العلامة عبدالله بن بيه : جسر بين طرفين- بقلم د.محمد حسين أبو الحسن

   
  العلامة عبدالله  بن بيه : جسر بين طرفين- بقلم د.محمد حسين أبو الحسن  

بين التخلف والتقدم، التشدد والتسامح، الحرب والسلام.. إلخ، جسر ينبغى عبوره، وفى هذا السياق يأتى المشروع التجديدى للعلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس منتدى أبوظبى للسلم؛ بوصفه معبرا بين حالتين متناقضتين، ومحاولة لتحرير عقول الغافلين عن (مقاصد الإسلام الكبرى) وأفئدة الواقعين فى أسر التصورات الظالمة الخاطئة عن الإسلام، ولكل من قدموها وصوروها على أنها رسالة الإسلام.

 

 

جاء الإسلام رحمة للناس وعونا لهم، يخفف عنهم ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم، لا يكلفهم إلا مايطيقون، ولا يأمرهم بما لا يستطيعون «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..»، ولا يضع بينهم وبين طيبات الدنيا وزينتها سورا أو حجابا: «قل من حرّم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق..»، ثم هو لا ينتظر منهم أن تكون حياتهم كلها صرامة، أو أن يكونوا مع نفوسهم على الدوام فى تأنيب وإحساس بالإثم لا ينقطع، وإنما ساعة وساعة، وإيغال فى الدين برفق، «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا…». وإدراكا لحكمة الإسلام؛ يوقفنا الإمام بن بيه على مداخل فى الشريعة، للتسابق فى الخير الذى ينتفع به صاحبه وينفع الناس، فالأمانة التى يحملها المؤمنون، فى كل زمان، ليست موجهة للخلاص الفردى الذى يقفز به صاحبه وحده؛ قفزا إلى جنات النعيم، وإنما هى أيضا موجهة للخلاص الجماعى الذى يتم به عمران الدنيا، وهذا جوهر الهداية التى بُعث بها الرسل.

لكن بن بيه، وهو ينهج مسارات التجديد، يبدى حذرا يليق بالحديث فى أمر جلل، كشئون العقيدة، فهو يحذر من الخضوع لعوامل الضغط الحضارى، «حتى لا نرمى ريشنا كلما هبت ريح زعزع من الغرب أو الشرق ونغير ثوابتنا»، وفى الوقت نفسه، يصر أشد الإصرار على استعادة أمة العرب والإسلام من حافة الانتحار وفيافى البداوة إلى ساحات الأمل والرشد والتحضر. ذلك أن تجديد الفكر الدينى ليس شأنا دينيا فحسب، إنما هو إحدى حلقات النهوض الحضارى، يرتقى بالمجتمعات ويُسهم فى تقدُّم الدول. وهذا يتطلَّب تعزيز اقتناع المجتمعات بأن التجديد ضرورة داخلية، وليس إملاء خارجيا. وفى تأكيد أهمِّيّة التجديد فى السِّياق الإسلامى ومشروعيَّتِه، لن نجد نصًّا أكثر عُمقًا من قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهذه الأُمَّة على رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دِينَهَا». هذا الحديث شاهد على حصول تجديد فى الدين كل مائة عام، وهو تعبير آخر عن التجديد المتواصل فى الإسلام.

لذلك وضع بن بيه جميع أوراقه تحت المجهر، دون مجاراة للسلطة أو مداراة للجماهير، فالتجديد ينبغى ألا يكون خاضعا لرغبة سلطة ما، كما أنك لا تستطيع أن تقفز على المشكلة وتتوهم أنك حللتها، بمجرد القفز فوقها، إن التجدد الحضارى هو التطلع والعمل من أجل تجاوز حالة التأخر التاريخى عن المدنية الحديثة، والتصالح مع الحداثة وقيم العصر، دون إهدار للهوية الثقافية والقيمية العربية – الإسلامية. وذلك لن يحدث إلا بجهود المصلحين من أمثال بن بيه، جهود تكفل تجديد فاعلية النظم الدينية نفسها، الاعتقادية والرمزية والمجازية والفكرية، أى «تغذية الوعى الأخلاقى والتفكير الهادف الذى يوجه الإنسان فى حياته اليومية ورؤيته للحياة والكون. إنه باختصار إطلاق فاعلية الشعور الدينى نفسه، وإطلاق هذه الفاعلية يعنى تحرير المنظومة من الانسدادات والصدأ التاريخى، أى تخليص المنظومة من الارتباكات والتناقضات وعدم الاتساق الذى يعرقل حيويتها.

وتعين المبادئ والمقاصد المتطورة فى الشريعة على تحقيق ذلك، ويسهم الاستنجاد بالمقاصد – بتعبير بن بيه – فى صياغة فلسفة إسلامية معاصرة، تجيب على الأسئلة فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن بين مقاصد الشريعة (التيسير) الذى يتيح مساحة واسعة لاجتهاد العلماء، ولرفع الحرج فى التعامل مع مشكلات العالم المعاصر، بعدما ألقت متغيرات الحياة الحديثة بإصرها على الفكر العربى والإسلامى، فصدمة الغرب وتهديد الوجود الإسلامى نفسه، تدفع لإعادة اكتشاف الإسلام من جديد، والتفتيش عن مسالك قادرة على الاستجابة لتلك المتغيرات– على جدتها وشمولها واتساعها- فكان أن نشأت فكرة المجال العام أو المنافع العمومية، الأمر الذى أثمر توسعا فى الاجتهاد، دخل الفقه الإسلامى فى مجالات لم يعهدها من قبل على أرض الواقع، من هنا تنبع أهمية تجديد الفقه الإسلاميّ بوصفه أحد أبرز مظاهر الحضارة الإسلامية، بذل العلماء المسلمون جهدا هائلا لبناء هذا الصرح الحضارى القانونى، ليكون منارة تهتدى به مجتمعات عديدة فى العالم، ومظهرا رائعا من مظاهر قراءة النصّ، وتحليل أدوات التفكير، ومقاربة الظواهر الاجتماعية، والتكيّف مع الواقع، ثم إعادة صياغته.

صحيح أن المشوار ما زال طويلا أمام فقه الواقع، لاسيما من خلال نظرية (المقاصد فى الإسلام)، لكن المجتمعات العربية تسير، بعجلة غير منتظمة، نحو التحرير الداخلى بفعل عوامل داخلية وخارجية ضاغطة، فالأمور لا يمكن أن تبقى كما هى إلى الأبد، الأمل المرتجى أن يحدث التغيير بشكل إيجابى معقول، خطوة خطوة، سيرورة ديمقراطية مفتوحة، تعيد الاعتبار لمعنى الدولة والمجتمع والتراث، انطلاقا من حاجات الإنسان الحقيقية التى تتضمن الحرية والكرامة والحق فى عيش كريم، متحرّر من الفقر والاستبداد، مع توليد الاستجابات الفاعلة للتحديات، وإذكاء جذوة الشوق فى الصدور للنهوض والازدهار.

       

Comments are closed.