الكلمة التأطيرية- عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان – وزير التسامح والتعايش بدولة الإمارات العربية المتحدة معالي الشيخ الدكتور محمد عبدالكريم العيسى– الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيسرني أن أرحب بكم اليوم في الملتقى التاسع لمنتدى أبوظبي للسلم والذي نعقده هذا العام تحت شعار “عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات”، وتسعدنا مشاركتكم جميعا من مختلف الأديان والعرقيات، ومن مختلف المناطق والقارات. أتيتم جميعا إلى عاصمة دولتنا أبوظبي من أجل السلام ولتفعيل مبادرات السلام. فمرحبا بكم وبجهودكم الخيّرة في خدمة البشرية جمعاء، فأهلا بكم في بيت السلام والوئام، بيت زايد الخير وأبناء زايد الأماجد. إننا في منتدى أبوظبي للسلم نسير وفق رؤية القيادة الرشيدة لبلدنا والتي قررت أن يكون شعار هذه المرحلة هو “السلام والتعافي والازدهار” وحسب هذه الرؤية نعمل لحشد الجهود لتعزيز السلم والتعاون على الخير والبر وقول الحسنى للناس أجمعين، برعاية كريمة من سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان -وزير الخارجية والتعاون الدولي. أيها الحضور الكريم، إن ملتقى هذا العام يأتي في خضم وضع دولي مضطرب يزيد من مستوى التحديات التي تواجه البشرية، فمن تحديات الأزمة الصحية التي لا تزال تلقي بظلالها على أجزاء من العالم إلى تحديات الاقتصاد والتضخم الذي تشهده الأسواق العالمية إلى تحدي الأمن والحروب المشتعلة في مناطق من العالم. ولقد أكدت الأزمات الراهنة والتوترات الحاصلة أن السلم كل لا يتجزأ وأن أي إخلال به ستنعكس آثاره على البشرية في كل مكان فالحروب في هذا الزمان لا تقف آثارُها عند الحدودِ الجغرافية لميدان المعركة بل تتعداها إلى باقي أصقاع العالم. كما بينت الحروب الدائرة حاليا في أجزاء من العالم أن شياطين الحروب ما تزال كامنة في النفوس؛ ولذا فإن من مسؤولية القيادات الدينية كما رجال السياسة معالجة هذه الأفكار في النفوس والأذهان قبل أن تخرج إلى العيان. إن الوعي بهذه الضرورة هو الذي يوجه ملتقانا هذا العام، حيث نستشعر جميعا الحاجة إلى أن تتكامل أدوارنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان. إننا أمام هذه التحديات الخطرة التي تواجه البشرية نقف متسائلين: نتساءل عن كيفية درء خطر الحروب والنزاعات المسلحة؟ كيف يمكن لسفينة البشرية أن تتفادى جبل الجليد- مثل الذي اصطدمت به سفينة “تيتانيك”- الفرق أننا هذه المرة نعلم بوجود هذا الجبل وندرك أننا للأسف نسير تجاهه وبسرعة فائقة! فهل يمكننا أن نسأل عن الطرق المناسبة لتلافي الاصطدام به؟ نتساءل عن دور القيادات الدينية والروحية في الإسهام في مواجهة هذه الأزمات وفي معالجة هذه التحديات. كيف نصل إلى حلول مبتكرة فيما يخص الغذاء والدواء وخصوصا توفيرهما للدول النامية؟ كيف نزيد من الوعي في التعامل مع الجائحة الصامتة التي تتطلب تعاونا دوليا ألا وهي التحديات النفسية التي تحتاج إلى خبرة المتخصصين النفسيين، وعناية القادة الدينيين ورعاية صناع القرار والمنظمات الدولية. وكيف يمكن أن نعزز جهود السلام لتصل إلى شرائح واسعة من العالم ويشارك جمهور عريض في أعماله ورفع أعلامه ؟ كيف نشرك مختلف شرائح المجتمع في هذا الجهد الجمعي الخيّر ؟ كل هذه الاسئلة الجوهرية والمواضيع الملحة تجعلنا نتطلع باهتمام إلى ما ستقدمونه حولها وتقترحونه فيها من أفكار وتصورات وخطط وخطوات عملية قابلة للتطبيق خلال فعاليات هذا الملتقى المبارك. المشاركون الأفاضل، إن شعار ملتقى هذا العام هو “عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات” ونعني بعولمة الحرب ما هو مشاهد من انتشار حروب مستعرة في بقاع شتى من العالم، كما نعني به انتشار وانعكاس آثارها وتداعياتها على باقي دول العالم، وأما العالمية فهي دعوة لمقابلة عولمة الحرب برد فعل مضاد حسب الصيغة المشهورة أن (لكل فعل ردَّ فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه) بحيث نزيل العرض ونداوي المرض، فاعراض المرض تقابل بالعلاج السريع (الإسعافات الأولية)، والبحث عن الدواء أو اللقاح كما جرى في الجائحة الصحية قريبة العهد وكذلك الحرب ودواعيها. ونعني بالعلاج السريع الإيقاف الفوري للإقتتال ونعني بالدواء إقامة السلام والوئام والمصالحات. ولذلك فإن القيادات الدينية المعنية بخطاب هذا المؤتمر يمكن أن نتصور إسهامها وفق مايلي: أولاً: الدعوة إلى الحوار كوسيلة لا بديل عنها وطريق لا بد من سلوكها للوصول إلى السلام. اللسان بدل السنان، والكلام بدل الحسام (أو في عصرنا القنبلة والصاروخ). “ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين..” تلك هي أدوات الحوار التي وهبها الله للإنسان. ثانياً: دور الإطفائي الذي لا يسأل عن المتسبب وإنما كيف نطفئ الحريق. لطالما تحدثنا في هذا المنتدى عن دور صانع السلام بوصفه إطفائياً. وإننا كاطفائيين نسعى إلى إطفاء الحريق قبل السؤال عن من أشعله أو الحكم عليه أو وصفه أو وصمه بأي جرم، المهم أولاً هو إطفاء الحريق وإيقاف القتل والقتال قبل الحكم على الأعمال والأفعال. فنحن لا نضع الإشكالية الكانتية (ايمانويل كانت) في تعليق السلام على تحقيق العدالة الدائمة، بل نرى أن العدالة تنال على بساط السلام، فلا عدالة مالم تتوقف الحرب. بفقد السلام تهدر كل المصالح الأخرى. ثالثاً: روح ركاب السفينة. إن درجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة فرضت الشعور الواعي بحقيقة الانتماء للبشرية كعائلة كبرى وللأرض كوطن أشمل، وهو ما يسميه البعض مواطنة كونية، المطلوب التحقّق بها من خلال تجسيد روح ركاب السفينة التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل، روح ركاب السفينة الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون. بهذه الروح ننشد أن نشيد عالما تتضافر فيه ثمرات العقول لفائدة الجميع فلا يستأثر بها القوي أو يحتكرها الغني، عالما تتنافس فيه الأمم في الخير، وتستبق فيه الدول في تقديم الضيافة التي تستند إلى الكرامة الإنسانية، والتي تجعلك ترى الغريب قريبا، تراه أخا وصديقا، تقابله بحسن الظن، تؤويه إلى بيتك وتبذل له البر والإحسان، من غير سابق معرفة بينكما. رابعا: التزام القيادات الدينية بالبحث في نصوصها المقدسة وتراثها الديني وتقاليدها الأصيلة عن مسوغات السلام فلقد بينا في الملتقيات الثمانية السابقة نصوصاً كثيرة تدعو إلى السلم والأمن والأمان واحترام الإنسان، دمه وعرضه وماله، وتدعو المؤمنين كافة للدخول في السلم طبقا للأية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً”[1] التي دعت إلى السلم في عبارات بليغة واستعارات رائعة تمثل السلم ببيت فسيح، ومنزل مريح، يتسع للجميع، فكنى بالدخول عن حالة الانخراط في المصالحة والسلام. بالدخول وجاء بفي الظرفية التي تشير للظرف المكاني وهو السلم الذي هو البيت أو الحصن الحصين. السَّلْمُ تأْخُذُ منها ما رَضِيتَ به***والحَرْبُ تَكْفِيك من أَنْفَاسِها جُزَع[2]
