كلمة في يوم السلام العالمي -نيويورك
كلمة يوم السلام العالمي -نيويورك | ||
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين
الحضور الكرام،
نحتفي في زمن الحرب بيوم السلام، قد يبدو هذا تناقضاً لكنه لا ينبغي أن يكون كذلك. تشتد الحاجة للنور حين يشتد الظلام، وتشتد الحاجة للأمل حين يظن الناس أن اليأس قد انتصر. وهكذا حين ارتفعت اليوم أصوات الحرب، تَوجَبَ على دعاة السلام ألا يصمتوا، ألا ينأووا عن المشهد، بل أن يضاعفوا الجهد ليبقى صوت الحكمة والرحمة والسلام مسموعاً. قبل قرن من الزمان، وفي عام 1914م بالتحديد، كان يمكن أن يمر يوم 28 يوليو يوماً عادياً مشرقاً من أيام الصيف الجميلة في سراييفو، لولا أن حدثاً عابراً في أحد شوارع المدينة أدى إلى تغيير العالم، لقد أسفر انعطاف لسائق سيارة عن وقوع حادث اغتيال، قاد بدوره إلى أزمة دولية، سرعان ما تحولت إلى حرب عالمية كبرى، أودت بحياة زهاء 20 مليون شخص، وأدت إلى سقوط امبراطوريات وقيام دول في بقاع مختلفة من العالم. يصادف هذا العام (2024) الذكرى العاشرة بعد المئة للحرب العالمية الأولى التي انطلقت شرارتها الأولى في قلب أوروبا ممتدة بنيرانها وبآثارها إلى مختلف أنحاء العالم. لقد جئنا باسم منتدى أبوظبي للسلم إلى الأمم المتحدة لنحتفل مع شخصياتكم المميزة ومنظماتكم الموقرة بيوم السلام العالمي. ومن المفارقات أن نتكلم عن الحرب ونحن نبحث عن السلام، لكن، من لم يعرف الشر لا يمكن أن يقدر الخير ومن لم يعرف سوء الحرب وآثارها المدمرة لا يمكن أن يقدر أهمية السلام. لذا سيكون حديثي استحضاراً لمئة عام من الحروب والصراعات عاشها العالم وسُفك فيها من الدماء أكثر مما سُفك في أي فترة من فترات التاريخ، مئة عام تغيّرت فيها وسائل القتل لتصبح أكثر تدميراً بحيث يمكن أن تدمر البشرية جميعا. إن التحديات التي نواجهها ملأ العيون والآذان، إنها تشمل على سبيل المثال والاختصار مهددات السلم الكبرى: كالتهديد النووي، والنزاعات الحدودية، وشح المياه والغذاء، والاوبئة والتغير المناخي، والتطرف العنيف. إننا إذ نستصحب هذه التحديات لننتظر من المفكرين أن يلقوا الضوء على أفق الحل. إنني أغتنم هذه الفرصة التي نستمع فيها لمجموعة جمعت بين الحكمة والخبرة والمعرفة لأسأل: – كيف نمنع تكرار أخطاء الماضي والحاضر؟ – ما هي الدروس التي يمكن أن نستفيدها من الماضي للوصول إلى مستقبل أكثر أمنا؟ – هل من تجارب ناجحة في إيقاف الحروب يمكن أن نتعلم منها ونبني عليها نماذج قابلة للتطبيق؟ – كيف ننجح في معالجة نزغات الحروب في العقول ونزعاتها في النفوس قبل أن تتحول إلى أفعال تدمر البلاد وتفني العباد؟ إلى غير ذلك من الأسئلة، والتي هي ليست أسئلة أكاديمية بحتةــ بل أسئلة وجودية. إن لكلّ عصر قيمه التي يرشحها الزمان وتزكيها الأديان، قيم بها تواجه التحديات، وتعالج الاختلالات، فلا انقطاع لحاجة الإنسان المتجدّدة إلى القيم، إذ كلما استجدّت حالٌ من أحوال البشرية، وجدت في صيدلية القيم ما يناسبها: كيف يمكن في زمن الحرب والاضطرابات، أن نبرز قيم السلم والتسامح، وفي زمن الهجرات واللجوء والمجاعات، أن يرقى خطابنا إلى قيم الإيثار والرحمة والتضامن، وفي ظلّ الكوارث البيئية وتغيرات المناخ وانتشار الأوبئة، أن نرفع قيم المسؤولية وروح ركاب السفينة، كيف يرتقي خطابنا إلى اقناع الانسان وهو في ثورة الغضب اللاإنسانية، أنه وهو يقتل الآخر إنما يقتل نفسه، ولذا كانت العبارة القرآنية ” وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا”[1] ، و”من قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”[2] فمن يقتل الآخر، إنما يقتل في الحقيقة نفسه. إن الحقائق الثابتة بين المتغيرات: هي أن العنف يولد العنف، وأن تنازع البقاء يؤدي إلى الفناء، وأن الحوار هو حل لا بديل عنه. إنه طريق لا بد من سلوكها، قبل الحرب لتجنبها، وأثنائها لإيقافها، وبعدها لعلاج أثارها ومنع عودتها. إن الحوار هو المنهج الصحيح، فالعقل يرشّحه، والتجربة تصحّحه، والدين يرجّحه، إنّه منهج دولة الامارات العربية المتحدة بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله ورعاه”، والتي لا تزال تسعى إلى السلام وتمد يد العون إلى المتضررين من الحرب. إن الحوار يحتاج إلى تكامل دور القيادات الدينية بثاً للأمل ونشراً للسكينة، وجهود السياسيين في جهود الوساطات والمصالحات، وصناع القرار استثماراً في التنمية والمساواة، والمعلمين تربية للأجيال على السلم. إن التطور التقني الهائل للبشرية سعياً الى ما تحلم به من الرقي والازدهار سيفشل ما لم يواكبه تطور أخلاقي يوجه خطاها إلى الخير والتسامح والعفو والصفح. تلك هي الحكم التي قام عليها حلف الفضول الجديد والتي كانت محاولة لتجاوز قيم الحقوق إلى قيم الفضائل أو أنها في الحقيقة تزاوج بين قيم الحقوق والفضائل. إننا في هذه اللحظات العصيبة من التاريخ- رغم الأسى والأسف على ما يجري في هذا العالم وعلى سفينة البشرية المهددة بالجنوح- ينبغي ألا نيأس من روح الله، ولا من الخير الكامن في قلوب البشر، فمهما ادلهمَّت الظَّلمُات يُنتظر الفجر، ومهما اشْتَدَّت الأزَماتُ يُنتظر الفَرَجُ بفضل الله ورحمته. أشكركم على إصغائكم، سائلين الله الكريم أن ينشر رحمته وفضله على الإنسانية جمعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
[1] سورة النساء، آية 29 [2] سورة المائدة، آية 32 |