” كلمة العلامة عبدالله بن بيه في مؤتمر الوقف وتنمية المجتمع “

     
   
     

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين الذي يسر لخلقه سُبل الخير وأبواب البر والفضل،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد أكرم الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين،

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان حفظه الله ورعاه
وزير التسامح والتعايش
معالي الدكتور عمر حبتور الدرعي
رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف والزكاة

أصحاب المعالي والسعادة،
أصحاب السماحة والفضيلة السادة ضيوف رئيس الدولة،
أيها المشاركون، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يطيب لي بداية أن أتوجّه إلى القائمين على تنظيم هذا المؤتمر بجزيل الشكر
على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذا اللقاء الهامّ، كما أثني على جهودهم
الموفقة في الارتقاء بالعمل الديني والخيري.
واسمحوا لي بين يدي هذه الجلسة أن أسهم بكلمات قليلة حول موضوع هذا
اللقاء.
السادة العلماء، الحضور الكريم،
موضوع مؤتمرنا هو الوقف وسبل استدامته ودوره في تنمية المجتمع. وهو
موضوع جديد بالنوع قديم بالجنس. فالوقف مؤسسة معروفة عتيقة إلا أن التعامل
معه استثمارا واستدامة، والاستفادة من حاصله تنمية للمجتمع أمر متجدد.
وتزيد راهنيةُ هذا الموضوع بتزامنه مع عام “المجتمع” الذي أعلنه صاحب
السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله”، فمؤسسة الوقف
مؤسسة أصيلة وراسخة يمكن أن تسهم بفاعلية في تَعزيزِ أواصرِ التَّعاونِ
المجتمعيِّ.
الوقف في اللغة – كما في كريم علمكم- هو الحبس، ولذلك فهما لفظان مترادفان
يُعبِّر بهما الفقهاء عن نفس المدلول، وبحسب السياق يطلق الوَقْف على المصدر،
أي فعل الإعطاء ذاته، وتارة يُطلق على الذوات الموقوفة، فيقال هذا وقف فلان
أي هذا ما وَقَفه فلان، فيكون الموقوف بمعنى الموقوف، من باب فعل التي بمعنى
مفعول، كنَسْجٍ بمعنى منسوج.
وقد عرفّ العلماء الوقف بتعريفات متعددة، ترجع كلّها إلى حبس الأصل وتسبيل
الثمرة، أي جعلها في سبيلِ الله، وسبيلُ الله هو كلّ أوجه الخير والبرّ، وهو أقرب
تعريف للحديث الذي رواه ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر بن
الخطاب رضي الله عنه حين استشاره في صدقتِه: “إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَها،


وتَصَدَّقْتَ بها”، كما في البخاري، وفي رواية النسائي في سننه والدارقطني
والبيهقي: “حبّس أصلها وسبّل ثمرتها”.
هذه التوجيهات النبوية هي التي منها نشأت مؤسسة الأوقاف بأنواعها وتعدد
أغراضها، والتي كانت ولا زالت نموذجاً فريداً في استمرار النفع والعطاء،
واستدامة الثواب والجزاء.
وانتشرت الأوقاف في العالم الإسلامي في وقت مبكر حتى اقتضى الأمر في آخر
القرن الأول الهجري إنشاء ديوان خاص بالأوقاف، أنشأه القاضي ابن نمير في
أيام هشام بن عبد الملك، وتطورت مؤسسة الأوقاف، وتعددت صيغ الإشراف من
نظار وقضاة ومتولين.
وقد تَنوَّعت مجالاتُ استثمار ريع الوقف في التاريخ الإسلامي وشملت دعمَ
التعليم والصحة ورعاية الفقراء وغيرها من أوجه البرّ، استعمالا للمصلحة في
الوقف، وبلغت الكتاتيب التي تم تمويلها بأموال الوقف عدداً كبيراً، فقد ذكر
الجغرافي ابن حوقل: منها ثلاثمائة كُتّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية
والكتّاب الواحد يتسع للمئات أو الآلاف من الطلبة. وذكر أبو القاسم البلخي
مدرسة في بلاد ما وراء النهر كانت تسع ثلاثة آلاف طالب ينفق عليهم وعلى
الدراسة فيها من أموال موقوفة لذلك الغرض ( 1 ) .
وفي مجال الصحة: مثال وقف مستشفى قلاوون، الذي أُنشِئَ لمداواة مرضى
المسلمين الرجال والنساء من الأغنياء المثرين والفقراء المحتاجين بالقاهرة
وضواحيها من المقيمين بها والواردين عليها على اختلاف أجناسهم وتباين
أمراضهم وأوصابهم، بتفاصيل دقيقة سابقة لعصرها.
والوقف مؤسسة عظيمة تتجلى فيها حكمة هذه الشريعة الربانية الخالدة في ترسيخ
أسس التعاون بين أفراد المجتمع ورعاية أهل الخصاصة والفاقة حتى قبل أن
يوجدوا، فهي في الدنيا رصيد للأجيال القادمة، وللواقفين صدقة جارية، يجرى
عليهم أجرها، ويدخر لهم ذخرها.

