الولاء بين الدين وبين المواطنة ( نموذج المسلمين في بلاد الأقليات)

                                                           الولاء بين الدين وبين المواطنة

العلامة : عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

 

قال تعالى “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا…” وقال سبحانه وتعالى “النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ” وقال جل وعلا “الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ” وقال” لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ””وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” وقال تعالى “فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ”، “وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا”

وقال عليه الصلاة والسلام : إن بنى فلان ليسوا بأوليائي إنما أوليائي المؤمنون”. “من كنت مولاه فعلي مولاه”. وقال علية الصلاة والسلام :” الولاء لمن أعتق”. وقال:”الولاء لحمة كلحمة النسب”. “وأيما امرأة نكحت بغير أذن وليها”. وجاء في حديث المسند ” البلاد بلاد والعباد عباد الله فحيثما أصبت خيراً فأقم”. وفي حديث ابن حبان: يا فديك أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء وأسكن من أرض قومك حيث شئت”، والولاء يفتح ويكسر فإذا فتح كان اسم مصدر وإذا كسر كان مصدراً مقيساً من والاه موالاة وولاء وأصله من فعل ولي إذا قرب ودنا ومصدره وَلْيُ كما في قول علقمة:

يُكلِفُني لَيلى وَقَد شَطَّ وَلْيُها       وَعادَت عَوادٍ بَينَنا وَخُطوبُ

واسم الفاعل منه الوليُّ وله معان كثيرة منها المحب والصديق والنصير وفي معناه المولى ويطلق على واحد وعشرين معنى منها الرب جل وعلا والمالك والمُعتق والقريب والجار والحليف والعم والشريك والنزيل والناصر والمُنعم والمنعم عليه والمحب والتابع …إلى آخره، وهي معان منتشرة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويقول مرتضى الزبيدي في تاج العروس: وأكثرها (هذه المعاني) قد جاءت في الحديث فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه”، ومعنى ذلك أن الأمر يرجع إلى السياق لأنه لفظ مشترك ، وليس حقيقة لا لغوية ولا شرعية ولا عرفية يتعين حمل الكلام عليها،  بل إن القرائن والسياقات هي التي ترشح محمله ، وهذا المعروف عند اللغويين، إلا أن بعض طوائف المسلمين الذين جعلوا من قوله عليه الصلاة والسلام :” من كنت مولاه فعلي مولاه” مبدأ عقدياً وقد بالغوا في مفهوم الولاء والولاية حيث استبعدوا الولاية لغير عليِّ رضي الله عنه من الخلفاء كما هو معروف، وقد تختلف المصادر باختلاف المعنى فالولاية بالفتح في النسب والنصرة والعتق، والولاية بالكسر في الإمارة، والوِلاء في العتق والولاء ، والموالاة من والى القوم موالاة مصدران مقيسان، وقال بعضهم: الوَلاء بالفتح للقرابة والولاء بالكسر ميراث يستحقه شخص بسبب عتق شخص في ملكه أو بسبب عقد موالاة كما كان في صدر الإسلام “وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ” ولهذا فإن المنطلق اللغوي واختلاف المدلول حسب السياق يجعلنا نقرر أن هذا المفهوم ليس جامداً أو حقيقة شرعية كالصلاة والصوم والزكاة وإنما يعنى أحياناً انتماء إلى الدين بنصرته وموالاة أهله وبخاصة في حالة الاعتداء عليه وفي هذا السياق ” إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا” أو انتماء للقرابة وفي هذا السياق  “وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ” ” وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي” أو ولاء برابطة الحلف والعتق “فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ” وإني لأعجب ممن يناضل عن السنة ويحارب البدعة بدءا من المصطلحات إلى المضامين فهو ينكر المجاز لأنه ما نطق به الأولون فراراً من البدعة والحدث ثم يُحْدِثُ مصطلحاً حذر منه السلف ويتكلف له ويحيطه بسياج من الأفعال والمظاهر بدلاً من إجراء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على مجاريها وفهمها في سياقها لتتضامن مع الآيات الأخرى التي تحث على التضامن مع بقية البشرية كلها في أوجه الخير والتعاون معها في مواجهة الشر كما يدل عليه حديث حلف الفضول وحديث فديك :” يا فديك أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء واسكن من أرض أقومك حيث شئت”، وتدل عليه وثيقة المدينة التي أخرجها ابن إسحاق في سيرته.