وكان لنا وقفة مع نصوص من العهد القديم والجديد تمجد السلم وتنشره بين أتباعها وأشياعها. ومن ذلك ما ورد في سفر أشعيا[3]: “ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين، المنادين على مسامعنا بالسلام، الحاملين بشارة الخير والخلاص”. خامساً: تشكيل وفود من القيادات الدينية والروحية للوساطات والمصالحات، وبناء الجسور وفتح باب الحوار بين أطراف النزاعات المشتعلة. سادساً: تفعيل الوثائق والمواثيق التي صدرت عن الجهات والمراجع الدينية المتضمنة دعوة للسلام. ومن جملتها الحلف المعروف تاريخيا بـ “حلف الفضول”، الذي أبرم بمكة المكرمة وزكاه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي عصرنا الحديث نجد الإعلان في الحقوق الدينية /Dignitatis humanae/ الذي أعلنته الكنيسة الكاثوليكية 1965 والذي مثل نقطة انطلاق الكثير من مبادرات الحوار، ويضاف إليه الإعلانات المختلفة التي أصدرتها الأديان والطوائف والتقاليد الأخرى. وفي العقدين الأخرين: رسالة عمان (2004)، وكلمة سواء (2007)، وإعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في البلدان المسلمة (2016)، وإعلان واشنطن لتحالف القيم (2018)، ووثيقة الأخوة الإنسانية (2019)، ووثيقة مكة المكرمة (2019)، وحلف الفضول الجديد (2019).
لقد عملنا في السنوات الماضية بالشراكة مع كثير من الهيئات والشخصيات الحاضرة على دعوة السلم لشعورنا أنها دعوة لازمة وضرورة ملحة، لكن هذه الضرورة تتأكد عندما تظهر الحروب وتراق الدماء وتستخدم القوة العنيفة بحيث يصبح التهديد عالمياً؛ ولذا قلنا إن هذه العولمة ينبغي أن تقابل بعالمية السلام. إن حماية السلام بالحرب مثل تكليف الذئب برعي الغنم، فهذه الحروب والأزمات لا تولد إلا الخسائر في المنتظم الانساني أجمع (أو ما يسمى عند المسلمين بالكليات الخمس- الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة)، فهذه الضروريات الخمس التي هي أسمى حقوق الإنسان التي منحها له الله عز وجل، لا ثبوت لها ولا ثبات إلا في إطار المجتمع الآمن الذي يتمتع بدرجة من السلم تضمن توفرها. ففي ظل السلام وما يوفره من الألفة والسكينة والأمل تقوم أسبابها وتتوفر شروطها وتنتفي موانعها. إننا لا ندعو إلى السلم باعتباره ممكنا، بل باعتباره أمراً لابد منه، فالسّلام هو النهج وهو الغاية. والسلام ليس كلمة فقط، وإنما هو معنى عظيم يقوم في النفوس محبة وشفقة وأخوة، ويظهر على السلوك تعاوناً وتضامناً، هكذا تبنى الأمم وتتعايش المجتمعات ويزول شبح الخوف والمجاعات. ولقد أظهرت جائحة كورونا أهمية التعاون الدولي والشراكات متعددة الاطراف في مواجهة التحديات ذات الطابع المعولم، والتي لا يمكن لبلد بمفرده أو منطقة لوحدها معالجتها أو التعامل معها. وإذا كانت الحرب أوّلها كلام كما تقول