استضافت رابطة العلماء الموريتانيين العلامة الشيخ عبد الله ولد بيه المعروف بموسوعية علمه مساء الاثنين في ندوة فكرية بمدرج المعرفة بجامعة انواكشوط، تحت عنوان: “التجديد بين الدعوة والدعوى”
حضرت الندوة شخصيات رسمية عديدة من القطاعات ذات الصلة؛ من بينها وزير التعليم والأمينان العامان لوزارتي الشؤون الإسلامية والاتصال وشخصيات حزبية وإعلامية وعلمية.
وجاء هذا الحدث البارز بمناسبة تخليد مرور خمسين سنة على الاستقلال الوطني. ولأن الذكرى كبيرة فقد كان الحدث كبيرا أيضا وبمستوى تطلعات هذا الشعب المتعطش للعلم والعلماء، وفرصة نادرة لمعايشة نموذج شنقيطي أصيل في تواضع وموسوعية العلامة عبد الله ولد بيه.
“السفير” حرصا منها على رصد جديد الساحة الثقافية والعلمية لقرائها الكرام كانت في الموعد لحضور هذه الندوة.
الانطلاقة الفعلية لهذه الندوة كانت مع الكلمة الترحيبية التي ألقاها وزير التعليم الثانوي والعالي حيث قال: “إن العلامة قدم خدمات لا يمكن تجاهلها وأرشد الأمة إلى الدين الصحيح، وتمثل جهوده الآن معينا يستقي منه الجميع من خلال مراكز الإفتاء العديدة والبرامج الإذاعية والتلفزيونية.. فكان علمه فيضا يزيل الجهل وينير الطريق”.. مشيرا في الأخير إلى التطور الذي شهدته الجامعة في السنوات الأخيرة في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ وداعيا فضيلة العلامة إلى الدخول في شراكة مع قطاعه من خلال المركز الذي يرأسه.
بعده تناول الكلام العلامة حمدا ولد التاه الأمين العام لرابطة العلماء الموريتانيين مرحبا بالعلامة ولد بيه ومثمنا حضوره؛ لينتقل ميكرفون الندوة إلى فضيلة المحاضر عبد الله ولد بيه الذي بدأ قائلا:
“يطيب لي أن أوجه برقيات خاطفة بعد أن كان رأيي أن أكتفي بالحمد واترك الحضور يتحدثون؛ لكن الزملاء رأوا غير ذلك فاستجبت لهم.
الكلمة الأولى إلى معالي وزير التعليم العالي والثانوي الذي فاجأني بتكريمه لي بحضور هذه المحاضرة.
الكلمة الثانية إلى العلماء الذين أرادوا تكريمي بصحبتي دنيويا وأرجو أن تكون أخروية كذلك، وإن كنت قد حظيت بالتكريم في الخارج؛ لكن التكريم في أرضي له وضعه، وبالتالي فهو يشعر العود أنه ليس من الحطب.
الكلمة الثالثة أشكر رئيس الجمهورية على تكريمي أمس، وأرجو أن يوفق الله قادة البلاد لكل خير.
أما بخصوص موضوع المحاضرة فإنه موضوع تأصيلي من الصعب النزول به إلى اللغة المفهومة عموما؛ لكونه متخصصا.. فالتجديد بين الدعوة والدعوى يعني أن العالم الإسلامي يغوص في غمرة من الأفكار وتارة من الحيرة، فهو يواجه أوضاعا عالمية غير مسبوقة وانسدادا في طرق الخروج منها؛ وهي ناشئة في النفوس وليس لها وجود خارجي، وهي التي على المستوى الفردي أو الجماعي أوجدت هذا الوضع، ولهذا لم يكن من قبيل الصدفة أن يقول المولى عز وجل: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} إن التجديد الذي نتطلع إليه تجسده المنظومة الفكرية التي تحكم المفاهيم في نطاق الأسرة الإسلامية، والمسلمون لهم معيارهم.
ودعونا نقترب من الموضوع من حيث تعريفه وضوابطه لنقول إن التجديد مفهوم إسلامي؛ ولذا جاء في الحديث أن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها دينها على رأس كل مائة سنة؛ لكن العلماء لم يكونوا متفقين على مضمون التجديد.. فهو ليس من المصطلحات المحددة كالبيع وغيره، والتجديد هو لفظ عربي: جدد الشيء جعله جديدا، وقد استعمل في الجاهلية في بيت واحد لزهير بن أبي سلمى.