حيث تتشكل منظومة من الولاءات تدل عليها مجموعة الآيات والأحاديث النبوية التي تزكي القيم الصالحة أياً كان مصدرها وتذم الرذائل والعدوان والطغيان، وهذا ما تشهد له أكثر الآيات القرآنية التي توجه البراءة إلى الأعمال لا إلى الرجال قال تعالى :”وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ”  “وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ “يونس41 :وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ : “قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ” ” وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ “، وقد وردت البراءة من الأشخاص في سورة الممتحنة في قوله حكاية عن إبراهيم قوله: “إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ “، كما ورد في صدر سورة التوبة براءة من المشركين في سياق إلغاء العهود والإنذار بالحرب بعد أن أسلم أهل الجزيرة العربية ولم يبق إلا عصابات تخريبية،  وفي الحديث: إني أبرأ إليك مما صنع خالد”، ووجه هذا الكلام أن المرء قد يكون فيه ما يبغض وما يحب،  فيحب من وجه ويبغض من وجه لهذا كانت البراءة من العمل وليس من الرجل في الغالب. والله اعلم.

وأنكر أحمد بن حنبل إمام أهل السنة رحمه الله تعالى الولاء والبراء قائلاً –كما رواه عنه الأصطخري-: والولاية بدعة والبراءة بدعة وهم الذين يقولون نتولى فلاناً ونتبرأ من فلان وهذا القول بدعة فاحذروه. ( طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسين الفراء 1/35)

وفي كتاب السنة لعبدالله بن أحمد رد السلف الصالح هذا الشعار بأشد العبارات لأن البراءة التي وردت في مطلع سورة التوبة موجهة إلى المشركين في سياق محدد يتعلق بالعهد والحرب والسلام وأعلن في تلك السنة في الحج الأكبر إعلاناً لنهاية علاقة كانت قائمة بعد أن أسلم جل أهل الجزيرة العربية، لكن بعض الطوائف المسلمة جعلته شعارا تتبرأ فيه من فلان وتوالى فيه فلاناً فأنكر من أدركه ذلك من السلف فقال: كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة والبراءة بدعة والإرجاء بدعة، وعن أبي البختري، قلت لشريك عن علي رضي الله عنه فذكره، قال: «الإرجاء بدعة، والشهادة بدعة، والبراءة بدعة»، وعن سلمة بن كهيل، قال: اجتمعنا في الجماجم أبو البختري وميسرة وأبو صالح وضحاك المشرقي وبكير الطائي فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة والولاية بدعة والبراءة بدعة والشهادة بدعة، وعن سعيد الطائي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : « الولاية بدعة ، والإرجاء بدعة، والشهادة بدعة»(1).

قال الأشعري رحمه الله تعالى في “مقالات الإسلاميين” واصفاً غلو بعض المبتدعة في الولاء والبراء: ومن العطوية أصحاب عبد الكريم بن عجرد ويسمون العجاردة وهم خمس عشرة فرقة: فالفرقة الأولى منهم يزعمون أنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو.

 – والفرقة التاسعة من العجاردة الصلتية أصحاب عثمان بن أبي الصلت والذي تفرد به أنه قال: إذا استجاب لنا الرجل وأسلم توليناه وبرئنا من أطفاله لأنه ليس لهم إسلام حتى يدركوا فيدعون إلى الإسلام فيقبلونه، أما تنزيل آيات النصر والولاية والحب وأحاديث الولاية والنصر والحب على هذا المصطلح وجعله مصطلحاً إقصائياً يطرد كل علاقة مع الغير فهو غير سديد لأنه يهمل مضامين آيات وأحاديث أخرى تحث على البر والأقساط والقسط والتعاون على البر والتقوى مع كل الناس وقد نسب الأنبياء إلى أقوامهم ” وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ” “وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ” “وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ” وتحكى حبهم لأقاربهم من غير تعنيت ولا تبكيت ”  إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ “، وحبهم لبلادهم واشتياقهم لها كما في حديث أصيل: قدم أصيل الهذلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، فقال رسول الله: يا أصيل ، كيف تركت مكة ؟ قال : يا رسول الله ، تركتها وقد احجن ثمامها واغدف اذخرها وامشر سلمها فقال ايها أصيل دع القلوب تقر.” كما في كتب السير، وهذا الانتماء إلى الأقوام وحب الديار والأوطان هو ضرب من الولاء.