العرب فإنّ السلم أوّله كلام أيضا؛ ولذا فلابد من الحوار والتباحث لايقاف الحروب ولتخفيف التوترات. بحيث يوضع السلاح ويقدم بديل للحرب؛ فإن الأبواب المغلقة والأسماع الموصدة لا تؤدي إلى التفاهم ولا إلى السلام. إن القيادات الدينية تخاطب العقول والقلوب وطموحها أن يؤثر هذا الخطاب في الساحة، وتتلقاه آذان واعية، وقلوب مصغية؛ ليتحول إلى إدراك يجعل الحكمة أساسا، والتواضع منطلقا، والمصلحة هدفا، والترويج لقيم الحياة مبدأ، والقيم النبيلة قواعد للنظام العام؛ بحيث يحتكم الناس إلى قوة المنطق لا إلى منطق القوة. ولذا فإننا نعتقد أنه من خلال جهود القيادات الدينية مع غيرها بإمكاننا أن نوصل صوت الحياة، صوت الحكمة للأخذ بحجزات الناس عن القفز إلى أتون الحرب والفناء.. ذلك هدفنا وتلك أمنيتنا. أيها المشاركون الأفاضل، لقد سجلت كتب التاريخ بمداد من ذهب أقواما أطفأوا نيران الحروب، وكظموا الغيظ، وأحيو الناس؛ فأثنى عليهم التاريخ وحمدت فعلهم البشرية. تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا تفَانَوا وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ وقد قلتما: إنْ نُدْرِك السّلمَ وَاسعًا بمالٍ وَمَعْروفٍ من القول نَسلمِ فأَصْبَحْتُمَا منها عَلَى خَيرِ مَوْطِنٍ بَعيدَينِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَم
إننا في خضم هذه التحديات القاتمة والازمات الخانقة، مانزال نرجو ألا تخبو شعلة الأمل وأن تؤدي الأزمات الحالية إلى رد فعل معاكس من شأنه خلق معاهدات جديدة لنزع الاسلحة النووية وليس فقط لتقليصها (لتكون اتفاقية START جديدة)، من خلال مواثيق دولية تحمي حقوق الدول وتصون مصالحها دون الحاجة إلى دخول الحروب واختلاق النزاعات. إن اسلحة الدمار الشامل يجب أن تدمر هكذا يقول العقل. ولما كان مؤتمرنا هذا يهدف إلى زيادة التعاون وبناء الشراكات بين الفاعلين في حقول السلم والمصالحات، ولعلّي في هذا الصدد أقترح فكرة قد تكون سهلة التنفيذ محمودة الأثر، وهي أن نخصص -كقيادات دينية ونخب اكاديمية وصناع قرار- أقرب فرصة قادمة للكلام أو الكتابة بعد المنتدى سواء كانت تلك الفرصة خطبة للجمعة، أو عظة للسبت أو الأحد، أو مقالا صحفيا، أو برنامجا تلفزيونيا، أو غيرها؛ من المناسبات للكلام والكتابة عن السلم وجهود السلم وإيصال رسالة السلام إلى مجتمعاتنا في مختلف القارات وبجميع اللغات؛ وبهذا نكون قد أسهمنا في نشر الوعي والخروج بهذه الأفكار والجهود الخيّرة إلى فضاء أرحب من إطار المؤتمرات للوصول بها إلى البشرية؛ لتتنزّل في المدارس تعليما للناس، وفي المعابد تعاليم للمؤمنين، وفي ساحات الصراع وميادين النزاع، طمأنينة تحلُّ في النفوس، وأملا يعمر القلوب ويثير في النفوس محبة الخير الكامنة في الفطرة البشرية. وختاما، فإنكم أيها المشاركون في هذا المؤتمر رسل سلام، وسفراء فوق العادة لنشر رسالة السلم والوئام، ولا أكون مبالغا إذا قلت إن البشرية جمعاء تعلق على جهودكم وأعمالكم آمالاً عظيمة. أجدّد الشكر لكم جميعا، على تلبية الدعوة، وأتمنى لأعمال ملتقانا هذا النجاح والتوفيق ولضيوفنا مقاما سعيدا وأوبا حميدا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[1] سورة البقرة، 208 [2] العباس بن مرداس [3] سفر أشعيا (52 /7) |