الكلمة التأطيرية لمؤتمر الدراسات الإسلاميةفي الجامعات

     
   

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

 

الكلمة التأطيرية لمؤتمر الدراسات الإسلامية

معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، والفضيلة،

أيها الحضور الكريم، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

 

أهلا بكم جميعا في دار الابتكار والأفكار، دار الإبداع والازدهار، دار زايد الخير وأبناءه الأماجد، أهلا بكم في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، جامعتنا الجديدة في عمرها، المُجدّدة في منهجها، التي حازت مزية الاسم وخصوصية المجال، فقد شرفت بحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، وهو اسم يرمز لرؤية أمة وطموحها، طموح التميّز والفرادة الجامع بين الإيجابية في المنطلق والفاعلية في الأداء والجودة في المخرج.

سأوجز القول في هذه المقدمة التأطيرية من خلال توجيه الأسئلة المفاتيح ماذا ولماذا وكيف، في محاولة للإحاطة بموضوع الدراسات الإسلامية وإصلاحها.

 

 

 

ماذا نعني بالدراسات الإسلامية؟

في منبتها الأوروبي كانت الدراسات الإسلامية Islamic Studies، محاولة ظهرت في القرن التاسع عشر على يد زمرة من المستشرقين لدراسة الإسلام من منظور مغاير للمنظور اللاهوتي الجدلي الذي كان سائدا قبلُ، ومن ثم فقد كان يرنو إلى معرفة علمية شاملة لكل ما يتعلق بالإسلام دينا وحضارة وأمما وثقافة وفنا، ولغات، بل بكل ما أنتجه الإسلام والمسلمون، سواء معرفة أو ممارسات أو أنماط ثقافية أو تاريخا، وكذلك واقع الحضارة الإسلامية واستشراف مستقبلها وآفاق تطورها.

هذا المفهوم الذي طبع المجال في أصله عند الغربيين، لم تحتفظ به الجامعات في العالم الإسلامي وإن احتفظت بعضها بالاسم وقصدت به تدريس العلوم الإسلامية شريعة وعقائد، أو ما أسماه بعض العلماء بعلوم الشرع والعلوم الشرعية، فأما علوم الشرع فهي الكتاب والسنة والتفسير والفقه وأما العلوم الشرعية فهي المنضافة إليها كاللغة والنحو وأصول الفقه والبلاغة والمنطق وغيرها من العلوم.

 

لماذا نحتاج إلى تطوير الدراسات الإسلامية وتجديدها؟

ينطلق المطلب التجديدي في الدراسات الإسلامية من الوعي بما تتهم به بعض المناهج التربوية الدينية من المسؤولية في انتشار التطرف والثقافة المأزومة، سواء ً تعلق الأمر بالبرامج أو بالكتب أو بالمربي نفسِه.

 فلا بد من إعادة النظر في هذا المنهاج، فالإنسان في مثل هذه الأجواء المضطربة، إذا لم يزوّد برواية صحيحة وصلبة للدين، مأخوذة من الجهات الموثوقة وداخل المحاضن المؤسّسية المأذونة شرعا، فإنه لا محالةَ سيستقي من مصادر غير متخصّصة، قد تكون الأنْدى صوتا والأكثر دعاية، فتقوده إلى الغُلوّ والتطرف وغيرهما من أدواء وأمراض العصر الخطيرة.

لكنّ ذلك لا يعني إلغاء البرامج، واتهامها جملة وتفصيلا واتخاذ منحى التطرف الآخر، بل يقتضي الاصلاح بصفة فيها من الحكمة والعُمق ما يمكن أنْ يُصلح ما أفسدتْه يد التطرف والجهل الذي هو أساس كل المشاكل.

ثم من موجبات الإصلاح والتجديد ما نشاهده من انكماش مساحة الاجتهاد الفقهي مما نتج عنه عجز عن مواكبة مستجدات العصر في المعاملات وضحالة في الإنتاج الفكري، فكل هذا يبرر إجراء عمليات كبيرة عمليات جراحية إن صح التعبير لمناهجنا ولتعليمنا.