أما المواطنة: فلها مفهوم جديد فهي تعرف الآن بأنها عبارة عن علاقة متبادلة بين أفراد مجموعة بشرية تقيم على أرض واحدة وليست بالضرورة منتمية إلى جد واحد ولا إلى ذاكرة تاريخية موحدة أو دين واحد إطارها دستور ونظم وقوانين تحدد واجبات وحقوق أفرادها إنها شبه جمعية تعاونية ينتمي لها بصفة طواعية أفرادها بشكل تعاقدي فالذي ينضم اليوم إليها له نفس الحقوق التي كانت لأقدم عضو.

إن قيم هذه المجموعة في المفهوم الحديث هو عكس المفهوم التاريخي الذي يقوم على العرق أو الدين أو التاريخ المشترك على فرضية أن التنوع نفسه يصبح قيمة كبرى من خلالها يكون الانسجام من طريق التفاعل بين مختلف الخصوصيات للوصول إلى المصالح الكبرى للمجموعة بتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عنصر الإقصاء والطرد كما يستبعد عنصر نقاء النسب الذي يؤدي إلى تقسيم المواطنين إلى درجات كما كان عند الرومان أو العرب في عصر الجاهلية، المواطنة رباط أو رابطة اختيارية معقودة في أفق وطني يحكمه الدستور أو ما سماه الفيسلوف الألماني هابرماس بالوطنية الدستورية أي شعور الفرد بانتمائه إلى جماعة مدنية مؤسسة على المشاركة في القيم الأساسية.

والمواطنة تتسامى على الفئوية لكنها لا تلغيها والمطلوب أن تتواءم معها وتتعايش معها تعايشاً سعيداً، لعل ذلك أهم تحول في مفهوم المواطنة في العصر الحديث ولعله هو أهم جسر لتكون القيم الدينية لكل مجموعة بشرية محترمة ومقبولة وإن هذا يلتقي مع مفهوم الإسلامي للتعايش البشري والمسلم لا يجد حرجاً بل قد يكون متعاونا معها، في هذا المنعطف التاريخي لتشكل المجتمع الغربي الذي يكون المسلمون كغيرهم جزء منه ومن خلال الوحدة الكبرى لأوربا على المسلمين أن يشاركوا في تحقيق مفهوم المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات وذلك عن طريق فهم صحيح وتقويم سليم للموروث التاريخي الأوربي والمتغيرات التي حدثت في العالم ليكونوا مدركين لمشكلات أوطانهم وعلى دراية بأسبابها وطبيعتها حتى يتفاعلوا مع الأغلبية ويصوغوا معاً المعايير الجديدة للمواطنة وذلك ما لا يكون إلا بنوع من تجاوز الذات لتحديد أبعاد المواطنة التي سيكون من أهمها بالنسبة للأقليات احترام الآخر والاعتراف بوجود ديانات وثقافات مختلفة وتحقيق الحريات والاشتراك في إدارة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعيدا عن العنف، لتكون المواطنة بوتقة تنصهر فيها كل الانتماءات وبقدر الانسجام والانتظام بين هذه العناصر والجماعة يجد المواطن نفسه والجماعة مكانتها، وإذا كان الانتماء مفهوم نفسي ، اجتماعي ، فلسفي ، وهو نتاج العملية الجدلية التبادلية بين الفرد والمجتمع أوالجماعة التي يفضلها المنتمي ، باعتبار الانتماء ذا طبيعة نفسية اجتماعية ، فإن وجود المجتمع أو الجماعة هام جداً كعالم ينتمي إليه الفرد ، حيث يعبر عن الانتماء بالحاجة إلى التجمع والرغبة في أن يكون الفرد مرتبطاً أو يكون في حضور الآخرين ، وتبدو هذه الحاجة وكأنها عامة بين أفراد البشر، لهذا فيمكن اعتبار الولاء دوائر ومراتب وبإمكانها أن تتواصل وتتفاعل بدلاً من أن تتصادم وتتقاتل فالولاء للدين أمر مسلم به عند كل مسلم بل بالنسبة لكل متدين وهو أعلى قمة هرم الولاءات، وهو لا يطرد الولاء للوطن بمفهوم المواطنة ألذي أشرنا إليه إذ هو لا يتنافى والولاء للدين ما دام عقد المواطنة لا يشتمل على خروج من الدين أو انصراف عن الشعائر أو حجر على حرية المسلم أن يعيش إيمانه.

