محاضرة العلامة عبدالله بن بيه:الإيمان في عالم متغير
كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم بمناسبة المؤتمر الدولي ” الإيمان في عالم متغير” 12-13 ربيع الثاني 1446- 15-16 أكتوبر 2024م |
||
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله رب العالمين نحمده على رحمته لنا بالإسلام وتفضله علينا بالإيمان والانتماء إلى دين سيد الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الأبرار وصحابته الكرام صاحب المعالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين. صاحب السعادة الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته «اللهمَّ ربَّ جِبرائيل، ومِيكائيل، وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنَّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ». يطيب لي أن أشكر لكم الدعوة الكريمة للمشاركة معكم في هذا اللقاء الهامّ، الذي يشرُف بالرعاية السامية، لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره. ولا يفوتني أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي بقيادة معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى في نشر قيم التسامح والتعايش في أرجاء العالم انطلاقا من مبادئ وثيقة مكة المكرمة التاريخية، كما أثني على أعمال الرابطة المحمدية للعلماء وأمينها العام صاحب السعادة الدكتور أحمد عبادي في تعزيز قيم الاعتدال والمحبة والبحث العلمي داخل المغرب وخارجه. إن موضوع هذا المؤتمر مهم وراهن وواسع ومنتشر يصعب حصره، يجعل المرء يتردد بين خشية الاختصار المخل، أو خوف الإطناب الممل، وهكذا جاءت هذه الكلمة بين التذكير والتفكير، محذوفة الشواهد، مطروحة الزوائد، مشيرة إلى جملة من القضايا الواصفة، والمسائل الكاشفة. وستكون وفق العناوين التالية:
أيها العلماء والسادة الفضلاء، العنوان الجيّد للموضوع الجيد هو العنوان الذي يفتح آفاقا متشعبة للنظر، وإن عنوان مؤتمرنا هو من هذا النوع الكثيف، فقد ربط بين مفهومين شديدي الصلة ووثيقي العلاقة: التغير والإيمان. وقديما ربط بينهما المتكلمون حين جعلوا ملاحظة التغير الملازم للعالم مقدمة صغرى لقياس “حملي” لإثبات حدوث العالم، فقالوا: العالم متغير وكل متغير حادث، إذا العالم حادث. أما اليوم فنحن نَفِر من التغيّر إلى ثبات الإيمان بطريق أخرى هي طريق سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي استدل بالموجودات على الموجد، ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾، وفي نهاية مسار الاستدلال نجا إلى هداية الله (قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)، ثم انتهى إلى (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). .كثيرون هم الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين عُنوا بوصف عالمنا الحديث، وتفنَّنُوا في الكشف عن سماته وأحواله، وكلُّهم يتفقون على وصفه بأنه عالم السيولة والتغير المتسارع. التغير اليوم سمة الزمان وشيمة العصر والأوان، ومبدأ الحياة، لقد جعلت التكنولوجيا من السرعة واختزال اللحظة والمكان، والتجدّد المستمر معايير للقيمة والجودة. كل شيء في تغير متلاحق من الذّرة إلى المجّرة، كل شيء مُعَجّل وبلا مَهَل، وكأن الوجود يُعْرض بتقنية العرض السريع، صور تمرّ أمامَ أنظار المشاهد في تدفّق لا ينقطع، المشهد تلو الآخر، والحدث تلو الآخر. السرعة غير مقصورة على الأسباب المادية من المواصلات والتواصل، بل تشمل سرعة انتقال الأفكار والآراء والمعلومات والأخبار (الصحيحة والزائفة)، فتلك كلها مناح مختلفة تتضامن لإحداث مفعول واحد وأثر متميز في صياغة بنية الفرد المعاصر، والتأثير في تماسك المجتمع. التغير السريع والحياة السائلة والشك الذي سرى في كل أوصالها، كل