على أن إصلاح التعليم لا يمكن إلا أن يكون بعقليات متفتحة واعية بعصرها وفي نفس الوقت متجذرة في تاريخها. لأن الإصلاح التجديدي عندنا ليس كالإصلاح التنويري عند كانط، الذي هو تفكير بلا سقف، فلا كتابَ يَهْديه ولا مدير أو قسيس يرشده، ولا طبيب يصف له وجبة غذاءه. بل هو إصلاح منطلق من أساس شرعي، يسعى إلى المصالحة والموائمة وإلى تبرير الدين بالعقل وتحرير العقل بالدين.

 

كيف نطوّر الدراسات الإسلامية؟

سأحاول حصر الحديث عن هذا الموضوع عقليا ومحاصرة الانفلات عمليا من خلال تبني الإطار المنطقي المعروف بالعلل الأربع التي تمثّل الماهية ولوازمها: المادة والصورة والغاية والفاعل. فالأوليان ذاتيتان، والأخريان خارجيتان.

فكل بناء محسوس أو ذهني يشتمل على هذه الدوالّ، فله مادة منها يستمدّ ويتكوّن، وله صورة عليها يتشكّل، وله غاية إليها يقصد وهي الباعثة على إيجاده وهي الأولى في الفكر، وإن كانت آخرا في الوجود، ولهذا قال أرسطو: مبدأ العلم منتهى العمل. وله فاعل هو المحرّك والسبب في وجوده.

وفي كل منحى من هذه المناحي الأربعة يمكن للنظر أن يفحص ما ينبغي تداركه من أوجه الخلل والعطب وما يمكن تكميله من أوجه النقص.

أولاً المادة:

ونعني بالمادة أصل الشيء الذي منه بناؤه وبنيته والذي بدونه لا تتصور شيئيته.

ومادة الدراسات الإسلامية كما مرّ آنفا هي شجرةُ المعارف الإسلامية التي نبتت على ضفاف بحر الكتاب والسنة، وامتدت دوحتها الوارفة لتُظِلَّ جميعَ مناحي الدّين، في شبكة من العلوم والفنون المتكاملة، والمتساندة، منها اللصيقة والأقرب نسبا كالفقه والتفسير، ومنها أخرى هي وسائل للأولى كأصول الفقه الخادم للفقه والبلاغة الخادمة للإعجاز، بل وعلوم خادمة للعلوم الثانوية، كالمنطق الخادم لعلم الكلام، وما انضاف إلى علم الكلام من الفلسفة التي هي منبته أو محاوره.

والسؤال الذي يطرح نفسه على هذا المستوى، هو حول موجبات إضافة مواد جديدة قد يقتضي الواقع الجديد إضافتها وإلحاقها، ولن يكون ذلك بدعا من القول ولا بدعة من العمل، فالعلوم ظهرت تباعا، متدرّجة بحسب بما اقتضاها من مستجدات، فمبنى مسيرة العلوم على أوضاع تجدّ ومواضيع تنشأ. فعلم أصول الفقه بدأ في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري مع الإمام الشافعي، وعلم النحو بدأ في القرن الأول مع أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد وعلم البلاغة بدأ مع الجرجاني ..وهكذا فكلها علوم نشأت عن الحاجة.

فلعل الحال اليوم داعية إلى الانفتاح على العلوم الإنسانية لتلافي الفصل بين المعارف الذي أدى إلى انعدام التكامل في شخص العالم المسلم، وهي الميزة المعرفية والمزية الثقافية في عصور الازدهار الحضاري للأمة، حيث كان العالم يجمع بين علوم الطبيعة وعلوم الشريعة فالمازري الإمام كان فقيها طبيبا وابن رشد الحفيد كان فيلسوفا طبيبا فقيها وابن خلدون كان فقيها وعالم اجتماع ومؤرخا.