إن العلاقة بين عقد المواطنة وبين الدين يمكن أن يتصور في دوائر منها ما هو مطلوب شرعاً ومرغوب طبعاً كحق الحياة والعدالة والمساواة والحريات وحماية الممتلكات ومنع السجن التعسفي والتعذيب وحق الضمان الاجتماعي للفقراء والمسنين والمرضى والتعاون بين أفراد المجتمع للصالح العام وما يترتب عليه من واجبات كدفع الضرائب والدفاع عن الوطن ضد العدوان والامتثال للقوانين وفاء بعقد المواطنة وهذا في حقيقته يدخل في الوفاء بالعهد واحترام مقتضياته وذلك داخل في الولاء للدين ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ”، وإن وسائل ما تقدم من اشتراك في الانتخابات وانتساب إلى الأحزاب والجمعيات له حكم مقاصدها كما هو مقرر في كتب أصول الفقه وبخاصة عند العز بن عبدالسلام والقرافي وغيرهما.

ويدخل في التعاون على البر والتقوى قال تعالى ” وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”، وقد نزلت في العلاقة مع المشركين المحاربين فكيف لا يجوز مع المواطنين المسالمين فإن العلاقة مع هؤلاء تحكمها آية الممتحنة “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ “

 

 

إن القيم الكبرى للعلمانية المحايدة تعتبر قيماً إيجابية من:

1- احترام المعتقدات 2- والحياد بين مختلف الديانات 3- الاعتراف بحقوق الإنسان الفردية والجماعية تسهر الدولة على حمايتها. 4- حق الاختلاف والتنوع والتغيير عن خصائص الأفراد والجماعات.

5- حق التحاكم أمام المحاكم الطبيعية لاستخلاص الحقوق وترتيب واجبات على الأفراد في احترام القوانين ودفع.  دفع الضرائب للإسهام في المجهود الوطني لتسيير المؤسسات.

6- الدفاع ضد العدوان.

كل ذلك لا يتنافى مع القيم الكبرى التي تدعو إليها الديانات السماوية وبخاصة الدين الإسلامي الذي يدعو إلى البر والمحبة والأخوة الإنسانية، وبطبيعة الحال فإن المنطقة الرمادية في التفاصيل ، وكما يقول المثل: فإن الشيطان يقبع في التفاصيل، فقد يفسر البعض العلمانية تفسيراً يزحزحها عن الحياد لتكون تدخلية في خصائص الأقوام وأداة تسلط على المعتقدات وهذا انحراف عن المعنى الأصلي للعلمانية، وعلى كل الفئات أن تظل متمسكة بعلمانية هي وسيلة للتحرر النابع عن القناعة الشخصية وليس خاضعاً لمذهب إيديولوجي شمولي يريد أن يفرض مفاهيم خاصة بناء على أوهام ذاتية.

كما أن على الفئات بالمقابل أن تظهر تجاوزا لبعض المظاهر النفسية للفئة التي تجعلها وكأنها ليست معنية بالهم الوطني الاجتماعي والاقتصادي والأمني وأن تكذب تكهن أولئك الذين يريدون شيطنة تلك الفئة التي يستجيب بعض سفهائها فيرتكبون عمليات تخريب أو إرهاب فيصبحون بذلك حلفاء طبيعيين للمتطرفين من الجانب الآخر الذين يبتهجون لذلك.

إننا نبحث عن تعاون وتضامن بين القيم وليس عن صدام وصراع، ولهذا فإن حملة القيم سيتحالفون للارتقاء بالأوطان ” فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ” وخلاصة القول: أن الولاء هو انتماء وعلاقة بالناس وبالأفكار وبالقيم وقد يكون من المناسب ونحن نتناول هذا الموضوع في ديار الغرب أن نقرر أن الولاء للوطن ليس منافياً للولاء للدين في حدود الضوابط الشرعية الممكنة وأن الولاء هو ولاء للقيم والبر بالوطن والمواطنين قيمة يُزكيها  الشرع والعقل وعلى المسلم “أن يهجر السوء ” كما في حديث فديك، والسوء درجات ومراتب فلا يوالي في تبديل دينه وهذا أعلى درجات السوء بل عليه أن يتمسك بدينه “ولو أن يعض بأصل شجرة حتى يدركه الموت”. كما في الحديث المتفق عليه الوارد في الفتن.

وهو أمر لا مساومة فيه لو فرض أن ولاء ما أو انتماء يعارضه ويصادمه ثم تتدرج المراتب لتصل إلى المعاصي التي لا يجوز للمسلم أن يتعاون في ارتكابها إلا لضرورة حاقة لا مرد لها فلا يجوز أن يعتدي على دماء الناس ولا على ممتلكاتهم ولا يشارك في المحظورات والمحرمات التي تتفاوت مراتبها من محرمات مقاصد إلى محرمات وسائل، ومراتب الولاء التي أشرنا إليها هي التي سماها الشيخ الطاهر بن عاشور حالة الموالاة وقسمها إلى ثمان حالات عند تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران ” لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، قائلاً: والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقاً والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط وتعتورها أحكام وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال”.

قلت: وقد جزم بالكفر في حالة واحدة وهي الموالاة في باطن الأمر ميلا إلى الكفر ونواء  لأهل الإسلام وهي حال المنافقين، أما الأحوال الأخرى فتفاوتت بين المعصية الكبرى أو دونها أو الجواز حسب المفسدة المتوقعة أو المصلحة المتوخاة، كما لاحظ العلامة ابن عاشور القيد الذي تشير إليه عبارة ( من دون المؤمنين)  ” الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ” ” لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ” ،فذكر اختلافاً في القيد والإطلاق في الموالاة ومعنى قيد ( من دون المؤمنين) أن يكون الولاء المنهي عنه إنما هو ما كان مبعداً للمؤمنين ومناهضاً أما الإطلاق فيعني النهي عن الولاء مطلقاً.

وفي الختام:

 فإنَّ الولاءَ والحب والنصرة والنصيحة لله ولرسوله وكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم أمرُ لا مريةَ فيه، فمنه ما هو ركنُ ماهيةِ الدين وهو الإيمانُ بالله ورسوله وكتبه، ومنه ما هو من كمال الإيمان وتمامه وعلامة إشراق نوره على القلب وهو: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”. وقال عليه الصلاة والسلام كما في العديد من كتب السنن واللفظ لأبي داود : مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، نسأل الله أن يحشرنا في زمرة المحبين، إلا أنَّ هذا الولاءَ ليس سوراً معلقاً إقصائياً طارداً كلَ علاقةٍ دنيويةٍ بالناس لا تَكُر على أصل الإيمان بالنقص ولا تلبس المحبةَ بالبغض ولا الانقياد والطاعة بالرفض؛ بل تتعامل مع الناس في جلب المصالح ودرء المفاسد ، وتتبادل معهم عواطف الود ، وتتعامل معهم طبقاً لقانون الأخلاق وحسن العشرة بالكلمة الطيبة والعمل النافع، طبقاً لقوله تعالى :”وقولوا للناس حسناً” وقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث الترمذي: وخالق الناسَ بخلق حسن”، فتقوم صداقات وتبرم عهود وصفقات، كل ذلك تزكيه العقولُ وتشهد له السيرة النبوية بالقبول، فقد فرح بانتصار النجاشي المسلمون وبانتصار النصارى على فارس المؤمنون كما في صدر سورة الروم.

 وأخيراً: فإن المسلمين في الغرب وهم يتضامنون ويوالون إخوانهم في الدين عليهم أن يتجنبوا الشطط والغلو في التعبير عن عواطفهم وبخاصة إذا ترتب على ذلك من الفساد ما يفوق كل المصالح التي قد تكون موهومة ذلك هو الميزان الذي يقوم على الفقه في الدين والنظر في المئالات والتحلي بالحصافة بالإضافة إلى معرفة واقع العولمة الذي لم يترك بلداً إلا وأصابه من الابتلاء بالمخالفات العلانية للدين ما أصابه وإن كانت البلاد تتفاوت.

                   

الهوامش:

1- عبدالله بن أحمد كتاب السنة 1/318.

Comments are closed.