ذلك استتبع حالة من الحيرة والانبهار، فغدا الإنسان مدهوشا مشدوها ومبهوراً لسرعة الواردات التي ترد عليه وتواليها المستمر، يعيش منغمسا في الأشياء عن ذاته، محتجبا بحُجُبِها الكثيفة عن الأسئلة التي تلحّ عليه، غارقا في غمرة اللحظة، التي تغمر عقله وقلبه، غمرة كغمرة البحر اللجي، تلك الغمرة التي وصفها القرآن الكريم ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ﴾[1] وعبر عنها كذلك بالسُمُود[2] وهو اللهو والتلهي. ولعل الفيلسوف الفرنسي باسكال كان يشير إلى شيء من هذا عندما تكلم عن حالة التلهي le divertissement ، التي يلجأ إليها الإنسان فراراً من نفسه ومواجهة حقائقه العميقة، حقيقة الفناء والضعف والجهل. وإذا كان الإنسان هو الشاهد وهو المشهود، كما قال بعض المفسرين[3]، شاهد على نفسه من نفسه، ولخالقه، وعلى الكون من حوله، فإنّ الحياة قد تغمُره، فيتخلّى عن وضعه الإنساني الأصيل، وضع المسؤولية والأمانة، فيغدو في حالة من الذهول والانفعال، تتقاذفه أمواج الحياة، ما له من قرار، “يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا” كما في الحديث الصحيح. في هذه الرحلة بالذات التي فيها غَمرةٌ وغياب للقدرة على الحضور والاستحضار والمواكبة، في هذا التهافت، والتفكّك، يحسُّ الإنسان بضرورة استعادة جاذبية المعنى، التي تمنحه نقطة ارتكاز وثبات، وتظهر الحاجة إلى رؤية للكون تقدم له الاستقرار. هنا تبرز الرؤية الوحيدة الكفيلة بذلك، وهي الرؤية الإيمانية، التي تغرس الوجود الإنساني في نسيج متّصل من المعنى، تقدم له رواية متسقة عن ذاته، ممتدة من النشأة (السبب) ومتصلة إلى المصير (الغاية)، رواية يجملها قول المؤمن “إنا لله وإنا إليه راجعون”، وتقدم له العروة الوثقى التي لا انفصام لها، التي تمنح للمستمسك بها رسوخاً واستقراراً. الإيمان يقدم للإنسان ثباتاً في هذا المشهد السيال، فيقدم له تصورا خارج العرض الذي يأسر الفكر ويستحوذ عليه، تصورا لا يتماهى مع العرض، ولكنه ليس بالضرورة مجانبا له. بالإيمان يخضع الإنسان لجاذبية الحقيقة وليس الانجذاب وراء الوهم. الإيمان يُخرج الإنسان من غمرته التي انعكست على سلوكه سلباً وتصرفاته فساداً بظلم نفسه وأبناء جنسه وبيئته الكونية بتلويث الفضاء وصنع المخترعات غير الآمنة التي استعملها في التدمير بدل التعمير والقتل بدل المحافظة على الحياة، وكل ذلك يرجع إلى ضمور الإيمان وغياب الأفق الأخلاقي، مما حاولت البشرية تداركه من خلال أنظمة الأمم المتحدة المختلفة ومنها الإعلان العالمي لحقوق الانسان، وهي مبادرات حسنة القصد والغاية، إلا أن غياب المرجعية الإيمانية لها-مع أسباب أخرى- أدّى إلى عدم فعّاليتها.
الحضور الكريم، قد لا تنتظرون مني في هذا المقام أن أسرد عليكم التعاريف المعروفة للإيمان، فحديث جبريل واضح ومشهور، ومع ذلك أثار هذا المفهوم من الجدل واستثار من النظرِ وتطلَّب من التحرير الكثير، لا سيما في علاقته بمفهوم الإسلام، شمولا كما يفهم من عبارات بعض السلف، أو تمايزا كما استقر عليه القول لدى بعض المتأخرين. ذلك خلافٌ طويل لسنا بوارده، وحسبنا أن نقول إن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في سياق افترقا حقيقة و”ماصدَقا”، وإذا انفرد أحدهما غطى مساحة الآخر، ونشبه تلك العلاقة بالشجرة، فالإيمان شجرة تستثمر في أرض الإسلام، وتثمر في سماء الإحسان، أي أن الاعتقاد الصحيح إنما يَنبت في تربة الأعمال، ليرتقي صعُدا في أفق العرفان. والإيمان علم والإسلام عمل، والإحسان روح. والعلم مقدمةُ العمل، كما قال أبو عبدالله البخاري في صحيحه، بابٌ العلم قبل العمل: (فاعلم أنه لا إله إلا الله). لذاك قيل العلم يدعو العملا إن يلفه قر وإلا ارتحلا فإذا كان الإيمان علماً، فذلك يعني من زاوية النظر الإسلامية التقليدية أنه انكشاف للمعلوم على ما هو عليه، وله ثلاث وسائل من مصادر المعرفة: المصدر الأول هو الحسُّ، وهو مجموع ما ركب في الإنسان من وسائل الإدراك للمحسوسات، التي تنشأ بها لدى الإنسان معارف ضرورية عن الموجودات، لكنّ هذا المصدر محجوب في هذه الدار عن الإدراك للباري سبحانه وتعالى، ولذلك فإنه لا ينتج على وجه الاستقلال والتفرّد أي معرفة معتبرة في باب الإيمان، وإنما قد يصلح مقدمة صغرى. المصدر الثاني هو العقل، وينقسم العلم الحاصل بالعقل إلى علم ضروري وآخر نَظَرِيّ:
ومبنى النظر العقلي على إعمال الدلالة أي الانتقال من حاصل معلوم وقد يكون محسوساً إلى مطلوب مجهول، من خلال أحد أوجه الدلالة، ولا سيما عن طريق دلالة اللزوم العقلي، وهو لزوم ناشئ عن افتقار المسبب إلى السبب والمعلول إلى العلة ضرورة، فيصبح النظري اضطراراً عقلياً، عبّر عنه المتكلمون والفلاسفة بمختلف العبارات والمتصوفة بمختلف الإشارات. هذا المصدر المركب من الحس والعقل، هو محلّ بحث الباحثين، واضطراب المضطربين، ومعترك المذاهب من خلال أدلّة عقليّة تجد مقدمتها الصّغرى في الحس والوجود، ومقدمتها الكبرى في العقول والألباب، فكان مبدأ السببية ومبدأ الغاية وما سماه ابن رشد دليل العناية شواهد تستحضر الآيات، التي هي نقوش القدرة في صفحة الخلق للذين يحسنون استنطاقها، وهي الأبجدية الأساسية لقراءة الكون. المصدر الثالث: الخبر، ، وهو الدليل الأكبر والمرشد الأهدى سبيلا والأقوم قيلا، والمقصود في هذا السياق ليس كل خبر وإنما الخبر القائم على الوحي الذي هو علم لدني ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾، علم ليس بناشئ عن إعمال نظر ولا تركيب قضايا، يُؤْتاه الأنبياء المصطفون من خلق الله لتلقي الوحي، والوحي هو اتصال إلهي بالإنسان المصطفى -على سبيل الإلهام أو بواسطة ملك، لإطلاعه على جملة من الحقائق، وإبلاغه برسالة إلى البشرية هي مراد الخالق من الخلق.. هذه المصادر هي الآيات والنذر، التي تتكامل وتتعاضد للدلالة على الإيمان والتوصيل إلى سبيل الاطمئنان، والتي بها تقع الهداية الناقلة للإيمان من حيّز الإمكان والاستعداد الذي جبل عليه الإنسان، وركز في فطرته، إلى حيز التحقّق والوقوع الذي هو اصطفاء وتوفيق، فالنذر هي تذكير وإيقاظ للنفس للارتقاء من عالم الموجودات إلى البحث عن الموجد بالاعتبار بالآيات. وهكذا، فهذه رؤية للإيمان ثلاثية الأركان، يأخذ الحس فيها نصيبه، ويوضع العقل في نصابه، ويكون الوحي مهيمناً ومرشداً للحس والعقل فيما يقفان دونه من الماورائيات والحقائق التي لا يدركها الإنسان أو التي لم يكتشف بعد أنه لا يدركها وفق قاعدة: أن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود وعدم العلم لا يعني علم العدم، وهي حقائق تتعلق بالنشأة وحكمة الإيجاد ونعمة الموجد، وقانون الأخلاق والجزاء في دار البقاء.
الاخوة والاخوات، لا بد لنا هنا من وقفات عجلى لمعالجة بعض الإشكالات التي تثار حول هذه المصادر،
مضت حقبة كان بعض الناس يرفعون دعوى مصادمة العلم للدّين، ومردُّ ذلك إلى عدم توضيح العلاقة وتحديد المجالات بينهما. والحق أن العلم بمعناه الحديث منهج إنساني قائم على البحث في الكائنات، وقصاراه كما يقول العالم الفرنسي كلود برنار ( Claude Bernard) [4] البحث عن العلل الثانوية للأشياء، وليس له مرتقى إلى العلل الأولى. ولذلك فإن الأسئلة التي يُعنى بها الدين غيرُ تلك الأسئلة التي تجيب عليها العلوم. ومعتمد العلم الحديث على الملاحظة والتجربة التي توصل بالاستقراء إلى قوانين كما يقول الفيلسوف رَسَلْ[5]، ولذلك فهي قوانين لا يمكن أن ترقى إلى القطعية، بل تظل معرضة للنقض بحسب ما يستجد من المعطيات، ولعل أشهر مثال على ذلك هو مثال قانون نيوتن لتفسير الجاذبية والذي ظلّ طيلة قرون