ومنها ما يتعلق بالتجديد في النفوس، كتجديد التصوف حيث جاء في مسند الإمام أحمد جددوا إيمانكم..
وهو يتعلق بتجديد المناهج التي تحكم فكر الإنسان، وتتلخص في نوعين: الاستنباط والانضباط؛ لكيفية واقع الإنسان المتغير وحياة الإنسان للمواءمة بين المقدس وأفعال الإنسان، وهذا النوع من التجديد أطلق العلماء على القائم به اسم مجدد، وأول من أتى به هو الشافعي في كتبه في وقت يعج فيه العالم بعلماء كبار ولم ينكروا عليه، وكان متقبلا عند الغالبية كأصحاب مالك والحنفية.. وقد كتب عن كيفية استنباط الأحكام من القرآن.
والدعوة إلى التجديد هي دعوة مشروعة لمواكبة التغيرات التي لا حصر لها، فكيف نتعامل مع هذه الوقائع؟ وما هي التحركات التي نعمر بها هذا الكون؟
إن الدعوى على نوعين: دعوى تتعلق بالشخص ودعوى تتعلق بالموضوع. ودعوى التجديد ما تزال قائمة؛ وفي كل قطر هناك علماء أشير إليهم بقيامهم بتجديد ما في الظروف التي عاشوها؛ لكن الدعوى باقية في وسائل التجديد، وقد رأيت فيها طريقة خاصة تعتمد المنهج الأرسطي؛ فالفلسفة اليونانية عبارة عن ظروف إنسانية.. وبالتالي فهي أوعية تضع فيها ما تشاء. وقد تعامل معها السلف نقدا وتقويما..
وتعتمد نظرية أرسطو هذه على رباعية مكونة من المادة والصورة والغاية والفاعل؛ فاخترت هذا المنهج ولما نشرت الكلمات الأولى من هذا الموضوع قال العديدون: إنك نكصت عن طريق الآخرين!
والتجديد إما أن يكون في إحدى هذه المسائل الأربع، والنظر في كيفية تجديدها.
وفي هذا الإطار فقد عرف الشافعي بمذهبيه -القديم والجديد- وشهد العالم العربي في ماضيه تشيعا وتنوعا في الآراء، وكانت رسالة الشافعي تبحث عن إثبات أدلة للأحكام وإثبات أحكام الأدلة.
ولأن الوقت لن يتسع للخوض في التفاصيل أعود إلى الصورة التي يكتسب بها الشيء ماهيته؛ فمادة أصول الفقه هي هذا، والصورة هي مجال التجديد ومجرى سوابقه؛ وهي عبارة عن التركيب والتبويب والتلقيب، وليست هذه الألفاظ سجعية؛ بل لا بد من الوقوف عليها (كل على حدة) فالتركيب من أمثلته القياس، والتبويب يعني تصنيفا لصورة المادة، والتلقيب من أمثلته الاستحسان؛ فكيف نجدد في هذا ولماذا نحن بحاجة للتجديد؟
هنا أشير إلى كلمات إمام الحرمين الجويني المتوفى في حدود 470 هجرية، الذي قال إن النبي ينسخ شريعته الذي يليه وهذا نوع من التجديد؛ وفي شريعة الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم كان العلماء يضعون من العلوم ما هو بمثابة التجديد”.
وأضاف أن “الغاية كانت بين أيديهم نصوصا محددة، ثم عنت لهم متغيرات وجدوا لها نصوصا لا تخرج عن الشريعة. والآن فإن الواقع الذي نعيشه تغير من أخمص قدمه حتى رأسه على صعيد الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية والنظم السياسية.. فهل تلك القضايا تتسم بخاصية الثبوت؟
وللخروج بأحكام تجديدية تواكب هذه التطورات يمكن اعتماد محاور ثلاثة تتلخص في:
1- دلالات الألفاظ.
2- معقول النص.
3- تنزيل النصوص على الواقع.
وهنا أدعو الطلاب والعلماء إلى الوقوف عليها، حيث يمكن أن نتعامل معها من خلال وضع اللفظ ومن ثم نخلص لمرحلة الاستعمال الذي قد يكون وحيا أو إنسانيا.
ففي مجال دلالات الألفاظ التي تعني حمل اللفظ على عدة أوجه -والذي هو من فعل المتلقي- نورد هنا بعض أمثلة الخلاف في الحمل؛ فالظاهرية يقولون -على سبيل المثال– في رضا البكر: إذنها صماتها؛ أما لو باحت به صراحة فيبطل النكاح!.
أما المعتزلة فيقولون إن قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} أي جعله فقيرا؛ فيما يذهب التكفيريون إلى استعمال كلمة الكفر على غير محمولها الصحيح الذي هو لغة الجحود.. وجعلهم ذلك يقطعون قطعا كاملا في مسألة التكفير التي هي استباحة لدماء الناس تتعلق بالتفسير الخاطئ للآيات القرآنية المتحدثة عن الكفر والتولي.
والدلالات القطعية على العموم قليلة في اللغة؛ سواء في المجالات العقدية أم الفقهية”.
وبعد معرفة تفسير الألفاظ انتقل الشيخ ولد بيه إلى التعليل “وهو المرحلة الثانية بعد القراءة؛ ثم لماذا؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع أحدنا ما لم يقبض. ونحن في هذه الأيام نشتري سيارة ونبيعها قبل أخذها. وقد أجاز الشافعي وأحمد بيع المستقر، ومالك قال إنه لا يجوز في الطعام، وهذا يوسع مجال المعاملات حاليا؛ وهذا التعليل يحكمه ثلاثي يوناني أيضا هذه المرة؛ وهو: من الكلي إلى الجزئي ومن الجزئي إلى الكلي ومن الجزئي إلى الجزئي، فهو قياس تمثيل، ويحكم معلولية النص في كل الفقه الإسلامي، وإن كان هناك خلاف مع ابن تيمية؛ فالمصالح المرسلة وسد الذرائع تعليل بكلي. وبدون التعامل مع الاستقراء والاستنباط فنحن لا نستطيع أن نصل إلى إحياء لمضمون النص.
وفيما يخص التنزيل فمنذ ما يقارب 30 سنة بدأنا في المجتمعات الإسلامية نتعايش مع آلاف القضايا نعايش آلاف القضايا الجديدة.. مثل ما يتعلق ببطاقات الائتمان والبورصات والتضخم، ومسائل المواطنة والولاء والدساتير والبرلمانات.. وهي مسائل جديدة أفرزتها متغيرات الحياة؛ فهل يصلح أن نفتي فيها بنصوص وضعت في القرون الأولى!
فعلى سبيل المثال مسألة تولي المرأة -التي هي اليوم في رئاسة بعض الدول أو على رأس حكوماتها- تطرح بإلحاح دراسة رفع الإثم عن الأمة بالنظر إلى متغيرات الأوضاع الراهنة، والواقع في ذلك مسألة مهمة.
والتجديد الذي نريده للأمة نريده حافزا لا حاجزا، تنطلق فيه الأمة إلى الخلق والإبداع في وئام. ولعل الورشات التي قيم بها توفق في عملها. وعلى الشعب أن ينطلق في العمل لينشئ لا ليهدم؛ فالعالم العربي يموج بألوان من الحيرة الكبيرة.. يكاد ينطبق عليها الحديث القائل: إذا رأيت شحا متبعا وهوى مطاعا..
فالتجديد يكون بالعمل والخلق السوي؛ وهو أمر مهم جدا، وعلى الطالب –والمتعلم- أن ينقل الأشياء بأمانة؛ فهناك تساهل للتجاوز، فلا بد من تعليم احترام الكلم والمال ونبذ الفواحش، والنساء إذا كن يردن التقدم فعليهن التقدم بالأخلاق الحميدة والمروءة.. فعلى المرأة العمل والبناء ومعها الشريعة.
وختاما أقول إن مجدد هذا العصر لن يكون عالما واحدا؛ بل سيكون التجديد عمل جماعة في عصرنا هذا”.
© Copyright 2006-2017. His Eminence Sheikh Bin Bayyah website