وتلك هي استدامة النفع، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم “صدقة
جارية” حيث جاء في الحديث الصحيح: “إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من
ثلاثٍ: صدقة جارية، وعلم ينتفعُ به، وولد صالحٍ يدعو له” أخرجه مسلم.
ومن خصائص الوقف ديمومة العين وصرف الريع في مصارف الخير التي
حددها الواقف ولهذا الغرض أحيطت الأوقاف بأحكام كثيرة يمكن اعتبارها حماية
وتفعيلا للوقف وعناية بالموقوف عليهم.
الاخوة والأخوات،
إن هذا المؤتمر وأمثاله من الجهود المباركة، ترمي إلى إتاحة الفرصة للأوقاف،
لتلج أبوباً من الخير، وتنمية المجتمعات، لا يمكن أن تلجها إلا عن طريق الدخول
في غمرة الاستثمارات الحديثة من صناعات ومضاربات وزراعة.
وهو أمر يبدو أن العقبة الأولى التي تواجهه من بين عقبات أخرى، هي النظرة
الفقهية الموروثة في بعض المذاهب، والتي تجعل الوقف ساكنا لا يتحرك، وواقفا
لا يسير، في وقت تنوّعت فيه المؤسسات والأوقاف الخيرية في العالم والعالم
الغربي خصوصاً، وتنافست في توفير الخدمات الإنسانية، متخذة من
الاستثمارات الضخمة وسيلة لجني الأرباح الطائلة التي أصبحت ريعاً فائضاً
يغطي احتياجات العمل الخيري دون أن تمس رأس المال بسوء.
وللحقيقة، فنحن أحق بذلك إذا فهمنا الحديث النبوي الصحيح “احبِسْ أصلَها وسبِّلْ
ثمرتَها”، فالثمرة ليست حبيسة، ولكنها حرة في سبيل الخير.
وهذه العقبة الفقهية جعلت كثيراً من العقارات الموقوفة منذ مئات السنين تفقد
قيمتها ولا تدر ريعا على جهاتها، لأنها خربت ولم تستبدل، وضاعت ولم
تستصلح، وضاق النظّار بها ذرعاً فلم يصرفوها في بعض أوجه البر التي لم
يذكرها هذا الواقف في ذلك الزمان، فبرزت مسائل الواقفين، واسئلة الباحثين:
عن جواز استثمار الغلات الفائضة؟ وعن جواز الاستبدال والمعاوضة للأوقاف
الخربة أو العديمة أو القليلة النفع؟ وعن جواز صرف ريع وقف في مصرف
غير الذي حدده الواقف؟

تلك بعض الأسئلة العملية التي تشغل أذهان العاملين على الأوقاف والجهات
المشرفة عليها.
وإحدى طرق التعامل مع هذه التساؤلات ما أوردناه في كتابنا “إعمال المصلحة
في الوقف”، وذلك من خلال قاعدة “المصالح” وأثرها الذي لا ينكر، حيث أبرزنا
تأثير المصلحة في الوقف سواء فيما يتعلق بطبيعة المال الموقوف او التصرف
في عينه وتغيير معالمه او فيما يتعلق بتحريك غلته للاستثمار أو التصرف بالغلة
بتوجيهها الى مصرف غير الذي حدده الواقف وتجاوز ألفاظ الواقف لفائدة قصده
الذي تُعَرّفه المصلحة أو فيما يتعلق بطبيعة النّظارة وأحكام النّاظر.

الحضور الكريم،
وفي سياقاتنا المعاصرة، فإن وزارات وهيئات الأوقاف في كثير من الأقطار
الإسلامية أصبحت هي الجهة التي تمثل ولي الأمر في رعاية شئون الأوقاف،
وتتمتع بصلاحيات واسعة إلى جانب القضاء في تقديم النظار وعزلهم.
ولهذا فإن التعاون بين هيئات الأوقاف والمؤسسات القضائية والجهات الخيرية
الواقفة والجهات المنتفعة سواء كان وقفا خيرياً أو “وقفا ذرياً” 2 ، يُمكّن من إعداد
برامج الاستثمار المراعية للناحيتين الشرعية والمصلحية، ويحافظ على الموازنة
الدقيقة بين انفتاح الوقف لمقتضيات “المصالح الراجحة” المحققة أو المظنونة،
وبين استدامة الوقفية التي تتمثل في بقاء العين أو ما يقوم مقامها في المحافظة
على طبيعة الانتفاع للمستفيد من الوقف بحيث لا تَكُرُّ مراعاة المصلحة بالإبطال
على أصل الديمومة والجريان المستمر اللذين يمثلان أساس الحكمة التي تميز
الوقف عن غيره من الصدقات والهبات.
هذه المعادلة بين ديمومة الوقف وتحقيق أفضل ريع وعائد وفائدة للوقف، يجب
أن توضع نصب أعين الأطراف المسئولة عن شؤون الأوقاف.

2 الوقف الذري: هو ما يوقِفُه الواقف على نفسه أو أولاده أو غيرهم من الأشخاص المُعيّنين بذواتهم أو أوصافهم، سواءً من الأقارب أو غيرهم.

إن ما سبق، غيض من فيض وإشارات وإثارات أردناها مُلمعة إلى ما ورائها
منبهة إلى بعض القضايا التي سيناقشها هذا المؤتمر المبارك.
أشكركم على أصغائكم، وأدعو الله أن يحفظ قيادتنا بحفظه، ويكلأها بكلاءته،
ويوفقها لكل خير، وأسأله سبحانه وتعالى أن يصلح أعمالنا وأن يجعل اجتماعنا
اجتماع خير وأن يكلله بالنجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

……..

( 1 ) الدور الاجتماعي للوقف، للدكتور عبد الملك أحمد السيد ص 229 وما بعدها.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *