” بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية: نحو مؤتلفٍ إسلاميٍّ فاعل”

 

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم

بمناسبة المؤتمر الدولي

بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية: نحو مؤتلفٍ إسلاميٍّ فاعل

6-7 رمضان 1446هـ- 6-7 مارس 2025م

 
   

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،

سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ،

صاحب المعالي والفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى،                  

أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة، الحضور الكريم كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،

يطيب لي في البداية أن أتوجّه إلى أخي صاحب المعالي والفضيلة أمين عام رابطة العالم الإسلامي بالشكر والتقدير على الدعوة الكريمة للمشاركة معكم في هذا المؤتمر الهام، الذي يجمع شرف الزمان، وقدسية المكان، وراهنية العنوان، فهو ينعقد في رحاب بيت الله الحرام قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، وفي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، تحت رعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز نسأل الله أن يجزل له ولسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز المثوبة والأجر، إنه ولي ذلك والقادر عليه. 


السادة العلماء، الحضور الكريم،

إن الحديث عن بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية ليس تَرَفا ولا فضولاً، وإنما هو من صميم واجب الوقت، المتعين على الجميع النهوض به، على مختلف المستويات، وضمن دوائر التأثير المتعددة.

ويكتسي هذا الموضوع أهمية كبرى ويصبح ضرورة قصوى في عصرنا الحاضر الذي يتسم بالحركة السريعة والمفارقات الواضحة، عصر التواصل الكثيف والعزلة الشديدة، عصر العلم المتقدم والجهل المستشري، عصر الدقة والتضليل، عصر استكشاف المجرات والغياب عن الذات.

إن ما يتيحه هذا العصر من إمكانات تقنية، تشكل بمجموعها سياقا من الفرص والتحديات قد يكون أداة للتعارف والتآلف والحوار وبناء جسور التواصل، وقد يكون تحدياً في نشر الكراهية والأخبار الزائفة والأفكار المتطرفة والتنابذ والتَّدابر. 

الاخوة والأخوات،

إن العنوان العريض للمؤتمر حول “بناء الجسور للوصول إلى مؤتلف أو ائتلاف إسلامي فعّال” ينطلق من فرضية وجود جزر متفرقة منعزلة ينبغي بناء جسور بينها، والحق أن هذا هو حال كثير من المسلمين إذ يعيشون في جُزُرٍ مفصولة، تقوم بينها مناطق عازلة، وهي ليست جزراً جغرافية من تراب وماء، وإنما هي جزر متباعدة من الأفكار والتوجهات والقلوب، تجعل طوائف الإسلام في أمس الحاجة إلى جسورٍ تصل بينها، وطرقٍ تُقرب القلوب من بعضها. 

إن الوعي بهذا الواقع المشهود، واقع اليأس المتبادل، واستحكام العداء وتحكّم النزعات واستشراء النزاعات وخفوت صوت العقل، يحتّم على النّاصحين لأمّتهم والمُشفقين عليها، أن يتصدّوا له من خلال رفع شعار التواصل وبناء الجسور. 

إنها دعوة الدّين التي تزكّيها النّصوص وتؤيدها المقاصد ودعوة العقل التي تزكيها الحكمة وتؤكدها التجربة الإنسانية، ودعوة الواقع وما يحمله من موازين المصالح والمفاسد. وهي دعوة تنير الدرب وتضع الهناء مواضع النقب.

ولتفعيل هذه الدعوة، نقترح ثلاث أسس لبناء هذه الجسور:


  • الأساس الأول- بناء الجسور ضرورة دينية:

تستند الدعوة إلى بناء الجسور إلى أصل أصيل من أصول ديننا الحنيف، ومبدأ متين من مبادئه القطعية، وهو مبدأ الوحدة الإسلامية، والائتلاف ورفض الاختلاف والتنازع والفرقة.

وتلك ضرورة دينية، لا نحتاج إلى إطالة الرّشا في التأصيل لها، وإثباتها، فالآيات الدالة على وجوب الألفة والحث على الوحدة كثيرة، من ذلك قوله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ”، وقوله سبحانه: ” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ”. أي قوتكم وجماعتكم ونصركم. وقوله عز وجل: ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ”، وقوله سبحانه: “أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ”.
فهذه أوامر بالاعتصام بحبل الله تعالى وإقامة دينه، مقرونة بنواهٍ عن التفرق والنزاع، مع التنبيه إلى النتائج الحتمية المتمثلة في الفشل الذي يعنى العجز عن الوصول إلى غاية هداية الخلق، وعمارة الأرض بالحق.

  • الأساس الثاني- بناء الجسور مصلحة معتبرة:

 تنبثق ضرورة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية من مبدأ المصلحة، فالمصلحة مبدأ مركزي في ديننا، ومعيار المصلحة هو المعيار الصحيح الذي لا يحيف، وميزانها هو ميزان العدل الذي لا يجور. فـ”وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً” كما بيّن الإمام الشاطبي من خلال استقراء نصوص الشريعة، وكما أثبت العز بن عبد السلام في كتابه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”، حيث صرّح بأنه لا تفاوت بين طلب وطلب، وإنما التفاوت بين المطلوبات من حيث جلب المصالح ودرء المفاسد، مدار الأوامر والنواهي في ديننا على اعتبار المصالح جلبا والمفاسد درءا،  وانطلاقا من التوافق التام بين النقل والعقل، جعل العز: “معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل وذلك معظم الشرائع”.

وأما المصالح الجليلة في التّواصل والتآلف والوئام فهو أمر لا يخطئه البصر ولا تنبو عنه البصيرة،  فقد منّ الله به على المسلمين إذ قال: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)، وقال سبحانه وتعالى: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم). 

  • الأساس الثالث- بناء الجسور حاجة يؤكدها الواقع العالمي:

إن أهمية بناء الجسور ترجع أيضا إلى فقه الواقع العالمي من خلال القراءة الواضحة والمدروسة لمعالمه، فهو واقع في طور إعادة التشكّل حول مفاهيم القوّة والمصلحة والغلبة، ولا يتأتّى لمن رام أسباب القوّة تحقٌّقُ مقصودِه إلا بحدّ أدنى من الألفة والتعاون والتضامن، تصرف به طاقات الأمة في قنوات البناء والعمل، بدلا من قنوات العبث والتدمير الذاتي. وهذا ما صرّح به القرآن الكريم: “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”.   تلك حقيقة أزلية، فبالاجتماع والتعاون تكون القوة، وبالتنازع والخلاف يكون الفشل والعجز. 


تلك هي أهم مسوغات هذه الدعوة وتلك هي مغازيها ومراميها. 

أما كيف ننطلق من هذه الأسس إلى جسور تجمع شمل الأمة وتلم شعثها؟

فلعل ذلك ببناء عدد من الجسور التي عرضنا في النسخة الأولى من هذا المؤتمر الجامع ومنها جسر أدب الخلاف وحسن التعامل مع المخالف، وإعمال سدّ الذرائع في بناء جسور الوحدة من خلال إغلاق الباب أمام المفاسد العظيمة الواقعة من كلام بعض المسلمين في بعضهم، وجسر القول اللين والشفقة على أهل الملة، وجسر تفعيل الحوار، وجسر تعزيز قيمة التسامح.

فلا بد من تقريب الشّقة بين مختلف طوائف المسلمين -حسب الإمكان- والتسامي عن التجريح والتنابز بالألقاب، وتجاوز كثير مما نحسب أنه بعضه كان اختلافات لفظية وعنوانية، أكثرَ منها جوهرية، وننصح بالتوقف عن التكفير والتبديع والتضليل، لأن نتيجة التنازع هي الفشل والتمانع.

وللشيخ تقي الدين بن تيمية كلامٌ نفيس في كتابه “درء تعارض العقل والنقل”، أسس فيه لقاعدة من القواعد المنهجية المهمة حيث قال في سياق كلامه عن قضايا من علم الكلام: “والذي نختاره أن لا نكفّر أحدا من أهل القبلة، والدليل عليه أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها، …لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول باطل، إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين لكان الواجب على النبي صلي الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل، ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها، فلما لم يطالبهم بهذه المسائل، بل ما جري حديث في هذه المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، علمنا أنه لا تتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول”. وكذلك الإمام أبو الحسن الأشعري شهد أنه لا يكفر أحداً من المسلمين كما أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء. 

والنصوص كثيرة تلفت الانتباه إلى تطور المعرفة بعد عصر الصحابة، حيث تفجرت من معين الكتاب والسنة،  ينابيع الحكمة وسالت أودية العلوم وزهت رياض المعرفة، فسامت فيها العقول وتمايزت فيها الأذواق والفهوم، “قد علم كلّ أناس مشربهم”. 

وهم وإن تعدّدت مشاربهم، واختلفت مذاهبهم، فكعبتهم واحدة، وهدفهم متحد، هو تحقّق الإيمان بمقتضياته علماً وعملاً، والاجتهادات البشرية لا يمكن أن تكون متفقة أو متطابقة في مقارباتها ومنهجيتها إلا أنها بالتأكيد مجمعة على هدفها.

وَحَيْثُ كُنَّا معاً نَرْمِي إلى غَرَضٍ      فَحَبَّذا نَاضِلٌ منا وَمَنضُولُ

ولذلك فقد تعايشت هذه الطوائف والمذاهب في الغالب تعايشا سعيدا، وتساكنوا في ظل الكلمة الجامعة، تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة. والعمدة في ذلك والقاعدة العظيمة هي ما جاء في الحديث الصحيح: ” مَن صَلَّى صَلَاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذلكَ المُسْلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسولِهِ، فلا تُخْفِرُوا اللَّهَ في ذِمَّتِهِ” . فهذا الحديث حاكم في قبول الجميع وفيه تنبيه على أن “أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها، فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك”، كما ذكره الإمام بدر الدين العيني في تعليقه على هذا الحديث في عمدة القاري شرح البخاري. 




ختاما، فإننا نوصي بتوصيات: الأولى أن تنشر الرابطة كتاباً جامعاً للمسلمين يتضمن أهمية الألفة والمحافظة على الأخوة، كما ينبه على خطورة التكفير والتضليل شرعاً ومصلحة ببيان واضح وبرهان ناصح كما فصلت ذلك وثيقة مكة التاريخية. 

التوصية الثانية، تكوين مجموعة دائمة تقوم بالاتصال بمختلف أطراف النزاع بين المسلمين لرأب الصدع وجمع الشمل. 

التوصية الثالثة، إنشاء قسم في رابطة العالم الإسلامي لمتابعة ملفات النزاع ودراستها وتقديم المقاربات مع مختلف الأطراف بما في ذلك الدولية منها لتكون للدين كلمته عبر ما يسمى بالدبلوماسية الدينية. 


إن دعوتنا إلى بناء الجسور بين المسلمين لا ترْمي إلى استبعاد الآخر ولا استعداءه، وإنما هي دعوة في دائرة البيت المسلم إلى الامتناع عن الاحتراب الداخلي الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”.

وهكذا، فالجسور التي نبنيها بيننا ليست جدراناً في وجه التفاعل الإيجابي مع الآخر، بل هي قناطر تصلنا بالإنسانية جمعاء، وتفتح فرصا أكبر للتعايش مع عموم البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم على قاعدة المشتركات الإنسانية والسعي في الخير والبر ونشر السلام دون أن يعني ذلك تنازلاً عن العقيدة بل تنزيلاً للأحكام طبقا لسياقات الزمان والمكان.

يسرني مرة أخرى أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي بقيادة معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى في التقريب بين المسلمين ومدّ جسور الوحدة والتعايش فيما بينهم، كما أتمنى لمؤتمرنا الذي يجمع بين شرف المكان والمكانة النجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *