الفلسفةوالأخلاق – كلمة العلامة عبدالله بن بيه

   
     

 

الحمدلله الذي كرم الإنسان بالعقل وميّزه، وكرم العقل بالعلم وعززه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المتمم لمكارم الأخلاق والمرشد للحكمة والرحمة والمعرفة وعلى آله وصحبه أجمعين،

معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يسرني أن أرحب بكم في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، هذه الجامعة الحديثة النشأة، البعيدة الطموح، التي حازت مزيّة الاسم وخصوصيّة المجال، فقد شرفت بحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله. وهو شرف يحمل هذه الجامعة مسؤولية التميز والتفوق في كل مجالات البحث العلمي.

 

المنهج كما أتصوره:

وفي بداية كلمتي هذه اسمحوا لي بنبذة عن منهج هذه الجامعة كما أتصوره: إنّه منهج الموائمات الحضارية والوساطات، إنه منهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية، إنه منهج التحالف بين القيم، والتكامل بين الكليات.

نعتقد أنه قد آن الأوان لنبذ المنظور الفصلي القطائعي الذي يرتكز على الخصوصيات ويهمّش ويلغي أوجه الاتصال ودوائر المشترك، ويقيم تقابلات سجالية وصراعا بين المركزيات، مآله المحتوم تفكيك الوئام وهلاك الأنام. فلا بُد من القطع المنهجي مع هذا المنظور الإقصائي، إذ هو منظور انفعالي قلق لا يمكن أن يؤسس لرؤية حضارية.

بهذه المنهجية التي تقوم على تجاوز المتقابلات ونبذ القطائع والمفاصلات، بالانتفاع بثمرات العقول ومحصولها، وإرساء التعايش بين الأفكار، حقّقت الإمارات بفضل الله ولا تزال تحقّق الاستئناف الحضاري الواعي والازدهار التنموي المثمر.

الوساطة بين الفلسفة والدين:

إن من الوساطات الضرورية التي نأمل أن تنجح فيها جامعتنا الوساطة بين الفلسفة والدين، فلقد درج الناسُ على افتراض تنافر جذري بينهما، إما على وجه التضاد، أو على سبيل الاستقلال.

إن الجوار بين الفلسفة والدين قد يتوتر، والخلاف بين ممثليهما قد يحتدم، كما جرى بين الغزالي وابن سينا وأبي نصر الفارابي، إلا أن ذلك لا يدفعنا إلى الاعتقاد باستحالة الحوار، بل إننا نؤمن بأن هذا الوصل ممكن وضروري، وأنّ هذه الخصومات التاريخية لا ينبغي أن تغيّب نجاحات وتحجب لقاءات سعيدة جرت على يد فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء، ومن أبرز هؤلاء رائد المصالحة ابن رشد الحفيد في كتابه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”. حيث انطلق من مجال وحدة الموضوع بين الدين والحكمة (الفلسفة) حيث إن الحكمة هي نظر في الموجودات والمصنوعات لمعرفة الصانع أو لما سوى ذلك والشريعة كذلك تأمر بالنظر في الموجودات (الآيات) :(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) والقصد التعرف على الصانع كذلك. ولذا بذل جهداً لدرء وصمة التكفير عن الفلاسفة عن طريق التأويل.

الفلسفة التساندية التكاملية:

إننا نطمح إلى فلسفة تساندية لا تعارضية. فلسفة ثلاثية الأركان يتناغم فيها الحس فيأخذ نصيبه والعقل فيوضع في نصابه والوحي فيكون مهيمناً ومرشداً للحس والعقل فيما يقفان دونه من الماورائيات والحقائق التي لا يدركها الإنسان أو التي لم يكتشف بعد أنه لا يدركها على قاعدة أن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود وعدم العلم لا يعني علم العدم

فلسفة قائمة على النسبة والتناسب حيث تسلم المقدمة الأولى للحس وتعمل العقل للتوصل للنتيجة.

