كلمة في مؤتمر اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية

   

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

 

كلمة في مؤتمر اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية

يومي 25 و26 اكتوبر 2022م

 

معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

وبعد، فيسرني الحضور معكم اليوم مرحباً بضيوف جامعتنا الكرام مثنيا على جهود إدارة الجامعة في تنظيم هذه الفعالية الهامة ودعوة هذه النخبة المميزة من أعلام الفكر واللغة وعلماء الحاسوب.

إن موضوع مؤتمركم هذا هو اللغة العربية في جانب من جوانبها وزاوية من زواياها تتعلق بالتجديد، إن لم يكن في الأساس فهو تجديد في الوسائل، وذلك يندرج في رؤية دولتنا، دولة الإمارات العربية المتحدة، وقيادتنا الرشيدة في تشجيع التجديد والابتكار في شتى الميادين ومختلف الفنون.

وإن اللغة العربية جديرة بأن تنال حظها وتحظى بنصيبها في اهتمام جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية وبخاصة تلك التي تتمتع بطموح وسعي للتميز كمثل جامعتنا، جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية. ولذلك كان هذا المؤتمر بعنوان “مؤتمر اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية”. وهو موضوع له جدته وجديته لما يمثل من سعي لتمكين اللغة العربية من الولوج في مجالاتٍ ظلت حصراً على بعض اللغات العالمية.

وإذ أرحب بكم باسم جامعتنا وأشارككم هذا الاجتماع العلمي الرفيع فأود أن أقول كلمة وجيزة عن هذه اللغة العربية القديمة الحديثة. إن تاريخ اللغات وبخاصة السامية يصعب تحديده بزمن أكيد إلا أن اللغة العربية حسب الروايات التاريخية ترجع إلى حوالي أربعة آلاف سنة إذ أن المؤرخين يذكرون أن سيدنا إسماعيل عليه السلام تعلم اللغة من جرهم وهي من القبائل العربية البائدة من أصول قحطانية كجديس وطسم وعاد وثمود. هذه هي الروايات التي يذكر المؤرخون العرب. ولا توجد نصوص أدبية ترجع إلى ذلك العهد بل إن بعض الروايات التي لا يمكن الحكم بصحتها تنسب شعراً إلى أبي البشرية آدم باللغة العربية.

تغيرت البلاد ومن عليها        فوجه الأرض مغبر قبيح

 

إلا أن الله علم آدم الأسماء كما جاء في القرآن الكريم فإذا كانت الأسماء هي اللغات كما يروى عن ابن عباس فلا شكّ أن العربية كانت من بينها. مهما يكن من أمر فالأشعار التي وصلت إلينا ترجع إلى أقل من ألفي سنة كأشعار الأفوه الأودي وغيره.

ولقد صارت العربية بفضل القرآن الكريم لغةَ عِبادَةٍ، وهي أيضاً وَسيلة فَهْم الشريعة، هذه الوظيفة التعبدية للغة العربية (على خلاف عن أبي حنيفة الذي رأى قراءة القرآن باللغة الدارية)، وهذه الميزة ربما لا يشارك فيها من اللغات الحية إلا العبرية القديمة. وأما النصارى الكاثوليك فكانوا يتعبّدُون باليونانيّة ثم اللاتينية، باعتبار أن الأولى هي التي ترجم إليها العهد الجديد من النسخة الأصلية الضائعة التي لا يعرف أكانت باللغة السريانية أم بالعبرية؟ وقد سمح الفاتيكان في المجمع المسكوني لسنة 1965 بأداء الطقوس بلغة كل قوم.

أما خارج الوظيفة الدينية، فإن اللغة العربية كسائر اللغات في أداءِ وَظِيفَتَيْ التَّعْبيرِ والاتِّصالِ، التعبير عن الأفكار والتواصل مع الآخرين، Communication. ولذلك فإن العربية محترمة ومعتبرة، وهو احترام واعتبار تشاركها فيه عند بعض العلماء كلُّ اللغات لأن الحرمة للحروف كما يقولون. كما أن اللغة العربية هي لغة الضاد ولغة المثنى أي صيغة التثنية وهي ما دل على اثنين وأغنى عن المتعاطفين بزيادة ألف ونون في حالة الرفع ، أو ياء ونون في حالتي النصب والجر، على أن اللغة العبرية -فيما علمنا- احتفظت بألفاظ قليلة تأتي فيها صيغة التثنية.

 

أيها الحضور الكريم،

إن اللغة العربية لغة تنتمي للمستقبل بخوارزمياته وعملياته المعقدة. وإن نظرة على تاريخ تطورها توضح هذا المنحى. فقد كان أحد روادها الأوائل وهو الخليل بن أحمد يتمتع بعقلية رياضية. يذكر أنه توفي وهو يبحث في معادلات رياضية دقيقة. من خلال ذلك اخترع العروض ووضع أول قاموس للغة العربية “كتاب العين” وكانت منهجيته أن يرتب الأحرف حسب ترتيبها في المخارج متدرجة من حلقية إلى شجرية إلى ذلقية إلى شفوية. أو ما سماه الشاطبي موازين الحروف.

وَهَاكَ مَوَازِينَ الْحُرُوفِ وَمَا حَكَى … جَهَابِذَةُ النُّقَّادِ فِيهاَ مُحَصَّلَا

وَلاَ رِيَبةٌ فِي عَيْنِهِنَّ وَلاَ رِبَا … وَعِنْدَ صَلِيلِ الزَّيْفِ يَصْدُقُ الاِبْتِلَا

 

فيأخذ جذراً وينظر تقلباته والإمكانات المتاحة لتصاريف هذا الجذر وبناء على هذه الإمكانات يضع قائمة للأصول المستعملة في مقابل الأصول المهملة. على سبيل المثال ج ذ ب هو جذر ثلاثي -والأقل من الثلاثي كما تعرفون لا يكون أصلاً-.

“وليس أدنى من ثلاثي يرى***قابل تصريف سوى ما غيرا” كما يقول ابن مالك

هذا الثلاثي له تصاريف مختلفة وإن شئت فقل تقلبات فهذه التصاريف بناء عليها وعلى ما سمع من العرب فيها نضع قائمة الأصول المستعملة بعضها يكون كل هيئة منه أصلاً وبعضها تكون فرعا. والفرق بين الأصل والفرع أن الأصل يتصرّف والفرع لا يتصرّف.

والجذر “ض ر ب”، يمكن أن نأخذ منها “ضرب” وهو مستعمل و”ضبر” و”ربض” و”رضب” و”برض” و”بضر” وكلها أصول مستعملة. ومن برض قول ذي الرمة:

“رعت بارض البهمى جميماً وبسرةً وصمعاء حتى آنفتها نصالها”

 

والمراد أن اللغة العربية بدء تدوينها بصفة شبه رياضية مذ عني بها الخليل ومن قبله قام أبوالأسود الدؤلي بوضع الشكل على الحروف كما أسس الخليل العروض كذلك بأشكال شبه موسيقية. وقد اهتم بتصاريف اللغة، والصرف يختلف عن النحو فهو يهتم ب”كينونة اللفظ” أما النحو فيهتم بأواخر الكلم وعلاقته بالعوامل الخارجية. فالحروف وأشباهها لا تتصرف بمعنى أن هيئاتها لا تتقلب:

حرف وشبهه من الصرف بري***وما سواهما بتصريف حري

 

وإذا كانت اللغة العربية بدأت هكذا فهي إذاً قابلة للتطوير والتطور. ويمكن أن نعتبر أن الأجيال التي تعاقبت اهتمت بالنحو على حساب الصرف وأن ابن جني وشيخه أباعلي الفارسي لم يتابعهما الناس في عنايتهما بما يسمى بالاشتقاق الكبير أو الأكبر. وهو ما يدعى بالقلب المكاني وهذا معنى الاشتقاق الكبير، أما الاشتقاق الأكبر فهو قلب حرف إلى حرف آخر فالأحرف تتعاقب وتتعاور.

فهل يمكن الآن أن نعود إلى أصول هذه الصناعة عند الخليل وعند ابن جني وشيخه لنفيد منها في الحاسوبية علماً أن الأبجدية العربية وإن اشتملت على ثمانية أو تسعة وعشرين حرفاً فيمكن رجعها إلى عدد أقل عندما نعرف أن أربعة أحرف تمثل حرفاً واحداً الباء والتاء والثاء والياء هي في الحقيقة حرف واحد إذا عريناه من النقاط التي دخلت متأخراً في رسم القرآن الكريم، وكذلك الجيم والحاء والخاء حرف واحد. وحتى التشكيل فإن الفتحة والكسرة كما يقول أهل رسم القرآن عبارة عن ألف مبطوحة في الأعلى والأسفل والضمة عبارة عن واو مطموسة الرأس.

فإذا كانت اللغة العربية من مبتدئ تدوينها دائرة على منطق دقيق واستقراء عميق فأحرى أن تكون بذلك أقرب وأيسر في البرمجة والحوسبة التي مدارها كذلك على المنطق الرياضي. والمراد هنا كيف نستطيع من خلال إمكانات الحاسوب البرمجية ومتاحات الذكاء الصناعي استيعاب اللغة العربية بمجازاتها واستعاراتها وكناياتها وظاهر  دلالاتها…ذلك ما نأمل أن يسهم هذا المؤتمر فيه من خلال التعاون والتكامل بين علماء اللغة والمختصين في التقنية والشراكات بين المؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص.

هذه أفكار متناثرة لكن المختصين والخبراء في مؤتمرنا هذا بإمكانهم أن يجدوا فيها أو في الرجوع إلى أصلها ما ينجدهم في البرمجة ويسعدهم في الحوسبة.

 

وختاماً، أشكركم جميعاً وأدعو الله أن يبقي بلدنا هذا بلد خير ونماء وعطاء ونفع للناس، وأن يحفظ قيادتنا الرشيدة من كل ضر وباس، وأن يصلح أعمالنا وأن يجعل اجتماعنا اجتماع خير وأن يكلّله بالنجاح إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

     

Comments are closed.