إنَّ هذا الاختزال في المعارف أدى إلى حالة من ضيق الأفق والظاهرية والحرفية والعجز عن مواكبة العصر والانفتاح على المكتسبات الإنسانية الثقافية والفلسفية وعن التسامح وهي صفات يجب أن يتكون الطالب على نقيضها فبدلا من الظاهرية يتكون على المقاصدية وبدلا عن الانغلاق والتقوقع ينفتح على العصر ويواكب مستجداته. ولعلكم تعرفون قصة الفقيه المالكي أبي الوليد الباجي (474 هـ) بعد رجوعه من رحلته إلى المشرق لما وصل أطراف الأندلس وجد أبا محمد بن حزم في أوج تألقه ينشر مذهبه وقد قهر الأقران وبهر الألباب ببلاغته وقوة عارضته فحل أبو الوليد الباجي بساحته في مايورقة ولم يبرح تلك المنطقة حتى ظهر عليه قائلاً: ابتلينا ببدعة الباطنية في المشرق وابتلينا ببدعة الظاهرية في المغرب. 

ثانياً الصورة:

تعتبر الصورة من أهم مداخل التطوير والتجديد في كل منظومة من خلال إعادة التركيب والترتيب، فالصورة تضفي على المادة خصائصها وتحولها بالفعل إلى شيء وجوهر.

ولعل أهم ما يمكن لفت الانتباه إليه على هذا المستوى هو ضرورة البحث عن منظور كلي يلمّ شعث العلوم ويجمع متفرقها في طرح متناسق ومعرفة موحدة؛ من خلال مقاربات العلوم البينية INTERDISCIPLINARITE والعلوم المتعددة والعلوم المتكاملة، فلعل هذا المنحى التركيبي الموجّه بالغايات العملية أن يشكّل مولجا مكملا -وليس بديلا- للمدخل الأساسي التقليدي الذي يمنح الطالب مدارك العلوم، والذي لا غنى عنه.

ونظير هذا على مستويات التبويب والتلقيب والتقريب، ضرورة البحث عن منظور يوازن بين الاحتفاظ بما حرره العلماء والممارسة المدرسية التاريخية في العلوم وبين مواكبة أعراف اللغة والمناهج المعاصرة.

ثالثاً الغاية:

العلة الغائية كما يقول أرسطو هي أهم العلل المساعدة على الفهم، وبها تفسر أنواع العلل الأخرى وتختم عملية التفسير كلها.

ويجب أن نتنبه أن لكلّ علم غايته، المتمثلة في الإشكال المعرفي الباعث على إنشاءه، والثمرة المرجوة التحصيل منه، فعلم أصول الفقه مثلا غايته هي الاستنباط والانضباط، والنحو غايته صون اللسان عن اللحن،  فلا بدّ من ربط العلوم بغاياتها، لاستبانة حدودها واستيضاح مدى إعمالها، ولذلك قال الإمام الغزالي عن علم الكلام: “صادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي”. فمقصود الغزالي في رحلته البرهانية إلى اليقين، مختلف عن الغاية الجدلية التي بها قوام علم الكلام.

وكذلك فإن حاجات الإنسان الروحية والعملية متغيرة متطوّرة بتطوّر السياقات، فلذلك صحّ أن تتطوّر كذلك غايات العلوم، وتتغيّر، وأن تنشأ كما مرّ آنفا علوم جديدة لأغراض جديدة.

رابعاً الفاعل:

إن الفاعل أو المبدأ المحرّك كما يسميه أرسطو – على مرتبتين:

مرتبة الخبير المجتهد الذي يشرف على وضع البرنامج، وهو الصّانع الذي يتولى صناعة الدراسات الإسلامية وتطويرها، وهي صناعة لأنها تركيبٍ وعملٍ يحتاجُ إلى دِرايةٍ وتَعمُّلٍ، فهي ليست فعلاً ساذجاً ولا شكلاً بسيطاً.

مرتبة المعلّم المشرف على تلقين هذه العلوم وتكوين الطلبة عليها. وتلك صناعة أخرى من أهم الصناعات لما تحتويه من بعد تربوي.

وكلا المرتبتين ركن مهم من أركان الإصلاح المطلوب، فطموحنا ينبغي أن يكون إلى تكوين علماء قد حصلوا ملكة العلوم، يجمعون بين الرسوخ في فهم الشريعة -أصولا وقواعد ومقاصد وقيما- وبين الوعي بحقائق الواقع المعاصر.

 يعترض هذا الطموح المشروع تحديات كثيرة ومن أهمها تحديات السوق، فلا بد أن تقع الموائمة بين الطالب المكوّن وما حصّل من معارف ومهارات وبين حاجات السوق وقدراته الاستيعابية، لكيلا تغدو كلياتنا مصانع للبطالة.

ومن تلك التحديات أيضا تحديات الحيز الزمني المتاح، فعدد السنوات والساعات محصور محدود، مما يلزمنا الأخذ بحكمة القائل:

فقدّم الأهم إن العلم جمْ * والعمر ضيف زار أو طيف ألمْ

الزمان والمكان لوازم العلل الأربع:

إن ظرفي الزماني والمكاني لوازم للعلل الأربع، ففيهما ومن خلالهما تتجسد هذه العلل وتظهر، ولا يمكن إدراكها منفصلة عن إطار الواقع، ولذلك فإصلاح الدراسات الإسلامية يمرُّ كذلك بربطها بزمانها ومكانها، وتجاوز ما هو مشاهد من انفصام العلاقة بين الواقع الزمني والإنساني وبين برامج الدراسات الإسلامية، فيلزم سد الفجوة بين ما يُدرّس وبين الزمان الذي نعيشه، إذ لكلّ عصر واجباته وقضاياه وله مذاقه ومزاجه، فلا بد لنهر الدّراسات الإسلامية أن يظلَّ وفيا لمنبعه، متفاعلا متلونا بلون تربة واقعه.

والمطلوب هو معرفة الواقع بكل تفاصيله، وليس الواقع بمعنى اللحظة الحاضرة، لكنه الواقع الذي يعني الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له والذي بدون تصوره لا يمكن تصور حاضر هو امتداد له وحلقة من سلسلة أحداثه واحداثياته.

ولن يكون ذلك كافياً دون استشراف مستقبل تتوجّه إليه تداعيات الحياة وتفاعلات المجتمعات؛ وذلك ما سميناه بالتوقع.

كل ذلك يُمهِّد لبناء كليٍّ أعلى هو كلي الواقع الذي من خلاله يتعامل مع مختلف الدلائل، ومع تفاصيل المسائل، وفق ما تقرّر في الشريعة من مبدأ شراكة الواقع، فهو شريك في استنباط الحكم، كما دلت عليه النصوص والأصول وممارسة السلف الراشد. ولذلك فإن من جميل صنيع جامعتنا عنايتها بفقه الواقع وتخصيصها برنامجا خاصا به.

 بهذا المنظور المعتبر للإطار الواقعي يتسنى الربط بين النصوص والمقاصد، التي هي الغايات والحِكم والبواعث، أي أنها تحمل المكلف على أن يقوى بالعمل.

فهذه المقاصد التي يمكن أن تتعامل مع مختلف الظروف ومختلف الأوضاع والأحوال تمثل صمّام أمان دائم لتجنب الوقوع في العنف أو الفساد أو الفتنة، ووحده المنظور الكلي المؤسس على المقاصد قادر على مواجهة الأزمات.

يجب أن نتحرى التجديد دون إهمال أو إغفال الطرق القديمة للتعليم وبخاصة الحفظ الذي هو مقدمة الفهم:

لكي يسوغ الحفظ ثم الفهم بالعنصرين يستتب العلم

فحفظ المتون هو الملجأ حين تخون العيون، ويضعف البصر ويكل النظر، وهو دأب الأولين، وسبيل المحققين: قال الشافعي رضي الله عنه:

علمي معي أينما يممت يتبعني    صدري وعاء له لا جوف صندوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق

 

أيها السادة الأفاضل،

رجاؤنا أن يؤسّس مؤتمرنا بجدّية مواضيعه، وجدّة تناوله، وجودة مخرجه، تقليدا علميا كبيرا في بلدنا والمنطقة جمعاء.

وأنتم أيها العلماء الأفاضل الذين تجمعون بين الرسوخ المعرفي والفكري المشهود والتّجربة العملية وألأكاديمية الرصينة، ولذلك فالمعوّل في إنجاح المسعى على ما تجودون به من أفكار سديدة ومقترحة مفيدة.

أتمنى لمؤتمرنا هذا التوفيق والنجاح وأشكركم على حسن إصغائكم.  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Comments are closed.