حكمًا بين حكمين ؛ لأنه لو أعطى حكم أحدهما فقط لزم إلغاء شبهة بالآخر، والفرض أنه أشبه” إلى آخر كلامه (1) . انتهى محل الاستشهاد منه .
ولهذا فإن كثير من علماء المذهب المالكي جزموا بالكراهة وقالوا : إن ” أَكْرَهُ ” على بابها ولا تعنى الحرمة، وبنوا هذه المسألة أيضًا على قاعدة أخرى هي قولهم : هل يعطى النادر حكم نفسه ، أو يلحق بالغالب في حكمه؟ قال أبو عبد الله المقري في قواعده :
قاعدة : اختلف المالكية في مراعاة حكم النادر، في نفسه أو إجراء حكم الغالب عليه، وقد نظم ذلك أبو الحسن على بن القاسم الفاسي الشهير بالزقاق في المنهج المنتخب فقال :
وَهَلْ لِمَا نَدُرْ حُكْمُ مَا غَلَبْ   أَوْ حُكْمُ نَفْس كَالْفُلُوسِ وَالرُّطَبْ
وَكَسُلَحْفَاةٍ وَقُوتٍ نَدُرَا   كَذَا مُخُالِطٌ وَعَكْسٌ ذُكٍرَا .
__________
(1) المنجور(مخطوط) : 57 .

(2/2033)

————–

قال أحمد بن علي الشهير بالمنجور في شرحه لهذه الأبيات : أي نوادر الصور هل تعطى حكم نفسها أو حكم غالبها؟ وعليه إجراء ابن بشير الربا في الفلوس، ثالثها يكره، ورد إجراء اللخمي على أنه في العين غير معلل، والعلة الثمنية والقيمة . يقول أشهب : إن القائسين مُجمعون على التعليل، وإن اختلفوا في عين العلة، اللخمي : من رأى أن علة الربا في النقدين كونهما أثمان المبيعات وقيمة المتلفات ، ألحق بهما الفلوس . ومن رأى أنه شرع غير معلل منع لحوق الفلوس بهما، ابن بشير : وهذا غير صحيح للإجماع أنه معلل، وإنما اختلفوا في عين العلة ، وإنما سبب الخلاف في الفلوس الصور النادرة هل تراعى؟ فمن رعاها ألحق الفلوس بالعين ، ومن لا فلا . ويمكن أن يتخرج الخلاف فيها على اختلاف العوائد ، فيحمل على الجواز حيث لا يعمل بها والمنع على العكس . ثم قال بعد ذكر بعض الأمثلة وذكر نص المقري في القاعدة السابقة : هو عندي على أن العلة في العين كونها ثمنًا أو قيمة أو كونها أصلاً في ذلك الشافعى .
وقال النعمان بالوزن وأجرى الربا في كل موزون، وقال ابن العربي : ليست العلة القاصرة في الأصول إلا في هذه المسألة (1) .
__________
(1) المنجور (مخطوط) : 60 .

(2/2034)

————–

يلاحظ عزو المنجور الإجماع على التعليل لابن بشير ، وقد علمت مما مر أن الإجماع غير وارد، والصواب مع أشهب أن الإجماع إجماع القائسين، ثم أن اللخمي من علماء مذهب الإمام مالك يعتبر خلافه مؤثرا داخل المذهب ، حتى إن خليلاً في مختصره التزم ذكر اختياراته .
وقد أوجز ميارة الفاسي موقف المالكية بقوله في التكميل :
الثَّمَنِيَّة وَقِيلَ الْغَلَبَهْ   فِي الثَّمَنِيَّة فَحَقِّقْ مَذْهَبَهْ .
عِلَّة ذَا الرِّبَا عَلَيْهِمَا الْفلُوس   نُقُودًا أَوْ عَرَضًا فَحقِّقِ الْأُسس
وَجُلُّ قَوْلِهِ الْكَرَاهِيَةَ بِذَا   تَوَسُّطًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ خُذَا

قال الرهوني في حاشيته على الزرقاني : إن مالكا رحمه الله تردد في علة الربا في النقدين ، هل هي الثمنية المطلقة فتكون الفلوس ربوية؟ أو الثمنية المقيدة بالغالبية فلا تكون الفلوس ربوية؟ ففى بعض أبواب الفقه جعل العلة هي الثمنية المطلقة كالسلم ؛ لأنه جعل الفلوس فيه كالعين، وكذلك في باب الرهن وغيرهما، وفي بعض الأبواب جعلها الثمنية المقيدة بالغالبية كالقراض ؛ لأنه قال : لا يقارض بالفلوس ؛ لأنها تؤول إلى الفساد والكساد ، فجعلها كالعرض ، ولم يجعلها كالعين في كل شيء، وقد اختصر مذهبه ابن عرفة بقوله : وفي كون الفلوس ربوية ثالث الروايات يكره فيها . . . إلى آخره .
ومع أن جميع شروح خليل ذكروا القول بالحرمة في باب السلم ، فإنهم ذكروا الكراهة، وقال الرهوني : إنها الراجحة، ولكنهم تركوا الباب مفتوحًا لتحقيق المناط، أي للحكم بالربوية عندما تتحقق غلبية الثمنية ؛ لأنهم لا يفسرون الغلبية كما يفسرها غيرهم بأنها صفة لازمة للنقدين لتكون العلة قاصرة .
وإنما اعتبروها حالة واقعة بحيث إذا تحققت تلك الحال فلا مناص من تحقق الحكم طبقا لتعريف جمهور الأصوليين، فإن تحقيق المناط إثبات الصلة المتفق عليها أصلا في الفرع .
قال سيدي عبد الله الشنقيطي ناظما كلام السبكي في جمع الجوامع :
تَحْقِيق عِلّة عَلَيْهَا ائْتَلَفَا   فِي الْفَرْعِ تَحْقِيقُ مَنَاط ألفَا

قال في نشر البنود : يعنى أن تحقيق المناط، أي العلة هو إثبات العلة المتفق عليها في الفرع كتحقيق أن النباش الذي ينبش القبور ويأخذ الأكفان سارق، فإنه وجدت فيه العلة وهي أخذ المال خفية من حرز مثله ، فيقطع خلافا لأبي حنيفة .
__________

(2/2035)

————–

وتجدر الإشارة هنا إلى أن : تحقيق المناط ليس من المسالك ، بل هو دليل تثبت به الأحكام ، فلا خلاف في وجوب العمل به بين الأمة ، وإليه يحتاج في كل شريعة . قال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله : “لابد من الاجتهاد فيه في كل زمن، ولا ينقطع ؛ إذ لا يمكن التكليف إلا به ومنه” .
وقال القرافي في شرح التنقيح في تعريفه ما نصه : “وأما تحقيق المناط فهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع” .
مثاله : أن يتفق على أن العلة في الربا (يعنى في البر والشعير) هي القوت الغالب ويختلف في الربا في التين ، بناء على أنه يقتات به غالبا في الأندلس أو لا ، نظرا إلى الحجاز وغيره، فهذا هو تحقيق المناط، ينظر هل هو محقق أم لا بعد الاتفاق عليه . ومثله في البيضاوي .
وعرفه الآمدي في الإحكام بأنه النظر في معرفة وجود علة الحكم ومناطه في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها . ومثل له بالنظر في وجود علة تحريم الخمر، وهي الشدة المطربة في النبيذ .
وسلك الإمام الغزالي في تعريفه طريقا آخر ترجع إلى الاجتهاد في تطبيق حكم كلي منصوص عليه في بعض جزئياته ، فقال في كتابه المستصفى ما نصه : “أما الاجتهادي في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه، مثاله : الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع على تعيين الإمام الأول بالنص، وكذا تعيين الولاة والقضاة، وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات وإيجاد المثل في قيم المتلفات، وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد ، فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية ، وذلك معلوم بالنص، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين .
فتحصل من مراجعة كتب المالكية والعلل التي أشاروا إليها والقواعد التي قعدوها في المسألة قيام ثلاثة أقول :
1- قول بالتحريم .
2- وقول بالجواز .
وقول بالكراهة .
__________

(2/2036)

————–

ومن المعلوم أن بعض العلماء الأعلام خارج المذهب المالكي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى يتخذان موقفا متميزًا يجعل الثمنية المطلقة علة صالحة وكافية للحكم بربوية النقود، وقد أكدوا ذلك تأكيدا لا يضاهيه إلا موقف القاضي أبو بكر بن العربي رحمهم الله جميعًا حيث قال في ” العارضة” عند كلامه على حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ما نصه : “نبه بالبر على ما يقتات في حال الاختيار ، وبالشعير على ما يقتات في حال الاضطرار ، وبالتمر على القوت الذي يتحلى به كالزبيب والعسل، ونبه بالملح على ما يصلح الأقوات من توابل الطعام . ونبه بالذهب والفضة على ما يتخذ أثمانًا للأشياء وقيما للمتلفات كالفلوس ونحوها . وهذه حكم ما غاص على جوهرها إلا مالك ، وقد بيناها في مسائل الخلاف للنظر هنالك، وذكر علماؤنا عن مالك أن علة الربا في النقدين كونهما أثمانًا للأشياء ، وقيما للمتلفات ، وأنهما علة قاصرة لا تتعدى، وقال مالك : إنها تتعدى إلى ما يتخذه الناس أثمانًا للأشياء ، حتى لو اتخذ الناس الجلود بينهم أثمانًا لجرى فيها الربا، وقد رأيت أهل بغداد يتجرون بالخبز ، حتى إن الحمام يُدخل به، وبه يبتاع كل إدام ، فإذا اجتمع عندهم أوردوه على الخباز باردًا ، وباعه بسعر آخر حتى يفنى بالأكل ، إذ لا يعاد ثانية إلى الشراء به ، فصارت العلة عند مالك معنوية، وهو الصحيح” .
__________

(2/2037)

————–

وتكلم أبو عبد الله محمد بن خليفة الوشتاتي المالكي الشهير بالأبي في شرح صحيح مسلم عند كلامه على حديث أبي سعيد الخدري (( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز )) .
فذكر قولين في الفلوس واستشهد لربويتها بقول المدونة في آخر السلم ” الثالث : لا يصح فلس بفلسين لا نقدا ولا مؤجلاً” .
ثم قال في تعريف الصرف : الصرف بيع الذهب بالفضة أو أحدهما بفلوس لقوله في المدونة ” ومن صرف دراهم بفلوس ، فأطلق على ذلك اسم الصرف . والأصل في الإطلاق الحقيقة” .
وذكر كل شراح خليل الخلاف في المسألة مفرعين على الحرمة غالبًا في الصرف وعلى الكراهة أيضًا، ويجري مثل ذلك في السلم، وكلامهم معروف لا نطيل عليكم بنقله .
المناقشة
فتلخص مما مر قيام مذهبين أو موقفين من النقود الورقية :
أولهما : موقف من يقول بعدم ربوية النقود ، أو على الأصح يذهب إلى عدمها ؛ لأنه لا نص من الأقدمين في النقود الورقية ، ولكنها مشمولة بالعموم، وبالنص على المثيل، وهذا الموقف هو رأي أكثر العلماء كما أسلفنا .
ويمكن إرجاع بواعثهم حسب رأينا إذا قرأنا كلامهم قراءة متأنية إلى ما يلي :
1- أن تحريم الربا أمر تعبدي لا تظهر له علة واضحة معقولة ، فهو من قبيل الابتلاء والاختبار، وما كان من هذا القبيل يقتصر فيه على محل الورود .
2- أن الذهب والفضة لهما مزايا وخصائص لا توجد في غيرهما، فهما معدنان نفيسان قابلان للكنز واختزان الثروة ، ويبقيان على الزمن، هذا من ناحية الخلقة، أما من الناحية الشرعية فيحرم اقتناء آنيتهما، ولا يجوز التحلي بهما للرجال غير ما استثنى الشارع . فهما أثمان بالخلقة ، وهما أصل الثمنية ، وهما النقدان الشرعيان .
3- صعوبة إبراز علة مقنعة سالمة من القوادح مطردة منعكسة، وقد قدمنا قول إمام الحرمين أنه لا شبهة فيها ولا إخالة .
__________

(2/2038)

————–

4- نوع من الخوف من التجاوز والافتيات على النصوص، نجد مثالاً له في ترجيح العلة القاصرة على المتعدية على رأي الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني إذا صح التعليل بهما “ومن رجح العلة القاصرة احتج بأنها متأيدة بالنص، وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة ، فكان التمسك بها أولى” (1) .
5- أن ثمنية غير النقدين ثمنية مستعارة ومعرضة الزوال في أي لحظة، ومن شأن هذا أن يجعل الثمنية فيه صفة عارضة .
6- أن التحريم تكليف والتكليف يحتاج إلى ورود النص كحديث (( الطعام بالطعام )) الذي جعل الشافعي رحمه الله يرجع عله الطعمية ، ويسهل ذلك على أصحابه المترددين في قبول العلة، وقبول تعديها ، ولأن جهة التحريم محصورة، وجهة الإباحة لا حصر لها، فالواقعة إذا ترددت بين الطرفين ووجدت في شق الحصر فذلك، وإلا حكم فيها بحكم الآخر الذي أعفي من الحصر .
7- في الربا من الخطورة والتحريم ما لو كان قائمًا في هذه المسألة ما ترك بيانها ، والله سبحانه وتعالى يقول : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } [الأنعام : 119] .
أما الفريق الآخر فيعتضد بما يلي :
1- الشريعة جاءت لمصالح العباد ويستحيل أن تحرم شيئًا لمفسدة ، وتترك شيئا فيه نفس المفسدة فنظير الحرام حرام (2) .
2- التعليل أولى لأنه أكثر فائدة، وترك التعليل خشية، وما في ترجيح العلة القاصرة من الأمن لا وقع له ، فإنه راجع إلى استشعار خيفة ، لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد (3) .
3- إعمال التعليل في أربعة من الستة وتركه في اثنين تحكم، أي ترجيح بلا مرجح .
4- أن الغلبة الثمنية أصبحت واقعًا للنقود الورقية ، فالاعتراف لها بأحكام النقدين إنما هو من تحقيق المناط وليس إحداثًا لاجتهاد جديد إلا بقدر ما يقتضيه تحقيق المناط ؛ لأن الحكم كان موجودا معلقًا، وقد تحقق شرطه في جزئيته ، فيجب إثبات الحكم .
__________
(1) البرهان : 1266 .
(2) ابن القيم . إعلام الموقعين .
(3) البرهان : 1267 .

(2/2039)

————–

5- أن عدم إجراء الربا فيها تعطيل لحكم يتعلق بمسألة خطيرة من مسائل المعاملات .
وبعد، فإن تصفح كلام العلماء لا شك يساعد على تكوين رأي وإعطاء صورة مميزة لأي موضوع، ذلك هو الهدف وراء مراجعة كلام الأقدمين والمتأخرين ، ومقارنة أقوال المحللين والمحرمين .
إلا أن النتيجة الأولى التي يمكن أن يخرج بها المرء بعد أن طالع أقوال الفقهاء ، هي ملاحظة الاضطراب الواضح عند أكثرهم في هذه المسألة، فلا يكاد أحدهم يبرم رأيا إلا كر عليه بالنقض ، ولا يبسط وجها إلا عاد عليه بالقبض ، وهكذا دواليك ، حتى يقول القارئ : حنانيك بعض القول أهون من بعض، والفلوس إلا تكن عينًا فإنها ليست غير عرض (( ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) .
والشبهة بدون شك قائمة إذ حدها : ما تجاذبته الأدلة، أو أشبه أصلين دون قياس علة مستقل، وهنا تجاذب هذه القضية العفو ، وهو أصل يرجع إليه عند سكوت الشارع، وعدم ثبوت سبب أو قيام مانع لحديث : (( وما سكت عنه فهو عفو فاقبلو من الله عافيته ، فإن الله لم يكن ينسى شيئًا . ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [ مريم : 64] )) (1) .
__________
(1) أخرجه البزار في مسنده ، والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه . وقال الحاكم : صحيح الإسناد، وقال البزار : إسناده صالح .

(2/2040)

————–

والأصل الثاني : هو شبه النقود الورقية بالعين لوجود علة مظنونة وحكمة مقدرة، وقد أجمل الفخر الرازي حكمة الربا في أربعة أسباب :
1- أولهما أنه أخذ مال الغير بغير عوض .
2- ثانيهما : أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب؛ لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا ؛ خف عليه اكتساب المعيشة ، فإذا فشى في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق ؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة .
3- الثالث : أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض .
4- الرابع : أن الغالب في المقرض أن يكون غنيًا، وفي المستقرض أن يكون فقيرًا ، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف (1) .
وعلله الشيخ ابن عاشور بأنه حكم معلل بالمظنة .
أن كثرة العلل قد يدل على صعوبة التعليل، وفي التعليل بالمظنة خروج من المأزق، وكل ذلك يدل على صعوبة مركب القائسين وتوجه وجه حكم بين حكمين ، لاشتباه الشبه في أوجه السالكين، فالشبهة تنشأ عن أسباب منها كون النص خفيا وورود نصين متعارضين، ومنها ما ليس فيه نص صريح ، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا” (2) .
ومعلوم أن موضوعنا لا يوجد فيه نص خفي أو ظاهر ، فضلا عن وجود نصين متعارضين ، فهو بالطبع من النوع الثالث الذي يؤخذ من القياس ، وقد اختلف فيه العلماء ، فهو إذًا شبهة ، فما هو حكم الشبهة؟
وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام (3) .
وقال الماوردي “هي المكروه ؛ لأنه عقبة بين الحلال والحرام” (4) .
__________
(1) التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور : 3/85-86 .
(2) جامع العلوم والحكم . ابن رجب : 60 .
(3) نفس المصدر 61 .
(4) الشبرخيتي على الأربعين النووية : 113 .

(2/2041)

————–

فإذا كان الأمر على ما ذكرت، والإمام مالك يصرح بالكراهة ، ومن أصول مذهبه قيام حكم بين حكمين، والأئمة الآخرون لا يكرهون، فأنا أكره ما كرهه مالك رحمه الله، والكراهة حكم من الأحكام الخمسة يجب أن يعاد إلى حياة المسلمين العملية في بيوعهم وأنكحتهم، فيمتاز أهل الورع عن غيرهم، ويترك لذي الحاجة مندوحة عن ارتكاب الأثم السافر، إلا أنها كراهة تحريم شديدة ، والله أعلم .
وكأني بقائل يقول : أحللت الربا، وأنا أقول ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أفتى في الخمر بأنها إذا طبخت وتخللت حتى ذهبت شدتها يجوز شربها ، فقال له قائل : احللتها ياعمر . فقال : والله لا أحل إلا ما أحل الله ولا أحرم إلا ما حرم الله ، والحق أحق أن يتبع” .
__________

(2/2042)

————–

المسألة الثالثة
التغيرات التي تطرأ على العملات من غير الذهب والفضة من بطلان ونقصان أو رجحان ، وأثرها في المعاملات :
1- إذا بطل التداول بعملة كانت رائجة في جميع البلدان ، فهل لذلك تأثير على العقود التي وقعت بها؟
ومن كانت مترتبة في ذمته ، فهل له أن يدفعها بعينها وإن كانت باطلة ، أو عليه أن يدفع قيمتها؟
في ذلك مذاهب، ومذهب أبي حنيفة أن العقد يفسد ببطلان رواج الثمن ، ويفسخ البيع ما دام ذلك ممكنا بوجود المبيع بحاله قبل قبضه ، فيرده المشتري، وإن تلف رد مثله أو قيمته، وإن كانت قرضا أو مهرا مؤجلاً رد مثلها وإن كانت كاسدة ؛ لأنها هي الثابتة في ذمته .
والمشهور عند الشافعية والمالكية أن ذلك لا يفسد العقد، وأن الذي ترتب في ذمة المدين وليس عليه الدائن سواه، ويعتبر ذلك كجائحة نزلت به ، سواء كان الدين قرضا أو ثمن مبيع أوغير ذلك، وذهب بعض المالكية إلى أن الواجب على المدين السلعة يوم قبضها من العملة الرائجة .
ومن الجدير بالملاحظة أن الخلاف في المذهب المالكي ، وإن كان الراجح فيه أن يدفع مثل الفلوس الباطلة ، كما قال خليل في مختصره : “وإن بطلت فلوس فالمثل ، أو عدمت فالقيمة” ، فإنهم مع ذلك بنوا هذه المسألة على قاعدة يفهم منها اعتبار القول المقابل ؛ لأنهم بنوا عليه لزوم القيمة إذا مطل المدين، وبناء القول الراجح على قول مرجوح يدل على أن له حظا من النظر، تلك القاعدة هي : إذا فقد المعنى المقصود مع وجود العين المحسوسة ، هل يجعل الحكم تابعًا للمعنى فيقرر بعدمه عدم العين ، أو لا يقدر كالعدم لوجود عينه؟
قال ميارة الفاسي في تكميل المنهج :
إِن فقدَ الْمعنَى الذي قَد قَصَدَا   مع بقاءِ العينِ فِي حسٍّ بَدَا
هلْ يجعلُ الحكمَ لمعنًى تَبعا   أو يتبعُ العين خلافٌ سُمِعَا
كَسِكةٍ فِي ذمةٍ ثم انقطعْ   بِهَا التعاملُ فَحقّقْ تتبعْ
لِلأولِ القيمةُ والثاني المثل   وشهرَ الثاني نعم به العمل
لكنه مقيدٌ بما إِذا   لم يحصلِ المطلُ فقلْ ياحبَّذَا
وإن يكن فأوجبنْ عليهِ ما   آلَ لهُ الأمرُ لظلمٍ قد سَمَا
قلتُ وهذا ظاهرٌ إِن كان ما   آلَ له الأمرُ رفيعًا فَاعْلَمَا

(1) .
__________
(1) تكميل المنهج شرح الفقيه محمد الأمين بن أحمد زيدان الشنقيطي دار الكتاب المصري : 53 .

(2/2043)

————–

2- بطلان رواجها في بعض البلاد دون بعض ، فالمشهور عند الأحناف أن ذلك لا يوجب فساد العقد ، وأن البائع بالخيار بين أن يدفع له المشتري العملة التي وقع العقد عليها ، أو التي تروج في بعض البلدان، وإن كانت لا تروج في بلد البيع ، وبين أخذ قيمتها من عملة رائجة فيه، وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن الحكم في ذلك مثل الحكم في بطلان العملة في جميع البلدان .
3- انعدام العملة المترتبة في الذمة بفقدانها وعدم توفرها في الأسواق، والجمهور على أنه تجب قيمتها ، إلا أنهم اختلفوا في الوقت الذي تجب فيه، فعند الحنابلة أنه آخر وقت قبل الانقطاع، وهو مذهب الحنفية المفتى به عندهم وهو ، قول محمد بن الحسن ، وقال أبو يوسف : إنه يوم التعامل .
وأما أبو حنيفة فقال : إن ذلك يوجب فسادا لبيع كبطلان العملة ، وعند الشافعية أن القيمة تجب في وقت المطالبة .
والمشهور عند المالكية أنها تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق والانعدام، على ما اختاره خليل بن إسحاق في مختصره تبعًا لابن الحاجب، والقول الثاني أنها تعتبر يوم الحكم ، قال أبو الحسن : وهو الصواب . البرزلي : وهو ظاهر المدونة .
__________

(2/2044)

————–

فكان على المصنف أن يذكر القولين أو يقتصر على الثاني .
4- طرق النقصان والرجحان ، أي أن العملة بعد تقررها في ذمة المدين تغيرت قيمتها بالزيادة أو بالنقص ، فماذا عليه أن يؤديه للداين في هذه الحال؟
فيه ثلاث أقوال :
الأول : وهو المشهور عند المالكية والشافعية والحنابلة وقولٌ لأبي حنيفة : أن الواجب على المدين أداؤه نفس العملة التي وقع التعاقد عليها وإن نقصت أو زادت .
الثانى : قول أبي يوسف وهو : أن على المدين أن يؤدي قيمة العملة التي تغيرت بالنقصان أو بالزيادة ، ولا يلزم الدائن أن يقبل ما وقع عليه التعاقد إذا نقص .
الثالث : ما استظهره الرهوني من التفصيل مقيدا به القول المشهور في مذهب المالكية من كون اللازم في بطلان الفلوس وأولى تغيرها بالزيادة والنقصان ؛ هو المثل . قال : وينبغى أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه ؛ لوجود العلة التي علل بها المخالف (1) .
__________
(1) الزرقاني على مختصر خليل : 5/60 .

(2/2045)

————–

وبعد، فإن تفصيل الرهوني جيد ، إلا أنه لم يحدد النسبة التي إذا وصل إليها الرخص رجع بها الدائن على المدين ، سواء كان دين قرض يقصد به المعروف والإحسان أو دين بيع تتوخى فيه المكايسة والربح، ونحن نقترح للبحث نسبة الثلث قياسا له على الجائحة في الثمار ؛ لأن الجائحة أمر خارج عن إرادة المتعاقدين ، وليست من فعل أحد حتى يرجع عليه البائع أن شاء . أما ما كان بفعل آدمي فقال القاضي : المشتري بالخيار بين فسخ العقد ومطالبة البائع بالثمن ، وبين البقاء عليه ومطالبة الجاني بالقيمة ، وهنا لا يوجد شخص معين مسئول حتى يقيم عليه المتضرر دعوى، فالحكمة في الجائحة أنه لما كان الناس لابد لهم من بيع ثمارهم أَمَرَ الشارع برد الجائحة .
ففى الحديث (( إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ )) ، رواه مسلم في صحيحه وابن ماجه وأحمد ، يدل على أن العلة في وضع الجائحة هو أخذ المال بغير حق، وهو إيماء إلى العلة ، وذهب إلى اعتبار الجائحة في الجملة أحمد ومالك وأكثر أهل المدينة ، وبه قال الشافعي في القديم، ، وقد رد الاستشهاد بالحديث الذي تمسك به الشافعي في الجديد وأبو حنيفة .
وقال مالك : إن الجائحة تكون في ضمان البائع إذا وصلت إلى الثلث فما فوق، وهي رواية عن أحمد .
__________

(2/2046)

————–

كما أن الثلث يعتبر في الغبن الذي يقع على أحد المتعاقدين قبل الاكتفاء بالثلث ، لتحقيق الغبن عند ابن عاصم، وقيل : لا بد من الزيادة على الثلث عند ابن القصار، ونفى خليل اعتباره مطلقًا فقال : “لا بغبن ، ولو خالف العادة” .
وقال ابن عاصم الغرناطي :
وَمَنْ بِغَبْنٍ فِي مَبِيعٍ قَامَا   فَشَرْطُهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ الْعَامَا
وَأَنْ يكونَ جَاهِلاً بِمَا صَنَعْ   وَالْغَبْنُ بِالثُّلُثِ فَمَا زَادَ وَقَعْ .
والحاصل أن الغرر اليسير مغتفر، والغرر الكثير معتبر، والثلث مرة كثير ومرة يسير عند الفقهاء . قال الزقاق في المنهج المنتخب :
وكثرةُ الثلثِ فِي الْمعَاقلهْ   جَائِحَة خَفَّ وحملُ العاقلهْ
وَذَنب الأضْحَاةِ وَالَّذي اسْتحَقّ   مِن فندقٍ وشبهه قاضٍ يحقّ
أَن ْيَنْقَسمَ كَدَارِ سُكْنَى رَدفْ   لاَ ضرَّ لا نَقْصَ وفِي الْعَيْبْ اخْتلفْ
فِي الدَّارِ كالمِثلي مُطلقًا كَما   فِي ذنب وَنَزر نصفٌ عُلِمَا

إلى أن قال في المسائل التي يعتبر الثلث فيها نزرًا، إذ لابد من الزيادة عليه لإحداث حكم مؤثر :
__________

(2/2047)

————–

أمَّا مسائل الوصايا وَالْغَلثْ   تَبرعُ العرسِ فَمن نزرَ الثلثْ
فِي قصدِهَا لا ذِي خلافٍ وَثمرْ   كصُبْرةٍ دَانيةٍ وَمن ذكرْ
غَبنًا فَمنْهُ وبياض قَد ألفْ   فِي أُذنِ أصخاةٍ تَرددٌ عُرفْ
كَحليةٍ وَالحوزِ والأباري   مَسَائل الزَّكاةِ غرس جَارِي
تَبرعُ المريضِ أو حَابى وما   ضُمِن كالعرسِ وَشبه عُلِمَا

أجمل المنجور في شرحه هذه الأبيات عند كلامه على الغبن أقوال المالكية .
فقال ابن عبد السلام : مشهور المذهب عدم القيام بالغبن، وعن ابن الحاجب قيل : الثلث غبن، وقيل : ما خرج عن المعتاد. ابن القصار : يقام بالغبن إذا زاد على الثلث .
ولعل هذه المسألة يرجع فيها إلى قاعدة أخرى، وهي : هل يتعين ما في الذمة أو لا يتعين، فإذا قلنا بتعيينه لزمه ما تقرر في الذمة يوم التعاقد قدرًا وصفة، وإذا قلنا بعدم تعينه لم يلزمه إلا ما آل إليه الأمل، وهذه القاعدة ذكرها صاحب المنهج المنتخب فقال :
وَهل تعين لِمَا فِي الذمةِ   هل ينقل الحكم بعَيدِ نيتى

تبدلت … إلخ . يراجع في هذه المسألة المنجور، والفرق السابع والثمانون من فروق شهاب الدين الفراقي .
والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء الطريق .
__________

(2/2048)

————–

الخلاصة
الحاصل أن هذه المسألة وإن كانت أكثر نصوص الفقهاء فيها على عدم إلزام المدين بجبر الضرر الذي نزل بالدائن ؛ فإن وجه المصلحة بيّن ، واندراج هذه الجزئية تحت عمومات كثيرة ترقى بها عن المصالح المرسلة لتجعلها في نطاق المصالح المعتبرة للشارع ؛ لعموم قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [البقرة : 188] وخبر (( لا ضرر ولا ضرار )) ، (( ولم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ )) .
وهي جديرة بالاجتهاد ؛ لأن تغير العملة يقترب من الجوائح كالثمار في مهب الرياح الغوادي والروائح مما يستدعي الاستنجاد بمقيدات ومرسلات المصالح .
وبهذا يقيد استرسال الأقلام، ونكتفى من طرق الموضوع بالإلمام، وإن لا نكن قد وفقنا في فتق رتقه وفتحه، فعسى أن نكون قد ساهمنا في إثارة بحثه وطرحه .
ونستغفر الله العظيم ونتوب إليه مما بدر منا فيه من هفوة أو زلل، أو تقصير في حق أو تجاوز في نطق أو علم .
اللهم صل على عبدك ونبيك سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليمًا .
__________

(2/2049)

————–

 

     

Comments are closed.