هو الحقيقة العلمية، حتى اصطدم بشذوذ كوكب عطارد، فكان ذلك داعياً إلى البحث عن قانون جديد وهو ما توصل إليه آنشتاين من خلال وضع نظرية النسبية العامة. وليس من شأن العلم أن يثبت أو ينفي ما وراء مجاله فعدم وجدانه للغيبيات لا ينفي وجودها، وعدم علمه بها لا يفيد علما بعدمها، فكم من أمر لم يكن للإنسانية به علم ثم تمّ اكتشافه، فلم يكن عدم علمه علما بعدمه. وقد وجد الفئام من سدنة العلوم في كل العصور، ممَّن حفزهم بحثهم في الكون على الإيمان لما رأوه من بديع آثار الخالق، ومن هؤلاء نيوتن. لقد جاء العلم الحديث لينقل الجدل المتعلق بحدوث العالم إلى مجاله، حين سلم للدين المقدمة الصغرى ليبني عليها المقدمة الكبرى “كل محدث فلا بد له من محدث“، ليكون القديم الذي لم يسبق على وجوده عدم هو واجب الوجود. وهكذا يُصلح برهان السببية بين الدين والعلم، فكما يقول ديكارت “أن العدم لا يخلق وجوداً“. ولهذا فإن تحميل العلم مسؤولية الإلحاد أو ضربه بالدين وضرب الدين به، كل ذلك سببه الخطأ في تعامل الناس مع العلم حيث طلبوا منه أن يجيب على أسئلة من خارج ميدانه: إذا سلكت للغور من بطن عالجٍ فقولا لها ليس الطريقُ هنالكِ
تعرّض الخبر لنقد كبير في العصر الحديث وتبخيس مبالغ فيه لحجيته، مع أنّ البشرية لا يمكن أن تستغني عن الخبر بأية حال، فهو أكثر مصادر المعرفة اعتماداً في كل تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها، وبه يقضي الناس معايشَهم اعتماداً على الاطمئنان الذي يمنحونه للتواتر وللثقة. ولذلك فلا بد في هذا العصر من إعادة بيان مركزية الخبر في النسق المعرفي البشري عموماً، وفي نسقنا الإسلامي خاصة حيث أبدع المسلمون منهجية توثيق وتنقيح للأخبار لا يوجد مثلها في أي أمة أخرى.
إن اشتقاق كلمة النبي لغة مختلف فيه اختلافا جرّ ذيوله على الترجيح بين قراءتـَيْ الهمز كما لدى نافع وعدم الهمز كما لدى الآخرين: نبـــــــــــوة من نبإ لخبر * وغالبا عن نبإ ذي خطر أو من نبا ينبو إذا ما ارتفعا * ولكلا الأصلين وجهٌ سُمعا أما في الاصطلاح الشرعي فالنبي هو مَنْ يتلقّي الوحي من الله سبحانه وتعالى، بواسطة الملك أو بالإلهام، والمراد به ورود شيء على النفس البشرية المصطفاة، يقع فيها، فيطمئن إليه الإنسان فتصير به الأشياءُ النظرية أو الخارجةُ عن دائرة المقولات العقلية ضروريةً لديه. النبي قد يكون مكلفا بإبلاغ ما يُوحى إليه، فيسمى رسولا، وقد يكون مستأنِفا لشرع خاص، وقد يكون مجددا لتعاليم رسول سبقه، كما كانت أنبياء بني إسرائيل، على اختلاف كثير بين العلماء على التباين والترادف، والراجح هو العموم والخصوص فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا. النبوة ظاهرة فريدة، تقع لأفراد هم المصطفون الأخيار، وهي برهان على قيُّوميّة المولى سبحانه على خلقه؛ ومظهر من مظاهر رحمته بالإنسان ولازم من لوازم قدرته. فإمكانها لا يحيله العقل، ووقوعها يصدقه الواقع، ومع ذلك أقام الباري جل وعلا الدليل على النبوة في الإنسان نفسه ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، وذلك بواردات ترد على النفس، وباستشعار الأحداث خارج السياق المعتاد لإدراك الموجودات، وذلك من خلال الرُّؤَى التي لا يتمارى أحد في وقوعها، والتي تقدم الأحداث مرموزة فتفسرها الوقائع أو يفك شفرتها من له علم من الكتاب. وأحيانا تقدم المشهد الذي سيكون بكل جلاء ووضوح فتتجلى في الواقع على وفقها. الرؤيا الصادقة نموذج من خاصية النبوة أودع في الإنسان لتقريب هذه الحقيقة الكبرى، وهي ظاهرة غير مخصوصة بأمة عن أمة ولا بجنس دون آخر، وربما لا يخلو منها أحد، سواء تذكرها أو لم يتذكرها. إنها شهادة للنبوة قائمة في الإنسان، لأن الرؤيا في بعض صورها خارج دائرة الحس والعقل وما زالت محيرة، رغم تفسير العلم الحديث لها بأنها: ظاهرة نفسية ترد في حالة النوم”. ولهذا يقول الفيلسوف الفرنسي الشاعر بول فاليري: إن الرؤيا هي فرضية لأننا لن نعرفها أبدا إلا بالذكرى، Le réve est une hypothése puisque nous ne le connaissons jamais que par le souvenir” إن التصديق بنبوة الأنبياء أو برسالة الرسل يتأتى عن طرق كثيرة وقرائن تنقدح في النفوس لا يمكن دحضها، نذكر منها ما يلي:
ونجزم أنه لا أحد منذ نشأة البشرية حفظ لنا التاريخ من أخباره وآثاره ومآثره ما حفظ لنا عن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى كان كأنما يعيش في غرفة زجاجية يطلع الناس على دقيق تفاصيلها. فلم يترك الرُّواة حركة من حركاته أو سكنة من سكناته أو نفَسا من أنفاسه إلا نقلوه، وكأن الله سبحانه وتعالى لمَّا جعله آخر الأنبياء جعل سيرته تخلُد؛ وآثاره تبقى، فكان هذا النبي مرآة انعكست فيها صورة أخلاق الأنبياء، ومثالا جمع كل الخصال وأشتات المكارم وأنواع المعارف، وهو ما يتجلى في كتب السيرة بوضوح، وفي معرض السيرة النبوية الذي تُشرف عليه رابطة العالم الإسلامي بقيادة معالي الشيخ الدكتور محمد عبد الكريم العيسى. وعلى تفنن واصفه بحسنه * يفنى الزمان وفيه ما لم يوصفِ ثانيا: أن تصديق الرسول في رسالته قد يكون ناشئا عن أمور غيبية أخبر بها، سواء كانت أخبارا في الزمن الغابر مما لم يكن معروفا للنبي ولا لقومه، كما في ذكر هامان، ولم يكن معروفا حتى لأهل الكتاب، وقد يكون عن خبر مستقبلي، ثم يظهر صدق ذلك خبر بتحقّقه في الواقع، فيكون ذلك دليلا على صدق من أخبر به فيما سواه، كما في قصة هزيمة الروم على يد فارس، وإخبار الوحي بأن الروم سَيَغلِبون فارس قبل نهاية عقد من الزمن وأن ذلك وعد من الله، فكان الأمر على ما وُصِف، ” ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾.
وقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من الخوارق والمعجزات التي وقعت للأنبياء كانقلاب العصا لسيدنا موسى عليه السلام وإحياء الموتى لسيدنا عيسى عليه السلام، وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم الكثير من المعجزات، منها انشقاق القمر وحنين الجذع وتسبيح الحصى وكلام الحجر وانقياد الشجر.. في معجزات كثرت أن تحصى ** ذكرت منها البعض دون استقصا إن انفعال الكون للرسول ** هو دليل أيما دليل بإلاذن من مالكه العظيم ** للخاتم المطهر الكريم رابعا: وقد يكون التصديق ناشئاً عن دعاءٍ من الرسول نفسه لهداية قوم “اللَّهمَّ اهدِ دَوْسًا وائتِ بهم” أو عن أشياء ذوقية كإطلالة وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم” ليس بوَجْهِ كَذَّابٍ ” أو عن معرفة أوصافه المذكورة في كتب الأولين كما وقع لسيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه. إنها أدلة كثيرة حصل بمجموعها تواتر لا يمكن دفعه، وعلى الأخص لمن هُدي إلى اتباعه. وهناك بالنسبة للنبي الخاتم معجزته الخالدة، ألا وهي القرآن الكريم. خامسا: يوجد وجه آخر وهو مضمون الرسالة، فرسائل الأنبياء جاءت دعوة إلى الخير والبر وصون الكليات الخمس، فأهل العقول والحكمة يستحسنون ذلك ويميلون إليه، ومن ذلك سؤال النجاشي للصحابة حين قدموا الحبشة فقال “وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟. قالوا: يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم، ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له”. وكذلك حديث وفد قريش مع هرقل ملك الروم فقد سأل ماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة”. وهذا مصداق آيات كثيرة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾، وقوله سبحانه: “﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فالرسالة هي الدعوى وهي الحجة، وهي الدال والمدلول.
يرفع بعض المعاصرين قراءة آلية للعالم، يدّعي أصحابها عدم وجود معنى للكون، وأن ذرّات تجمّعت بلا هادٍ ومن تلقاء نفسِها، فشكّلت هذا الكون البديع في كل تفاصيله الدقيقة البديعة، ذرات تجمعت فصارت أحداقا ومُقلا تبصر، أو صارت آذانا تسمع، وهكذا من أصغر الموجودات من الذرات إلى أكبرها من أجرام السّماوات كالكواكب والمجرات، كل ذلك وفق مقادير غاية في الدقة لو اختل منها مقدار واحد لانخرم نظام الكون وابتلعه الفساد. بل هو تقدير عليم حكيم، يتجلى صنعه في التصميم الحكيم للكون، وهي الترجمة الأنسب والأوفق، وإن لم تكن الحرفية، للمصطلح الأجنبي “Le dessein intelligent”. إن أنصار المذهب الآلي يتشبثون بمفاهيم هُلامية كالصدفة والطّفرة العشواء أو الطبيعة والانتقاء وهي مفاهيم لا تتسم بمعايير العلمية وأهمها الانبناء على الملاحظة، فروا من الغيبِ فجاؤا غيباً * أهمل عينه فصار عيبا في مقابل هذه الرؤية العدمية لا بد من ترميم واستثمار الآليات التي ارتضتها الإنسانية جمعاء وخدمت في الماضي ويمكن أن تخدم في الحاضر والمستقبل، كمبدأ السببية causation / causality ومبدأ الغائية teleology / finalité أو العناية عند ابن رشد أو الأقيسة المنطقية، وهي مباديء قرآنية عبر عنها العلماء بعناوين جديدة كما عبروا في أصول الفقه بعناوين شتى ولم ير السلف بذلك بأساً بل رأوها من الوسائل الخادمة التي يزكيها المقصد ويستدعيها الزمان. السببية المقصودة هنا هي ما نسميه (السببية الكبرى) أو ما يعبر عنه الفلاسفة بالعلة الأولى أو المحرك الأول. وتشير إلى أن العدم الذي معناه اللاوجود الخالي من القوى والخصائص والإمكانات لا يمكن أن ينشئ الكون بدون مكوّن. وما نعنيه بالسببية الكبرى يقابل ما يمكن أن نسميه بالسببية الصغرى وهي تأثير الأسباب في إطار حركة المخلوقات طبقاً للمبدأ السابق، وفقاً للقوانين الكونية الداخلية، وهذه السببية الصغرى هي التي ينفيها الأشاعرة بحجة قريبة مما يقوله ديفيد هيوم من أنّ ما يظنه الناس أسباباً هو نوع من الاقتران وليس نوعاً من التأثير. لكن الفارق أن الأشاعرة ينفونها اعتماداً على وجود السببية الكبرى الخالقية التي تؤثر في كل شيء فلا أسباب غيرها. ويرى الماتُرِيديّة، بلهَ المعتزلةَ، أن وجود قوانين ثابتة تقتضي تأثير الأسباب على المسببات بخلقٍ سابق من الله سبحانه وتعالى في قوانين سارية في الكون لا تتوقف إلا بأمر من الخالق كما في قصة إبراهيم عليه السلام الواردة في القرآن الكريم وأبي مسلم الخولاني رضي الله عنه وهي قصة صحيحة مشهورة كما في صحيح ابن حبان وفي دلائل النبوة للبيهقي وغيره.
أيها السادة الكرام، إن أول ثمار الإيمان وأعظمَها هي السّعادةُ الأخروية بتنعيم الأرواح في القبور والأجساد يومَ النشور بالنزول في دار الأفراح والسرور، حيث النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. ومن ثمار الإيمان أيضا، أنه به يرتقي الانسان في إنسانيته، اتّصافا وتحقُّقا، بالكمالات الإنسانية، من صحة الاعتقاد، وحسن معاشرة العباد، وتزكية النفس وتهذيب غرائزها، فبالإيمان يهتدي الإنسان إلى فعل الخير وينقاد إلى الخير باطناً وظاهراً. كما أن من ثمار الإيمان الحياة الطيبة، قال تعالى “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” والحياة الطيبة هي السّعادة والطمأنينة ويمكن أن نعبر عنها بالمصطلح المعاصر “جودة الحياة”. إن قيمة الإيمان تؤدّي الى الاطمئنان، فيكون الانسان مطمئناً إلى رؤية لهذا الكون العجيب والكوكب الفريد الذي يعيش عليه، رؤية تجيب عن سؤال من أين أتيتُ وإلى أين أصيرُ؟ وممّ خلقتُ ولم خلقتُ؟ تجيب على سؤال الأخلاق بربطها بالجزاء الأخروي فلا تستوي الحسنة والسيئة ولذلك فهو يقيم في النفس وازعاً وفي الضمير رادعاً، فكلّ أخلاق لم تستنبت في أرض الإيمان، ولم تسق بسحب الوحي الفياضة بالإحسان، تظلُّ معرّضة لزعازع الهوى، ضعيفة التّأثير، تتلاشى أمام الأزمات، وهذا ما تفتقر إليه النظريات الفلسفية الأخلاقية، كالتي في النظام الكانتي، حيث لا جزاء، فلا المجرم معاقب ولا المحسن مثاب إذا لم تنله يد القانون، فيستوي في هذا النظام البارُّ بوالدَيْه والعاقّ لهما، والمحسن على جاره والمسيء. أما الأخلاق الإيمانية فتعزّز السلام مع العالم في دوائر متصلة، مع النّفس والوالدين ومع الأقربين، والجيران والناس أجمعين، “والمؤمنُ من أمنَهُ النَّاسُ علَى دمائِهِم وأموالِهِم“. فمجتمع الإيمان مجتمع آمن، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ مجتمع يُمتَثل فيه للحقوق، وتؤدّى فيه الواجبات طواعية: “الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ”، فالإيمان بالله والجزاء الآخروي يجعل الإنسان أكثر شفقة على الناس ورحمة بهم وأقل عدوانية وظلما، وأكثر مسئولية في علاقته مع الناس والمخلوقات ومع البيئة من حوله. إن الإيمان يربط الإنسان بالكون من حوله في سلسلة علائق متكاملة، تمنح صاحبها ثباتا نفسيا، وتقيه من الضياع والتشتت، وتعيد انتماءه إلى العالم، إلى الكون الذي تشترك فيه البشرية بالوجود والوجدان، وهذا الذي تشير إليه الآيات: ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ و﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، و كما في الحديث الشريف “يا أيُّها النَّاسُ، ألَا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلَّا بالتَّقْوى”. ومن ثمار الرؤية الإيمانية أنها تفتح آذان الإنسان ليسمع أصوات الكون الناطقة بحقائقه من حولنا، وترفع الغشاوة عن البصيرة لتدرك الإشارات البينات التي تدله من ذاته على ذاته. الصمت المطبق للكون، إنما هو شعور الإنسان المحجوب بالغمرة والسمود عن فهم لغة الآيات، التي استنطقها ذاتَ يوم ابن عطاء الله السكندري، فنطقت له بأسرارها العجيبة: أيا صاح هذا الركب قد سار مسرعًا * ونحن قعود ما الذي أنت صانع أترضى بأن تبقى المخلف بعدهم * صريع الأماني والغرامُ ينازع وهذا لسان الكون ينطق جهرة *بأن جميع الكائنات قواطع وألَّا يرى وجه السبيل سوى امرئ * رمى بالسِّوى لم تختدعه المطامع
الحضور الكريم، لقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال “إن الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم“، فكيف يكون هذا التجديد؟ وكيف نقوم بهذا التجديد الذي وُعدنا به وأمرنا به. لأن الوعد هو في نفس الوقت أمر ولذلك جاء في الحديث: “جدِّدوا إيمانَكم” مع الوعد بقيام مجدد ومجددين يجددون لهذه الأمة دينها في كل قرن. إنه تجديد على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، والإنسانية جمعاء، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم “جَدِّدوا إيمانَكم، قيلَ: يا رسولَ اللهِ، وكيف نُجدِّدُ إيمانَنا؟ قال: أَكثِروا مِن قولِ لا إلهَ إلَّا اللهُ”، وفي الحديث الآخر ” أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال لأصحابِه: جَدِّدوا الإيمانَ في قلوبِكم، مَن كان على حَرامٍ حوَّلَ منه إلى غيرِه، ومَن أحسَنَ مِن محسِنٍ وقَعَ ثَوابُه على اللهِ، ومَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه عشْرًا، وملائكتُه عشْرًا، ومَن دعا بدَعَواتٍ ليست بإثمٍ ولا قَطيعةِ رَحِمٍ استُجيبَ له”، وقد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يقولون “تعالوا نؤمن ساعة” و”اجلس بنا نؤمن ساعة”. ولذلك فإنني سأختم هذه الكلمة بجملة من التوصيات تدخل في إطار تجديد هذا الإيمان بالذكر والفكر والفعل: أولا: البشرية محتاجة إلى تجديد الإيمان من خلال إعادة ربطها بغذاء الأرواح، والإكثار من الذكر الذي هو مفتاح تزكية النفوس؛ كما تفتقر إلى مرشدين ربانيين يحيون وظائف الذكر ويرقون في مدارج السلوك إلى مقامات الزهد والصبر والشكر، فتشرق السرائر وتستقيم الظواهر فتتطهر القلوب من الغلّ والرياء وتتنزّه الألسنة من الغيبة والفحشاء. ثانيا: تجديد الخطاب الإيماني عن طريق تطوير أساليب البرهنة وطرق العرض واستغلال الإمكانات التي أتاحتها المعارف البشرية الجديدة، وهي في الحقيقة إنما أتاحت ما أشار له القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾. فالآيات في الآفاق هي آيات لا تنقطع، علينا أن نسبر أغوارها كدلائل على العقائد، وهي مجال للتجديد والتجدّد، فستظلّ الآفاق صفحة تسطر