لماذا قلنا الحس؟ لأنا هناك من ينفي الحس من فلاسفة الشك كديكارت، والعقل لأن هناك من يلغي العقل ويعتبر التجربة فقط كهيوم. ونحن نقول هذه العناصر تتناسب وتتعاون في الكشف عن الحقيقة. لقد جاء العلم الحديث لينقل الجدل المتعلق بحدوث العالم إلى مجاله، حين سلم للدين المقدمة الصغرى ليبني عليها المقدمة الكبرى “كل محدث فلا بد له من محدث”، ليكون القديم الذي لم يسبق على وجوده عدم هو واجب الوجود. وهكذا يصلح برهان السببية بين الدين والعلم، فكما يقول ديكارت “أن العدم لا يخلق وجوداً”.

ولذلك يجب أن نميّز بين الفلسفة باعتبارها منهجا في التفكير يقوم على السؤال والتحليل والتّرْكيب والنّقد والاستنتاجِ، وبين الفلسفة كأجوبة وأطروحات ومواقف ومفاهيم تختلف من فيلسوف لآخر. إن قطار الفلسفة يتأخر عن موعده حين يكتفي العاملون في هذا الحقل بتاريخ الفلسفة عن ممارسة التفلسف، وعن الإضافة والتجديد بالترجمة والتقليد.

لقد كانت الفلسفة أوّل أمرها تطلق على جميع فصول المعرفة الإنسانية (علم الفلك والرياضيات والفيزياء أو علوم الطبيعة)، ثم لم تزل شجرتها تشذّب، وتفقد أغصانها غصنا بعد غصن، باستقلال العلوم عنها تباعا، حتى آلت إلى جوهرها وهو السؤال والاستفهام طلبا وبحثا وتحقيقا وتدقيقا.

هي إذاً أداة ووسيلة للحكم على الأشياء ووسيلة للتعلم. بل إن أقدم الطرق الفلسفية تعتمد على السؤال والتمحيص وطرح الفرضيات واستبعادها واحدة تلو الأخرى وهو منهج استخدمه المناطقة والأصوليون في سبر وتقسيم العلل. يصف سقراط عمله بأنه إنتاج وتوليد لأفكار الآخرين عن طريق حثهم على التفكير في أمر معين من زوايا مختلفة. وكثيراً ما يبدؤ محاوره وهو يتبنى موقفاً وينتهي الحوار وهو يدافع عن نقيضه فيما يسمى منهج إلِينخوس أو منهج سقراط.

لكن السؤال في الفلسفة ليس للتحدي وإنما للبناء على ما استقر لدى العقلاء ولإعمال التفكير وإجالة النظر بحثاً عن الوصول بدلالة معلوم إلى مجهول. إن السؤال ليس مرادفاً للشك، بل مرادفاً للرغبة الصادقة في التعلم. وإن من أهم المباديء الفلسفية التي يجب أن نغرس في طلابنا هو أن العالم أو الفيلسوف لا يفكر لوحده وإنما يفكر من خلال تقاليد علمية عريقة وفي حوار دائم مع من سبقوه في هذا المجال. إن الدعوات لتجاوز التراث قد تكون في حقيقتها دعوة للجهل. ولذلك نقول إن القطيعة مع التراث خطأ، والتقوقع فيه خطيئة.

فإذا فهمت الفلسفة فهما يتجاوز ثمراتها اللحظية، إلى جوهرها التساؤلي لم نجد فيها ما يفترض تناقضا أو تعارضا محتوما مع الدّين، بل لا يعدم المتكلم والفقيه وغيرهما من أصحاب النظر الديني فائدةً بمحاورتهم للقول الفلسفي، في توسيع مداركهم وإحكام مناهجهم وتبسيطها.

والغاية الكبرى من التعليم الفلسفي في عالمنا العربي ينبغي أن تكون إعادةَ المنطق إلى حياةِ الناس وأن نعيد برمجة العقول للتفكير الإيجابي ومركزة العقل في الخطاب الديني من خلال مفاهيم المصلحة والحكمة والعدل والرحمة.

 

سؤال الأخلاق في الفلسفة:

أيها الحضور الكريم، نجتمع اليوم وبالتزامن مع اليوم العالمي للفلسفة للحديث عن موضوع هام هو “الفلسفة والأخلاق”. لقد نال سؤال الأخلاق مكانة كبيرة في تاريخ الفلسفة منذ بواكيرها الأولى، لأن موضوعه هو الإنسان، كيف يعيش حياة فاضلة، وكيف يتعايش مع الآخرين في سلم. إنه مجال لا ينفك يشغل الفلاسفة في كل عصر وإن كان محل سؤاله يختلف من عصر إلى آخر. فإن كانت أخلاقيات الحرب والسلم والتعايش قد نالت نصيب الأسد من الدراسات بعد الحربين العالميتين، فسؤال الأخلاق في هذا العصر يتناول مواضيع كالأخلاقيات الطبية وأخلاقيات الذكاء الصناعي وإشكال الهجرة وغيرها من الإشكالات الراهنة.

ولعلنا نبدؤ بلمحة عن تعريف الأخلاق من ناحية فلسفية. الأخلاق هي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا. وقد رأى بعضهم: “أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة”.

والأخلاق تجاورها ثلاث كلمات: القيم – الفضيلة – المبادئ؛ إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمات في اللغات الغربية لوجدنا كلمة Valeurs باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقاً وجميلاً وخيراً طبقاً لمعايير شخصية أو اجتماعية، ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي. كذلك كلمة Éthiques التي تدل على ما يختص بالمبادئ الخلقية ومجموعة قواعد السلوك. وكذلك أيضا كلمة Vertu التي تدل على الفضيلة، وهي استعداد دائم لفعل الخير؛ فتدل على جزء من المعنى لأنها تدل على مكارم الأخلاق.

إن الأخلاق توفر الأمنَ النفسيّ للفرد، والأمنَ في العلاقات الاجتماعية، والأمنَ في المعاملات، والأمنَ في احترام النظام والتعليمات من خلال الصدق، والاستقامة، وحسن المعاملة، واحترام القيم، ذلك كله هو حسن الخلق: إيمان بالحق، وإحسان على الخلق.

بشكل عام يمكن رجع الأخلاق إلى مصدرين أساسيين: المصدر الديني، والمصدر المنطقي العقلاني، وسنبدؤ بهذا الأخير في هذه العجالة.

يقسم ابن مسكويه الأخلاق في كتابه “تهذيب الأخلاق” إلى قسمين: قسم طبيعي من أصل المزاج، وآخر مستفاد بالعادة والتدرب وهو يرد الأخلاق إلى العقل لأنه يعتبر الحس خداعاً لكنه ظل يشير إلى الفضيلة والوسطية.

وفي العصر الحديث ربما كان “كانط” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان يعتقد أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض. وقد أصل الأخلاق بفصلها عن الدين وأسس على قاعدة الأمر الكلي القطعي.

إلا أن كانت مع عقلانيته يذكرنا في مكان آخر أن هذه المبادئ الإنسانية لا يمكن مراعاتها إلا بالدين، وذلك في النص التالي: “الأخلاق إذن تقود ولا بدّ إلى الدين، الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مُشرّع أخلاقيّ خارج الإنسان، بحيث تكمن في إرادته تلك الغاية القصوى التي يمكن ويجب في نفس الوقت أن تكون الغاية القصوى للإنسان”.

إن أهم موجة فلسفية زعزعت ما استقر لدى البشرية من قيم خلقية هي فلسفة ما يسمى بـ(التنوير)، ذلك ما وصل إليه الفيلسوف الاسكتلندي ماكنتاير صاحب كتاب “بعد الفضيلة” Après la vertu. وخلاصة كتابه هو أن تجربة الفلسفات الأخلاقية الحديثة قد فشلت في إيجاد مقاربة عقلانية عرية عن الغائيات مجردة من الفضيلة لا مرجعية لها من تقليد أو دين.  لقد أنزلت هذه الفلسفات الإنسان من مخلوق مكرم إلى كائن محبوس في كينونته، فهو مختزل عند هيوم في عاداته، وعند فرويد في سلوكياته، وفي أصله ونسبته عند داروين.

 

إن التذمر من التحدي الأخلاقي ليس بالأمر الجديد. سأقرؤ عليكم نصاً وأريدكم أن تتوقعوا قائله:

“فقد الناس فضيلة الحياء، وصار التطاول علامة على الذكاء. صاروا يهتمون بالمنافع العاجلة، انعدم احترام الكبار. لم يعد الشباب يرجعون للكبار وصار الكبار يتصرفون وكأنهم صبية. تقلصت الفروق بين الجنسين. أصبح الناس يضيقون ذرعاً بأدنى قيد على حريتهم ويتذمرون من الأحكام والشرائع.”

 

قائل هذا النص ليس قساً أو راهباً أو واعظاً يتذمر من زمننا، بل أفلاطون وهو ينتقد الأخلاق في عصره[1]. لذا دافع في أكثر من حوار عن فكرة أن الإنسان لا يمكن أن يكون مصدراً أو معياراً للأخلاق والقيم بل لا بد من مصدر خارجي. وما أقرب هذا من قول أبي حامد الغزالي في التهافت: “وعلم الأخلاق طويل والشريعة بالغت في تفصيلها ولا سبيل في تهذيب الأخلاق إلا بمراعاة قانون الشرع في العمل حتى لا يتبع الإنسان هواه فيكون قد اتخذ إلهه هواه بل يقلد الشرع فيقدم ويحجم بإشارته لا باختياره فتتهذب به أخلاقه”.

المصدر الخارجي الذي يتحدث عنه أفلاطون والغزالي لا يمكن إلا أن يكون المصدر الديني وإلا فكيف نوفر خلق بر الوالدين والشفقة على الصغير وتوقير الكبير إذا لم نغرس في المجتمع: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً). إن الإلزام بهذه القيم والالتزام بها لا يحصل إلا بالإيمان بتسامي مصدرها وسمو غايتها. إن قيم العائلة والفضيلة والكرامة ضرورية حتى نحول دون التفكك العائلي والأنانية التي تقود إلى أخلاق الإنسان الأخير كما وصفه فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” وهو يقول إنه انسان نذل لا كرامة له ولاغيرة.

حلول للمستقبل:

إن انتهاج مبدأ الموائمة وأسلوب التجسير بين الفلسفة والدين الذي تحدثنا عنه في بداية هذه الكلمة سيكون من ميادينه إعادة الاعتبار للفضيلة كقيمة فلسفية مؤسّسة، وإعادة الاعتبار للمباديء الكبرى كمبدء السببية والغائية وهي مباديء يؤدي إهمالها إلى تقويض الفلسفة نفسها أو كما يقول ابن رشد إن إلغاء السببية هو إلغاء للعقل ذاته.

إن لقاء الفلسفة مع علم الكلام كان في بواكير العصر الإسلامي. وإننا مدعوون إلى تحقيق التوازن بين جملة من التجاذبات بين الكليات، ، وتجسير العلاقة بين عالمَيْ الأفكار والأشخاص، فبدلاً من واقع قيم تهاجم وقيم تقاوم، يكون التعاون والتعاضد والتآزر والتعارف هو عنوان المرحلة.

وأخيراً، فإن طموحنا أن تصبح جامعتنا في مصاف الجامعات العريقة التي تُكَوّن فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء على غرار كلية اللاهوت بجامعة كامبريدج التي تخرج لاهوتيين فلاسفة، وبذا نحقّق طموح دولتنا الساعي دوماً إلى الإبداع ولازدهار والاستقرار.

أتمنى لمؤتمرنا هذا التوفيق والنجاح وأشكركم على حسن إصغائكم.  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1] الجمهورية، الفقرات٥٦٠-٥٦٤. النص من اختصار جوناثان ساكس في كتابه “الشراكة الكبرى”.

Comments are closed.