فيها الآيات، لنتبين أن هذا الدين وهذا القران ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم هي الحق. ومن أوجه التجديد الممكنة في الفقه الأكبر، كما أسماه الإمام أبو حنيفة، استثمار ثمرات العقول والعلم الحديث في صياغة العقائد وعرضها عرضا سليما بطرائق الاستدلال المناسبة لإدراك أهل العصر، وألا نجد في أنفسنا حرجا من الاستعانة بالفلسفة، فإن المدارس الفلسفية منها المدارس الصديقة التي يجب أن نستفيد من تجربتها وحاصل تحريراتها، ومنها المدارس التي يمكن أن نسميها خصما ولكن ليس بالضرورة عدوا، وهذه ينبغي محاورتها، فنستفيد من الصديقة ونحاور الأخرى المخالفة أو المنافسة. فعلينا الانفتاح على شهادة المتخصصين في الفلسفة والعلوم الطبيعية ما لم تعارض نقلا أو تناقض عقلا. فنتعاون مع العلوم التجريبية في رحلة اكتشاف الكون البديع، ونقبل شهادتها في الاثبات ولا نقبل شهادتها في النفي. وذلك ليس فقط من منطلق إيماني فحسب، ولكن من منطلق علمي أيضا لأن العلم إذا شهد بالنفي فقد أعلن التوقف عن البحث العلمي. ثالثا: إنشاء مراكز للبحوث الإيمانية -والتي في الدائرة الإسلامية يمكن أن تستقطب كل التخصصات من محدثين يقدمون أحاديث الإيمان وما لها من تأويل ومعنى، وكلاميين يبرزون ما وصلوا إليه من حجاج ونظر، ومن المشتغلين بتزكية النفوس وأحوال القلوب ومقامات الإحسان، ليقدّم كلٌ أحسن ما عنده في إطار التعاون على الخير- فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ. في هذه المراكز يتم استنفار مدارس الأمة جميعها من أهل الحديث وأهل تزكية النفوس وأهل علم الكلام، فهم وإن تعدّدت مشاربهم، واختلفت مذاهبهم، فكعبتهم واحدة، وهدفهم متحد، هو تحقّق الإيمان بمقتضياته علماً وعملاً، والاجتهادات البشرية لا يمكن أن تكون متفقة أو متطابقة في مقارباتها ومنهجيتها إلا أنها بالتأكيد مجمعة على هدفها. وحيث كنا معاً نرمي إلى غرض فحبذا ناضل منا ومنضول وأصلهم الذي لا يحيدون عنه وانتسابهم الذي لا يقبلون الانتفاء منه هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلا بد من تقريب الشقة بين مختلف هذه المدارس الباحثة عن الإيمان-حسب الإمكان- والتسامي عن التجريح والتنابز بالألقاب بين أهل البرهان باختلاف مدارسهم وأهل العرفان بتنوّع مشاربهم، وتجاوز كثير مما نحسب أنه كان اختلافات لفظية وعنوانية، أكثرَ منها جوهرية، وننصح بالتوقف عن التكفير والتبديع والتضليل، لأن نتيجة التنازع هي الفشل والتمانع. رابعاً: أن نجعل عنوان المرحلة ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، من خلال الابتعاد عن الحرب الكلامية، والعنف اللفظي، فقد أصبح العالم بمثابة المعرض العالمي، تُعرض فيه الأفكار كما تعرض السلع وتروّج كما تروّج البضائع (كل حزب بما لديهم فرحون)، والمؤمن بضاعته أحسن بضاعة، وأربح تجارة، فهو يقدم للبشرية الإيمانَ، وهو البضاعة الجيدة التي تطرد البضاعة الرديئة من السوق.
وختاما، أشكركم على إصغائكم، متمنياً لأعمال هذا المؤتمر التوفيق والنجاح، اللَّهُمَّ إِنِّا نسألك إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمةً ننالُ بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، وأخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] سورة المؤمنون، آية 63. [2] إِشارة إلى قوله تعالى “وَأَنتُمْ سَامِدُونَ”، سورة النجم، آية 61. [3] تفسيرا لقوله تعالى في سورة البروج، آية 3 “وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود”، كالرازي وإبن عجيبة في تفسيريهما. [4] كلود برنار (بالفرنسية Claude Bernard) (1813 – 1878): عالم فرنسي شهير يعتبر مؤسس المدرسة التجريبية العلمية، كان يقول لتلاميذه في مختبره: إننا هنا نبحث عن العلل الثانوية. للاستزادة الرجوع لما كتب تلميذه نستور جريهان أو لمقال V Donnet: Claude Bernard était-il athée? [5] يقول برتراند رسل: «إن كل القوانين العلمية تقوم على منطق الاستقراء» إلا أنه يضيف أن «الإستقراء من حيث هو عملية منطقية … عرضة للشك وعاجز عن إعطاء نتائج يقينية» (كتاب النظرة العلمية (صفحة 84). |